منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر القصص والروايات والمسرح . (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=8)
-   -   الغياب الحاضر (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=29232)

عبد الكريم الزين 10-16-2021 03:06 PM

الغياب الحاضر
 
أغلق الباب وتهاوى على أقرب مقعد صادفه في البيت، فك أزرار ياقة قميصه، وأسقط رأسه إلى الوراء، زفر فارتعشت أضلاعه، وتكسرت بقايا وقار مصطنع.

لم يعد يتحمل، طيفها يلاحقه ليل نهار، وعبقها يطغى على ما سواه، يتسرب من الأرضية و الجدارن، ودولاب الملابس.

حاول النسيان مرارا! وتعلق بأهداب زمن راحل!
النسيان! ما أسهل أن تتلفظ بهذه الكلمة !
ثم تنقلب لديك بلا معنى عند أول اختبار!
لا تستطيع، حتى لو رغبت، أن تلفظ ما تدفق بقلبك من حياة تفتحت بها نبضاته!
وكيف تنسى ما امتزج بذرات روحك، وكان نسيم أحلامك، وعنوان حاضرك ومستقبلك!

كلهم أعجبوا برباطة جأشه، جيرانه، أصدقاؤه، وزملاؤه في العمل، لا أحد منهم يدري أن خلف صفحة وجهه الهادئة كبدا تتفتت ببطء، وروحا حائرة لا تجد غصنا ترتاح فوقه.

الغريب أنه عادة من كان يصبر الناس ويقويهم في وقت المصائب، والمحبط أن كل ما يحفظه من مواعظ وحكم لم يخففا من لهب لوعته.

يقال إن المرهفين إحساسا أشد تأثرا بالفقدان من غيرهم، حتى ثقافته الواسعة ومنطقه الصائب لم يصمدا أمام غيوم أشجانه، الأذكياء والمثقفون ينكسرون أكثر من غيرهم.
أيكون الفراق صعبا إلى هذه الدرجة!؟

خفف وجود ابنه الوحيد من مصيبته، ولكنه لم يكن كافيا لإطفاء براكين الأحزان المتأججة في صدره.

جرب كل الوصفات والحلول، وتجرع ليالي السهر الطويلة لعل الوقت يكون كفيلا بمداواة جروحه، لكنه بقي عالقا بين ماض يأبى المغادرة وحاضر يمتنع عن التقدم إلى الأمام.

أحيانا يتمنى لو لم يقابلها، يغرم بها، وتجمعهما قدسية العشق والزواج، سنين من سعادة تلاشت في لحظات، حين رحلت فجأة، مخلفة شروخا من العذاب، وصحراء قاحلة ذابلة المشاعر.

انهارت أمنيات حياة طالما حلم بها وتخيلها، ابن يكبر في أحضانهما وحياة مديدة يرتشفان فيها كأس حبهما بلا انقطاع، كان سهم الموت أسرع وأقسى، وفي لحظة غفلة اختطف توأم روحه وخلف الخراب.

نهض من مقعده، مشى في الغرفة تائها، ضائعا يجتر أقواس سعادة متبددة، جرفتها دموع تهاطلت بلا استئذان، ضباب كثيف تكون أمام ناظريه، أحس بالدوار، امتدت يده مرتعشة تتمسك بالمقعد، ألقى بجسده المثقل عليه، ارتطم أنفه بجلده الأخضر الناعم، فتدفقت رائحة جسدها الغائب مقتحمة أعماق نفسه.

أغمض عينيه، واسترخى، فرآها بثوبها الأبيض في بستان مبهج وارف الظلال، ابتسمت ففهم أنها تدعوه للجلوس قربها، همست له دون أن تنطق شفتاها:

"لقد أكملت مشواري في الحياة، ومازالت مهمتك لم تنته بعد، اجعلني هدفك الذي ستسعى للحاق به، والأمل الذي يبعث فيك القوة ويمنحك القدرة على فعل الخير حتى نلتقي في الآخرة معا".

بعد ذلك صار كلما انتابه حزن أو غم، أغمض عينيه وتخيلها تفتح ذراعيها بانتظاره، فيبتسم قائلا:

" كلها مسألة وقت".

محمد أبو الفضل سحبان 10-18-2021 02:21 AM

رد: الغياب الحاضر
 
ثيمة الفراق والتوجع على فقد الأهل والأحباب، هي من أصدق الأدب عاطفة، وأشدها تأثيرا، وأعظمها وقعا في النفوس؛ لأنها كلمات اكتوت بنار البين، وهي نابعة من سويداء القلب.
نص جميل، مسطور بلغة بليغة، يتخللها وصف دقيق ينفذ للأعماق ...
استمتعت حقيقة بما قرأت..
تقديري لقلمك الفريد أخي عبد الكريم.
مودتي.

ياسَمِين الْحُمود 10-18-2021 06:52 AM

رد: الغياب الحاضر
 
وقفت ملياً في حيرة ودهشة هنا..
قصة حملت عبرة.
أذهلتني سطور من قلمك ..
بجمال الكلمات وقوتها ..
وأدهشني الوصف والتسلسل العذب
استمتعت بما يرمي إليه الفاضل عبدالكريم
دمت ألقا وشكرا لنص صنع اِسما
تقبل مروري
و تحية لروحك الطيبة:31:

عبدالعزيز صلاح الظاهري 10-18-2021 11:25 AM

رد: الغياب الحاضر
 
قصة تحدثنا عن خسارة رجل رزين لامرأة صالحه فمن المؤكد ان الخسارة مضاعفة وهي تذكرني بأبيات شعبية تعكس هذه المعاناة عندما خسر رجل حكيم زوجته الحبيبة الصالحة وطالبه قومه بان يعود لحياته كما كان فقال لهم:
ونجمتي عقب ما غابت
عرفت ملقى بدل فيها
أحوال من بعدها سابت
والروح كثرة شكاويها
اخي عبدالكريم الزين كعادتك مميز وصادق في الوصف لذا لا بد لكلماتك من ان تسمع

موسى المحمود 10-18-2021 04:20 PM

رد: الغياب الحاضر
 
أسعد الله مساءك أخي الأديب والقاصّ المبدع عبد الكريم الزين،

قصّة مؤلمة الحقيقة ولكنها حيكت ونسجت بأسلوبٍ عبقريّ وكأن الجمال الأدبي يسيل من بين السطور كالينابيع التي تتفجر بين الصخور، ناعمة هي حروفك كالأسيل وعذبة مشاعرك كمشاعر طفل بريء ..

تحياتي واحترامي وتقديري

عبد الكريم الزين 10-20-2021 04:03 PM

رد: الغياب الحاضر
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد أبو الفضل سحبان (المشاركة 317973)
ثيمة الفراق والتوجع على فقد الأهل والأحباب، هي من أصدق الأدب عاطفة، وأشدها تأثيرا، وأعظمها وقعا في النفوس؛ لأنها كلمات اكتوت بنار البين، وهي نابعة من سويداء القلب.
نص جميل، مسطور بلغة بليغة، يتخللها وصف دقيق ينفذ للأعماق ...
استمتعت حقيقة بما قرأت..
تقديري لقلمك الفريد أخي عبد الكريم.
مودتي.

أسعدني مرورك أخي محمد
وأمتعتني قراءتك المتعمقة

تحياتي وتقديري


الساعة الآن 02:40 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team