ايهما الاصل : الخير ام الشر ؟ ..
يـُلاحظ ان البعض – وهو يدري او لا يدري – يجعل الشر هو الاصل ، والخير و التهذيب هو الطارئ .. كما فعل فرويد ونيتشه وبقية الماديين .. مع ان كلاهما ظواهر بشرية ، فعلى اي اساس تم التخصيص والتحديد بين الخير والشر ، بأن احدهما الاصل و الاخر هو الفرع ؟
هذا يشابه ان نقول عن قدمي الانسان ، بأن احدهما هي الاصل و الاخرى فرع منها و لا قيمة لها و بدون دليل !! و ليس من دليلٍ الا الرغبة .. و مع هذا يسمى فرويد عالما ، و نيتشه فيلسوفا مبدعا قال عن شخص له عينان : ان احداهما اصل و الاخرى فرع لا قيمة لها ! فصار عظيما مبجلاً !! فكأن الوضع هكذا .. عندما يثق الناس ببعضهم البعض ، يبيّن الناس افكارهم لبعض ، و تسقط صور التكلف و يذهب التحفظ والاحتراز والادعاءات والمناورات .. و تزول الشكوك التي تسبب العداوات و تخفّ الانانيات .. فلماذا لا نقول ان الشر و الانانية هي الطارئ و أن الاصل هو الخير ؟ بدليل ان الشر و الانانية يزيدان كلما قلت ثقتنا بالاخرين ؟! اذن ليس الشر هو الاصل ، بدليل ان الثقة تضعف الشر و الانانية و تؤدي بهما الى التلاشي .. لكن مثل هذا التحليل لا يعجب اي صاحب هوى ، ولا صاحب لذة عاجلة دون الاكتراث بخير او شر .. و أقصد بالخير والشر هنا : ما بين الناس من علاقات ، و ليس الخير والشر الفلسفيان .. بل ان هذه الفكرة تخدم الاشرار و تقدم لهم غطاءً فلسفيا ليمارسوا ما تتحفظ عنه ضمائرهم احيانا .. و لو كان الشر هو الاصل ، لكانت النتيجة عكسية ، بحيث كلٌ ينتهك حقوق من احبه و من وثق به لزوال الموانع والكلفة والحذر .. لكن ما يحصل هو العكس .. الا في حالات شاذة لا يقاس عليها .. و ربما تكون بحاجة الى تقديم خيرٍ اكثر حتى تبدأ بالتغير .. لاحظ اننا نستطيع ان نحوّل الانسان الى الشر بسرعة ، فشخص لطيف عندما يـُعامـَل بسوء و شراسة ، فسيتحول اليها ، على اختلافٍ في المستويات و السرعة .. اسجن شخصا و عذ ّبه بدون سبب و اظلمه ، ففي ظرف اسبوع سيتحول الى وحش شرس او اقل قليلا .. فهل نقول عنه انه عاد الى اصله ؟ بينما هو لم يكن شرسا في يوم من الايام ، حتى ايام طفولته و بهذا الشكل !! ام نقول انه أ ُجبر على الشر ، و هي الانسب و الاقرب ؟ الحرب مثلا : اكثر الناس لا يحبونها ، ولكنهم يـُجبرون على أن يكونوا محاربين و قتلة ، و ربما بعضهم لا يستطيع ان يرى منظر دجاجة تذبح .. ! اذن كيف يكون الشر هو الاصل ؟ ليس الاصل فقط ، بل انه هو الرغبة كما يحاول فرويد ان يثبت ! اي ان الكل يرغب بالشر ، ولكنه يجامل المجتمع !! .. وهذه دعوى رهيبة ، ومثل هذه الدعاوى المسيئة الى الجنس البشري ، تعبر عن اصحابها اكثر من كونها تعبر عن الجنس البشري . ***** يحدث أحياناً أن الفضيلة لا تصدر عن معرفة حقيقية للخير لكن المعول على القصد وقبول التذكير، فمن وقع في شر بنية الخير له حق نيته وقد يتحمل خطأ عدم حكمته لأن طلب الحكمة داخل في نية الخير فلا يكفي خير بدون فهم، أي: شعور بدون عقل، ولا يكفي عقل بدون شعور وهو الأسوأ، المشكلة في قولبة الخير والشر في أطر محددة بطريقة عقلية بحتة، هناك من يعتقد أن هذه القوالب هي الخير والشر فقط ونيته حسنة، فيقع فيما ذكرت ،الخير والصواب لا يحدد بشكل كامل ويفرغ منه ، والخطأ والشر لا يحدد، وليس لهما حدود يقفان عندها . الأدلجة تصنع العكس ، فتحدد الخير والشر بأفعال محددة وأقوال محددة ومعددة أيضاً ، والقوالب تسمح للمندسين وتقمع الخيرين عن انطلاقهم، ويصعب تحديد الخير الحقيقي من المزيف إلا بعلامة واحدة وهي قبول التذكير والمراجعة والقدرة على التغيير نحو الأفضل، من الصعب أن نحكم بخيرية من لا يريد أن يسمع أحد ينبهه على خير فاته أو شر وقع فيه، فالإنسان الخير دائماً باحث ولا يعتقد أنه علمه اكتمل أبداً ، كما في الحديث أن الحكمة ضالة المؤمن. طبعاً لابد أن يوجد خطوط عامة ومظاهر للخير وللشر لكن يجب ألا نعتبرها هي النهاية وبعد ذلك نفعل ما نشاء ،ولا يستغنى بها عن نية الخير، قال صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات) أي: لـيس نوع العمل كاف، بل نية الخير والتعبد لله + نية العمل نفسه، فالإنسان له مستويين في النية: نية كبرى ، ونيات صغرى داخلة في النية الكبرى. فاختيار الخير هو خط حياة كامل وليس عبارة عن جزر محددة إذا فعلتها تكون خيراً وتبقى حراً في الباقي؛ لأن نظرية الاختيار تخبرنا أنه لا عبث في الحياة وأن كل لحظة تقدم لنا ثنائيات بين الخير والشر أو الصواب والخطأ وبما أن حياتنا الواعية كلها اختبارات نصفها خير ونصفها شر ، إذاً حياة مختار الخير يجب أن تكون كلها خير وليس فيها مساحات فارغة قد يفعل فيها شراً يستغلها الشيطان فيظهر حينها بمظهر المتناقض فلا يدرى أخير هو أم شرير! لأنها مفرغة من ثنائية الخير والشر، قال تعالى : {إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} . الأخلاق من الحق والحق يجب أن يتبع وليست الأخلاق أمراً استحبابياً ، فالمسلم ملزم باتباع الحق أياً كان ، هكذا أمره ربه الذي خلق السماوات والأرض بالحق ونهانا عن اتباع أي باطل، والحق يتبع قدر الاستطاعة والإمكان لكن ما لا نستطيعه بالعمل لضعفنا نستطيعه بالنية والرغبة ، ونؤجر على ذلك ، فالله يمتحن نياتنا قبل أعمالنا ، قال تعالى {إلا من أتى الله بقلب سليم} ولم يقل: بعمل مكتمل غير ناقص. ومن خلال الثنائيات يعرف الإنسان مدى اتصاف حياته بالخير ويعرف الشرور التي لم يستطع أن يتجاوزها، وغالباً تكون محصورة ومحددة ، وقابليتها للتآكل أكثر من قابليتها للسيطرة إذا كان مختاراً للحق. الخير داخل في الحق والصواب،والشر داخل في الباطل والخطأ، وبين الخير والحق عموم وخصوص، فالعام الحق والخاص الخير، فمساعدة الضعيف خير وحق، خير بسبب الرحمة وحق لأن له حق في مالنا منطقياً وله دور فيه ولو من بعيد ونزيل عداوته ونكسب تعاونه ، وقد نكون في وضعه فنحتاج إليه.. المنطق السليم حق ، العلم المادي الثابت حق، يعني كعلوم الطبيعة والرياضيات والهندسة والجغرافيا ...الخ، إذاً الحق أوسع من الخير (قانون) ، لهذا القرآن عالج موضوع الحق والباطل أكثر من الخير والشر كما هو في المسيحية. الصواب والخطأ خطان طويلان يشملان كل شيء حتى في عالم المادة ، ومنطقة علاقة الإنسان بالخالق أو المخلوقين والمخلوقات هي منطقة الخير والشر في هذه الخريطة الطويلة، لأن للإنسان نشاط وتأثير هنا بالإيجاب أو السلب، والله خلق السماوات والأرض بالحق ، إذاً كل من يتبع الحق والحقائق بدون انتقاء ولا هوى سوف يكسب الأخلاق والخير من ضمن ما كسب ، قال تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} إذاً الأخلاق والخير شيء واحد ، وحتى تعرف الخير والشر لابد أن تعرف الحق والباطل، وكلما بان الخير من الباطل صار للإنسان حرية اختيار، قال تعالى {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً}. وقال تعالى {إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} وقال {إن في ذلك لآيات لأولي النهى} وقال {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}، والفصل هو بيان الحق من الباطل، واتباع أحدهما هو الخير أو الشر بعد انفصالهما، الشيطان يريد دمج الخير والشر وإلغاء الفوارق بينهما كما تفعل الأفكار الإلحادية والماسونية أيضاً ، بينما الله يريد أن يفصل بينهما ، وسمى القرآن فرقاناً يفرق بين الخير والشر بعد تداخلهما . قال تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين} أمة واحدة يعني أن وضعهم مختلط فلا الخير واضح ولا الشر واضح ، والسيادة للشر دائماً في الوضع الممتزج، وكلما تشوهت الرؤية ودخلت البشرية في الدين أو نُحّي الدين عن بقية أوجه الحياة أو استغل الدين للدنيا كلما عاد بحر الخير والشر إلى الاختلاط مرة أخرى وبقيت هياكل عظمية ترمز للخير أو الشر لا حياة فيها . العقل والعلم صنوان لا ينفصلان ، فلا علم بلا عقل ، ولا عقل بلا تمييز ، والمنطق السليم مبني على التمييز ، ولا علم لمن لا عقل له ، ولا عقل لمن لا منطق له . |
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جزاكم الله خيرا لهدف المقال فقد وضح بشدة وبمنطق فائق الإصابة أقدّم بالغ امتنانى لما قرأته اليوم لك .. الأستاذ الكريم أحمد الورّاق وأرجو ان تستمر على كتابة المقالات المشابهة لهذا فنحن في حاجتها بالفعل خالص شكرى |
أشكرك غاية الشكر والحمد لله على عودتك بعد غياب ..
وأثني على حبك للمعرفة والعلم خصوصاً في هذه الأمور الأساسية، فلا قيمة للثقافة إذا لم تركز على المنطلقات وتكثف معالجتها لها حتى يكون البناء والفروع على أسس سليمة ولبنات مدروسة ومنقحة.. وحتى نكوّن ثقافة إسلامية تحمينا من التيارات الفكرية المتضاربة .. ومن ليس له بيت ثقافي كامل ومؤسس فسوف تضربه العواصف وتجتاحه السيول .. وما التوفيق إلا من عند الله .. أكرر شكري .. ودمت بصحة وعافية |
|
[justify]* أستاذ أحمد .. السلام عليك ورحمة من الله وبركاته .. أرى أن الخير والشّر وجهتا نظر لدى الإنسان تتغلب إحداهما على الأخرى لدى بني البشر بحسب ظروف ومعطيات بيئة وتربية وتجربة كل إنسان على حدة .. وهذه النزعة أي الشّر تغلب في مجتمعاتنا المتخلفة نسبياً بسبب الإختلال الشديد في العلاقات الإنسانية والإجتماعية .. ولذا نرى الكثيرون من الطيبين الذين يعتنقون مبدأ الخير والصلاح ينقلبون للضدّ عند خوضهم لأول تجربة مريرة مع الشر فينقلبون على أعقابهم ويتبنون الموقف المعاكس لإعتقادهم بأنهم كانوا مخطئين في موقفهم من الناس والعالم .. قد أكون مخطئاًً .. ولكنني لطالما إعتقدت بأن الشّر هو الأساس في نفسية جلّ البشر حتى دون أن أقرأ لفرويد أو غيره .. إذ أتساءل دائماً .. لماذا ما يزال الشرّ سائداً بالرغم من نزول الديانات الهادية لبني الإنسان ، وما حاجتنا للشرائع والقوانين إن كان الخير هو الأساس في رأيك؟ وما مدى إرتباط القوّة بالشرّ والضعف بالخير لدى معظم الناس ؟ موضوع قيّم .. شكراً لك .. مودتي .[/justify]
|
موضوع رائع .. دام مدادك يالورّاق بوركت ,, الشر عدم والخير وجود
|
اختيار عذب ورائع وموفق وبارك الله في جهدك
|
أخي أحمد أنا معك تماماً
الإنسان مجبول بالخير وغير ذلك يكون بسبب تصرفات الناس من حوله ِ ومواقف ترافقه ُ أو كلمات تخلق منه شيطانا ً الأصل هو الخير شكرًا لك على هكذا طرح الهوازن |
أشكرك أستاذي الكريم على هذا الطرح المثمر جزاك الله كل الخير |
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
الأستاذ الحبيب أحمد الوراق .. يبدو أنك جدير باسمك بالفعل يا ورّاق .. فلك فكر سليم ومسدد .. كل ما يعنينى فى هذا الموضوع هو حقيقة واحدة .. طريقة عرضك للموضوع وما تضمنته من فكرة اتمنى أن تأخذ حقها فى إهتمامنا نحن المسلمين مثقفين ومفكرين .. قولك هنا : اقتباس:
وهذه مصيبتنا الكبري .. ووالله لقد طالعت العجب العجاب فى فكر وفلسفة الأوربيين فى المجال الدينى فما وجدت إلا الحماقات .. ! ومشكلتنا الرئيسية أننا توراثنا كمثقفين عرب تعظيم فلاسفة الغرب دون أن يطالع أكثرنا فكرة واحدة مما قولون وان طالعناها فنتهيب أن ننتقدها .. وهذه مصيبة ! خاصة إذا كانت هذه الافكار تتضارب بشدة مع حقائق إيماننا كمسلمين .. ونظرتنا للقضايا الفكرية المتعلقة بالعقيدة قد انتهت إلى حلول طرحها القرآن وأكدتها السنة .. فمالنا نحن وفلسفة الغرب فى هذا المجال الدقيق ! ربما كانت الفلسفة الأوربية تفيد مثلا فى بعض قضايا الحياة .. ولكن الكارثة أن نتخذها نبراسا فى الفلسفة الإلهية ! اعود لقولى أن ما أعجبنى ويعنينى من موضوعك هو أنك طرحت فكرة فرويد ونيتشة وأمثالهم الذين خربوا العقل الأوربي كما يقول المفكر المصري عبد الوهاب المسيري طرحت أفكارهم فى قضية هامة .. ثم انتقدتها .. ثم ــ وهذا هو المهم ــ عدت بوجهة نظرك إلى ما قرره القرآن .. وهكذا يجب أن يكون المفكر المسلم .. خاصة وأننا بزمان غريب وعجيب تجد فيه نوعا من المثقفين يشمئز فكريا إذا وجد أمامه من يستشهد عليه بالقرآن والسنة ! بل ويراها نقيصة وعورة فكرية أن أستعين بما قال الله وقال الرسول عليه الصلاة والسلام فى القضايا الفلسفية وكأن الإسلام ليس دين العقل السليم والقلب السليم .. استمر يا وراق بهذا الإتجاه وليتك تفكر فى فكرة كتاب كامل يحمل هذه الفكرة تعرض فيه للفلسفة الأوربية وأقوالها وتقارنها بحقائق الإيمان عندنا .. فهذا الكتاب لو اخلصت فيه النية سيكون لك جهادا كبيرا فى ميدان بالغ الأهمية بارك الله فيك |
الساعة الآن 02:32 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.