منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر الحوارات الثقافية العامة (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=4)
-   -   مقالات! (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=12590)

عبده فايز الزبيدي 12-09-2013 10:15 PM

مقالات!
 
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا ،هذه نافذة على أقلام من ألماس في خطاب الناس إلى الحق و الجمال!

عبده فايز الزبيدي 12-09-2013 10:18 PM

دولة القرآن
محمد البشير الإبراهيمي (ت 1384هـ - 1965م)
نشر سنة (1372هـ - 1953م)

القرآن كتاب الكون، لا تُفسِّره حقَّ التفسير إلا حوادث الكون. والقرآن كتاب الدعوة، لا تكشف عن حقائقه العليا إلا تصاريف الدهر. والقرآن كتاب الهداية الإلهية العامة، فلا يفهمه إلا المستعدون لها. والقرآن (لا يبلى جديده، ولا تنقضي عجائبه).
جاء القرآن لهداية البشر وإسعادهم، والاهتداء به متوقِّف على فهمه فهماً صحيحاً، وفهمه الصحيح متوقف على أمور: منها فقه أسرار اللسان العربي فقهاً ينتهي إلى ما يُسمَّى ملكة وذوقاً، ومنها الإطلاع الواسع على السنة القولية والعملية، التي هي شرح وبيان للقرآن، ومنها استعراض القرآن كلِّه عند التوجه إلى فهم آية منه أو إلى درسها؛ لأن القرآن كلٌّ لا يختلف أجزاؤه، ولا يزيغ نظمه، ولا تتعاند حُجَجه، ولا تتناقض بيِّناته، ومن ثَمَّ قيل: إن القرآن يُفسِّر بعضه بعضاً، بمعنى أنَّ مبيِّنه يشرح مجمله، ومقيَّده يبيِّن المراد من مطلقه، إلى آخر الأنحاء التي جاء عليها القرآن في نظمه البديع، وترتيبه المعجز، ومنها الرجوع في مناحيه لبعضها، وكلُّ هذه الأمور لا تتهيَّأ إلَّا لصاحب الفطرة السليمة، والتدبُّر العميق، والقريحة اليقظة، والذهن الصافي، والذكاء الوهاج.
والقرآن حُجَّة على غيره، وليس غيره حجَّة عليه، فبئس ما تفعله بعض الطوائف الخاضعة للتمذهب من تحكيم الاصطلاحات المذهبية، والآراء الفقهية، أو العقلية فيه، وإرجاعه بالتأويل إليها إذا خالفته. ومن الخطل، بل من الخذلان المفضي بصاحبه إلى ما يُستعاذ منه أن يجعل الرأي الاجتهادي غير المعصوم أصلاً، ويجعل القرآن المعصوم فرعاً، وأن يعقد التوازن بين كلام المخلوق وكلام الخالق، إنَّ هذا لهو الضلال البعيد.
ما أضاع المسلمين، ومزَّق جامعتهم، ونزل بهم إلى هذا الدرك من الهوان إلَّا بُعدهم عن هداية القرآن، وجعلهم إياه عِضِين، وعدم تحكيمهم له في أهواء النفوس ليكفكف منها، وفي مزالق الآراء ليأخذ بيدهم إلى صوابها، وفي نواجم الفتن ليُجلي غماءها، وفي معترك الشهوات ليكسر شِرَّتها، وفي مفارق سُبل الحياة ليهدي إلى أقومها، وفي أسواق المصالح والمفاسد ليميِّز هذه من تلك، وفي مجامع العقائد ليميِّز حقَّها من باطلها، وفي شعب الأحكام ليقطع فيها بفصل الخطاب، وإنَّ ذلك كلَّه لموجود في القرآن بالنصِّ أو بالظاهر أو بالإشارة والاقتضاء، مع مزيد تَعجِز عنه عقول البشر مهما ارتقت، وهو تعقيب كلِّ حُكم بحكمة، وكلِّ أمر بما يُثبِّته في النفس، وكلِّ نهي بما يُنفِّر عنه، لأنَّ القرآن كلام خالق النفوس، وعالم ما تكنُّ وما تُبدي، ومركِّب الطبائع، وعالم ما يصلح وما يفسد، وبارئ الإنسان وسطاً بين عالمين:
أحدهما: خير محض.
والآخر: شر محض.
فجعله ذا قابلية لهما من غير أن يكون أحدهما ذاتيَّا فيه، ليبتليه أيشكر أم يكفر، وليمتحنه أيَّ الطريقين يختار؛ كلُّ ذلك ليجعل سعادته بيده، وعاقبته باختياره، وتزكيته أو تدسيته من كسبه، وحتى يهلِك عن بيِّنة، أو يحيا عن بيِّنة.
ما كان الصدر الأول من سلفنا صالحاً بالجبلَّة والطبع، فالرعيل الأول منهم- وهم الصحابة- كانوا في جاهلية جهلاء كبقية العرب، وإنما أصلحهم القرآن لما استمسكوا بعروته، واهتدوا بهديه، ووقفوا عند حدوده، وحكَّموه في أنفسهم، وجعلوا منه ميزاناً لأهوائهم وميولهم، وأقاموا شعائره المزكية، وشرائعه العادلة في أنفسهم، وفيمن يليهم، كما أمر الله أن تُقام، فبذلك أصبحوا صالحين مصلحين، سادة في غير جبرية، قادة في غير عنف، ولا يصلح المسلمون ويسعدون إلا إذا رجعوا إلى القرآن، يلتمسون فيه الأشفية لأدوائهم، والكبح لأهوائهم، ثم التمسوا فيه مواقع الهداية التي اهتدَى بها أسلافهم. وإذا كان العقلاء كلُّهم مجمعين على أن المسلمين الأولين صلحوا فأصلحوا العالم، وسادوه فلم يبطروا، وساسوه بالعدل والرفق، وزرعوا فيه الرحمة والحب والسلام، وأن ذلك كله جاءهم من هذا القرآن؛ لأنَّه الشيء الجديد الذي حوَّل أذهانهم، وهذَّب طباعهم، وثبَّت الفضائل في نفوسهم، فإن الإجماع على ذلك يُنتج لنا أنَّ سبب انحطاط المسلمين في القرون الأخيرة هو هجرهم للقرآن، ونبذه وراء ظهورهم واقتصارهم على حفظ كلماته. وحفظ القرآن- وإن كان فضيلة- لا يغني غَناء ما لم يُفهم، ثم يُعمل به.
وهجر المسلمين للقرآن يُردُّ إلى أسباب، بعضها آتٍ من نفوسهم، وبعضها آتٍ من خارجها.
فمن الأوَّل: افتتانهم بآراء الناس، وبالمصطلحات التي تتجدَّد بتجدُّد الزَّمان، ومع طول الأمد رانت الغفلة، وقست القلوب، وطغت فتنة التقليد، وتقديس الأئمة والمشايخ، والعصبية للآباء والأجداد، وغلت طوائف منهم في التعبد، فنجمت ناجمة التصوف والاستغراق، فاختلَّت الموازنة التي أقامها القرآن بين الجسم والروح، وغلت طوائف أخرى في تمجيد العقل، فاستشرف إلى ما وراء الحدود المحددة له، وتسامى إلى الحظائر الغيبية، فتشعَّبت به السبل إلى الحقِّ في معرفة الله وتوحيده، ونجمت لذلك ناجمة علم الكلام، وما استتبعه من جدل وتأويل وتعطيل، وتشابهت السبل على عامة المسلمين؛ لكثرة هذه الطوائف، فكان هذا التفرق الشنيع في الدين أصوله وفروعه. وفي غمرة هذه الفتن بين علماء الدين، ضاع سلطانهم الديني على الأُمَّة، فاستبدَّ بها الملوك، وساقوها في طريق شهواتهم، فأفسدوا دينها ودنياها، وكان ما كان من هذه العواقب المحزنة.

عبده فايز الزبيدي 12-09-2013 10:19 PM

ومن الثاني: تلك الدسائس الدخيلة التي صاحبت تاريخ الإسلام من حركات الوضع للأحاديث، إلى هجوم الآراء والمعتقدات المنافية للقرآن، إلى ما ادُّخر لزماننا من إلقاء المبشرين والمستشرقين للشبهات في نصوص القرآن عن عمد؛ ليصدوا المسلمين عن هديه، وإن خطر هذه الفتنة الأخيرة لأعظم مما يتصوَّره علماؤنا، ويقدِّره أولياء أمورنا.
هذه العوامل مجتمعة ومفترقة، وما تبعها أو لازمها من عوامل فرعية هي التي باعدت بين المسلمين وبين قرآنهم، فباعدت بينهم وبين الخير والسعادة والعزة، وأصبحوا- كما يرى الرائي- أذلة مستعبدين، ولا يزالون كذلك ما داموا مجانبين لسنن القرآن، معرضين عن آياته وإرشاداته، غافلين عما أرشد إليه من السنن الكونية. ولو أنهم تواردوا على الاستمساك به في هذه القرون الأربعة عشر، لكانوا هم السابقين بإرشاده إلى اكتشاف أسرار الكون، واختراع هذه العجائب الآلية، ولم يكن موقفهم منها موقف المكذِّب أولاً، المندهش آخراً. ففي القرآن آيات للمتوسِّمين، وإرشاد للعقل البشري، يتدرَّج مع استعداده، وفيه من الكشف عن غرائب النفوس وألوانها، وعن حقائق الكون وأسرار مواليده، ما يسير بمتدبِّره رويداً رويداً، حتى يضع يده على الحقيقة، ويكشف له عن وجهها، ويكاد يكون من البديهيات فيه ما يُقرِّره في أطوار الأجنة، وتزاوج النبات، وتكوُّن المطر، وتصاريف الرياح، وتكوير الليل على النهار، وإثبات الصلة بين علويات هذا الكون وسفلياته، ولكن المسلمين ظلوا غافلين حتى عن هذه البديهيات، إلى أن جاءتهم من غير طريق قرآنهم، ثم دلَّهم القرآن على نفسه، فلاذوا بالفخر الكاذب، وربَّما دلَّهم على مواقع هذه الأشياء في القرآن مَن ليس مِن أهل القرآن، وإنَّ هذا لهو الخذلان المبين.
وما زاد المسلمين ضلالاً عن منبع الهداية وعماية عنها إلَّا فريق من العلماء، وضعوا أنفسهم في موضع القدوة والتعليم، وطوائف من غلاة المتصوفة، انتحلوا وظيفة التربية والتقريب من الله. فهم الذين أبعدوهم عن القرآن، وأضلُّوهم عن سبيله، بما زينوا لهم من اتباع غير سبيله، وبما أوهموهم أنَّه عال على الأفهام، وما دَرَوْا بأنَّ من لازم هذا المذهب كفر، وهو أنَّه إذا كان لا يُفهم فإنزاله عبث، وأنَّى يكون هذا؟ ومنزِّله- تعالت أسماؤه- يصفه بأنَّه عربي مبين، وأنَّه غير ذي عوج، وأنَّه ميسر للذكر، وينعته بأنَّه يهدي للتي هي أقوم، وكيف يهدي إذا كان لا يُفهم؟ ومن عجيب أمر هؤلاء وهؤلاء أنَّهم يصدُّون في شأن القرآن عن هوًى لا عن بصيرة، فبينما يسدُّون على الناس باب الاهتداء به في الأخلاق التي تزكِّي النفس، والعقائد التي تقوِّي الإرادات، والعبادات التي تغذِّي الإيمان، والأحكام التي تحفظ الحقوق، وكلُّ هذا داخل في عالم التكليف، وكلُّه من عالم الشهادة، بينما يصدُّون عن الاهتداء في ذلك بالقرآن، ونراهم يتعلَّقون بالجوانب الغيبية منه، وهي التي استأثر الله بعلمها، فيخوضون في الروح والملائكة والجن وما بعد الموت, ويتوسَّعون في الحديث عن الجنة والنار، حتى ليكادون يضعون لهما خرائط مجسمة، وسبيل المؤمن القرآني العاقل في هذه الغيبيات أن يؤمن بها كما وردت، وأن يَكِل علم حقيقتها إلى الله، ليتفرَّغ لعالم الشهادة الذي هو عالم التكليف.
وما زلنا نرى من آيات حفظ الله لدينه أن يقوم في كلِّ عصر داعٍ أو دعاة إلى القرآن، وإمام أو أئمة يُوجِّهون الأُمَّة الإسلامية، ومفسِّر أو مفسِّرون يشرحون للأُمَّة مُراد الله منه، ويتناولون تفسيره بالأدوات التي ذكرناها في أوَّل هذه الكلمة، ويجعلونه حجة على المذاهب والاصطلاحات، ومنازع الرأي والعقل، وحكماً بينها، وأصلاً ترجع إليه ولا يرجع إليها، ومن المبشِّرات بالخير، ورجوع دولة القرآن، أنَّ الدعوة إليه قد تجدَّدت في هذا الزمان على صورة لم يسبق لها مثيل، وأن أصوات الدعاة المصلحين قد تعالت بذلك، وتجاوبت وتلاقت على هدًى، تدعو إلى دراسته، واستخراج ذخائره، وإحياء دعوته إلى الفضيلة والخير والمحبة، وأخذ العقائد والعبادات في كلِّ ما يشجر من خلاف في الدين والدنيا، وكان من آثار ذلك أن أصبح العلماء المستعدون للعمل، والعوام المتهيِّئون للعلم يردِّدون الجمل الآتية، وتجول في نفوسهم معانيها، وهي: (لماذا نهجر دستور القرآن، وهو من عند الله، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يتبدَّل ولا يتغيَّر، ثم نلتجئ إلى دساتير الغرب وقوانينه وهي من أوضاع البشر القاصرة، يظهر في كلِّ حين تناقضها ومنافاتها للمصلحة، فتُبدَّل وتُغيَّر، ولا تزال تُبدَّل وتُغيَّر، مع أنَّ واضعيها والموضوعة لهم من جنس واحد، وعلى طبيعة واحدة ومصلحة واحدة؟ لقد بُؤْنا بالصفقة الخاسرة مرتين.
إن هذا الغليان في أفكار المسلمين وكثرة حديثهم عن القرآن، وإقبالهم على دعاته ومدارسه، وتحدِّي أساليبه في الوعظ وفي الكتابة، كلُّ ذلك بشائر برجوع دولته، وإصلاح البشرية به من جديد، واتخاذه مرجعاً وملاذاً للأمم الأجنبية التي لم يستقرَّ لدساتيرها الوضعية قرار، فاضطربت حياتها، واستشرفت نفوسها إلى قانون سماوي يحفظ حقوقها، ويُحدِّد للفرد حقَّه، وللجماعة حقَّها. ولعمري إن هذه المطالب كلَّها لفي القرآن، لو وجد القرآن من أهله من يُقيمه، ويبلِّغ دعوته، وينشر هدايته.
ثم ما هذه النغمات الناشزة عن هذا الإيقاع اللذيذ، إيقاع الدعوة إلى إقامة الدستور القرآني؟ ما هذه النغمات الممجوجة المتردِّدة التي تُصوِّر أنَّ الدستور القرآني يتحيَّف حقوق الأقليات المساكنة للمسلمين أو يجحف بها؟... إنها نغمات صادرة عن مصدرين:
أعداء القرآن ينصبون بها العواثير في طريق الدعوة إليه، وضعفاء الصلة بالقرآن الجاهلين آثاره وتاريخه في إصلاح الكون كلِّه، فليقل لنا الفريقان: متى ظلَم القرآن غير المؤمنين به؟ ومتى أضاع لهم حقًّا، أو استباح لهم مالاً، أو انتهك لهم عرضاً، أو هدم لهم معبداً، أو حملهم على مكروه في دينهم، أو أكرههم على تغيير عقيدة من عقائدهم، أو حملهم في أمور دنياهم ما لا يطيقون؟!... بلى، إنه عاملهم في كلِّ ذلك بما لم يطمع في معشاره الأقليات ولا الأكثريات من شعوب اليوم الواقعة تحت حكم الدول العالمة المتحضرة الخاطئة الكاذبة، التي تزعم لنفسها الفضائل كلَّها، ولا تتخلَّق بواحدة منها.
من أصول الإسلام أنَّه لا إكراه في الدين، وأين موضع هذا عند هذه الدولة الباغية؟ ومن أصول الإسلام الوفاء بالعهد في السِّلم والحرب، وأين هذا مما تفعله هذه الدول الطاغية؟ ومن أصول الإسلام أن لا يُكلِّف من دخل في ذمته بالدفاع الحربي، وأين هذا مما تفعله هذه الدول الظالمة التي تجنِّد المحكومين بالإكراه؛ ليموتوا في سبيلها من دون جزاء، ولا شكر؟ ومن أصول الإسلام أن لا يقتل في الحرب إلا المقاتل، وأن لا يقتل الأعزل المعتزل، والشيخ الكبير والمرأة والطفل، والمنقطع للعبادة، وهذه الأصناف هي ثلثا الأمم المحاربة، فأين هذا مما ترتكبه الأمم المتمدنة في حروبها اليوم من الإبادة للكبير والصغير، والمرأة والرجل، والطفل والجنين، وما تتفنن فيه من وسائل الاستئصال؟ وكفى بواقعة (هيروشيما) اليابانية شاهداً لا يكذب.
إن الإسلام يعامل المخالفين بالرحمة؛ لأن قرآنه هو دستور الرحمة، ويضعهم في أربع مراتب، لكلِّ مرتبة حكمها العادل: الذِّمِّيُّ المقيم في وطن الإسلام له كلُّ ما للمسلم، وليس عليه كلُّ ما على المسلم، فهو محمي النفس والمال والعرض، حرٌّ في التصرفات المالية، آمن في الظعن والإقامة، وليس عليه ما على المسلم من أعباء القتال والدفاع. والمستأمن آمن على حقوقه حتى يبلغ مأمنه، والمعاهد موفى له بعهده من غير ختر ولا غدر، والحربي يعامل بما رضيه لنفسه من غير أن يجاوزه إلى غيره من أهله أو بني مِلَّته، فإذا شذَّ أمير مسلم أو قائد عن هذه القواعد الأساسية في الإسلام، وظلم طائفة من هذه الطوائف أو فرداً من أفرادها- فقد خرج عن حكم الإسلام، وإذا حكى التاريخ عن ملوك مسلمين ظلمة، فهؤلاء بطبيعة حالهم يظلمون المسلمين قبل أن يظلموا المخالفين، وليست أعمالهم حجة على القرآن، بل للقرآن الحجة عليهم، وأيسر أحكام الإسلام فيهم أن يُعزلوا، وأعلاها أن يُقتلوا.
أين هذا من قوانين اليوم، ومعاملة اليوم، أيها الناطقون بغير علم، الصادرون عن غير فهم؟ وأين عدل القرآن من جوركم، أيها الجائرون في الحكم، المحاربون للحقيقة في الحرب والسلم، البانون لحياتهم في الظلام على الظُّلم؟ وأين تجدون الرحمة والعدالة إذا لم تجدوها في ظلال القرآن، أيتها الأقليات غير الوفية، المدفوعة من الخلف بالأيدي الخفية؟
أثمرت الحركات الإصلاحية منذ أكثر من مائة سنة ثمرات زكية، وفتحت الأذهان لحقيقة، وهي أنَّ القرآن يُفهم، وأنَّه ميسَّر للفهم، فانفتحت للدارسين أبواب كانت مقفلة، وكثر جريانه على ألسنة الخطباء والمرشدين، منزِّلة آياته في منازلها من الأحداث الطارئة، متجاوبة مع العلم، مقسمة على المواضيع المتجددة، وكثر جريانه على أقلام الكتاب في المباحث الدينية والأخلاقية والاجتماعية والكونية، يُقيمون منه شواهد على كلِّ حقيقة، وأدلَّاء على كلِّ طريق، وأعلاماً هادية إلى كلِّ غاية، فإذا هو يفسِّر نفسه بنفسه وتتسابق معانيه الواضحة إلى الأذهان، وأعان على ذلك هذه النهضة الأدبية التي لم ترَ العربية أعمق منها غوراً، ولا أوسع منها دائرة، فأصبح بها القرآن قريباً إلى الأفهام، مؤثراً في العقول، وأصبحنا نسمع من تلامذتنا الذين ربيناهم على القرآن حفظاً وفهماً وعملاً، ورُضناهم على الغوص وراء معانيه، آراء في الاجتماع الإنساني، سندها القرآن، ما كانت تزيغها أفكار الشيوخ، وآراء في الدستور القرآني، وتطبيقه على زماننا ومكاننا ومصالحنا، ما كانت تسيغها عقول الأجيال الماضية. وهؤلاء التلامذة لم يزالوا بعد في المراحل العلمية المتوسطة، فكيف بهم إذا أمدتهم الحياة بتجاربها، وأمدهم العلم باختباراته؟ لعمر أبيك إنَّه القرآن حين تتجلَّى عجائبه على الفطر السليمة، والعقول الصافية.

اختيار موقع الدرر السنية:www.dorar.net
المصدر: (آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي), دار الغرب الإسلامي، ط1، 1997م. ((4/226)).

عبده فايز الزبيدي 12-09-2013 10:27 PM

الدِّينُ ثقيلٌ والجزاءُ عظيمٌ
علي الطنطاوي (ت 1420هـ - 1999 م)
نشر عام 1961م
إنَّ الدِّين قيد، وكلُّ قيد ثقيل على النفس. يرى الشاب البنت الجميلة ... فيقول له الشيطان: انظر إليها، ما أجملَها! ويُخيِّل له صورة المتعة بها، وتستجيب النفس للشيطان، فتمتلئ رغبة بالنظر وتشوفاً إليه، فيأتي الدِّين فيقول له: لا، هذا حرام. ويكون نائمًا في الصباح، والفراش دافئ، والجو بارد، والنوم لذيذ، فيقول له الدِّين: اهجر فراشك الدافئ، واترك نومك اللذيذ، وتوضَّأ وقم إلى الصلاة. ويجوع، ويرى الطعام أمامه، ونفسه تشتهيه، والشيطان يُرغبِّه فيه، فيأتي الدين فيلزمه بالصيام، ويقول له: امتنع عن الطعام. ويجد التاجر الكسب الحاضر، والربح الوفير، فتميل إليه نفسه، وتتعلَّق به رغبته، فيقول له الدِّين: اترك هذا الربح؛ لأن فيه ربا، وهو حرام.
لذلك يرى الشاب الدِّين ثقيلًا؛ لأنَّه مجموعة قيود. والله نفسه وصف القرآن بأنَّه ثقيل، أي ثقيل على النفوس بما فيه من التكاليف والأوامر، فقال: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل : 5].
وأثقل التكاليف أن تترك اللذة الحاضرة المطلوبة أملًا بلذة غائبة مجهولة، وهذا هو الإيمان بالغيب. ولذلك أعدَّ الله الثواب العظيم للمؤمنين بالغيب، وأثنى عليهم وبيَّن أنَّ ذلك أول صفة من صفات المتقين: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة : 2 ، 3].
ومن هم المؤمنون بالغيب؟ ليسوا الذين يقولون بألسنتهم (آمنا)؛ بل الشاب المؤمن بالغيب هو الذي يرى رفاقه يسلكون طريق الفسوق، وهو يميل إليه، ويعالج في نفسه مثل حرِّ النار من الرغبة فيه، ويتقلَّب في فراشه لا يستطيع أن ينام من تفكيره فيه، ولكن يقاوم نفسه ويكبت رغبته، ويترك هذه اللذة الحاضرة؛ طمعًا باللذة الموعودة في الآخرة. والموظف المؤمن بالغيب هو الذي يرى زملاءه يمدُّون أيديهم إلى المال الحرام، فيكونون به من أُولي السعة والغنى، وهو يقنع بمرتَّبه القليل، ويصبر على الضيق أملًا بالغنى والسعة في الآخرة. والمرأة المؤمنة بالغيب هي التي ترى صاحباتها يتبعن الموضة، ويسلكن طريقها، ويكسبن إعجاب الناس، وهي تقدر على ذلك وتميل إليه، ولكنها تخالف نفسها، وتقيم على حجابها، وترضى أن يقولوا عنها (متأخرة) رجاء المكافأة في الآخرة.
المؤمن بالغيب هو الذي يمتنع عن الحرام مهما كان لذيذًا، ومهما كان مفيدًا في الدنيا، لينال الثواب في الآخرة. وهذا شيء ثقيل على النفس.
وابن الجوزي أشار إلى هذا المعنى في كتابه (صيد الخاطر)، فقال: (إنه ليس العجب ممن يتبع هواه، ويبتغي اللذة، سواء أكانت في الحلال أم في الحرام، بل العجب ممن يخالف نفسه وهواه ويتبع رضا الله).
قال: (جواذب الطبع إلى الدنيا كثيرة، ثم هي من داخل، وذكرُ أمر الآخرة خارج عن الطبع، ثم هو من خارج. وربما ظنَّ مَن لا علم له أن جواذب الآخرة أقوى، لما يسمع من الوعيد في القرآن، وليس كذلك؛ لأنَّ مثل الطبع في ميله إلى الدنيا كالماء الجاري، فإنَّه يطلب الهبوط، وإنَّما رفعه إلى فوق يحتاج إلى التكلف. ولهذا جاء الشرع بالترغيب والترهيب، يقوِّي جند العقل، فأمَّا الطبع فجواذبه كثيرة، وليس العجب أن يغلب، إنما العجب أن يغلب).
وما يقوله صحيح؛ لأن الصلاح والتقوى صعود، والفساد والفسوق هبوط، والصعود صعب أمَّا الهبوط فهين. إنَّك تستطيع أن تحرك الصخرة، وهي في رأس الجبل، حركة واحدة، فتدحرجها حتى تصل إلى قرارة الوادي، ولكنَّك لا تستطيع أن ترفعها إلا بالجهد والتعب. وتقدر أن تخرج خزان الماء في جبل قاسيون، فينحدر ماؤه حتى يصل إلى بردى، ولكنَّك لا تقدر أن تعيده إلا بالمضخات والآلات، وبالغ النفقات.
إنَّ الدِّين قيد، والعقل قيد، والقانون قيد، والخُلُق قيد... وكلَّما تقدَّم الإنسان في طريق الحضارة كثرت قيوده.
الحيوان لا يقيِّده شيء إلا غريزته، فهو يمشي عاريًا، وإذا مال الذكر فيه إلى الأنثى دنا منها علنًا، وإذا رأى الطعام بين يدي حيوان آخر أضعف منه قتله وأخذه منه.
ولو ترك الإنسان كلَّ ما يثقل عليه، وفعل كلَّ ما تميل نفسه إليه- لذهبت الصحة، وذهبت الأخلاق، وذهب القانون، ولم يعد الإنسان إنسانًا، ولكن وحشًا من وحوش الغاب؛ ذلك أنَّ الدواء المرَّ ثقيل على المريض، وتجرُّعه مؤلم، والنفس تميل عنه وتنفر منه، فلو اتبعنا ميل النفس، وتركنا الدواء لذهبت الصحة. وحبسك النفس عن اتباع هواها، وإمساكها عن أن تبطش عند الغضب، وأن تأخذ عند الرغبة، وأن تكفَّ عن الشهوة- ثقيل على النفس، فلو تركناه لأنَّه ثقيل عليها، فلو تركنا كلَّ إنسان يأخذ ما يشتهي من مال غيره وأهله لذهب القانون.
نعم، إنَّ الدين ثقيل، ولكن ليس كلُّ ثقيل يترك. والعاقل من إذا عرض له ألم مؤقت يجرُّ وراءه لذة دائمة احتمله راضيًا، كما يتحمل ألم قلع الضرس؛ ليجد اللذة بالراحة من وجعه، وكما يتحمَّل العملية الجراحية للصحة المرجوة بعدها.
ومَن إذا عرضت له لذة مؤقتة تجرُّ وراءها ألماً طويلًا أعرض عنها راضيًا، وانصرف عنها مطمئنًا، مهما اشتدَّ ميله إليها، وكثرت المغريات بها. ولو قيل لك: تعال نعطك كلَّ ما تريد من أموال ولذائذ ونساء، ونمتعك بكلِّ متعة تخطر على بالك، ولكن لمدة شهر واحد، ثم نقتلك بعدها شرَّ قتلة، ونحرقك بالنار. هل تقبل بهذا النعيم أم تقول: لا، لا أريده، وما فائدة متعة شهر إن كان بعدها الموت؟
هذا مثال لذائذ الدنيا المحرمة، بل إنَّ المثال أقلُّ من الحقيقة، فإنَّك تستمتع في المثال شهرًا تموت بعده فتستريح، وتستمتع بالحرام، ثم تموت فلا تستريح، بل تُحاسب أشدَّ الحساب، ثم يُصار بك إلى جهنم!
فاحتمِل ثِقلَ الدِّين، فإنَّه أهون من احتمال ثقل العذاب يوم القيامة.
اختيار موقع الدرر السنية:www.dorar.net
المصدر: فصول في الدعوة والإصلاح، للشيخ علي الطنطاوي، جمع وترتيب: مجاهد مأمون ديرانية - دار المنارة، السعودية، ط1، 2008هـ (ص 65) (بتصرف).

عبده فايز الزبيدي 12-09-2013 10:30 PM

(فتنة الاستهزاء بالسنة)
محمد الحسن الددو الشنقيطي

من علماء الأمة الإسلامية اليوم ولد في نهاية أكتوبر لعام 1963، موريتانيا

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)، أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ، عباد الله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حذر من الفتن التي تموج كقطع الليل المظلم بين يدي الساعة فقد ذكر أنها يصبح الرجل فيها مؤمنا و يمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا ، يبيع دينه بعرض من الدنيا ، وإن من الفتن المستشرية في هذا الزمان فتنة الاستهزاء بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كثيرا من أبناء المؤمنين وقعوا الآن في هذه الفتنة فهم يستهزئون بالله وآياته ورسوله صلى الله عليه وسلم ويعلنون على الملأ استهزاءهم من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه ، وهذا من المنكرات والفتن المضلة التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يقتدي هؤلاء بأسلافهم الذين سبقوهم إلى ذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى تبوك خرج معه نفر من المنافقين لا يخرجهم إلا الاستهزاء بالله ورسوله والمؤمنين فتقدموا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره فقال بعضهم لبعض ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء لا أرغب بطونا ولا أكذب ألسنة و لا أجبن عند اللقاء ، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين) قال ابن عباس فلقد رأيته أي صاحب هذه القصة وهو مخشي بن حمير تحت رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم ممسكا بقلادة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبه الحجارة يقول: إنما كنا نخوض ونلعب ولا يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يقول: (أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون) إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أرحم هذه الأمة بها وهو أرحم الخلائق بالخلائق وقد وصفه الله بذلك في كتابه إذ قال: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله) لم يرحم هؤلاء ولم يستجب لما يقولون ولم يقبل عذرهم لأن الله سبحانه وتعالى لم يعذرهم في كتابه وبين أنه إن عفا عن طائفة منهم فلا بد أن يعذب طائفة أخرى ، وذلك بأن يسلط عليهم سوء الخاتمة حتى يموتوا على الكفر فيستحقوا النار بذلك ـ نسأل الله السلامة والعافية ـ إن من استهزأ بآيات الله وكتابه ورسوله لا بد أن يموت على سوء الخاتمة إن لم يهده الله سبحانه وتعالى ويرجع عن ما كان عليه ولذلك فالذين يستهزئون بهذه الآيات في زماننا هذا ـ وأغلبهم من الجاهلين ـ ومنهم من ليس كذلك إنما يريدون سوء الخاتمة ويتعرضون له نسأل الله السلامة والعافية ، ولذلك تسمعون كثيرا منهم يستهزئون بالسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء منها ما كان يتعلق بشأن الصلاة كالقبض والضجعة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم بين ركعتي الفجر وصلاة الفجر ، وكذلك غير هذا من السنن فتسمعهم يستهزئون بمن يقبض كأن يده تؤلمه ، وتسمعهم يستهزئون بالذي يضطجع الضجعة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون إنما كان يفعلها جبلة ولا يدري هؤلاء أن جبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي خير للناس من جبلاتهم ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بهذه الضجعة بقوله ، فماذا تقولون في قوله؟ إن هؤلاء عندما يقدمون على الاستهزاء بالسنن يظنون أنهم يضرون الذين يطبقون هذه السنن ، والواقع أنهم لا يضرون إلا أنفسهم ، وقد شاهدت يوما من الأيام في مسجد من مساجد هذه المدينة أتيت وقت صلاة الفجر فجاء شاب فصلى ركعتي الفجر فاضطجع تلك الضجعة الخفيفة وقام فنظرت إليه الأعين وأنكر عليه بعض الحاضرين وزعموا أنه من الذين أتوا بدين جديد وأن هذا لم يكن معروفا قبل مجيء هذه الدعوة وبدءوا يطعنون فيه ، فجاء عامل من الذين يبيعون الماء ويحملونه على الحمر الأهلية ، فقال هل ثبتت هذه الهيئة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: نعم ثبتت عنه فقال: أي شيء ثبت عنه فإني سأفعله والبأس الذي فيه يجعله الله في كبدي حتى لو جعلتموه كفرا ، فقطع الله ألسنتهم بكلمة هذا العامي الذي هو خير منهم في اعتقاده وفي ولائه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفي قناعته بسنته فرد على أولئك الذين يدعون الفقه في الدين بكلام لا يستطيعون بعده أن يراجعوه بكلمة واحدة ولا بشطر كلمة ، إن الذين يستهزئون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يظنون أنهم بذلك يشنون هجوما على الداعين إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن الواقع أنهم يهاجمون شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد هاجمه قبلهم أبو جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ، فما ذا حصل لهم..؟! لقد جر أولئك على وجوههم إلى القليب ثم بعد ذلك هم في النار عن يسار الداخل إلى النار يوم القيامة ، إن الله عز وجل قال لرسوله صلى الله عليه وسلم في محكم التنزيل (إنا كفيناك المستهزئين) فقد كفاه الله كل الذين يستهزئون به وبسنته ، وهذا ماض إلى قيام الساعة ، فلا يستهزئ أحد برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كفاه الله إياه ، عباد الله إن الذين يستهزئون بالسنن الأخرى التي ترجع إلى اللباس أو غير ذلك ما هم إلا كهؤلاء الذين يستهزئون بهيئات صلاته فإنه صلى الله عليه وسلم مرسل إلى الناس كافة وقد جعله الله الإسوة الصالحة لجميع المؤمنين وقال: (لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة) فالذين يسخرون من العمائم أو يصغرونها أو يسخرون ممن يبيت في المسجد أو ينام فيه أو يضع فيه متاعه إنما يسخرون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكل ذلك ثابت عنه صلى الله عليه وسلم وكان صلى الله عليه وسلم يلبس عمامته ويصلي بالناس ، وكان يلبسها في كل أوقاته حتى إنه لبسها فوق المغفر يوم الفتح كما في حديث جابر في صحيح مسلم ، وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم كان يسكن في المسجد وهو أحب البقاع إليه وعندما آلا من نسائه شهرا سكن في المسجد وعندما يعتكف فينقطع لعبادة ربه يسكن في المسجد ، وأصحابه الذين انقطعوا لعبادة الله وهم ضيوف رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الصفة وكانوا ثلاثمائة وثمانين رجلا لم يكن لهم مأوى إلا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا يسكنون فيه ويتدارسون فيه العلم ويراجعون فيه ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحفظون فيه القرآن ، وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسكن فيه من مرض من أصحابه ليعوده ، فقد ثبت أن سعد بن معاذ رضي الله عنه لما أصابه سهم يوم الأحزاب بنى له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد فكان يعوده فيها ، وكذلك كان ينزل فيه ضيوفه من الوفود الذين هم من حديثي الإسلام ، فمالك بن الحويرث وأصحابه وكانوا شببة حديثي عهد بالكفر لما أسلموا أنزلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ، وكذلك كان ينزل فيه الأسرى الذين يطمع في إسلامهم ، فقد ربط فيه ثمامة بن أثال الحنفي فكان يمر عليه فيعرض عليه الإسلام فيقول يا محمد إن تمنن علي مننت على شاكر وإن تقتلني قتلت ذا دم فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عليه الإسلام ويتجاوزه حتى من عليه يوما فخرج إلى الحرة فاغتسل فجاء وأعلن إسلامه وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يحبس فيه السبي الذين يعرض عليهم الإسلام ، فقد حبس فيه سفانة بنت حاتم بن عبد الله الطائي عند ما جاء بها علي في سبي طيئ ، فمر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقه إلى الصلاة ، فقالت يا محمد مات الوالد وغاب الوافد فامنن علي من الله عليك ولا جعل لك إلى لئيم حاجة ، فقال: من والدك قالت حاتم بن عبد الله الطائي قال: ومن وافدك قالت عدي بن حاتم قال: آلفار من الله ورسوله ، فمن عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت حتى جاءت بعدي مسلما ، قال عدي فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فابتسم في وجهي ، فما دخلت عليه بعد إلا ابتسم في وجهي وثنا لي الوساد ، إن النبي صلى الله عليه وسلم إذن جعل المسجد عاصمة الإسلام فهو بيت مال المسلمين الذي لا يمكن أن تطوله أيدي المختلسين ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر في الليالي الثلاث الأخيرة من رمضان ببسط البسط في مؤخرة المسجد فيجعل الناس عليها صدقاتهم فإذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر يوم عيد الفطر جلس إلى ذلك الطعام فأمر به فقسم بين المستحقين فإذا انتهى خرج إلى المصلى فصلى العيد ، وكذلك فإن المال الذي جاءه من البحرين وكان أكثر مال رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر به فبسط له بساط في المسجد فجعل عليه فجلس إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت إليه ولا ينظر إليه ازدراء للدنيا واحتقارا لها حتى قسمه في مجلسه ذلك لم يبق منه دينار ولا درهم ، وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم كان يتخذ المسجد مكانا للجيوش وتدريبها ، فالأحباش كانوا يلعبون فيه بالحراب ويتدربون عليها وعائشة تنظر إليهم من بين عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنكبه فيقول أشبعت ، أشبعت ، وكانت تطيل النظر وتقول ما ظنكم بجارية حديثة السن وهي تنظر إلى أمر لم تره من قبل ، فذلك من استغلال المسجد لتكوين الجيوش وما دامت الجيوش تنطلق من المساجد وتتكون فيها فإن ولاءها سيكون لله ولرسوله ولدينه وللدفاع عن بيضة الإسلام ، وإذا أخرجت عنها فستذلل وتخيس لأعداء الله من الطواغيت وأصحاب الجبروت والسلطان وبذلك تكون حامية للظلم وحامية كذلك للإفساد في الأرض ، وهي مشاركة لمن يفعل ، وقد أخرج عبد الرزاق في مصنفه بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: \"إنه يستعمل عليكم أمراء يظلمون الناس ويكذبون في الحديث فمن أعانهم على ظلمهم أو صدقهم في كذبهم فلن يرد علي الحوض\" وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أتى عليا وهو نائم في المسجد قد انكشف جنبه فلصقت فيه التراب ، فمسه برجله وقال قم أبا تراب ، وكان أبو بكر وعمر وعثمان ينامون في المسجد فيجعلون أرجلهم على أرجلهم ، يجعلون إحدى الرجلين على الأخرى ، وكان عثمان يرتفق في مؤخرة المسجد إذا جاء ولم يتكامل الناس للصلاة فيجتمع عليه حفظة القرآن فيسألهم عما يحفظون منه كما أخرج ذلك مالك في الموطـإ وغيره ، إن هذه المساجد إنما بنيت لذكر الله وإقامة الصلاة وقراءة القرآن كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أراد تعطيلها عن الدعوة إلى منهج الله وسبيله فهو داخل في الوعيد الشديد في قول الله تعالى: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) وقد اجتمع ملأ من قريش بالمسجد الحرام فقالوا نحن أولى بهذا المسجد من محمد وأصحابه ، فأنزل الله تعالى: (وما كانوا أولياؤه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون) إن أهل الإيمان والتقوى الذين يعمرون المساجد بالسنة هم أولى بالمساجد ممن سواهم وهم أولياؤها وهم أهلها وأما من سواهم ف(ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) إن الاستهزاء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقراء القرآن وبالداعين إلى منهج الله سبحانه وتعالى صرح أهل العلم بأنه من الكفر البواح ، ولذلك قال الشيخ عبد القادر بن محمد بن محمد سالم المجلسي رحمهم الله: عميمة العالم كفر ، فمجرد تصغير العمامة طعنا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكفر البين البواح ، وكذلك قال ابن هلال رحمه الله في نوازله: إن طلبة العلم يحملون على العدالة فمن طعن فيهم فإنما يطعن في شرع الله فإنهم أمناء رسول الله صلى الله عليه وسلم والطعن في رسل رسول الله كالطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن هذا مما لا يختلف فيه اثنان وهو منصوص في كتب الفقه كلها وبالأخص في كتب فقه المالكية ، فلذلك علينا أن نعلم أن الذين يطعنون فيه إنما يريدون أن يخادعوا الناس وأن يجهلوهم بهذا العلم وبما فيه ، ويريدون بذلك الطعن في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإنما جعل الله هذا الشرع متدرجا ، فإذا جاء الطعن في سنة من السنن فإن ذلك إزالة لحاجز عظيم وسور كبير دون بقية السنن ، فإذا أزيل ذلك الحاجز وصل المهاجم إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأخرى ثم يصل إلى شخصه ثم يصل إلى الكتاب المنزل إليه ثم يصل إلى ربه الذي أرسله جل وعلا وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ، ولذلك نسمع المستهزئين يتمادون في غيهم في هذه الأيام حتى يصلوا إلى تعطيل صفات الله عز وجل وإنكار ما ثبت منها في القرآن وفي السنة ، فهم ينكرون الفوقية عن رب العالمين جل جلاله ، وقد أثبتها الله لنفسه في ثماني عشرة آية من كتابه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم في عدد كثير من الأحاديث الصحيحة عنه وألف فيها أهل العلم الكتب الكثيرة ، فقد ألف الإمام ابن قدامة رحمه الله إثبات العلو للعلي الغفار ، وألف الإمام الذهبي كذالك رحمه الله كتاب العلو للعلي الغفار ، فجلبوا فيه هذه النصوص كلها من الكتاب والسنة ، ولا يطعن في فوقية الله على خلقه إلا من كان من أهل البدع الذين يسود الله وجوههم يوم القيامة ، وقد صح عن ابن عباس رضي الله عنه في قول الله تعالى: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) قال تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة ، ومصداق ذلك من القرآن قول الله تعالى: (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين) إن الذين ينكرون صفات الله سبحانه وتعالى ويطعنون فيها يظنون أنهم أعلم بالله من الله أو أنهم أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تبا لهم وخزيا لهم كيف يتجاسرون على صفات الله عز وجل التي أثنى بها على نفسه وأثنى بها عليه رسوله صلى الله عليه وسلم وأقر بها المؤمنون لله عز وجل ، إنهم بذلك يعلنون الحرب على رب العزة الملك الديان ، الذي السماوات السبع والأرضون السبع في قبضة يمينه يوم القيامة يهزهن فيقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون؟ إنهم يتجاسرون على الملك الديان الذي وصفه رسوله صلى الله عليه وسلم بما أخرج عنه مسلم في الصحيح ، إن الله قيوم لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ، يرفع القسط ويخفضه ، يرفع إليه أمر الليل قبل النهار وأمر النهار قبل الليل ، حجابه النور ، لو كشف الحجاب عن وجهه لحظة لأحرقت سبحات وجهه ما وصل إليه بصره من خلقه سبحان الملك الديان سبحانه وتعالى ، عباد الله إن الله سبحانه وتعالى إذا خذل المصروفين عن سبيله سيتردون في هذا الإفك المبين ، وبذلك لا يتورعون عن كذب ، ولا يكفون ألسنتهم عن قول ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: \"إذا لم تستحي فاصنع ما شئت\" وقال: \"إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحيي فاصنع ما شئت\" إن الذين لا يستحيون من الله سبحانه وتعالى هم الذين يتجاسرون عليه بمثل هذا القول العظيم ، ويتجاسرون على عباده المؤمنين بالطعن في أعراضهم والكلام فيهم بما ليس فيهم وهم يعلمون أنهم برآؤ منه وهم أبعد الناس عنه ، لكنهم إنما يتملقون بذلك ويتخلقون لينالوا عرضا من هذه الدنيا الفانية ، لا بارك الله لهم فيه ، وهم يعلمون أنهم لن يبارك لهم فيه ، إن الذين يتملقون بمثل هذا القول ويتقربون به لأوليائهم وطواغيتهم هم المحقورون المصروفون لا يباليهم الله باله ، ولذلك فإن الله سبحانه و تعالى يقول في كتابه (يؤفك عنه من أفك) ويقول (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا) وهم على ذلك يتكلمون في مسائل العلم ، ويظهرون للناس بالمظاهر الخلابة على أنهم من المحامين عن الكتاب والسنة وعن مذاهب أهل العلم وعن الإمام مالك وعن غيره من أئمة الدين ، و بذلك يتخلقون بما تخلق به أسلافهم السابقون ، وقد أنزل الله فيهم (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جنهم ولبئس المهاد) بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم وتاب علي وعليكم إنه هو التواب الرحيم.
الحمد لله على إحسانه والشكر له على تفضله وامتنانه وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وإخوانه.
عباد الله إن الذين يزعمون هذه المزاعم الخبيثة وينشرونها في وسائل الإعلام و يتخذون لها كل وسائل الترويج إنما يناطحون صخرة عظيمة تكسر قرونهم ولا يضرون الصخرة شيئا ، إنهم يطاعنون صخرة دين الله التي يتحطم عليها الأعداء في كل زمان ومكان ، وستبقى أبية خالدة لا يضرها هذا الطعان ، إنكم تتذكرون أن بعض المستهزئين يزعمون أن الذين يدعون إلى منهج الله بالاعتدال والوسطية الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم يعرفون المعروف وينكرون المنكر ، يقرون بالحق ولو كان على أنفسهم يدافعون ويصادعون عن كتاب الله و سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أدى ذلك إلى قتلهم أوتعذيبهم إن هؤلاء من المتطرفين ومن الذين يطعنون في الأئمة ويلكم هل سمعتم من يطعن في الأئمة على المنابر قط ، إنكم معشر الحاضرين والسامعين أهل المساجد وأئمتها ، فهل سمعتم قط من يطعن في الإمام مالك أو فقهه أو مذهبه على منبر من المنابر ، هل سمعتم هذا قط ، إن الذي يقول ذلك إنما هو من المفترين الذين لا يفلحون (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون) إن الأغرب والأدهى من هذا أن يتطاول بعض عملاء وكالات الأنباء والموظفين فيها ، فيزعمون أنهم أولى بالإمام مالك من الأئمة والدعاة ، لو قالوا حبيلات وغنيمات والطائف لصدقناهم في ذلك ، لكن كيف يزعمون أنهم أولى بالإمام مالك بن أنس من الذين درسوا موطأه ودرسوا كتبه وكتب أتباعه من بعده ودعوا إليها وعلموها وأفنوا أعمارهم في تعليمها وتعليم غيرها من كتب أهل العلم ، وهم الذين خدموا العلم وقاموا به وما زالت بقية أعمارهم حكرا عليه إلى أن يتوفاهم الله ، إن هذا من البهتان العظيم ، وقد قال الله تعالى: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) إن الله سبحانه وتعالى حذر الناس من الافتراء على المؤمنين ، وقال تعالى: (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين) فلذلك من العجيب جدا أن هؤلاء عندما يظنون أنهم أولى بالإمام مالك من أهل السنة الذين هو منهم وهم منه إنما يسلكون طريق اليهود الذين زعموا أنهم أولى بإبراهيم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكذبهم الله بسورة آل عمران وأنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) كيف يكون من ينكر صفات الله عز وجل ويعطلها أولى بمالك من أهل السنة ، كيف يكون من يهزأ بالسنن الفعلية التي رواها مالك وغيره من الأئمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى به من أهل السنة ، كيف يكون أولى كذلك بأتباع مالك من الذين ينقلون كتبهم ويدرسونها ويدرسون أدلتها معها ، إن الذين يزعمون أنهم أولى بخليل بن إسحاق رحمه الله من أئمة المؤمنين وطلبة العلم والدعاة إلى منهج الحق ، إنما هم من المفترين ، كيف وهم يناقضون ما قاله خليل ولم يدرسوه يوما من الأيام ولا عرفوه ، إن خليلا رحمه الله ختم كتابه في الفقه المالكي بكتاب الجامع ، وختم كتاب الجامع بقوله: {ولا يجوز أن تعارض السنن برأي ولا قياس} (ولا يعرف عن أحد من علماء المدينة رواية خبرين اختلفا ، بل إنما يروي الذي عليه العمل) ، إن هذا رد من خليل بن إسحاق رحمه الله على هؤلاء المتملقين المتقولين الكاذبين، وإن هؤلاء الذين يزعمون كذالك الولاية للإمام أبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني يعلمون أنه أثبت في مقدمة كتابه {الرسالة} في عقيدته:
وأنه فوق عرشه المجيد بذاته وهو في كل مكان بعلمه فمن أنكر ذلك فكيف يكون أولى بابن أبي زيد من أهل السنة والجماعة السالكين لطريق الحق ، وكذلك يزعمون أنهم أولى بالأخضري رحمه الله من هؤلاء وهم لم يدرسوا ما قاله الأخضري فمختصره المفيد يقول في مقدمته: [أول ما يجب على المكلف تصحيح إيمانه ثم معرفة ما يصلح به فرض عينه كأحكام الطهارة والصلاة والصيام] ، وهؤلاء لم يفعلوا ذلك فلم يصححوا إيمانهم فهم يخالفونه في أول قول قاله ، وكذلك فإنه يقول في هذه المقدمة: [ولا يحل له أن يفعل فعلا حتى يعلم حكم الله فيه ويسأل العلماء] وهؤلاء لا يفعلون ذلك فهم يخالفونه في قوله ، فكيف يكونون أولى به؟ إن هذا من التناقض البين ومن الافتراء والكذب على الأئمة ولا ينطلي إلا على جاهل بهؤلاء الأئمة وبما قالوه ، ولذلك لا بد أن نعلم أن الإمام مالك وأتباعه كان من صريح مذهبهم الدعوة إلى الحق والسنة ، والسعي في سبيل ذلك ، فإن مالكا رحمه الله جلد سبعين سوطا في الدفاع عن السنة ، وعندما حمله أمير المدينة على حمار كان كلما مُر به على ملإ يقول: من كان يعرفني فقد عرفني ومن لم يكن يعرفني فأنا مالك بن أنس ألا لا طلاق في إغلاق ألا إن أيمان البيعة باطلة ، وهو يجلد ويؤدب ومع ذلك يصمد على طريق الحق ، وغير مستغرب من الإمام مالك مثل هذه المواقف الناصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولدين الله ، فهو الذي لم يكن يلبس النعال في المدينة احتراما لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي عندما سأله قاضي المدينة عن حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الطريق قال من هذا الذي يسأل عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق اجلدوه عشرين سوطا ، فجلده عشرين سوطا ثم رحمه فدعاه إلى بيته فأجلسه في مجلسه وطيبه من طيبه وحدثه عشرين حديثا ، فقال القاضي ليته جلدني مائة فحدثني مائة حديث ، إنه لا يستغرب منه مثل هذا الموقف ولذلك فإن الذين يزعمون أن الأئمة السابقين كانوا من المداهنين ويتمثلون بما حصل في أيام الحجاج ويزعمون أن أهل العلم سكتوا عما فعل ، إنما هم من الكاذبين المفترين الذين يخيلون إلى الأمة ما لا يمكن أن يقره عقل ولا خبر ، فأنتم تعلمون أن الحجاج لما ظلم وأظهر ظلمه في العراق خرج عليه علماء المسلمين جميعا وقاتلوه ، منهم عدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنس بن مالك رضي الله عنه وهو خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ختم الحجاج في عنقه بالنار ، ومنهم الإمام عامر بن شراحيل الشعبي إمام التابعين ، ومنهم الإمام سعيد بن جبير إمام من أئمة التابعين ، من أصحاب ابن عباس ، ومنهم قتادة بن دعامة السدوسي إمام من أئمة التابعين ، ومنهم الإمام إبراهيم النخعي وقد مات في ملجئه مختفيا من الحجاج ، وكذلك فإن الإمام مالك رحمه الله أفتى أيضا حين ظهر الفساد في المدينة بالخروج مع محمد النفس الزكية ، عندما كان في المدينة يدفع الباطل ، وكان محمد هذا من خيرة علماء المدينة من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن هؤلاء الكاذبين يزعمون أن الداعين إلى منهج الله والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ينتهجون نهج الخوارج وأنتم تعرفون أن الخوارج هم فرقة من الفرق الضالة التي ظهرت في بداية هذه الأمة ، وقد خرجوا على أئمة الإسلام وخلفاء المسلمين بالسلاح وقاتلوهم فقتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه والمؤمنون معه ، وسلك سبيلهم بعض المفتونين من بعدهم ، فكيف يكون من لم ير سلاحا إلا عن بعد ولم يباشره بيده قط يعد من هؤلاء ، وإن هؤلاء إنما يبلون خروجهم على نحلة وعقيدة وهي التكفير بكل ذنب ، وهي أن الإمامة ليست مختصة بقريش إلى آخر نحلهم وما هم عليه من الاعتزال وإنكار صفات الباري سبحانه وتعالى والمنزلة بين المنزلتين والعدل والتوحيد وغير ذلك من المبادئ التي أعلنوها فالذين يزعمون أن الذين يدعون إلى سبيل الحق هم من هؤلاء الخوارج إنما هم كذابون مفترون يخادعون الناس وهم مبطلون والغريب في الأمر أن هؤلاء يتجاسرون حتى على مذاهب أهل السنة فيطعنون في مذهب الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة ، فلذلك تسمعهم يتكلمون على المذهب الوهابي ما هو المذهب الوهابي..؟ إنه مذهب إمام أهل السنة أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل شيخ الطائفة وإمام المحدثين وإمام أهل السنة جميعا الذي قال فيه الإمام أبو داود سليمان بن الأشعث رحمه الله: إن موقف أحمد في الفتنة كموقف أبي بكر في الردة ، وقد صمد على دين الله وصبر على أذاه في سبيل الله ثماني عشرة سنة وهو في السلاسل والحديد ، وقد جلد خمسمائة سوط ، فلم يرده ذلك عن السنة التي يدافع عنها ، فالذين يطعنون في مذهبه إنما يريدون تحطيم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهيهات لهم أن يتحقق لهم ذلك.
عباد الله إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى فيه بملائكته وثلث بكم معاشر المؤمنين فقال جل من قائل كريما: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما).
اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين وأوهن كيد الكافرين وانصرنا عليهم أجمعين ، اللهم أظهر دينك وكتابك على الدين كله ولو كره المشركون ، اللهم من أرادنا أو أراد الإسلام والسنة بسوء فاشغله بنفسه واجعل تدبيره تدميره واجعل الدائرة عليه وأنزل به المثلات وأنزل به بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين وأرنا فيه عجائب قدرتك وأنزل به الفضيحة العاجلة يا قوي يا عزيز ، اللهم من عادى أوليائك ووالى أعداءك فـأنزل به القوارع وأرنا فيه سريع أخذك وعاجل عقوبتك وسريع فتكك يا قوي يا عزيز اللهم سلط عليه كلبا من كلابك ، وشل أركانه أخرس لسانه وهدم سلطانه وشتت أعوانه ولا تبق له باقية يا قوي يا عزيز ، اللهم اجعله أثرا بعد عين اللهم اجعله أثرا بعد عين اللهم اجعله أثرا بعد عين ، اللهم اجعل ذلك نصرة للإسلام والمسلمين يا أرحم الراحمين.
عباد الله (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه شكرا حقيقيا يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
___________________
المصدر: http://www.dedewnet.com/index.php/da...-10-56-57.html

عبده فايز الزبيدي 12-09-2013 10:46 PM

دعوهم وما يقولون

للشيخ علي الطنطاوي

نشر سنة 1955

إن قالوا: (جامدون) فقولوا: نعم، نحن جامدون وأنتم مائعون! إن الماء الجامد كقطعة الألماس التي يبسم فيها النور، وتقبلها شفاه الشمس، أما المائع فيجري حتى يكون وحلًا تطؤه الأقدام.
فأيُّنا أنقى وأطهر: نحن الجامدون، أم أنتم أيها المائعون؟!
وإن قالوا: (رجعيون) فقولوا: نعم، ولكنها رجعة إلى أيام المجد الذي شدناه على قمة الدهر، والنور الذي أضأناه للزمان؛ ليعرف طريقه إلى الخلود، والحضارة التي دِنَّا بها البشر، وجعلنا بها الإنسان خليقًا بالإنسانية.
فهل تكرهون أن نرجع إلى مثل تلك الأيام؟!
وإن قالوا: نحن (تقدميون) فقولوا: نعم، ولكنكم لا تتقدمون إلا إلى الهاوية، هاوية الانحلال والفساد، تريدون أن تكونوا أحرارًا في غرائزكم، كحرية الديكة والحمير، فمن قرَّبكم من هذه الهاوية، فقال لكم: اهتكوا أستار العورات، وارفعوا السجف بين الرجال والنساء. فهو تقدمي، ومن زلَّ لسانه مرة فذكر الدين، أو نطق بكلمة الخلق، أو قال: حلال وحرام، فهو رجعي من الرجعيين.
وإن قالوا: نحن (اشتراكيون) فقولوا: ... ما رأينا عندكم منها إلا اسمها، تتجملون به في خطبكم ومباحثكم، وتتخذه أحزابكم الهزيلة شبكة تصطاد بها الأصوات يوم الانتخاب!
وإن قالوا: (الروح الرياضية) فقولوا: نعم، ولكن رياضتكم جسد مكشوف بلا روح، والرياضة رياضة النفس قبل رياضة الجسم، وروحها التعاون بإخلاص، والإقرار بالحقِّ، وأن لا يزدهيك النصر، ولا تحطمك الهزيمة، ولا يداخلك اليأس، وأن يكون عليك من نفسك رقيب يحاسبها قبل أن تحاسب، وأن يكون لك من إرادتك قيد لشهواتك، فأين أنتم من هذا كلِّه وأنتم بطَّاشون عند الظفر، خَوَّارون عند الصدمة الأولى، قد تعبدتكم شهواتكم، وتحكَّمت فيكم غرائزكم، ثم إنكم مختلفون متباغضون متحاسدون، لا تعرفون من التعاون إلا أنه كلمة تنطق بها ألسنتكم، وتكذب بها أفعالكم؟
وإن قالوا: (المساواة بين الجنسين) فقولوا: نعم، وسوف نَسُنُّ قانونًا يوجب أن يحبل الرجل مرة، وتحبل المرأة مرة، ويرضع سنة، وترضع هي سنة، وبذلك يتساوى الجنسان، ويجتمع النقيضان، فيصير الرجل امرأة، وتصير المرأة رجلًا، ويتحقق ما تريده الجمعيات النسائية!
وإن قالوا: أتردُّوننا إلى الوراء وترجعوننا – ونحن في عصر الذرة- إلى غار حراء؟ فقولوا: الحقُّ معكم، إنَّ الزمان ماضٍ إلى الأمام، وكلُّ قديم قد جدَّ في مكانه ما أوجب تركه، لذلك تركتم الدين أولًا، ثم رأيتم العقل أقدم من الدين، فتركتموه وغدوتم من بعده مجانين!
ومهما قالوا من أشباه هذا الهذر، فلا تبالوه ولا تحفلوه، واجعلوا ردَّكم عليهم هزأ به وسخرية بأهله، وأن تبقوا سائرين في طريقكم إلى غايتكم، فإنهم ما يقصدون إلا تعويقكم عنها، وإقامة الأشواك في سبيلكم إليها، وغايتكم – يا أيها الشباب المسلمون – في السماء، ستركبون إليها الرياح، وتسيرون على هام السحب، ولقد أعدَّت طيارتكم، وهدرت محركاتها، وستمشون على درب من شعاع الشمس، لا على محجة من تراب الأرض، فهل تعوق الأشواك من يشقُّ طريقه في كبد السماء؟
إنهم لا يملكون إلا أن يقولوا فدعوهم وما يقولون.
-------------------------------------

اختيار موقع الدرر السنية: www.dorar.net
المصدر: فصول في الدعوة والإصلاح للشيخ علي الطنطاوي، جمع وترتيب مجاهد مأمون ديرانية - دار المنارة، السعودية، ط1، 2008هـ (ص 51) بتصرف.

عبده فايز الزبيدي 12-15-2013 09:55 PM

تفسيـر آية الكـرسي
لشيخ الإسلام محمد بن صالح العثيمين رحمه الله

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قوله تعالى ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم) هذه الآية أعظم آية في كتاب الله كما سأل النبي _ صلى الله عليه وسلم _ أبي كعب وقال : أي آية أعظم في كتاب الله ؟ قال: آية الكرسي فضرب على صدره وقال: ليهنك العلم يا أبا منذر
ولهذا من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح.

يقول الله –عز و جل- (الله) ولله علم خاص بالذات العليّة لا تطلق على غيره لا في الجاهلية ولا في الإسلام فالله هو رب العالمين وهو هنا محط الخبر.

قوله تعالى: ( لا إله إلا هو) إله بمعنى مألوه والمألوه بمعنى المعبود حباً و تعظيماً والآلهة المعبودة في الأرض هي في السماء كالملائكة كلها لا تستحق العبادة الذي يستحق العبادة هو الله رب العالمين و(إله) اسم (لا) و (لا) هنا نافية للجنس فـ (لا إله) نفي عام محض شامل لجميع أفراده وقوله( إلا هو) بدل من خبر (لا) المحذوف لأن التقدير (لا إله حق إلا هو).

وقوله (الحي القيوم) هذان اسمان من أسمائه وهما جامعان لكمال الأوصاف والأفعال فكمال الأوصاف في (الحي) والأفعال في(القيوم) لأن معنى الحي ذو الحياة الكاملة ويدل على ذلك (أل) المفيدة للاستغراق وكمال الحياة من حيث الوجود و العدم ومن حيث الكمال والنقص فإذا نظرنا إلى حياة الإنسان وجدناها ناقصة، ولهذا قال بعض السلف: ينبغي للإنسان أن يصل لأن هذا هو وجه الكمال ليس وجه الكمال أن تفنى الخليقة فقط بل وجه الكمال لله أن تفنى الخليقة ويبقى الله –عز وجل- ، وقوله (القيوم) أصل القيوم من القيام وهي صيغة مبالغة ومعنى القيوم القائم بنفسه والقائم على غيره.

وقوله ( لا تأخذه سنة ولا نوم) لم يقل لا ينام بل قال (لا تأخذه) حتى يشمل الأخذ بالغلبة والأخذ بالاختيار لأن النوم صفة نقص فهو نقص من حيث الكمال الذاتي ونقص من حيث الكمال المتعلق بالغير، والنوم نقص من حيث الكمال الذاتي لأن الإنسان الذي ينام معناه أن بدنه يتعب فيحتاج إلى نوم يستريح به مما مضى ويستجد به النشاط لم يستقبل ولهذا فإن أهل الجنة لا ينامون لكمال حياتهم وأبدانهم ولا يلحقهم مرض ولا نحوه، وكان النبي –صلى الله عليه وسلم –
يقول عند المنام : ((إن أمسكت نفسي فاغفر لها و ارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ عبادك الصالحين ))، فالحاصل أن الله -سبحانه و تعالى- لا يمكن أن ينام قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ))
وكلمة لا ينبغي في القرآن والسنة معناه الشيء الممتنع غاية الامتناع، وقوله ( لا تأخذه سنة ولا نوم) من الصفات السلبية والقاعدة في أسماء الله وصفاته أنه لا يوجد في صفات الله صفة سلبية محضة بل إنما تذكر لكمال ضدها فلكمال حياته وكمال قيوميته لا تأخذه سنة ولا نوم.

ثم قال الله –سبحانه وتعالى – في الجملة الثالثة (له ما في السماوات وما في الأرض) وعبر بـ (ما) ليشمل الأعيان و الأحوال إذاً له ما في السماوات خلقاً و ملكاً وتدبيراً وإذا كان له ما في السماوات وما في الأرض فالواجب أن نخضع له لأننا عبيده و العبد يجب أن يخضع لمالكه وسيده سبحانه وتعالى ، وكذلك يجب أن نصبر لقضائه لأننا ملكه وما كان ملكاً لله –عز و جل – فله أن يتصرف فيه كما يشاء ،

وقوله ( له ما في السماوات وما في الأرض ) السماوات جمعت والأرض أفردت لكنها بمعنى الجمع لأن المراد بها الجنس .

ثم قال في الجملة الرابعة: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) (من) اسم استفهام مبتدأ و(ذا) ملغاة و (الذي) اسم موصول خبر والمراد بالاستفهام هنا النفي بدليل الإثبات بعده حيث قال (إلا بإذنه) ومتى جاء النفي بصيغة الاستفهام فهو مشرب معنى التحدي، وقوله (يشفع) الشفاعة في اللغة: جعل الفرد شفعاً وفي الاصطلاح: التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة، فشفاعة النبي –صلى الله عليه وسلم- في أهل الموقف بعدما يلحقهم من الهم و الغم مالا يطيقون لدفع مضرة وشفاعته في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة لجلب منفعة، (إلا بإذنه) الكوني حتى أعظم الناس عند الله محمد –صلى الله عليه وسلم- لا يشفع إلا بإذن الله ولا أحد أعظم عند الله من الرسول –صلى الله عليه وسلم- ومع هذا لا يشفع إلا بإذن الله لكمال سلطانه –جل و علا- ولكمال هيبته، وتجد الملك إذا كان ذا هيبة في رعيته لا أحد يستطيع أن يتكلم في مجلسه وهو حاضر لقوة سلطانه، و على هذا فشرط الشفاعة ثلاثة: إذن الله –تعالى- بها ورضاه عن الشافع و رضاه عن المشفوع له.

ثم قال عز و جل في الجملة السادسة (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) والعلم عند الأصوليين إدراك الشيء إدراكاً جازماً مطابقاً، فعدم الإدراك جهل والإدراك على وجه لا جزم فيه شك والإدراك على وجه جازم غير مطابق جهل مركب،و الله –عز وجل- يعلم الأشياء علماً تاماً شاملاً بها جملة وتفصيلاً، وعلمه ليس كعلم العباد ولذلك قال (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) ما بين أيديهم المستقبل، وما خلفهم الماضي و(ما) من صيغ العموم فهي شاملة لكل شيء سواء كان دقيقاً أو جليلاً وسواء كان من أفعال الله أو أفعال العباد وعلمه ما بين أيديهم يقتضي أنه لا يجهل الماضي وعلمه لما خلفهم يقتضي أنه لا ينسى الماضي.

قال تعالى في الجملة السابعة (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) بين كمال علمه ونقص علمهم وهكذا يقرن بين صفته وبين صفة العباد ليتبين كماله ونقص المخلوق، وعِلم في قوله (عِلمِهِ) مصدر يحتمل أنه على بابه ويحتمل أنه معلوم يعني أنهم لا يحيطون بشيء يعلمونه في نفس الله أو في صفاته إلا بما شاء، فنحن لا نعلم شيئاً من ذات الله أو صفاته إلا بما شاء علمنا فهو الذي أعلمنا أنه استوى على العرش وهو الذي أعلمنا على لسان رسوله أنه ينزل إلى السماء الدنيا، وقوله (بما شاء) (ما) يحتمل أن تكون مصدرية أي إلا بمشيئته ويحتمل أن تكون موصولة أي إلا بالذي شاء فما شاء أن يعلمه الخلق أعلمهم إياه سواء كان ذلك فيما يتعلق بذاته أو صفاته أو أسمائه أو أفعاله أو مخلوقاته التي هي المفعولات أو مشروعاته التي أوحاها الله تعالى إلى رسله.

ثم قال تعالى (وسع كرسيه السماوات و الأرض) وسع بمعنى شمل وأحاط والكرسي: هو موضع قدمي الله –عز و جل- وهو بين يدي العرش كالمقدمة له وقد صح ذلك عن ابن عباس، وبهذا جزم شيخ الإسلام ابن تيميه وابن القيم وغيرهما من أهل العلم وأئمة التحقيق، وقد قيل: إن الكرسي هو العرش ولكن ليس بصحيح فإن العرش أوسع وأعظم وأبلغ إحاطة من الكرسي، وقد جاء الحديث عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (( ما السماوات السبع والأرضون بالنسبة للكرسي إلا كحلقة في فلاة من الأرض وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة، وقوله (السماوات والأرض) هذا يؤيد ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيميه وغيره من المحققين من أن السماوات و الأرض كلها كروية الشكل وليست ممدودة لأنها تمد يوم القيامة، وإذا كان الكرسي قد وسع السماوات والأرض فهو دليل أنه مكور، أما العرش فقد جاء عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أن عرشه على سماواته مثل القبة والقبة غير مكورة لكنها غير مسطحة أيضاً،ثم قال تعالى (ولا يؤده حفظهما) يؤده أي يثقله ويشق عليه (حفظهما) أي حفظ السماوات و الأرض وهذه الصفة سلبية، وما الذي يتطلبه الحفظ حتى نعرف أن هذا النفي لكمال ذلك الشيء؟ فالواجب أن يتطلب الحياة والعلم والقدرة والقوة والرحمة ويمكن صفات أخرى،فالمهم أن هذا النفي يتضمن كمال الله وقدرته وقوته ورحمته.

ثم قال الله تعالى (وهو العلي العظيم)العلي أي العلو المطلق وأما العلو المقيد فإنه يثبت للآدميين، ثم إن علو الله سبحانه وتعالى عند أهل السنة و الجماعة ينقسم إلى علو ذات وعلو صفة،فأما علو الذات: فهو أن عال بذاته فوق كل شيء وكل الأشياء تحته والله عز جل فقها بذاته، فأما عل الصفة:فهو أن الله متصف بالصفات العليا فكل صف اتصف الله بها فهي صف كمال ليس فيها نقص بوجه من الوجوه،و قوله ( العظيم) أي ذو العظمة و العظيم من كل شيء هو الجليل البالغ في الصفات كمالها فالعظيم من كل شيء هو الشيء الذي يكون بالغ الأهمية و بالغ الصفات.

----------------------


الفوائد:

1. إثبات خمسة أسماء أو ستة لأني _المؤلف_ في شك من أجعل (إله) من الأسماء لأنه نكرة هنا ، وكل اسم منها دال على صفه .

2. إثبات انفراد الله تعالى بالألوهية في قوله (لا إله إلا هو).

3. الرد على المشركين الذين أثبتوا مع الله إلهاً آخر بل آلهة.

4. إثبات صفة الحياة لله –عز وجل- وأنها حياة كاملة لم تسبق بعدم ولا يلحقها زوال ولا توصف بنقص. أما حياتنا فمسبوقة بعدم ملحوقة بزوال ، ولهذا وصفها الله بأنها الدنيا ، لكن حياة الله كاملة من كل الوجوه لقوله : ( الحيّ ) لأن ( أل ) للإستغراق أي : الجامع لمعاني صفات الحياة الكاملة كأنه يقول : لا حي إلا هو وهو كذلك لا حي حياة كاملة إلا الله عز وجل .

5. إثبات القيومية لله –عز و جل- لقوله ( القيوم ) وهذا الوصف لا يكون للآدمي ، فليس هناك انسان قائم بنفسه ، وليس فيه انسان قائم على غيره لأنه ما من انسان إلا وهو محتاج إلى غيره ، نحن محتاجون إلى العمال والعمال محتاجون إلينا ، ونحن محتاجون إلى النساء و النساء محتاجه إلينا ، ونحن محتاجون إلى الاولاد و الأولاد محتاجة إلينا ، وليس فيه أحد قائم على غيره القيام المطلق / قد أقوم على غيري لكنه قيام محدود ولهذا قال الله تعالى : ( أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ) .
6. تضمنها لاسم الله الأعظم الثابت في قوله (الحي القيوم) وقد ذكر هذان الاسمان في ثلاثة مواضع من القرآن في الزهراوين (البقرة و آل عمران) و في سورة طه.

7. كمال حياة الله و كمال قيوميته بحيث لا يعتريها أدنى نقص لقوله (لا تأخذه سنة ولا نوم)، لأن الكمال قد يطلق بإعتبار الأغلب الأكثر و إن كان عليه النقص من بعض الوجوه ، لكن إذا نفى النقص فمعناه أن الكمال كمال مطلق لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه ، وهنا النفي حصل بقوله ( لا تأخذه سنة ولا نوم ).

8. إثبات الصفات السلبية لقوله (لا تأخذه سنة ولا نوم) وقوله (ولا يؤده حفظهما)والصفات السلبية ما نفاه الله عن نفسه وهي متضمنة لثبوت كمال ضده.

9. عموم ملك الله لقوله (له ما في السماوات وما في الأرض).

10. اختصاص الله تعالى بهذا الملك ويؤخذ من تقديم الخبر(له ما في السماوات) .

11. اثبات السماوات والأرض لقوله : ( له ما في السماوات ) و أن السماوات عدد و أما كونها سبعاً أو أقل أو أكثر فمن دليل آخر .

12. كمال سلطان الله لقوله (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) ، وهذا غير عموم الملك فقوة السلطان وتمامه أكمل من عموم الملك .

13. إثبات الشفاعة بإذن الله تعالى لقوله (إلا بإذنه) و إلا لما صح الإستثناء ، فلولا أن الشفاعة ثابتة بإذن الله ما صح الإستثناء .

14. اثبات الإذن وهو الأمر لقوله ( إلا بإذنه ) .

15. إثبات علم الله وأنه عام في الماضي و الحاضر والمستقبل لقوله (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم).

16. الرد على القدرية الغلاة لقوله تعالى : (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ) فإثبات عموم العلم يرد عليهم ، لأن القدرية الغلاة أنكروا علم الله بأفعال خلقه إلا إذا وقعت .

17. الرد على الخوارج و المعتزلة في اثبات الشفاعة لأن الخوراج و المعتزلة ينكرون الشفاعة العامة التي تكون للرسول و لغيره ، وهي الشفاعة في أهل المعاصي لأن مذهبهم أن فاعل الكبيرة مخلد في النار إذا مات و لم يتب لكن اختلفوا هل هو كافر أو لا مؤمن ولا كافر ؟.
الخوارج صار عندهم من الشجاعة على الحق لا بالحق أن قالوا : إن فاعل الكبيرة كافر خارج من الاسلام ، و المعتزلة جبنوا عن مخالفة أهل السنة ووعن مخالفة الخوارج وقالوا : سنجلس في أثناء الطريق فنقول : إن فاعل الكبيرة في منزلة بين المنزلتين لا نقول مؤمن ولا نقول كافر ، لكن اتفقوا على أنه مخلد في النار ، ولهذا نفوا الشفاعة ، وعموم الآية يرد على الطائفتين : ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) .

18. إن الله لا يحاط به علماً كما لا يحاط به سمعاً ولا بصراً لقوله (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء).

19. إننا لا نعلم شيئاً عن مخلوقاته ولا عن ذاته إلا بما علمنا به لقوله : ( و لا يحيطون بشيء من علمه ) على أحد الوجهين في تفسيرها .

20. تحريم تكييف صفات الله لأن الله ما أعلمنا بكيفية صفاته ، فإذا إدعينا علمها فنحن كاذبون .

21. الرد على المعطلة لقوله (و لا يحيطون بشيء من علمه ) لأنهم يقولون : مثلاً إن الله ليس له يد حقيقية فمقتضى ذلك أنهم أحاطوا بنفي شيء من صفاته ، ولكنهم كذبوا في ذلك ، لأن الله أثبت هذا لنفسه ، فادعائهم أن اليد الحقيقية لا تليق بالله أو الوجه الحقيقي أو العين أو ما أشبه ذلك هذه دعوى باطلة لأننا نقول : إن العلم نوعان : علم إثبات و نفي ، فلا يمكن أن تنفي شيئاً عن شيء إلا بعلم كما لا يمكن أن تثبت شيئاً لشيء إلا بعلم فأنتم إذاً نفيتم حقائق هذه الصفات فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ، فمثلاً لم ينفي الله عن نفسه اليد و لا في آية من القرآن ، ولم ينفه رسوله صلى الله عليه وسلم في حديث من الأحاديث ، ولم ينفها السلف الصالح ، وهم يقولون ننفيها .

22. الرد على الممثلة لأنه مادام في الآية رد على المكيفة ففيها رد على الممثلة من باب أولى .

23. إثبات مشيئة الله لقوله (إلا بما شاء).

24. الرد على القدرية المعتزلة ، لأن إحاطة الإنسان بالشيء من صفاته ، وصفاته مخلوقة لله ، وهم يقولون : إن الله تعالى لا يشاء شيئاً مما يتعلق بالإنسان .

25. عظم الكرسي لقوله (وسع كرسيه السماوات والأرض).

26. عظمة خالقه لأن عظمة المخلوق تدل على عظمة الخالق.

27. كفر من أنكر السماوات والأرض لأنه يستلزم تكذيب الله ، أما الأرض فلا أظن أحداً ينكرها ، لكن السماء أنكرها من أنكرها وقالوا : ما فوقنا فضاء لا نهاية له و لا حدود ، و إنما سدوم ونجوم وما أشبه ذلك . ولاشك أنه كافر بالله العظيم ، سواء إعتقده الإنسان بنفسه أو بتقليد من يقلده ممن يعظمهم إذا كان عالماً بما دل عليه الكتاب و السنه .

28. إثبات قوة الله لقوله (ولا يؤده حفظهما).

29. انتفاء المشقة عنه –عز و جل- لقوله (ولا يؤده) ، فهذه صفة سلبية فهي كقوله تعالى : ( وما مسنا من لغوب ) .

30. إثبات ما تتضمنه هذه الجملة ( ولا يؤده حفظهما ) وهي العلم و القدرة والحياة و الرحمة و الحكمة و القوة .

31. أن السماوات و الأرض تحتاج إلى حافظ لقوله : (ولا يؤده حفظهما ) فلولا حفظ الله لفسدتا : ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات و مساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ).
وقوله ( ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ) .
وقوله : ( إن الله يمسك السماوات و الأرض أن تزولا ، و لئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده )

32. إثبات علو الله الذاتي و الصفتي لقوله (وهو العلي).

33. الرد على الحلولية و على المعطلة النفات ، فالحلولية قالوا : إنه ليس بعال بل هو في كل مكان ، و المعطلة النفاة ، قالو: لا يوصف بعلو و لا سفل و لا يمين ولا شمال ولا إتصال و لا انفصال

34. التحذير من الطغيان على الغير لقوله : ( وهو العلي العظيم ) ولهذا قال الله في سورة النساء : ( فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان علياً كبيراً ) فإذا كنت متعالياً في نفسك فاذكر علو الله عز وجل و إذا كنت عظيماً في نفسك فاذكر عظمة الله .

35. إثبات العظمة لله لقوله (العظيم).

36. إثبات صفة كمال حصلت باجتماع الوصفين وهما العلو و العظمة .

37. يتفرع على أن الملك لله : ألا نتصرف في ملكه إلا بما يرضاه لقوله : ( له ما في السماوات و وما في الأرض ) .

38. أن الحكم الشرعي بين الناس و الفصل بينهم يجب أن يكون مستنداً على حكم الله ، و أن اعتماد الإنسان على حكم المخلوقين و القوانين الوضعية نوع من الإشراك بالله عز وجل .

39. الرضا بقضاء الله عز وجل وقدره لأنك إذا علمت أن الملك لله – عز وجل – قلت: هذا تصرف مالك في ملكه فله أن يفعل ما يشاء ( لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون ) ولخذا كان هذا المعنى في تعزية النبي لابنته حيث قال : ( إن لله ما أخذ وله ما أبقى وكل شيء عنده بأجل مسمى )

40. عدم إجاب الإنسان بما حصل بفعله لأن هذا من الله و الملك له سبحانه .

والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

عبده فايز الزبيدي 12-18-2013 08:58 PM

فضل الأذان والمؤذن*
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.. أما بعد:
لا يشك مسلم في أن الأذان شعارٌ من شعائر أهل الإسلام، ونداءتهم إلى الصلاة والعبادة، أمر المسلمون، بتلبيته، وإجابته، فإذا كانت هذه خصائصه ومميزاته, فإنه لابد أن يكون فيه فضل عظيم، وأجر كبير، إذ أنه من الأعمال التي يتقرب إلى الله - عز وجل - بها، فقد قال الله - عز وجل - في كتابه:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (33) سورة فصلت. قالت عائشة - رضي الله عنها - وعكرمة ومجاهد, وقيس بن أبي حازم أنها نزلت في المؤذنين، قالت عائشة: فالمؤذن إذا قال: حيّ على الصلاة فقد دعا إلى الله(1).وقال محمد بن سيرين والسدي, وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: المراد بها المؤذنون الصلحاء(2)فليس هناك أحسن ممن يدعوا إلى الله، ويعمل صالحاً، بدليل الآية السابقة، فهو فضل عظيم, وأجر جزيل من رب العالمين.
ثم إن هناك ثم أمور وفضائل في الأذان والمؤذن ذكرت في السنة الغراء, فإليك هذه الفضائل:

1 - الاستهام على الأذان:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(
لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول, ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا...)(3).

قال الإمام النووي:
(معناه أنهم لو علموا فضيلة، الأذان وقدرها, وعظيم جزائه, ثم لم يجدوا طريقاً يحصلونه به لضيق الوقت عن أذان بعد أن أذان، أو لكونه لا يؤذن للمسجد إلا واحد، لاقترعوا في تحصيله"(4).


2 - المؤذنون أطول أعناقاً يوم القيامة:
عن معاوية - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة)(5)
أي أن الناس يعطشون يوم القيامة والإنسان إذا عطش انطوت عنقه, والمؤذنون لا يعطشون يومها, فلا تنطوي أعناقهم(6)، وقيل معناه: "أكثر الناس تشوفاً إلى - رحمة الله -؛ لأن المتشوف يطيل عنقه إلى ما يتطلع إليه, فمعناه كثرة ما يرونه من الثواب, وقيل إذا ألجم الناس العرق يوم القيامة طالت أعناقهم, لئلا ينالهم ذلك الكرب, وقيل معناه أنهم سادة ورؤساء, والعرب تصف السادة بطول العنق, وقيل أكثر أتباعاً, وقيل أكثر أعمالاً وروي إعناقاً بكسر الهمزة إسراعاً إلى الجنة من سير العنق"(7) فأي المعاني كان فهو فضل للمؤذن، وشرف له وسعادة في الآخرة، يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، يوم تبلغ القلوب الحناجر، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

3 - الشيطان يفر من الأذان:
عن أبي هريرة رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي النداء أقبل، حتى إذا ثُوب بالصلاة أدبر،حتى إذا قضي التثويبُ أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه). قال الحافظ ابن حجر: "والحكمة في هروب الشيطان عند سماع الأذان والإقامة دون سماع القرآن والذكر في الصلاة, فقيل يهرب حتى لا يشهد للمؤذن يوم القيامة, فإنه لا يسمع المؤذن جن ولا إنس إلا شهد له(8).

4 - الجن والإنس وكل شيء يشهد للمؤذن:
فقد جاء من حديث عبد الرحمن بن أبي صعصعة - رضي الله عنه - أن أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه -، قال له: (إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك، أو باديتك فأذنت، بالصلاة فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى، صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة)، قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (9).

5 - النبي يدعو للمؤذن بالمغفرة:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(
الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين)(10)..


6 - المغفرة للمؤذن من الله:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(
المؤذن يغفر له مدى صوته ويستغفر له كل رطب ويابس)(11).

وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (يعجب ربك عز وجل من راعي غنم في رأس شظية، بجبل يؤذن للصلاة ويصلي فيقول الله عز وجل: أنظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة)(12).

7 - الأذان دليل على وجود الإسلام:
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغير إذا طلع الفجر, وكان يستمع الأذان، فإن سمع أذاناً أمسك و إلا أغار، فسمع رجلاً يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:على الفطرة، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرجت من النار، فنظروا فإذا هو راعي معزى)(13).

8 - أن الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد:
فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة)(14).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين،
والحمد لله رب العالمين
_________________________
*http://www.alimam.ws/ref/125

عبده فايز الزبيدي 12-18-2013 10:37 PM

القوادح في العقيدة ووسائل السلامة منها
محاضرة للإمام عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله
(22 نوفمبر 1910 م- 13 مايو 1999م)
_________________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على عبده ورسوله وخليله، وأمينه على وحيه، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله، واهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:
فلا ريب أن سلامة العقيدة أهم الأمور، وأعظم الفرائض، ولهذا رأيت أن يكون عنوان هذه الكلمة: "القوادح في العقيدة ووسائل السلامة منها".
العقيدة: هي ما يعتقده الإنسان ويدين به من خير وشر، من فساد وصلاح. والمطلوب: هو التمسك بالعقيدة الصحيحة، وما يجب على العبد في ذلك؛ لأن في هذا العالم عقائد كثيرة، كلها فاسدة إلا العقيدة التي جاء بها كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي العقيدة الإسلامية الصافية النقية من شوائب الشرك والبدع والمعاصي، هذه هي العقيدة التي جاء بها كتاب الله، ودلت عليها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي الإسلام.
قال الله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ[1]، وقال عز وجل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا[2]. فالإسلام هو دين الله لا يقبل من أحد سواه، قال الله عز وجل: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ[3]، وهو دين الأنبياء كلهم.
فهو دين آدم أبينا عليه الصلاة والسلام، وهو دين الأنبياء بعده نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وداود، وسليمان، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، ودين غيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهو دين نبينا محمد عليه الصلاة والسلام الذي بعثه الله به للناس عامة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد))[4]، وفي لفظ: ((أولاد علّات)) والمعنى: أن دين الأنبياء واحد وهو توحيد الله، والإيمان بأنه رب العالمين، وأنه الخلاق العليم، وأنه المستحق للعبادة دون كل ما سواه، والإيمان بالآخرة والبعث والنشور، والجنة والنار والميزان، وغير هذا من أمور الآخرة، أما الشرائع فهي مختلفة، وهذا معنى "أولاد علّات" أولاد لضرّات، كنى بهذا عن الشرائع، كما قال سبحانه: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا[5]. إخوة الأب: أبوهم واحد وأمهاتهم متفرقات، هكذا الأنبياء دينهم واحد وهو توحيد الله والإخلاص له.
وهو معنى "لا إله إلا الله"، وهو إفراد الله بالعبادة، والإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، وما يتفرع بعد ذلك من البعث والنشور، والجنة والنار، والميزان والحساب والصراط، وغير هذا.
هكذا الأنبياء دينهم واحد، كلهم جاءوا بهذا الأمر - عليهم الصلاة والسلام - ولكن الشرائع تفرقت، بمثابة الأولاد لأمهات العلات، فشريعة التوراة فيها ما ليس في شريعة الإنجيل، وفي الشرائع التي قبلها أشياء ليست فيها، وفي شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أشياء غير ما في التوراة والإنجيل، فقد يسر الله على هذه الأمة وخفف عنها الكثير، كما قال جل وعلا: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ[6]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((بعثت بالحنيفية السمحة))، فالله بعثه بشريعة سمحة ليس فيها آصار، وليس فيها أغلال، وليس فيها حرج، كما قال سبحانه: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[7]، كان أتباع الشرائع الماضية قبل شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم لا يتيممون عند فقد الماء، بل يؤخرون الصلوات ويجمعونها حتى يجدوا الماء، ثم يتوضئون ويصلون، وجاء في هذه الشريعة المحمدية التيمم، فمن عدم الماء أو عجز عنه تيمم بالتراب وصلى، وجاء في ذلك أنواع كثيرة من التيسير والتسهيل.
وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس عامة، إلى الجن والإنس، والعرب والعجم، وجعله الله خاتم الأنبياء. وكان من قبلنا لا يصلون إلا في بيعهم ومساجدهم ومحلات صلاتهم، أما في هذه الشريعة المحمدية فإنك تصلي حيث كنت، في أي أرض الله حضرت الصلاة صليت، في أي أرض الله من الصحاري والقفار، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً))[8].
فالشريعة الإسلامية التي جاء بها نبينا صلى الله عليه وسلم شريعة واسعة ميسرة ليس فيها حرج ولا أغلال، ومن ذلك المريض لا يلزمه الصوم، بل له أن يفطر ويقضي، والمسافر يقصر الصلاة الرباعية، ويفطر في رمضان، ويقضي الصوم، كما قال الله عز وجل: وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ[9]، والمصلي إن عجز عن القيام صلى قاعداً، وإن عجز عن القعود صلى على جنبه، وإن عجز عن الصلاة على جنبه صلى مستلقياً، كما صحت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا لم يجد من الأكل ما يسد رمقه من الحلال جاز له أن يأكل من الميتة ونحوها ما يسد رمقه حتى لا يموت.
فالعقيدة الإسلامية هي توحيد الله والإخلاص له سبحانه، والإيمان به، وبرسله، وبكتبه، وبملائكته، وباليوم الآخر من البعث والنشور، ومن الجنة والنار وغير ذلك من أمور الآخرة، والإيمان بالقدر خيره وشره، وأنه سبحانه قدر الأشياء، وعلمها وأحاط بها، وكتبها عنده سبحانه وتعالى. ومن أركان الإسلام الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج. ومن واجباته وفرائضه الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، إلى غير ذلك.
فالإسلام: هو الاستسلام لله، والانقياد له سبحانه بتوحيده، والإخلاص له والتمسك بطاعته وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام، ولهذا سمي إسلاماً؛ لأن المسلم يسلم أمره لله، ويوحده سبحانه، ويعبده وحده دون ما سواه، وينقاد لأوامره ويدع نواهيه، ويقف عند حدوده، هكذا الإسلام.
وله أركان خمسة وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً.
والشهادتان معناهما: توحيد الله والإخلاص له، والإيمان بأن محمداً رسوله عليه الصلاة والسلام إلى جميع الثقلين الجن والإنس، وهاتان الشهادتان هما أصل الدين، وهما أساس الملة، فلا معبود بحق إلا الله وحده، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، كما قال عز وجل: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ[10].
وأما شهادة أن محمداً رسول الله فمعناها أن تشهد عن يقين وعلم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي المكي ثم المدني هو رسول الله حقاً، وهو أشرف عباد الله، وقرابته وأسرته هم أفضل العرب على الإطلاق، فهو خيار من خيار من خيار عليه الصلاة والسلام، وهو أشرف الخلق وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه.
فعليك أن تؤمن بأن الله بعثه للناس عامة إلى الجن والإنس، إلى الذكور والإناث، إلى العرب والعجم، إلى الأغنياء والفقراء، إلى الحاضرة والبادية، هو رسول الله إلى الجميع، من اتبعه فله الجنة، ومن خالف أمره فله النار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى)) خرجه البخاري في صحيحه[11].
فهذه العقيدة الإسلامية العظيمة مضمونها توحيد الله، والإخلاص له، والإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأنه رسوله حقاً، والإيمان بجميع المرسلين، مع الإيمان بوجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، والإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، والإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله، هذه هي العقيدة الإسلامية المحمدية، وقد وقع من بعض الناس قوادح فيها، ونواقض تنقضها يجب أن نبينها في هذه الكلمة.

عبده فايز الزبيدي 12-18-2013 10:38 PM

والقوادح قسمان:
قسم ينقض هذه العقيدة ويبطلها، فيكون صاحبه كافراً نعوذ بالله. وقسم ينقص هذه العقيدة ويضعفها.
فالأول: يسمى ناقضاً، وهو الذي يبطلها ويفسدها، ويكون صاحبه كافراً مرتداً عن الإسلام، وهذا النوع هو القوادح المكفرة، وهي نواقض الإسلام، وهي الموجبة للردة، هذه تسمى نواقض.
والناقض يكون قولاً، ويكون عملاً، ويكون اعتقاداً، ويكون شكاً، فقد يرتد الإنسان بقول يقوله أو بعمل يعمله، أو باعتقاد يعتقده، أو بشك يطرأ عليه، هذه الأمور الأربعة كلها يأتي منها الناقض الذي يقدح في العقيدة ويبطلها، وقد ذكرها أهل العلم في كتبهم وسموا بابها: "باب حكم المرتد".
فكل مذهب من مذاهب العلماء، وكل فقيه من الفقهاء ألف كتباً في الغالب عندما يذكر الحدود يذكر "باب حكم المرتد"، وهو الذي يكفر بعد الإسلام، ويسمى هذا مرتداً، يعني أنه رجع عن دين الله وارتد عنه، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ((من بدل دينه فاقتلوه)) خرجه البخاري في الصحيح[12].
وفي الصحيحين[13]: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا موسى الأشعري إلى اليمن ثم أتبعه معاذ بن جبل رضي الله عنهما فلما قدم عليه قال: أنزل وألقي له وسادة، وإذا رجل عنده موثق قال: ما هذا؟ قال: هذا كان يهودياً فأسلم، ثم راجع دينه - دين السوء - فتهود، فقال معاذ: لا أنزل حتى يقتل قضاء الله ورسوله، فقال: انزل، قال: لا أنزل حتى يقتل قضاء الله ورسوله ثلاث مرات، فأمر به أبو موسى رضي الله عنه فقتل))، فدل ذلك على أن المرتد عن الإسلام يقتل إذا لم يتب، يستتاب فإن تاب ورجع فالحمد لله، وإن لم يرجع وأصر على كفره وضلاله يقتل، ويعجل به إلى النار؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من بدل دينه فاقتلوه))[14].
فالنواقض التي تنقض الإسلام كثيرة منها:
الردة بالقول:
مثل سب الله، هذا قول ينقض الدين، وهكذا سب الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني اللعن والسب لله ولرسوله، أو للعيب والتنقص، مثل أن يقول: إن الله ظالم، إن الله بخيل، إن الله فقير، إن الله جل وعلا لا يعلم بعض الأمور، أو لا يقدر على بعض الأمور، كل هذه الأقوال وأشباهها سب وردة عن الإسلام.
فمن انتقص الله أو سبه أو عابه بشيء فهو كافر مرتد عن الإسلام - نعوذ بالله من ذلك - وهذه ردة قولية، إذا سب الله أو استهزأ به أو تنقصه أو وصفه بأمر لا يليق، كما تقول اليهود إن الله بخيل، إن الله فقير ونحن أغنياء، وهكذا لو قال إن الله لا يعلم بعض الأمور، أو لا يقدر على بعض الأمور، أو نفى صفات الله ولم يؤمن بها، فهذا يكون مرتداً بأقواله السيئة.
أو قال مثلاً: إن الله لم يوجب علينا الصلاة فهذه ردة عن الإسلام، فمن قال: إن الله لم يوجب الصلاة فقد ارتد عن الإسلام بإجماع المسلمين، إلا إذا كان جاهلاً بعيداً عن المسلمين لا يعرف فيعلم، فإن أصر كفر، وأما إذا كان بين المسلمين، ويعرف أمور الدين، ثم قال: ليست الصلاة بواجبة فهذه ردة، يستتاب منها فإن تاب وإلا قتل.
أو قال: الزكاة غير واجبة على الناس، أو قال: صوم رمضان غير واجب على الناس، أو الحج مع الاستطاعة غير واجب على الناس، من قال هذه المقالات كفر إجماعاً، ويستتاب فإن تاب وإلا قتل نعوذ بالله من ذلك، وهذه الأمور ردة قولية.
ومنها الردة بالفعل:
والردة الفعلية مثل ترك الصلاة، فكونه لا يصلي وإن قال: إنها واجبة، لكن لا يصلي هذه ردة على الأصح من أقوال العلماء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) رواه الإمام أحمد، والترمذي والنسائي وابن ماجه بإسناد صحيح[15]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)) أخرجه مسلم في صحيحه[16].
وقال عبد الله بن شقيق العقيلي التابعي المتفق على جلالة قدره رحمه الله: (كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة) رواه الترمذي[17] وإسناده صحيح. وهذه ردة فعلية، وهي ترك الصلاة عمداً.
ومن ذلك لو استهان بالمصحف الشريف وقعد عليه مستهيناً به، أو لطخه بالنجاسة عمداً، أو وطأه بقدمه يستهين به، فإنه يرتد بذلك عن الإسلام.
ومن الردة الفعلية كونه يطوف بالقبور يتقرب لأهلها بذلك، أو يصلي لهم أو للجن، وهذه ردة فعلية، أما دعاؤه لهم والاستعانة بهم والنذر لهم فردة قولية.
أما من طاف بالقبور يقصد بذلك عبادة الله، فهو بدعة قادحة في الدين، ووسيلة من وسائل الشرك، ولا يكون ردة، إنما يكون بدعة قادحة في الدين إذا لم يقصد التقرب إليهم بذلك، وإنما فعل ذلك تقرباً إلى الله سبحانه جهلاً منه.
ومن الكفر الفعلي كونه يذبح لغير الله، ويتقرب لغيره سبحانه بالذبائح، يذبح البعير أو الشاة أو الدجاجة أو البقرة لأصحاب القبور تقرباً إليهم يعبدهم بها، أو للجن يعبدهم بها، أو للكواكب يتقرب إليها بذلك، وهذا مما أهل به لغير الله، فيكون ميتة، ويكون كفراً أكبر، نسأل الله العافية من ذلك، هذه كلها من أنواع الردة والنواقض عن الإسلام الفعلية.
ومنها: الردة بالاعتقاد:
ومن أنواع الردة العقدية التي يعتقدها بقلبه وإن لم يتكلم بها ولم يفعل، بل بقلبه يعتقد، إذا اعتقد بقلبه أن الله جل وعلا فقير، أو أنه بخيل، أو أنه ظالم، ولو أنه ما تكلم، ولو لم يفعل شيئاً، هذا كفر بمجرد هذه العقيدة بإجماع المسلمين. أو اعتقد بقلبه أنه لا يوجد بعث ولا نشور، وأن كل ما جاء في هذا ليس له حقيقة، أو اعتقد بقلبه أنه لا يوجد جنة أو نار، ولا حياة أخرى، إذا اعتقد ذلك بقلبه ولو لم يتكلم بشيء، هذا كفر وردة عن الإسلام نعوذ بالله من ذلك وتكون أعماله باطلة، ويكون مصيره إلى النار بسبب هذه العقيدة.
وهكذا لو اعتقد بقلبه ولو لم يتكلم أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس بصادق، أو أنه ليس بخاتم الأنبياء وأن بعده أنبياء، أو اعتقد أن مسيلمة الكذاب نبي صادق، فإنه يكون كافراً بهذه العقيدة.
أو اعتقد بقلبه أن نوحاً أو موسى أو عيسى أو غيرهم من الأنبياء عليهم السلام أنهم كاذبون أو أحداً منهم هذا ردة عن الإسلام، أو اعتقد أنه لا بأس أن يدعي مع الله غيره كالأنبياء أو غيرهم من الناس، أو الشمس والكواكب أو غيرها، إذا اعتقد بقلبه ذلك صار مرتداً عن الإسلام؛ لأن الله تعالى يقول: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ[18]، وقال سبحانه: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ[19]، وقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[20]، وقال: وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ[21]، وقال: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ[22]، وقال سبحانه: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[23]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
فمن زعم أو اعتقد أنه يجوز أن يعبد مع الله غيره من ملك، أو نبي، أو شجر، أو جن، أو غير ذلك فهو كافر، وإذا نطق وقال بلسانه ذلك صار كافراً بالقول والعقيدة جميعاً، وإن فعل ذلك ودعا غير الله واستغاث بغير الله صار كافراً بالقول والعمل والعقيدة جميعاً، نسأل الله العافية من ذلك.
ومما يدخل في هذا ما يفعله عباد القبور اليوم في كثير من الأمصار من دعاء الأموات، والاستغاثة بهم، وطلب المدد منهم، فيقول بعضهم: يا سيدي المدد المدد، يا سيدي الغوث الغوث، أنا بجوارك اشف مريضي، ورد غائبي، وأصلح قلبي، يخاطبون الأموات الذين يسمونهم الأولياء، ويسألونهم هذا السؤال، نسوا الله وأشركوا معه غيره - تعالى الله عن ذلك - فهذا كفر قولي وعقدي وفعلي.
وبعضهم ينادي من مكان بعيد وفي أمصار متباعدة يا رسول الله انصرني ونحو هذا، وبعضهم يقول عند قبره: يا رسول الله اشف مريضي، يا رسول الله: المدد المدد، انصرنا على أعدائنا، أنت تعلم ما نحن فيه، انصرنا على أعدائنا. والرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، إذ لا يعلم الغيب إلا الله سبحانه، هذا من الشرك القولي والعملي، وإذا اعتقد مع ذلك أن هذا جائز وأنه لا بأس به صار شركاً قولياً وفعلياً وعقدياً نسأل الله العافية من ذلك. وهذا واقع في دول وبلدان كثيرة، وكان واقعاً في هذه البلاد، كان واقعاً في الرياض والدرعية قبل قيام دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فقد كانت لهم آلهة في الرياض والدرعية وغيرهما، أشجار تعبد من دون الله، وأناس يقال: إنهم من الأولياء يعبدونهم مع الله، وقبور تعبد مع الله.
وكان قبر زيد بن الخطاب رضي الله عنه موجوداً في الجبيلة حيث قتل في حروب الردة أيام مسيلمة، كان قبره يعبد من دون الله حتى هدم ذلك القبر ونسي اليوم والحمد لله بأسباب دعوة الشيخ محمد قدس الله روحه وجزاه عنا وعن المسلمين أفضل الجزاء.
وقد كان في نجد والحجاز من الشرك العظيم والاعتقادات الباطلة، ودعوة غير الله ما لا يعد ولا يحصى، فلما جاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في النصف الثاني من القرن الثاني عشر، أي قبل ما يزيد عن مائتي سنة، دعا إلى الله، وأرشد الناس، فعاداه كثير من العلماء الجهلة وأهل الهوى، لكن الله أيده بعلماء الحق، وبآل سعود - رحم الله الجميع - فدعا إلى الله، وأرشد الناس إلى توحيد الله، وبين لهم أن عبادة الجن والأحجار والأولياء والصالحين وغيرهم شرك من عمل الجاهلية، وأنها أعمال أبي جهل وأمثاله من كفار قريش في عبادتهم اللات والعزى، ومناة، وعبادة القبور، هذه هي أعمالهم، فبين رحمه الله للناس، وهدى الله على يديه من هدى، ثم عمت الدعوة بلاد نجد والحجاز وبقية الجزيرة العربية، وانتشر فيها التوحيد والإيمان، وترك الناس الشرك بالله وعبادة القبور والأولياء بعد أن كانوا يعبدونها إلا من رحم الله، بل كان بعضهم يعبد أناساً مجانين لا عقول لهم ويسمونهم أولياء، وهذا من عظيم جهلهم الذي كانوا واقعين فيه.

عبده فايز الزبيدي 12-18-2013 10:40 PM

ومنها الردة بالشك:
عرضنا للردة التي تكون بالقول، والردة بالعمل، والردة بالعقيدة، أما الردة بالشك فمثل الذي يقول: أنا لا أدري هل الله حق أم لا؟ أنا شاك، هذا كافر كفر شك، أو قال: أنا لا أعلم هل البعث حق أم لا؟ أو قال: أنا لا أدري هل الجنة والنار حق أم لا؟ أنا لا أدري، أنا شاك.
فمثل هذا يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافراً لشكه فيما هو معلوم من الدين بالضرورة وبالنص والإجماع.
فالذي يشك في دينه ويقول: أنا لا أدري هل الله حق؟ أو هل الرسول حق؟ وهل هو صادق أم كاذب؟ أو قال: لا أدري هل هو خاتم النبيين؟ أو قال: لا أدري مسيلمة كاذب أم لا؟ أو قال: ما أدري هل الأسود العنسي - الذي ادعى النبوة في اليمن - كاذب أم لا؟ هذه الشكوك كلها ردة عن الإسلام، يستتاب صاحبها ويبين له الحق، فإن تاب وإلا قتل. ومثل لو قال: أشك في الصلاة هل هي واجبة أم لا؟ أو الزكاة هل هي واجبة أم لا؟ وصيام رمضان هل هو واجب أم لا؟ أو شك في الحج مع الاستطاعة هل هو واجب في العمر مرة أم لا؟ فهذه الشكوك كلها كفر أكبر يستتاب صاحبها، فإن تاب وآمن وإلا قتل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من بدل دينه فاقتلوه)) رواه البخاري في الصحيح[24].
فلا بد من الإيمان بأن هذه الأمور - أعني الصلاة والزكاة والصيام والحج - كلها حق وواجب على المسلمين بشروطها الشرعية، هذا الذي تقدم هو القسم الأول من القوادح، وهو القسم الذي ينقض الإسلام ويبطله، ويكون صاحبه مرتداً يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
أما النوع الثاني: فهو وجود القوادح دون الكفر، لكنها تضعف الإيمان وتنقصه، وتجعل صاحبها معرضاً للنار وغضب الله، لكن لا يكون صاحبها كافراً.
وأمثلة ذلك كثيرة منها: الزنا إذا آمن أنه حرام ولم يستحله، بل يزني ويعلم أنه عاص، هذا لا يكون كافراً وإنما يكون عاصياً، لكن إيمانه ناقص، وهذه المعصية قدحت في عقيدته لكن دون الكفر، فلو اعتقد أن الزنا حلال صار بذلك كافراً.
وهكذا لو قال: السرقة حلال، أو ما أشبه ذلك، يكون كافراً؛ لأنه استحل ما حرم الله، وكذلك الغيبة والنميمة وعقوق الوالدين وأكل الربا وأشباه ذلك، كل هذه من القوادح في العقيدة المضعفة للدين والإيمان.
وهكذا البدع، وهي أشد من المعاصي، فالبدع في الدين تضعف الإيمان، ولا تكون ردة ما لم يوجد فيها شرك.
ومن أمثلة ذلك: بدعة البناء على القبور، كأن يبني على القبر مسجداً أو قبة، فهذه بدعة تقدح في الدين وتضعف الإيمان، لكن إذا بناها وهو لا يعتقد جواز الكفر بالله، ولم يقترن بذلك دعاء الميتين والاستغاثة بهم والنذر لهم، بل ظن أنه بفعله هذا يحترمهم ويقدرهم، فهذا العمل حينئذ ليس كفراً، بل بدعة قادحة في الدين تضعف الإيمان وتنقصه، ووسيلة إلى الشرك.
ومن أمثلة البدع: بدعة الاحتفال بالمولد النبوي حيث يحتفل بعض الناس في الثاني عشر من ربيع الأول بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا العمل بدعة لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ولا خلفاؤه الراشدون، ولم يفعلها أهل القرن الثاني ولا الثالث، بل هذه بدعة محدثة[25].
أو الاحتفال بمولد البدوي، أو عبد القادر الجيلاني، أو غيرهما، فالاحتفال بالموالد بدعة من البدع، ومنكر من المنكرات التي تقدح في العقيدة؛ لأن الله ما أنزل بها من سلطان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة)) رواه مسلم[26]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) متفق على صحته[27]، أي فهو مردود عليه، وقال عليه الصلاة والسلام: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) خرجه مسلم في صحيحه[28]، وقال: ((إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة))[29]، فالبدع من القوادح في الدين التي دون الكفر، إذا لم يكن فيها كفر، أما إذا كان في الاحتفال بالمولد دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم والاستغاثة به وطلبه النصر صار شركاً بالله، وكذا دعاؤهم يا رسول الله انصرنا، المدد المدد يا رسول الله، الغوث الغوث، أو اعتقادهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب أو غيره، كاعتقاد بعض الشيعة في علي والحسن والحسين أنهم يعلمون الغيب، كل هذا شرك وردة عن الدين، سواء كان في المولد أو في غير المولد.
ومثل هذا قول بعض الرافضة: إن أئمتهم الإثني عشر يعلمون الغيب، وهذا كفر وضلال وردة عن الإسلام؛ لقوله تعالى: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ[30]، أما إذا كان الاحتفال بمجرد قراءة السيرة النبوية، وذكر ما جرى في مولده وغزواته، فهذا بدعة في الدين تنقصه ولكن لا تنقضه.
ومن البدع: ما يعتقده بعض الجهال في شهر صفر من أنه لا يسافر فيه، فيتشاءمون به[31]، وهذا جهل وضلال، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا عدوى ولا طيرة ولا صفر ولا هامة)) متفق على صحته، وزاد مسلم: ((ولا نوء ولا غول))[32]؛ لأن اعتقاد العدوى والطيرة والتعلق بالأنواء، أو الغول[33]، كل هذه من أمور الجاهلية التي تقدح في الدين.
ومن زعم أن هناك عدوى فهذا باطل، ولكن الله جعل المخالطة لبعض المرضى قد تكون سبباً لوجود المرض في الصحيح، ولكن لا تعدي بطبعها، ولما سمع بعض العرب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا عدوى..)) قال: يا رسول الله الإبل تكون في الرمال كأنها الظباء فإذا دخلها الأجرب أجربها، قال صلى الله عليه وسلم ((فمن أعدى الأول))[34] أي: من الذي أنزل الجرب في الأول[35]. فالأمر بيد الله سبحانه وتعالى إذا شاء أجربها بسبب هذا الجرب، وإن شاء لم يجربها. وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يوردن ممرض على مصح))[36] يعني لا توردوا الإبل المريضة على الصحيحة، بل تكون هذه على حدة وهذه على حدة، وذلك من باب اتقاء الشر والبعد عن أسبابه، وإلا فالأمور بيد الله، لا يعدي شيء بطبعه إنما هو بيد الله: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا[37]، فالخلطة من أسباب وجود المرض فلا تنبغي الخلطة، فالأجرب لا يخالط الصحيح، هكذا أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من باب الاتقاء والحذر من أسباب الشر، لكن ليس المعنى أنه إذا خالط فإنه سيعدي لا، قد يعدي وقد لا يعدي، والأمر بيد الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ((فمن أعدى الأول؟)).
ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: ((فر من المجذوم فرارك من الأسد))[38]، والمقصود: أن تشاؤم أهل الجاهلية بالعدوى وبالتطير أو الهامة وهي روح الميت، يقولون: إنها تكون كأنها طائر حول قبره يتشاءمون بها، وهذا باطل لا أصل له، وروح الميت مرتهنة بعمله إما في الجنة أو النار.
والطيرة والتشاؤم بالمرئيات والسمعيات من عمل الجاهلية، حيث كانوا يتشاءمون إذا رأوا شيئاً لا يناسبهم مثل الغراب، أو الحمار الأسود، أو مقطوع الذنب، أو ما أشبه ذلك، فيتشاءمون به، هذا من جهلهم وضلالهم، قال الله جل وعلا في الرد عليهم: أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ[39]، فالله بيده الضر والنفع، وبيده العطاء والمنع، والطيرة لا أصل لها، ولكنه شيء يجدونه في صدورهم ولا حقيقة له، بل هو شيء باطل، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ((لا طيرة))، ولذا يجب على المسلم إذا رأى ما يتشاءم به ألا يرجع عن حاجته، فلو خرج ليسافر وصادفه حمار غير مناسب، أو رجل غير مناسب أو ما أشبه ذلك، فلا يرجع، بل يمضي في حاجته ويتوكل على الله، فإن رجع فهذه هي الطيرة، والطيرة قادحة في العقيدة ولكنها دون الشرك الأكبر، بل هي من الشرك الأصغر.
وهكذا سائر البدع كلها من القوادح في العقيدة، لكنها دون الكفر، إن لم يصاحبها كفر. فهذه البدع مثل بدعة الموالد، والبناء على القبور، واتخاذ المساجد عليها، ومثل صلاة الرغائب هذه كلها بدع، والاحتفال بليلة الإسراء والمعراج التي يحددونها بسبع وعشرين من رجب، هذه بدعة ليس لها أصل، وبعض الناس يحتفل بليلة النصف من شعبان ويعمل فيها أعمالاً يتقرب بها، وربما أحيا ليلها أو صام نهارها يزعم أن هذا قربة، فهذا لا أصل له، والأحاديث فيه غير صحيحة، بل هو من البدع.
والجامع في هذا أن كل شيء من العبادات يحدثه الناس ولم يأمر به الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يفعله ولم يقره فهو بدعة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))، وقال: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))، وكان يقول في خطبة الجمعة: ((وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة))[40] يحذر الناس من البدع ويدعوهم إلى لزوم السنة صلى الله عليه وسلم.
فالواجب على أهل الإسلام أن يلزموا الإسلام ويستقيموا عليه، وفي هذا كفايتهم وكمالهم، فليسوا بحاجة إلي بدع، يقول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا[41]، فالله أكمل الدين وأتمه بحمده وفضله، فليس الناس بحاجة إلى بدع يأتون بها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ))[42].
فليس الناس بحاجة إلى بدع زيد وعمرو، بل يجب التمسك بما شرعه الله، والسير على منهج الله، والوقوف عند حدوده، وترك ما أحدثه الناس، كما قال الله سبحانه وتعالى ذماً للبدع وأهلها: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ[43].
وفق الله الجميع لما فيه الخير، وأصلح أحوال المسلمين، ووفقهم للفقه في دينه، وجنبهم أسباب الزيغ والضلال والانحراف، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.
[1] سورة آل عمران الآية 19.

[2] سورة المائدة الآية 3.

[3] سورة آل عمران الآية 58.

[4] جزء من حديث رواه البخاري (3442، 3443)، ومسلم (2365) (143، 144، 145) وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال في (مختار الصحاح): بنو العلات: أولاد الرجل من نسوة شتى، سميت بذلك لأن الذي تزوج أخرى على أولى قد كانت قبلها ناهل، ثم علَّ من هذه، والعلل: الشرب الثاني، يقال عَلَلُ بعد نهل ا. هـ. قال الحفظ ابن حجر رحمه الله: (معنى الحديث: أن أصل دينهم واحد وهو التوحيد وإن اختلفت فروع الشرائع) انظر فتح الباري (6/ 489).

[5] سورة المائدة الآية 48.

[6] سورة الأعراف الآية 157.

[7] سورة الحج الآية 78.

[8] جزء من حديث رواه البخاري (335، 438، 3122)، ومسلم (521).

[9] سورة البقرة الآية 185.

[10] سورة الحج الآية 62.

[11] صحيح البخاري (8/ 139).

[12] صحيح البخاري (3017).

[13] صحيح البخاري (6923)، صحيح مسلم (1733، 15)، واللفظ هنا لمسلم في (باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها)، من كتاب الإمارة.

[14] صحيح البخاري (3017).

[15] المسند (5/ 346)، سنن الترمذي (2623)، سنن النسائي (1/ 231، 232)، سنن ابن ماجه (1079) من حديث بريدة رضي الله عنه.

[16] صحيح مسلم، كتاب الإيمان 35 ـ باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة برقم (86)، ورواه الإمام أحمد بلفظ)) بين الرجل وبين الشرك أو الكفر ترك الصلاة)) المسند (3/ 389)

عبده فايز الزبيدي 12-19-2013 08:46 AM

الرد على شبهة كيفية نزول الله إلى سماء الدنيا

للشيخ ابن العثيمين رحمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله كما في شرح العقيدة السفارينية :272( وصفة النزول )
يعني من الأمور التي نثبتها لله ، وهي ثابتةٌ له من غير تمثيل صفة النزول وفيه عدة مباحث :
المبحث الأول : ما معنى النزول وهل الله سبحانه وتعالى ينزل بذاته ؟
النزول : يعني إلى السماء الدنيا ، وذلك لأنه تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أو اشتهر اشتهاراً قريباً من التواتر أن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ، ينزل - نزولاً حقيقياً ؛ بذاته إلى السماء الدنيا ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول : من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له )).
وقائل ذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم ، ونحن يجب علينا أن نؤمن بأنه أعلم الناس بالله ، وأنه أصدق الخلق مقالاً ، وانصحهم مقصداً ، وأفصحهم نطقاً ، فلا أحد أنصح من رسول الله صلى الله عليه وسلم للخلق ، ولا أحد من الخلق أفصح منه ولا أبلغ ، ولا أحد من الخلق أصدق منه ، ولا أحد من الخلق أعلم منه بالله . وهذه صفات أربع يتصف بها كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبها يتم الكلام ، وهي : العلم والصدق والنصح والفصاحة .
فإذا قال : ينزل ربنا إلى السماء الدنيا ، فإن مراده يكون نزوله تعالى بذاته ، وقد صرح أهل السنة بأن المراد نزوله بذاته ، وصرحوا بكلمة بذاته مع أننا لا نحتاج إليها ، لأن الأصل أن كل فعل أو اسم أضافه الله إليه فهو إلى ذاته ، فهذا هو الأصل في الكلام .
فلو قلت في المخلوقين : هذا كتاب فلان ، فإن المعنى أن هذا كتابه نفسه لا غيره ، وكذلك لو قلت : جاء فلان ، فإن المراد أنه جاء هو نفسه لا غيره .
وهكذا كل ما أضافه الله إلى نفسه من فعل أو اسم فالمراد إليه ذاته ، لكن على وجه لا نقص فيه ، فمثلاً ( ينزل ربنا إلى السماء الدنيا ) أضافه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذات الله فقال : ( ربنا ) فوجب أن يكون المراد نزوله بذاته ، وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على أن المراد : ينزل ربنا بذاته سبحانه وتعالى .
والدليل على إجماعهم أنه لم يرد عنهم ولو كلمةً واحدةً في أن المراد : ينزل شيء آخر غير الله ، وهم يقرؤون هذا الحديث ، فإذا كانوا يقرؤونه ، ولم يرد عنهم أنهم قالوا : إن المراد : ينزل رحمة من رحمته ، أو ملك من ملائكته ، علم أنهم أثبتوا نزوله بذاته ، لكن لم يقولوا بذاته ، لأنه لم يظهر في زمنهم محرفون يقولون : إن المراد : ينزل أمره أو رحمته أو مَلك من ملائكته حتى يحتاجوا إلى قول: ينزل بذاته، لكن لما حدث هؤلاء المحرفون احتاج أئمة المسلمين إلى أن يقولوا ينزل بذاته، ولكل داءٍ دواءٌ يناسبه. إذاً ينزل ربنا إلي السماء نزولاً حقيقياً،والذي ينزل هو الله تعالى بذاته، لا رحمةٌ من رحمته ولا مَلكٌ من ملائكته، والذي قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( ينزل ربنا ) . فالله هو الذي ينزل .
المبحث الثاني : هل النزول يستلزم أن تكون السماء الدنيا تقله ، والسماء الثانية فوقه ؟
والجواب : لا يلزم ، بل نعلم أنه لا يمكن ، وذلك لأنه لو أقلته السماء الدنيا لكان محتاجاً إليها ، ولو أقلته السماء الثانية لكانت فوقه ، والله سبحانه وتعالى له العلو المطلق أزلاً وأبداً ، إذاً فليست السماء الدنيا تقله ولا السماء الأخرى تظله .
المبحث الثالث : هل إذا نزل إلى السماء الدنيا يخلو منه العرش أو لا يخلو ؟
في هذا ثلاثةُ أقوال لعلماء السنة :
•فمنهم من قال : إن العرش يخلو منه .
•ومنهم من قال : إن العرش لا يخلو منه .
•ومنهم من توقف .
فأما الذين قالوا : إن العرش يخلو منه ، فقولهم باطل ، لأن الله أثبت أنه استوى على العرش بعد خلق السموات والأرض ، ولم ينفِ هذا الاستواء في الحديث حين قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (( ينزلُ ربنا إلى السماء الدنيا ) ، فوجب إبقاء ما كان على ما كان ، وليس الله عز وجل كالمخلوقات ، إذا شغل حيزاً فرغ منه الحيز الآخر ، نعم ، نحن إذا نزلنا مكاناً خلا منا المكان الآخر ، أما الله عز وجل فلا يقاس بخلقه . فهذا القول باطل لا شك فيه .
ويبقى النظر في القولين الآخرين ، وهما : التوقف ، أو أن نقول : إنه لا يخلو منه العرش .
فذهبت جماعة من العلماء رحمهم الله إلى التوقف ، وقالوا : ما لنا ولهذا السؤال أصلاً . ولا ينبغي أن نورد هذا السؤال ؛ لأننا لسنا أشد حرصاً على العلم بالله من الصحابة رضي الله عنهم ، ولم يسألوا الرسول عليه الصلاة والسلام عن هذا ، فنقول : هذا السؤال من أصله غير وارد ، ونقول لمن أورده : أنت مبتدع ودعنا من هذا .
وعندي أن هذه الطريقة أسلم طريقة ؛أن لا نسأل عن شيء لم يسأل عنه الصحابة رضي الله عنهم ، وأن نلقم من سأل عنه حجراً ، فإذا قال قائل : أنا أريد المعقول ، قلنا : اجعل عقلك في نفسك ، وفكر في نفسك ، أما في مثل هذا الأمر فلا تفكر فيه ما دام لم يأتك خبر عنه .
وللأسف فإن بعض الناس يجادل ويقول : دعوني أتصور النزول حقيقة حتى أتبين هل خلا منه العرش أم لا ؟ ، فنقول : سبحان الله ! ألا يسعك ما وسع الصحابة رضي الله عنهم ؟ اسكت واترك هذا الكلام الذي لم يقله الصحابة رضي الله عنهم للرسول صلى الله عليه وسلم ، وهم أشد الناس حرصاً على العلم بالله ، وأعلم الناس بالله .
وذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يخلو منه العرش ، لأن الله تعالى ذكر أنه استوى على العرش حين خلق السموات والأرض ، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا نزل خلا منه العرش ، فالواجب بقاء ما كان على ما كان ، فهو سبحانه استوى على العرش ، ولم يزل مستوياً عليه ، وينزل إلى السماء الدنيا في هذا الوقت ، والله على كل شيء قدير ، وهو سبحانه لا يقاس بخلقه.
كما إننا نقول جزماً : إنه إذا نزل إلى السماء الدنيا لم يكن نازلاً على المخلوقات ، بل هو فوق كل شيء ، وإن كان نازلاً إلى السماء الدنيا ؛ لأن الله لا يقاس بخلقه ، والى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أن العرش لا يخلو منه. ولكني أميل إلى ترجيح القول الثاني وهو التوقف وألا يورد هذا السؤال أصلا ، وإذا كان الإمام مالك رحمه الله لما قال له القائل : الرحمن على العرش استوى ، كيف استوى ؟ قال : السؤال عن هذا بدعة ، فإننا نقول في هذا : السؤال عنه بدعة .
المبحث الرابع : استشكل كثيرٌ من الناس في عصرنا : كيف ينزل الله إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ، ونحن نعلم أن ثلث الليل الآخر لا يزال سارياً جارياً على الأرض وتحت السماء ، فيلزم من ذلك أن يكون النزول إلى السماء الدنيا دائماً ؟
والجواب على هذا أن نقول : ليس هناك إشكال في نزول الله تعالى في الثلث الأخير رغم استمرار تتابعه على الأرض ، ونحن نؤمن بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (( ينزل حتى يطلع الفجر )) ، فإذا كان كذلك فالواجب علينا ألا نتجاوزه ، فما دام ثلث الليل الآخر باقياً في منطقة من المناطق الأرضية فالنزول حاصل باقٍ ، ومتى طلع الفجر في هذه المنطقة فلا نزول ، وإن كان في الجهة الأخرى يوجد نزول ، والله على كل شيء قدير ، ولا يقاس سبحانه بالخلق ؛ فينزل إلى السماء في ثلث الليل الآخر في جهة من الأرض ، ولا ينزل بالنسبة لجهة أخرى ليس فيها ثلث الليل .
والحقيقة أن الإنسان إذا لزم الأدب مع الله ورسوله اطمأن قلبه ، واستراح من التقديرات ، أما إذا كان يورد على نفسه هذه المسائل فإنه ينتقل من مشكلةٍ إلى أخرى فيخشى عليه من الشك ، نسأل الله العافية وأن يرزقنا اليقين ، ولهذا يقول بعض السلف : أكثر الناس شَكاً عند الموت أهل الكلام ، لأنهم فتحوا هذه المشاكل على أنفسهم وعجزوا عن حلها ، لكن لو لزموا الأدب وقالوا ما قال الله ورسوله ، وسكتوا عما سكت عنه الله ورسوله ، لسلموا من هذا كله .
فمثلاً لو كان أحدنا في المنطقة الشرقية وقد أذن الفجر ، والآخر في المنطقة الغربية وهو في آخر الليل ، فإننا نقول : هذا وقت نزول ربنا عز وجل بالنسبة للذي في المنطقة الغربية ، ونقول للآخر : انتهى وقت النزول .
وليس في هذا إشكال ؛ فالذين هم في ثلث الليل يجتهدون في الدعاء لأنه وقت إجابة ، والآخرون انتهى عندهم وقت النزول ، ونسلم من هذه الإشكالات ، ونتشوف كل ليلة إلى ثلث الليل متى يأتي حتى ندعو الله فيه .
أما هذه الإشكالات التي تورد فهي في الحقيقة من سفه الإنسان ، وقلة رشده ، ومن قلة أدبه مع الله ورسوله ، والذي ينبغي لنا ، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : (( اسلم تسلم ) . ونحن نقول أيضاً : اسلم تسلم ، لكن ليس المراد هنا الدخول في الإسلام ، وإنما المراد : استسلم للنصوص ، حتى تسلم .
المبحث الخامس : هل النزول من الصفات الفعلية أو من الصفات الذاتية ؟
والجواب : النزول من الصفات الفعلية ، لأنه فعل يتعلق بالمشيئة ، وكل فعل يتعلق بالمشيئة فإنه من الصفات الفعلية .
وقد أنكر بعض الناس صفات الأفعال ، وقال : صفات الأفعال لله باطلةً ، ولا يمكن أن نثبت لله فعلاً يتعلق بمشيئته إطلاقاً ؛ فلا ينزل ؛ ولا يجيء يوم القيامة ؛ ولا يتكلم بكلام محدث ، ثم عللوا ذلك بشبهة عظيمة تنطلي على طالب العلم الصغير ، حيث قالوا : إن هذا الفعل أو هذا الكلام ، إن كان صفة كمال ، وجب أن يتصف الله به دائماً ، وإن كان صفة نقص فإنه لا يجوز أن يوصف به ، لأن الله منزه عن النقص .
فكل فعل اختياري لله يجب أن ننكره بزعمهم ، ويقولون : إن الله لا تقوم به الأفعال الاختيارية ؛ لأن هذه الأفعال إن كانت كمالاً وجب أن يكون الله متصفاً بها دائماً ، وإن كانت نقصاً لزم أن لا يتصف بها أبداً .
والجواب على هذه الشبهة أن نقول لهم : إنها صفة كمال في محلها ، والحكمة لا تقتضيها في غير محلها ، فلو جاءت في غير محلها لكانت نقصاً ، أرأيت لو أن ولدك أساء فضربته لكان ضربك إياه في ذلك الوقت حكمةً وكمالاً ، لكن ضربك إياه وهو يطيع نقص .
فنقول : هذه الأفعال الاختيارية كمال لله في محلها الذي تقتضيه الحكمة ،وفي غير محلها لا يمكن أن يتصف الله بها ، لأنها في غير محلها لا تقتضيها الحكمة ، والله سبحانه وتعالى أفعاله مقرونة بالحكمة ، وبهذا تزول هذه الشبهة .
وليعلم أيضاً - وهذه فائدة مهمة - أن جميع ما يتشبث به أهل الباطل في إبطال الحق هو شبهات وليس بحجج ، لقوله تعالى : ( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْه)(آل عمران: الآية 7) .
ونظير هذا من بعض الوجوه قول من قال من أهل الفلسفة : الدعاء لا فائدة منه فلا ندعو الله ؛ لأنه إن كان قدر لنا شيئاً فسيحصل بدون دعاء ، وإن كان الله لم يقدره فلن يحصل ولو دعونا . إذاً لا فائدةَ منه وعلمه بحالي كفاه عن سؤالي .
ونرد عليهم بشيء يسير تعرفه العجائز ، فنقول : إن الله قدره بهذا الدعاء ، وجعل له سبباً وهو الدعاء ، وإلا فقل : أنا لن أتزوج ، وإن كان الله قدر لي ولد فسيخرج من الأرض ، وإن لم يُقدر لي ولد فلن يخرج ولو تزوجت مائة امرأة . ولا أحد يقول هذا الكلام .
كذلك الدعاء أيضاً ، فإن الدعاء سبب لحصول المطلوب ، فإذا وفقت للدعاء فقد وفقت للإجابة ، لقوله تعالى : (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ )(غافر: من الآية 60) وهذا نظيرٌ من بعض الوجوه لقول من يقول : إن أفعال الله الاختيارية لا يمكن إثباتها ، لأنها إن كانت كمالاً وجب أن يتصف بها أزلاً وأبداً ، وإن كانت نقصاً وجب أن ينزه عنها أبداً ، نقول : هي كمال في محلها ، وفي غير محلها لا تقتضيها الحكمة فلا تكون كمالاً . إذاً النزول من صفات الأفعال .
المبحث السادس : هل أحد من أهل القبلة خالف في تفسير النزول على ما قلناه ؟
الجواب : نعم ؛ فمنهم من قال( ينزل ربنا ) : أي تنزل رحمة ربنا . ومنهم من قال ( ينزل ربنا ) : أي مَلك من ملائكته ، وهؤلاء إنما قالوا ذلك لأنهم ينكرون النزول الحقيقي.
والرد على هؤلاء أن نقول :
أولاً : أن قولهم هذا مخالف لظاهر النص ؛ لأن ظاهره أن الذي ينزل هو الله عز وجل .
ثانياً : أن قولهم هذا مخالفٌ لصريح النص في قوله تعالى : (من يدعوني) إذ إن الملك لا يمكن أن يقول للخلق من يدعوني فأستجيب له ، لأن هذا لا يقدر عليه إلا الله ، ولو أن أحداً قاله من الخلق لقلنا إنه نزل نفسه منزلة الخالق ، والملائكة مكرمون عن هذا ، فالملائكة يسبحون الله الليل والنهار لا يفترون ، ويتبرؤون ممن يدعون غير الله .
وأيضاً فإذا قلنا : إن الرحمة هي التي تنزل إلى السماء الدنيا ، فإن هذا من الغلط ؛ لأن رحمة الله ليس غايتها السماء الدنيا ، بل إن الرحمة تنزل إلى الأرض حتى تبلغ الخلق ، وأي فائدة لنا إذا نزلت الرحمة إلى السماء الدنيا ؟!
ثم إن الرحمة تنزل كل وقت ، ولا تختص بثلث الليل الآخر ، فإذا خصصناها بثلث الليل الآخر فمعنى ذلك أن يبقى الزمن أكثره بدون رحمة .
ثم إن الرحمة لا يمكن أن تقول : من يدعوني فأستجيب له ، ومن يسألني فأعطيه ؛ لأن الرحمة صفة من صفات الله ، ولو قالت هذا القول لكانت إلهاً مع الله ، ولهذا لا يصح لنا أن ندعو صفات الله ، حتى إن من دعا صفات الله فهو مشرك ، فلو قال يا قدرة الله اغفر لي . يا مغفرة الله اغفر لي . يا عزة الله أعزيني . فهذا لا يجوز ، بل هو شرك ، لأنه جعل الصفة بائنة عن الموصوف ، مدعوة دعاء استقلالياً وهذا لا يجوز.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم ( برحمتك استغيث ) ، فهذا من باب التوسل ، يعني استغيث بك برحمتك ، فـ(الباء) هنا للاستغاثة والتوسل ، وليست داخلة على المدعو حتى نقول إن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا أو استغاث برحمة الله ، لكن استغاث بالله لأنه رحيم ، وهذا هو معنى الحديث الذي يتعين أن يكون معنى له.

الحسين الحازمي 12-19-2013 01:52 PM

ما شاءالله تبارك الله ..
مدرسة من العطاء لا تنضب
وجهاد بالكلمة الصادقة لا يتوقف
آجرك الله بكل حرف
مع التحية أيها السامق


عبده فايز الزبيدي 12-24-2013 11:35 AM

سياسة الرموز اليهودية وقول الله تعالى : ( لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا..)
مقلة لـ/ عبدالرحمن بن معاضة الشهري
مدير عام مركز تفسير للدراسات القرآنية
أستاذ الدراسات القرآنية المشارك بجامعة الملك سعود

نهى الله المؤمنين في القرآن الكريم أن يقولوا كلمة (راعنا) أثناء خطابهم للنبي فقال :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [البقرة : 104] . ومعنى الآية : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا للرسول محمد : راعنا, أي: راعنا سمعك، فافهم عنا وأفهمنا; لأن اليهود كانوا يقولونها للنبي يلوون ألسنتهم بها, يقصدون سبَّه ونسبته إلى الرعونة, وقولوا- أيها المؤمنون- بدلا منها: انظرنا, أي انظر إلينا وتعهَّدْنا, وهي تؤدي المعنى المطلوب نفسه واسمعوا ما يتلى عليكم من كتاب ربكم وافهموه .
ونحن دوماً نشير في فوائد هذه الآية إلى قاعدة سد الذرائع المفضية لما لا يجوز ، فنمنع من قول (راعنا) مع دلالتها على معنى المراعاة المقصود ، لمجرد احتمالها الدلالة على معنى الرعونة غير المقصود . غير أننا نغفل مسألة أخرى متعلقة بطريقة اليهود في إظهار كرههم للنبي ولأتباعه ومنهجه بأساليب خفية ماكرة ، يخفونها وراء كلمات وعبارات ورموز يمكن أن تكون عبارة (راعنا) مجرد مثال لها .
فالدارس لتاريخ اليهود وكتبهم وشروحها ، وما تفرع عنها كالتلمود ، وكذلك للحركات اليهودية التي خرجت من رحمها كالماسونية وغيرها يجد منهج (راعنا) هذا منهجاً مطرداً في حياة اليهود أينما حلوا ، وحيثما توجهوا . وقد ذهلت عندما تجولت بصحبة خبراء في مدينة واشنطن العاصمة من كثرة الرموز الدينية اليهودية والنصرانية المتأثرة باليهودية فيها ، وحتى اليوم تظهر هذه المنهجية في كل مخططاتهم وفلتات ألسنة محلليهم وخبرائهم وسياسييهم ، حيث إنهم لا يملكون القدرة على كتمان هذا الحقد مصداقا لقول الله تعالى :
(قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) .
وهذا السلوك اليهودي المتجذر فضل من الله على المسلمين ، حيث إنهم لو أحسنوا استقبال هذه الرسائل التي تفلت من هنا وهناك في أقوال وكتابات ومخططات اليهود لأمكن الانتصار عليهم وإبطال كيدهم ، فوق أن الله تكفل بإبطال كيدهم ، وإطفاء حرائقهم كما قال : (كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [المائدة: 64] ، واتخاذ التدابير اللازمة لإبطال كيدهم وخططهم على وجه السرعة جدير بإبطالها وردها ، غير أننا في هذا الزمان إن فهمنا المخططات كانت ردود أفعالنا بطيئة جداً لا تتناسب مع سرعة المخططات وتسارع تنفيذها في بلاد المسلمين اليوم .
إنَّ هذا السلوك المتأصل في اليهود نقطة من نقاط ضعفهم في التكتم - مع حرصهم عليه - على خططهم في الإفساد الذي عرف به اليهود وأصبح علامة مميزة لهم أينما حلوا ، فهل ينتهز المسلمون هذه النقطة لصالحهم بالقدر الكافي الذي يؤهلهم للانتصار ؟

عبده فايز الزبيدي 01-13-2014 08:05 AM

تعلم كيف تمسك بالقلم
مقالة للأستاذ/ محمد جاد الزغبي
المستشار الثقافي لمنتديات منابر الثقافية


عندما يكون هناك أب حنون وفى نظر المجتمع أنه يستحق هذا الوصف ويحسن تربية أبنائه تكون مؤهلات هذا الرأى فى الغالب عبارة عن رعاية الأب لطفله وعنايته به صحيا وتعليمه آداب المائدة وحمايته من نفسه .. إلى غير ذلك من أمور ..
ولو فرضنا أن هذا الأب شاهد ابنه يتلاعب بنصل سكين فسيكون ردة الفعل الطبيعية أن يهرع إليه مانعا إياه ثم يعلمه كيف يستخدمها ويمسكها ويحسن العناية بها حتى لا تصيبه بأذى ..
ولكن مع الأسف الشديد ..
وعندما يكبر الطفل قليلا ويأتى موعده مع القلم لأول مرة .. لا نشاهد لأغلبية الآباء فزعة ولا حرصا .. بل يترك الغالبية منهم تلك المهمة للمدرسة التى يلتحق بها الطفل ولأمه غالبا ..
ويكتفي هو بالمتابعة من بعيد فرحا بطفله الذى عرف كيف اسمه واسم أبيه بالانجليزية !

بالرغم من أن الإمساك بالقلم أشد خطورة وتأثيرا على طفله الذى سيصبح شابا فيما بعد وربما كاتبا .. تأثيره يعادل مائة ضعف خطورة وتأثير نصل السكين لو لم يحسن الإمساك به ويحسن استخدامه بحقه ..
فعدم الاهتمام بهذا الجانب قد يؤدى إلى ضياع موهبة فذة فى الطفل الذى يفتقد أهمية ومقدار القلم وبهذا تذبح موهبته فى مهدها .. ومن الممكن أن تنطلق الموهبة فنيا دون إدراك لمعنى وأهمية القلم فيكتسب المجتمع كاتبا موهوبا نعم .. لكنه أخطأ الطريق فاستخدم أسلوبه فى الهدم لا البناء كمثال عشرات الكتاب الذين أعطاهم الله تعالى حرفية الإمساك بالقلم ومنعهم التوفيق فيها فجلبوا بأقلامهم عشرات القراء ضحايا فكر مهترئ أو فكر عدوانى أو أعمال أدبية تتجاوز حدود الأخلاق والقي والعقيدة فتصبح وبالا وكان لها أن تصبح فى الأصل عنوان رحمة وفضل ..
ويحق لنا أن نسأل الأب الذى علم ولده كيف يمسك بنصل السكين وأهمل تعليمه حرفة القلم ..
هل جرح إصبع طفلك أعمق خطرا من شرخ موهبته أو قتلها .. وهل قطع أحد أصابع كفي طفلك أشد وبالا من قطع وتر الإيمان فى شباب قد تقرأ له فكرا منحرفا فتتبعه ...

الإجابة يمثلها موقف لأحد كبار الأئمة والفقهاء عندما مر ذات يوم بصبي صغير على شاطئ بحر يحاول أن يملأ مسقاته فهتف به الإمام
" حاذر الزلل يا إمام .. "
وكان الصبي حصيفا ذكيا .. فالتفت إليه قائلا
" بل حاذر الزلل أنت يا إمام .. أنا إن زللت سقطت وحدى .. أما أنت فان زللت سقطت خلفك أمة بأكملها "

والإمساك بالقلم للكتابة سواء فى موهبة إبداعية كالشعر والقصة مثلا .. أو فى موهبة فكرية كالمقال والدراسة هو أمر له ضوابطه التى سقطت بسقوط العهد الذهبي لأهل القلم بعد أن صارت المطالعة رجس من عمل الإنسان فى هذه الأيام ..
فكل من أحب أن يكون كاتبا أمسك بقلم لا يدرى قيمة مداده وبأوراق لا يدرى أهمية صفحاتها وسودها إما بتافه الأفكار أو بزائل الكلمات .. فهانت قيمة الكاتب والكتابة ..
وعوامل السقوط كثيرة أكبرها افتقاد المعلم .. وأهونها ترك المطالعة ..
وأوسطها العجلة التى تحكم المواهب البازغة فتجعلهم سراعا إلى استنفاذ معين موهبتهم قبل اكتماله .. فيكتبون بأكثر مما يقرءون فتنفذ بضاعتهم المزجاة من اللغة وثروتها فيكون الضياع المؤكد
أما زوال هيبة الكتابة فهو ملحق بزوال هيبة العلم .. وسيكون حديثي فى هذا الموضوع مركزا على جانب الكتابة الفكرية بشتى نواحيها لأن هذا اللون من الكتابة أصابه الضرر أكثر من غيره
وأعنى بذلك المقالات الأدبية بأنواعها والنقد والتاريخ والتحليلات السياسية التراجم والسير وغيرها من القضايا التى ينظر المجتمع من كتابه أن يحملوا إليه عقدتها مع حلها فإذا بهم صاروا عبئا عليها تحت تأثير السطحية واستسهال أمر الإمساك بالقلم والإعجاب بالرأى فى أمور لا يقطعها الإعجاب بل تحسم أمرها الأسباب ..
هذا خلاف ما بليت به المكتبة العربية من مؤلفات محشوة حشوا بكلمات وعدد صفحات ضخم لا يجنى من المعرفة شيئا .. والعكس أيضا متحقق فتمتلئ أرفف المكتبات بمقالات أو دراسات بحثية لا تتجاوز الخمس صفحات وتحمل من العناوين ما يعجز عن الوفاء بتفاصيل موضوعاتها مجلدات كاملة ..

وكم صدق الإمام الشعراوى عندما قال أن عمره فى المطالعة انتهى عام 1940 إلا من القليل .. وعندما سؤل هل يكتب أجاب بأنه توقف فى العشرين سنة الأخيرة عن الكتابة وبرر السبب بقوله
" أنا فى أخريات عمرى الآن لا أكتب بل يكتب غيري عنى لأنى أعرف شرائط الكتابة وهى تستلزم من المرء جهدا يفوق قدرة الشيوخ أمثالى وبالتالى عدلت الآن عن الكتابة إلا فيما ندر لأنى حينما أكتب .. أفي للكتابة شرائطها ".
بالمثل كاتبنا العملاق محمد حسنين هيكل ..
وهو الوحيد الآن تقريبا الذى ينفذ الشروط القاسية لمعنى الكتابة ولهذا استحق مكانته العالمية الأسطورية على النحو الذى رأينا فيه كلماته توزن بالذهب فى دور النشر القائمة خلف نشر أعماله فى مختلف دول العالم ..
واستحق أيضا سمعته الغير عادية حين ينوى الدخول فى موضوع ما أو قضية فيناقشها .. ويكفي أن نعرف أنه بين أساطين الكتابة العربية مقولة شهيرة مؤداها أن من أراد أن يكتب فى الشأن السياسي يسأل أولا هل كتب به هيكل أو ينوى الكتابة فيه .. ؟!
فان كان الجواب بنعم أحجم الكاتب عن التأليف ففي هيكل الكفاية التى لا تجعل لأى قلم بجواره مكانا .. وكل هذا صنيعة ضوابط الكتابة الفكرية الجادة أيا كان مجالها ومعينها الثقافة المذهلة التى يتمتع بها عمالقتنا وتقف خلف سر هذا النبوغ .

وتعالوا نتعرف على ضوابط الإمساك بالقلم لنحاول أن نطبق بعضها على أنفسنا إن كانت فينا النية الصادقة لحمل صفة " كاتب "
ضوابط وشروط الكتابة للمفكر المسلم

" ملحوظة .. إن المفكر المسلم ليس معناه كما يظن السطحيون أنه الذى يتناول بالكتابة والتحليل شأنا إسلاميا فقهيا أو تاريخيا بل هو المفكر الشامل الإصلاحي فى شتى المجالات الفكرية "

الأول ..
أن تكون الكتابة ذات خلفية إسلامية أيا كانت نوعية الموضوعات وتصبح الشريعة الإسلامية والفكر الإسلامى النير هو المرجعية لكل قضية يثيرها الكاتب وينأى فى نفس الوقت عن أى انتماءات مذهبية تعطل قدرته الحيادية فى التحليل .. ومراعاته الدقة فى اختيار عنوانه لأن العنوان نصف الطريق إلى عقل وقلب القارئ
فالعنوان يجب أن يكون موفيا لما يحتويه الموضوع أو يقل عنه أما أن يكون العنوان أكبر من الموضوع فهذا من مسببات اتهام الكاتب بالسطحية
الثانى ..
أن يتميز الموضوع بمقدمة ثرية تحمل معلومات دسمة تقدم للقراء تمهيدا محببا من الثقافة والمعلومات خارج إطار الموضوع الأصلي الذى يثيره الكاتب على أن تكون المقدمة مدخلا لتلك القضية
الثالث ..
غزارة المعلومات فى صلب الموضوع والإحاطة بجوانبه التفصيلية بحيث لا يترك الكاتب للقارئ شقا غامضا أو غير مفهوم أو حتى غير مطروق فى القضية التى يتناولها بالشرح بحيث يكون القارئ على موعد مع قضية مستوفاه لا تحيله مضطرا إلى التماس مراجع أخرى فى معلومات تمس صلب القضية لأن القراء ليسوا كلهم على مضمار واحد من حب المطالعة والبحث وهذا مقرون فقط بذوى الهمة العالية فى التقصي والقراءة
الرابع ..
سلامة اللغة ودقة العرض باستخدام أسلوب الأديب أو الروائي الرشيق العبارة بحيث مهما طال الموضوع وتعددت صفحاته لا يستطيع القارئ انتزاع فقرة أو أكثر من الموضوع والمرور عليها مرور الكرام بل يكون شعوره الدائم التمنى بأن يزيد الكاتب فى موضوعه فلا تنتهى صفحاته
كما يجب للكاتب أن يوثق مصادره كتابة ـ إن كان الموضوع بحثا ـ وأن يكون واثقا من صحة معلومات مصادره فى غير ذلك
الخامس ..
ألا يتعرض الكاتب لقضية بالنقد والتحليل بالأسلوب البحثي ما لم يكن قد استوفاها من مصادرها قراءة أولا ثم أعطاها حقها فى التفكر والتفكير عن طريق مناقشة نفسه فى ذات القضية فيما يسمى بالنقد الذاتى .. وأيضا مناقشة المتخصصين ـ إن توافروا ـ
بمعنى أن يحدد الكاتب موقفه من القضية سلبا وإيجابا وعندما يتخذ موقفه يحرص تمام الحرص على قراءة وجهة النظر المقابلة بكل دقة والإستماع إلى حجتها وتفنيدها تفنيدا كاملا لكى يتسنى له بعد ذلك عند طرح تحليله أن يواجه مناصري وجهة النظر المضادة والدفاع عن رؤيته وفق أساسيات الحوار القائم على استنباط الحق

وكل تلك الضوابط التى تعد أساس إمساك القلم والتى غابت ـ مع الأسف ـ غيابا شبه تام عن أكثر الكتاب تعد هى الشروط اللازمة فى مجموعها ليخرج الكاتب قائلا أنه كتب ..
هذه فى مجملها الضوابط الفنية للإمساك بالقلم ولم أتعرض لبقيتها لكون موضوعنا يتحدث عن القيم الغائبة أما الأمور الفنية فى الكتابة المتمثلة فى قواعد اللغة وعلامات الترقيم وتقسيم الفصول فكلها متوافرة لكنها أشبه بالأعمدة التى تنتظر ظهور البناء السليم

ويتبع ذلك ضابط عام لا غنى عنها لأى مفكر أو مصلح إجتماعى يتمثل فى الاستقلال الفكرى
استقلال المفكرين والكتاب

المذهب الصحيح لأى كاتب منهجى جاد هو المذهب على استقلال المثقفين والمفكرين مهما كان تعاطفهم مع التيارات المختلفة إلا أنه يجب أن يظل تعاطفا وفقط لا يصل إلى حدود الإنتماء الحزبي أو الأيديولوجى اكتفاء بالمرجعية الإسلامية العامة
لأن المفكر لا يحتمل قيدا أيا كانت بساطة حلقاته أو حباله ..
والانتماء لحزب معين أو أيديولوجية معينة يقيده عن الإنطلاق حرا فى ميزان التوجيه العام عملا بحقيقة راسخة وهى أن المفكرين آباء الرأى العام ومبعث تفجره لدى عامة الناس .. وهذا يتطلب استقلالا سيكون عزيزا فى حالة الإلتزام بمجريات مذهبية معينة تفرضها الأجواء السياسية بطبيعتها من خلافات عنيفة وجارحة
لأن الخلاف بين أصحاب القلم يجب أن يظل فى إطار الخلاف العلمى حول السبب لكن الغاية هنا يجب أن تكون متفقة وهى الإصلاح الإجتماعى وهو ما يعرف باسم الخلاف الايجابي
ويعد الخلاف ايجابيا لا يخل بثوابت الغاية أو الحق لأن الحق ثابت .. أما الطرق إليه فتختلف طولا وعرضا
وقديما كان سقراط أستاذ الفلاسفة الإغريق .. على موعد مع الإعدام من نظام الحكم الغاشم وتقرر إعدامه بالسم فجاءه تلامذته ومريدوه بخطة محكمة لتهريبه فتأمل فيهم مليا ثم قال
" كيف تريدون منى أن أهرب ثم أتحدث بعد ذلك للناس عن فضيلة الشجاعة "
وأصر على موقفه وجاءت كأس السم فى موعدها المضروب فتأملها قليلا ثم ابتسم قائلا " انه دواء مر المذاق لكنه شاف لكل العلل "
ثم جاء بعد سقراط أفلاطون وأرسطو
وتكرر مع أفلاطون نفس الموقف واضطهده نظام الحكم وكاد يكرر معه الاعتقال والقتل ..
هنا اختلف أفلاطون عن طريق أستاذه ولجأ للفرار من البطش قائلا
" لن أترك اليونان ترتكب جريمة أخرى ضد الفلسفة "

والإثنان وجهة نظرهما صحيحة ..
فسقراط نفذ تعاليمه ودروسه كى لا تسقط .. وكان قد استوفي تعليمها لتلامذته فلم يأبه بالموت لعلمه الوثيق أن هناك بعده من سيحمل المشعل وأنه أدرى رسالته
أما أفلاطون فقد كان وقته لم يزل مبكرا لينشئ خلفه الجيل التالى له .. ومن ثم لجأ للفرار ـ وهو نقيصة ـ فى سبيل سد ذريعة أكثر ضرورة وهى فقد الفلسفة والمنهج الذى يحمله بفقده
هذا هو حق القلم .. فكم منا وفاه هذا الحق ..؟!
وصلي الله عليك وسلم نبي الله إدريس أنت ونبينا الكريم
كنت أول من خط به وأول من عرفت قيمته وجاء الإسلام بعد آلاف السنين منبها فى أول آياته نزولا على القراءة والكتابة ..

ناريمان الشريف 01-16-2014 09:23 PM

سلام الله عليك ...
قضيت وقتاً لا بأس به هنا ,,
أحسنت الانتقاء ..
وأجمل ما قرأته ها هنا :
القرآن ... (لا يبلى جديـــدُه، ولا تنقضي عجائبــُـه).
رائع جداً أشكرك ....



تحية ... ناريمان الشريف

عبده فايز الزبيدي 01-16-2014 11:18 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ناريمان الشريف (المشاركة 170700)
سلام الله عليك ...
قضيت وقتاً لا بأس به هنا ,,
أحسنت الانتقاء ..
وأجمل ما قرأته ها هنا :
القرآن ... (لا يبلى جديـــدُه، ولا تنقضي عجائبــُـه).
رائع جداً أشكرك ....



تحية ... ناريمان الشريف

و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته

و شكرا لكريم المرور و ثمين الدعم، بارك الله فيك!


الساعة الآن 09:29 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team