منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=7)
-   -   قراءة معمقة لبعض روائع الشاعر عبد اللطيف السباعي (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=7347)

ايوب صابر 12-01-2011 09:07 PM

قراءة معمقة لبعض روائع الشاعر عبد اللطيف السباعي
 
قراءة معمقة لبعض روائع الشاعر عبد اللطيف ( السباعي ) غسري

عبد اللطيف غسري، الشاعر الظاهرة، لقدرته على النظم الجميل والذي يجمع بين الاصالة، والحداثه، والمتانة، والقوة، والصور الشعرية الجميلة، ويحشد في شعره من المحسنات ما يجعله في غاية التأثير... يستحق ان يقرأ بعمق:

هذه قراءة لبعض قصائده، والتي اتمنى ان تشكل البداية لقراءات لقصائد اخرى لعلنا نضع سويا قراءة معمقة وكامله لكل اعماله الشعرية.

ارحب بمن يرغب في تقديم اي اضافة لهذه القراءات.

اهلا وسهلا بكم،،


ايوب صابر 12-01-2011 09:08 PM

القصيدة
( تعالي وحطي على كلكلي )
عبد اللطيف غسري


أرَاكِ فأسْكُبُنِـي مِـنْ عَــلِ
كشَـلاَّلِ خاطِـرَةٍ سَلـسَـلِ

وَتَسَّاقطُ الذكرَيَاتُ الحيَـارَى
رذاذًا بقـارعَـةِ الـجَـدْوَلِ

أرَاكِ فأظعَـنُ مُسْتوْحِـشًـا
على صهـوة ِ القلـقِ الأوَّل

وَيَحْمِلنِي القُرْبُ فِي راحَتَيْـهِ
إلى زَمَـنٍ ضَامِـرِ الهَيْكَـلِ

تَعَـوَّدَ أنْ يَسْتقِـلَّ اللـظـى
ركَابًا وَيَمْتـارَ مَـنْ حَنْظَـلِ

تَوَغَّلَ غَرْبًا وألْقَـى الغِيـابُ
نِصَالاً أصَابَتْـهُ فِـي مَقْتَـلِ

إذا بريـاحِ المَـدَى أخْتَلِـي
أشِفُّ وَمَتْنَ الضَّنَـى أعْتَلِـي

على الطرُقُاتِ أتِيهُ احْتِرَاقًـا
وهَلْ غَلَيَـانٌ بِـلا مِرْجَـلِ؟

وَيغْتسِلُ الجَمْرُ مِن ماءِ حَرْفِي
وَمِن وَدْقِ قافِيَتِـي المُنْـزَلِ

غَزَلْتُ رداءَ الحِكاياتِ حتَّـى
تَوَعَّدَنِـي ضَجَـرُ المِـغْـزَلِ

وهـذَا الفـؤادُ فـلاةٌ بَـرَاحٌ
بهَا غَيرُ خيْلِكِ لـمْ تصْهَـلِ

ألمْ يَخْتبِرْ فِيكِ غَيْظَ المَرَايَـا
وَمَوْجِدَةَ الكأسِ والمِشْعَـلِ؟

ألمْ يَغْفُ فِيكِ؟ ألـمْ يَلْتَحَـفْ
بِثَـوْبِ نَضَارَتِـكِ المُخْمَـلِ؟

ولولا شُموعٌ بِكَفَّـيَّ يَقْظَـى
أفَـاقَ قليـلاً ولـمْ يَعْجَـلِ

فإنْ تسْألِي كَيفَ يَذوِي الرَّبيعُ
يُنَبِّئْكِ صَيْـفٌ، وَإنْ تسْألِـي

لِماذا هَوَتْ لَبِنَـاتُ الأمانِـي
تُخَبِّـرْكِ ذاكِـرِةُ المِـعْـوَلِ

وها أنتِ في نَزَقِ الياسَمِيـن
تعودِيـنَ بالعَبَـقِ الأكْـمَـلِ

إلَـيَّ فَعُـودِي وَأَلْقِـي إلَـيَّ
بأجْنِحَـةِ الخَبَـرِ المُهْـمَـلِ

ألـمْ تعْلمِـي أنَّ يَوْمِـي إذا
توَارَيْتِ فِي لَهَبٍ يَصْطلِـي؟

إليكِـ أَقُبَّـرَةَ القلبِـ أهـفُـو
تعالَيْ وَحُطِّي على كَلْكَلِـي!


للشاعر عبد اللطيف غسري

.


من مجموعتـي الشعريـة..

ايوب صابر 12-01-2011 09:17 PM

تعالوا معي نحاول سبر أغوار هذه القصيدة الرومانسية الملتهبة جمالا ومشاعر نستخرج منها ما نستطيع من حلي وجواهر رغم صعوبة بعض المعاني والتعقيد الذي يشوب الصور الشعرية التي تطفح فيها القصيدة.

أرَاكِ فأسْكُبُنِـي مِـنْ عَـل
شَـلاَّلِ خاطِـرَةٍ سَلـسَـلِ
وَتَسَّاقطُ الكلِمَـاتُ الحيَـارَى
رذاذًا بقـارعَـةِ الـجَـدْوَلِ


يقول الشاعر عبد اللطيف غسري في مستهل إنشاده ومطلع قصيدته الجميلة هذه، والتي يوضح لنا عنوانها بأنها قصيدة غرام وعشق لامرأة بالغة الحسن والجمال أحبها الشاعر وهو يخاطبها وكأنها تنأى عنه...إذ يقول لها مناديا " تعالي وحطي على كلكلي" وهو ما يشير إلى نوع من الجفاء في العلاقة بينهما أو ربما تمنع وبُعد وتدلل، وقد يكون عشق من طرف واحد مما ألهب مشاعر الشاعر وجعله يصدح بهذه القصيدة الجميلة في لحظة عشق ملتهبة أو ربما حينما كان يجلس وحيدا في صومعته يستذكر ذلك الحسن الخلاب الذي سلب لبه يصدح بهذه القصيدة وربما شعره كله.

ويبدأ الشاعر قصيدته بقوله، أي حبيبه اعلمي أنني حينما أراك انسكب قولا وشعرا وخاطرة تملؤها المشاعر ويكون ذلك الانسكاب قويا بقوة الشلال المنسكب بسلاسة وانهمار من مكان عالي، وهذا المطلع إنما يشير إلى أن الجميلة تلك هي ملهمة الشاعر فيما يكتب من أشعار تتدفق من خاطره مثل الشلال المنهمر بسلاسة من مكان عالي.

وهو إذ يراها يصاب بالدهشة ويتلعثم ويحتار فتخرج الكلمات منه وهو لا يعرف ماذا يقول وربما من شدة الحسن والجمال والدلال الذي يراه الشاعر فيحدث زلزلة في كيانه فيتلعثم لسانه ويحتار بما يقول فتخرج الكلمات وهي حائرة بدورها ماذا تصف أو تقول في حرم ذلك الجمال الخلاب. تلك الكلمات تخرج من فاه الشاعر وكأنها رذاذ الماء الذي يسقط على قارعة الجدول أي جوانب الجدول.

وهي صورة أخرى بالغة الجمال ففي الأولى يقارن الشاعر ولادة القصائد والخواطر التي تتداعى إذا ما رأى تلك الجميلة وكأنها شلال يسقط من علي كما يقارن في الصورة الثانية كلماته برذاذ الماء الذي يتطاير في جوانب الجدول عندما يسقط فيه ماء الشلال.

تخيل معي أيها المتلقي الكريم ما أجمل هذا التصوير ونحن ما نزال على أعتاب القصيدة!!!

لقد قرأت هنا ما يكفي من الجمال والقول البديع لكي اقف واصفق للشاعر بحرارة.

أرَاكِ فأظعَـنُ مُسْتوْحِـشًـا
علـى صَهْـوَةِ القلـقِ الأوَّل


ثم يعود الشاعر في هذا البيت ليؤكد من جديد على أن رؤية حبيبته يعيد تشكيل تركيبة خلاياه وحمضه النووي his molecules structure، ويحدث زلزلة غير مسبوقة في ثنايا دماغه هذه المرة، وكأنه يصاب بالذهول والهذيان، طبعا من وقع تلك الرؤيا – المشاهدة- عليه ومن شدة حسن تلك الحبيبة، فبدلا من الذهاب إليها والاقتراب منها عند رؤيتها يرتحل وهو يشعر بوحشة شديدة، فيرتحل وهو مهووس بجمالها، ويتيه فاقدا الإحساس بالزمان والمكان كمن تلقى ضربة على رأسه.

والمهم هو كيف يكون ارتحال هذا الشاعر العاشق المذهول؟ انه يمتطي هودج ( صهوة ) القلق الأول!!! وكأن الشاعر هنا يشخص القلق فيجعله حصانا عربيا أصيلا- ترتيبه الأول بين الأحصنة- يمتطيه إذ يركب صهوته او هودجه ليرتحل إذ يراها تائها في ارض الله الواسعة.
ولكن لا بد من القول بأن هذا البيت يحتمل معنا آخر ربما وهو أنه وحين يرى حبيبته يشعر بقلق ووحشة وتيه وغربة وذهول ودهشة كتلك التي استشعرها الشاعر في أول لقاء حب له ...ومبرر هذا المعنى هو استخدام كلمة " الأول" إلا إذا كان الشاعر قد استخدم الكلمة لزوم القافية ربما!؟

وقبل أن نغادر هذا البيت لا بد من ذكر أن سر الجمال في هذا البيت يأتي من عدة جوانب من التصوير والتشخيص أولا، ومن ثم من تلك الحركة التي توحي بها استخدام كلمة ( الظعن أي الارتحال )، ثم من ذكر الخيل وركوب الخيل او الجمل( الصهوة او الهودج )، ثم هناك استنفار للحواس من خلال استخدام كلمة (أراك) وأيضا من خلال استخدام كلمات تستثير المشاعر وهي كلمتي (مستوحش وقلق) وبذلك يتمكن الشاعر من نقل مشاعره لنا ويقحمنا بما يشعر به وينقلنا لنعيش ذلك الجو الملتهب الذي يعيشه لحظة رؤيته لحبيبته وكأننا هناك نسمع ونرى نحن أيضا فنقلق ونرتحل معه مستوحشين تاهين مذهولين إلى اللامكان.

ولا شك ان هذا البيت يحتوى في ثناياه من الجمال الكثير ....وندر مثله وربما ما يزال يحتاج لمزيد من الشرح والتفسير لسبر اغواره!

وَيَحْمِلنِي القُرْبُ فِي راحَتَيْـهِ
إلى زَمَـنٍ ضَامِـرِ الهَيْكَـلِ


في البيت السابق وصف لما يحدث للشاعر أذا ما رأى حبيبتيه مجرد رؤيتها! وهو في هذا البيت الذي يليه يصف ما يحدث له إذا ما اقترب منها، ولم يقتصر التواصل بينهما على النظر والرؤية فقط.

فيقول الشاعر هنا..عندما اقترب منك، أي حبيبية، يحملني القرب، وهو هنا يشخصن -القرب- فيجعله وكأنه إنسان يحمله على راحتيه أو ربما هي ريح عاتية قوية تحمله إلى أين؟؟؟؟ إلى زمن ضامر الهيكل!!! أي إن ذلك القرب يجعله يتذكر تلك الأيام وذلك الزمن الذي كان هو فيه متعلق جدا بحبيبته عاشق لها ولهان إلى حد الهذيان وهي بعيدة عنه وبسبب ذلك البعد...إلى حد انه كان يمتنع لا إراديا عن الأكل والشرب وكنتيجة لشغفه بها وشدة حبه وتعلقه وهيامه بها...حاله حال العاشقين جميعا..وإلى حد انه كان قد أصابه النحول فأصبح ضامر الهيكل...

ولكن ذلك الضمور لم يصبه هو فقط وإنما امتد ليصيب أشياؤه كلها وحتى الزمن الذي شهد تلك المشاعر الملتهبة، فأصبح الزمن بدوره ضامر الهيكل مثله تماما...وهو تعبير وتصوير بالغ الجمال والعمق يصف ويصور ما يصيب الشاعر إذا ما وقع في الحب والغرام وقد تمنعت الحبيبة ونأت بنفسها عنه فيصيبه النحول والضمور...

وفي ذلك شخصنه للزمن أيضا وكأن الزمن الذي شهد حبه لها تحول إلى إنسان ضامر الهيكل هو أيضا إذ تأثر بتلك المشاعر الملتهبة وذلك الألم النابع من بعد الحبيبة.

وفي البيت حركة نستشفها من استخدام كلمة (يحملني) وهي من المحسنات التي تجمل الفن وتجعله أعظم أثرا على نفس وعقل وقلب المتلقي...كما أننا نستشف الصراع الذي كان يعانيه الشاعر في حبه وهو عنصر آخر من عناصر الجمال التي تجعل النصوص حية بالغة الأثر في نفس المتلقي...ولا ننسى التضاد بين القرب والبعد الذي نستشفه من المعنى وهو الاكثر تأثيرا على ذهن المتلقي... ولا شك ان جميعها عناصر جمال تجعل من هذا البيت بالغ الاثر.


ايوب صابر 12-01-2011 09:19 PM

تَعَـوَّدَ أنْ يَسْتقِـلَّ اللـظـى
ركَابًا وَيَمْتـارَ مَـنْ حَنْظَـلِ


هنا في هذا البيت نجد عبقرية فذة وقدرة اعجازية في الصياغة باستخدام كلمة (تَعَـوَّد) فهي من ناحية تَعُودُ على الزمن، ونحن نعرف أن الشاعر كان قد وحد بين نفسه وبين الزمن في صفة النحول، فكلاهما أصبح ضامر الهيكل من شدة الحب حينما كان الشاعر بعيد عن الحبيبية، ولذلك يمكن أن نستشف من المعنى أن الشاعر يقصد في وصفه هذا أن جسده هو الذي تعود أن يستقل اللظى، أي يركب المخاطر أو النار الحامية التي لا دخان فيها وهي شديدة الاحتراق، واللظى هي النار الملتهبة والمتلهفة والتي تجذب أي شيء لأكلهوحرقه (كلا إنها لظى)، وفي هذا تشخيص آخر شبه الشاعر فيه اللظى، أي النار أو حالة الاحتراق التي كان يشعر بها، وكأنها فرس أو ناقة يستقلها ويسافر بها...

إذ يقول الشاعر بأن جسده وأثناء ذلك الزمن الذي كان يعيش فيه بشوق عنيف لحبيبته يصل إلى حد الاحتراق، لأنها كانت تنأى عنه وتبتعد، كان يستقل اللظى فرسا يسافر فوق صهوتها ربما عبر الفلا والبراح والصحاري الشاسعة في تيه كبير، وهي كناية عن شدة الشوق والحرمان الحارق الذي يكاد يصل لان يكون أشبه بالنار الملتهبة شديدة الاحتراق، ذلك الشعور ساهم لا شك في ضمور جسده أيضا.

ولم تكن حالة الضياع والاحتراق تلك التي اعتادها الجسد أثناء غيابه عن الحبيبية هي السبب الوحيد في ضمور جسده كما نعلم، بل انه الحنظل الذي تَعْوَدَ ذلك الجسد أيضا على تناوله كطعام، وربما أراد الشاعر هنا أن يقول بأن النزر القليل من الطعام والشراب الذي كان يتناوله في شروده وتيهه وسفره إلى اللامكان وهو يعاني من حالة الهذيان تلك كان مذاقه الحنظل وذلك بسبب بعد الحبيبية وصدودها، فكان جسده يحترق في لظى الحب ويصطلي بنار البعد من ناحية ، بينما كان مذاق ما يأكل ( يمتار ) بطعم الحنظل كنتيجة حتمية لتلك الحالة من الشرود التي أصابته.

وهنا أيضا نجد أن الشاعر قد ضمن هذا البيت مزيد من الحركة توحي بها كلمات (يستقل و ركابا) وكأننا نحس دبيب الخيل ومشقة السفر، ونكاد نستشعر حرارة الحب الحارقة من خلال استخدام الشاعر لكلمة (اللظى) فهي كلمة توقظ في الذهن موروث ثقافي مؤثر جدا يُذّكرُ بأشد حالة من حالات العذاب بواسطة الاحتراق وهي لفظة توقظ فينا حاسة اللمس بعنف شديد...كما أن كلمة (حنظل) تستفز في المتلقي حاسة الذوق....وقد نجح الشاعر من جديد في اسر لب المتلقي بهذه الصناعة الشعرية المتفوقة والباهرة من خلال تسخير الحركة والحواس والتصوير الجميل والبليغ...فظل المتلقي مدفوعا ليقف على رؤؤس أصابع قدميه يتابع من يجرى باهتمام شديد ويحاول معرفة ما حصل ويحصل للشاعر وقد استُنفِرت حواسه بكامل طاقتها...وكأن في فمه طعم الحنظل وتلفح جلده نار حامية تَصْلي جلده.

تَوَغَّلَ غَرْبًا وألْقَـى الغِيـابُ
نِصَالاً أصَابَتْـهُ فِـي مَقْتَـلِ


ويستمر الشاعر هنا في وصف حاله وهو يعاني من بُعد الحبيب وصدوده...فهو يمتطي صهوة القلق ويسافر مستوحشا وهو يَهذي ويستقل اللظى فيحترق بنار الحب والهجران ويأكل الحنظل فلا طعم لحياته بل هي بطعم الحنظل عندما يكون بعيدا عن الحبيب...

ولكن الأمر لا يقف عند ذلك الحد فهو يتوغل في سفره وتيهه إلى جهة الغرب أي جهة الغروب، وكأنه يقارن نفسه بشمس تغرب، وربما في ذلك إشارة إلى اتجاه معاكس لسكن الحبيبة، وهو بذلك الهروب والسفر والتوغل نحو الغرب يبتعد عن الحبيبية، فكان ذلك البعد بمثابة السكاكين التي ألقاها هو فأصابته بمقتل...

وهنا نجد أن الشاعر شخصن الغياب والبعد وجعله وكأنه في حدته مثل السكاكين القاطعة وقد أصابته هذه السكاكين بمقتل وهي كناية عن شدة الحب والألم من البعد والفراق...والمشكلة هي انه هو الذي تسبب بذلك الألم الذي أصابه حين توغل غربا لأنه هو الذي ألقى السكاكين على نفسه بتوغله غربا مبتعدا أكثر عن الحبيبة.

وفي هذا البيت أيضا نجد مزيدا من الحركة نستشفها من كلمة (التوغل)، وفيه صورة الغروب وهي صورة رومانسية لافته للانتباه وتعني الأفول والغياب والبعد وهي عكس الشروق وتوحي بما يصاحب الليل من الكآبة والوحشة والوحدة والشعور بالألم.

وفي الصورة الأخرى نرى سكاكين تتطاير لتصيب ذلك الحبيب العاشق الولهان بمقتل، فنكاد نشتم رائحة الدم الحار المتدفق من جراحه، ونتألم لألمه ونحن نراه وقد انغرست تلك السكاكين في جسده...خاصة عندما نعرف انه هو الذي ألقاها بتوغله غربا وفي ذلك تعبير عن قسوة البعد والفراق....

وفي ذكر المقتل ذكر للموت وذكر الموت في العمل الفني يذكر بأزمة الوجود والعدم، ثنائية الموت والحياة، وهو الامر الأكثر جذبا لذهن المتلقي لما تثير فيه من وجدانيات ومشاعر ومخاوف والم.

إذا بريـاحِ المَـدَى أخْتَلِـي
أشِفُّ وَمَتْنَ الضَّنَـى أعْتَلِـي


وما يزال الشاعر في هذا البيت أيضا يصف حاله وما أصابه ويصيبه من ذلك الحب الذي وقع فيه ولحظات الغرام التي مر بها بعد أن رأى تلك الجميلة...

وفي هذا البيت يصف الشاعر لنا ما يحصل له إذا ما اختلى بنفسه أي جلس وحيدا مختليا بنفسه مستذكرا طعم الحب ولحظات الانبهار تلك التي اختبرها وحسن الحبيب وجماله. وقد شبه الشاعر الحب هنا بالريح العاصفة فالحب يعصف به كما تعصف به الريح بل الرياح... وقد شخصن الريح وجعلها كأنها أنثى يختلي بها.

ويقول لنا أنه في مثل تلك اللحظات من الخلوة يَرِقُ قلبه وحاله ويصبح ضعيفا شفافا، وليس ذلك فقط ولكنه يعتلى (متن الضنى) أي يصبح وكأنه مريض أصابه المرض والهزال الشديد والسقم و(الضنى) هي حالة المريض الذي طال مرضه واشتد، وفي ذلك كناية عن الم الفراق والبعد وصدود الحبيبية...وقد شخصن الشاعر الضنى أيضا فجعله وكأنه كائن يعتلي هو ظهره.

وفي البيت الكثير من الحركة التي نستشفها من حركة الريح بل الرياح والاعتلاء وفيها تشخيص في موقعين (الريح والضنى).

ويمكن قراءة البيت من زاوية أخرى إذا ما اعتبرنا (المدى) هو المكان البعيد الذي يقطن فيه الحبيب وكأن الشاعر يقول إذا ما هبت الريح من جهة الحبيب ووصلتني ولفحتني أصابني السقم والمرض...لأنها تذكره بالحبيبة تلك الجميلة التي سلبت علقه فارتحل مذهولا، تائها، مستوحشا وقد اعتلا صهوة القلق الأول موغلا نحو الغرب تاركا خلفه محبوبته تلك التي أصابه جمالها بالذهول حينما رآها.

ايوب صابر 12-01-2011 09:20 PM

على الطرُقُاتِ أتِيهُ احْتِرَاقًـا
وهَلْ غَلَيَـانٌ بِـلا مِرْجَـلِ؟


ليس ذلك فقط بل يخبرنا الشاعر في البيت التالي ان استذكاره للحبيبة واختلاؤه بذكرى جمالها الذي أصابه بالذهول عندما رآها يوقض فيه من جديد تلك المشاعر التي دفعته ليسافر مستوحشا على متن الضنى فيعود ليرتحل من توه ومن جديد لشدة ما يتألم من البعد والصدود وربما من وقع ذلك الجمال الذي أصابه بالهذيان...

فيدور في الطرقات سائحا تائها وهو في حالة الهذيان والاضطراب تلك التي أصابته من صدود الحبيب...بل هو يتوه في تلك الطرقات وهو يحترق من شدة الحب والم البعد (أتيه احتراقا)، وهنا يطرح الشاعر سؤالا استنكاريا إذ يقول: أي حبيبية ...وهل هناك غليان من دون مرجل؟ أي هو يصرح هنا موضحا إذ يقول بأن تيهه واحتراقه وارتحاله وهذيانه وسقمه وضموره وطعم الحنظل وغليانه وما إلى ذلك من مشاعر جعلته يغلي أنما أصابته حين رأى تلك الجميلة وما تبع ذلك من صدود...

فهي ليست من دون سبب وإنما هي جميعها نابعة من شعوره العارم بالحب الذي اجتاحه إذ رآها وكنتيجة لصدود الحبيب وبعده.

وفي هذا البيت يَتضح لنا بأن الشاعر أراد أن يستعطف الحبيبية ويخبرها بأن كل ما أصابه وألم به وآخره احتراقه من حرارة الحب وهو يدور في الطرقات، إنما هو نتيجة حبه لها فهي من أشعل النار تحت المرجل فصار يغلي من شدة الحب وفي ذلك تشبيه القلب بالمرجل ومشاعر الحب والشوق بالغليان.

وهنا تمكن الشاعر ومن خلال استخدامه لكلمات ( احتراقا وغليان ) من استنفار حواس المتلقي من جديد، خاصة حاسة اللمس هذه المرة...وكأننا نستشعر لظى النار والاحتراق والغليان، وحرارة الحب الذي يغلي في ثنايا قلبه...كما المرجل!
وهو بذلك ينجح من جديد في إقحام المتلقي فيدفعنا لنحس معه ونستشعر حرارة ذلك الغليان وذلك الاحتراق وذلك الحب الذي زلزل كيانه.

وفي البيت حركة نستشفها من التيه والارتحال على الطرقات التي يقع فيها الشاعر فيدور في تلك الطرقات على غير هدى وهو في تلك الحالة من الهذيان وألا لم والاحتراق بسبب الحبيب وصدود الحبيب وبعده.

وَيغْتسِلُ الجَمْرُ مِن ماءِ حَرْفِي
وَمِن وَدْقِ قافِيَتِـي المُنْـزَلِ



ويتابع الشاعر في هذا البيت وصف مشاعره وما الم به كنتيجة لتلك الحالة التي أصابته على اثر الحب والغرام الذي وقع فيه... ومن ثم ارتحاله مستوحشا على متن الضنى... بعد أن يأس من الحبيب وبعد أن لاقى منه الصدود...


فهو يسير في الطرقات تائها محترقا احتراقا شديدا كما اخبرنا في البيت السابق، كما انه يغلي من شدة الحب والشوق كما المرجل، ولكن ذلك ليس آخر المطاف وليس كل شيء...فهو يخبرنا هنا في هذا البيت بأن حب تلك الجميلة وصدودها وما نتج عن ذلك من الم وتشرد، وتيه.. كان ملهما له ففجر في ثنايا عقله وقلبه نبع الشعر ولكن أي شعر ذلك الذي تفجر؟؟؟!!!


انه الشعر الملتهب، الحار المعبر عما يجول في خاطره والذي يصل في حرارته درجة الغليان أو أعلى من ذلك بكثير كونه نابع من قلبه الذي صار كالمرجل يغلي من شدة الحب ومن احتراقه بنار الحب والشوق والحرمان!!

ولذلك حينما يفكر الجمر في الاغتسال يكون ماء حرف الشاعر الملتهب، أي أشعاره الساخنة كونها انعكاس لحاله، هو الماء المفضل عند الجمر ليغتسل فيه، وهي كناية عن شدة الحب والحرمان الذي وصل به إلى درجة الاحتراق والغليان، فانعكس ذلك على ما يقوله الشاعر من قصيد، ولذلك يلجأ الجمر لهذه الأشعار ليغتسل فيها إذا ما أراد الاغتسال كونها أكثر منه حرارة!

ولا أظن أن هناك ما هو أجمل من هذه الصورة الشعرية بالغة الجمال، فمن ناحية يشبه الشاعر أشعاره بماء ساخن بل شديد السخونة، وقد وصل إلى تلك الحالة من السخونة كونه نابع من القلب الذي شبهه الشاعر بالمرجل والذي وصل إلى درجة الغليان أو أكثر لان الشاعر نفسه كان وبفعل الحب والبعد عن الحبيبة سائرا في الطرقات تائها يحترق احتراقا...ولذلك كان هذا الشعر ماءا مناسبا لاغتسال الجمر وهو ما يشير إلى أن تلك الأشعار هي أعلى حرارة من حرارة الجمر الملتهب نارا !!!! وهي تبدو كذلك في تقديري أليس كذلك أيها المتلقي الكريم؟


ومن ناحية أخرى نجد أن الشاعر قد شخصن الجمر هنا فجعله كإنسان يغتسل وحينما يريد أن يغتسل فهو يختار كلمات الشاعر ليغتسل بها لشدة حرارتها، وربما يكون هذا الوصف والتشخيص والصورة الشعرية الملتهبة سابقه لم يسبق لأحد أن استخدمها في الشعر العربي قبل شاعرنا هنا.


ولكن ذلك ليس آخر المطاف فالشاعر يخبرنا أيضا في نفس البيت بأن ما أصابه من حب وألم الخ....بعد أن رأى تلك الجميلة جعل الشعر ينهمر من لسانه وقلبه وكأنه المطر النازل من السماء والمنهمر بغزارة شديدة (منزل)، ولا شك أن تلك الأشعار المنهمرة هي بنفس حرارة ماء حرف الشاعر لان الشاعر يخبرنا بأن الجمر إذا ما أراد أن يغتسل فهو يغتسل إما بماء حرفه وإما من أشعاره المنهمرة من السماء كالمطر الغزير.


وسر الجمال في هذا البيت يكمن في الصورة الشعرية التي هي غاية في الجمال والتي صور فيها الشاعر الجمر وكأنه يغتسل بماء شِعرِه المنهمر كالمطر وهو شديد الحرارة ولذلك كان ملائما لاغتسال الجمر وهو اشد حرارة من الجمر حتما لأنه كان قد تم تسخينه في مرجل قلب الشاعر المحب العاشق الولهان ...الذي كان يدور في الطرقات وهو تائه يحترق احتراقا ويصطلي من صدود الحبيبية وبعدها....ومن الناحية الأخرى يخبرنا الشاعر بأن ما رأى من جمال كان ملهما له فصار الشعر ينهمر من قلبه كما ينهمر المطر من السماء غزيرا بل شديد الغزارة ( الودق ) .


ولا شك أن هذا الوصف الجميل والصورة الشعرية والعمق في المعنى والقدرة على التعبير بما يجول في خاطر الشاعر من مشاعر تدفعني لان أقف من جديد لأصفق للشاعر ولكن بحرارة شديدة هذه المرة هي ربما اشد حرارة من أشعاره المنهمرة من سحابة مرجل القلب،،

غَزَلْتُ رداءَ الحِكاياتِ حتَّـى
تَوَعَّدَنِـي ضَجَـرُ المِغْـزَلِ


وفي هذا البيت يتابع الشاعر وصف ما فعل به جمال وجه تلك الحسناء حينما رآها ومن ثم صدودها، فقد ألهب جمالها خياله وجعل مُزْن الشعر تنهمر شعرا ساخنا حارا...والحكايات أيضا، ولا بد أنها حكايات كان يقولها الشاعر فيصف فيها جمال وحسن تلك المرأة التي أحبها وما أصابه كنتيجة لما رأى.

شعر تفجر ينابيع متدفقة من ثنايا قلبه، وانهمر كما المطر الغزير، وحكايات صاغها الشاعر لا بد انه روى فيها قصة غرامه وحبه وكل ما أصابه من غليان وشرود واحتراق الخ...فكان شعره ملتهبا حارا ومنهمرا كالودق لكنه ساخن من حرارة الحب الذي يعتمل في قلبه.

ويضيف الشاعر هنا بأن قريحته في قول الشعر والحكايات قد تفتقت وعلى أشدها فحاك الكثير من الحكايات، وكأن خياله كان يعمل مثل المغزل وهي كناية عن غزارة ما تفتقت به قريحته من قول وشعر..فشبه نظم القصائد والحكايات بصناعة الغزل، وفي ذلك صيغة مبالغه عن كثرة ما كتب وروى من حكايات حتى كاد المغزل أن يصاب بالملل والضجر.

وفي هذا البيت تشخيص للحكايات فجعلها الشاعر وكأنها إنسان قام الشاعر بغزل ردءا له، كما شخصن المغزل فجعله مثل إنسان يصيبه الضجر والملل ولكن من ماذا؟! من كثرة الحكايات التي رواها الشاعر عن حبه وعن حبيبتيه...ونجد المغزل يتوعد صاحبنا الشاعر من كثرة ما أنتج من أشعار وحكايات وربما شبه الشاعر هنا القلم بالمغزل.

وفي البيت وبالإضافة إلى تلك الصور الجميلة والتشخيص نستشف الحركة التي ما تزال تغني أبيات هذه القصيدة وتجعلها حية ذات وقع وتأثير عظيم على المتلقي، وذلك من خلال كلمة (غزلت) بل هي حركة سريعة بسرعة النول أو المغزل الذي يدور على مدار الساعة ولا يستكين ابدا.

وهل هناك أجمل من هذه الصورة الشعرية التي جعل الشاعر فيها المغزل يضجر وهو الذي يعمل دون كلل أو ملل وبغزارة منقطعة النظير منذ بدء الخليقة؟ فنجده هنا يضجر من غزارة ما أنتج الشاعر من قصائد وحكايات في وصف تلك الجميلة..فهل لنا أن نتخيل إذا غزارة ذلك الإنتاج من الأشعار والحكايات؟ وهل لنا أن نتخيل إذا جمال وحسن تلك الفتاة التي فجرت ينابيع الشعر في قلب الشاعر؟؟؟!!!

وهـذَا الفـؤادُ فـلاةٌ بَـرَاحٌ
بهَا غَيرُ خيْلِكِ لـمْ تصْهَـلِ


في هذا البيت يصف الشاعر قلبه، ذلك القلب الذي أصابه سهم الحب فأصبح ولهان يغلي كالمرجل كنتيجة لحبه لتلك الفتاة فتفجرت من ثناياه ينابيع الشعر الحار الملتهب والغزير.

ونجد الشاعر هنا يصف قلبه ويشبهه بـ(الفلاة) وهي الصحراء الواسعة أو البيداء، بينما يشبه الشاعر نفسه أو صدره (براح) أي الأرض الأشد اتساعا فتكون الأرض الشاسعة بأتساع الصحراء الغربية، فقلبه واسع بوسع الصحراء في صدر أوسع بكثير.

أما لماذا يشبه الشاعر قلبه، في وسعه، بالصحراء الواسعة، في هذا التشبيه البليغ والجميل؟!

الجواب يأتينا في الشطر الثاني من البيت، إذ يخبرنا الشاعر بأنه وعلى الرغم من ذلك الاتساع فأن هذه الأرض لم يمر عليها ولم يصهل بها أي خيل سوى خيل الحبيبة...تلك الفتاة الجميلة ملهمته ومفجرة ينابيع الشعر والحكايات في قلبه وذهنه...وفي ذلك كناية عن إخلاصه لها في حبه فلم يعرف سواها ولم يسمح لأحد غيرها من النساء أن يَعّبُرْ إلى ذلك القلب...وربما جاء التشبيه أيضا ليوحي وليعبر عن الحالة النفسية التي انعكست على الشاعر على اثر الهجران فقلبه أصبح خاليا مثل الصحراء وليس حدائق غناء!

وكأننا هنا نسمع صوت الشاعر وهو يخاطب حبيبية ربما مستعطفا إياها ومعلنا بأن قلبه لم يعرف حب آخر سوى حبه لها...وربما هو يلومها على بعدها وهجرها وصدودها رغم كل ذلك الإخلاص من ناحيته لها.

ونجد هنا صورة شعرية جميلة للغاية أيضا، فمن ناحية يشبه الشاعر قلبه بصحراء في وسعها، بينما يوصل لنا ما أراد أن يصفه بأنه حبه الأول والوحيد بصهيل الخيل الأول والأوحد الذي تعرفه تلك الأرض الشاسعة.

وهنا نجده يعود لاستخدام كلمة الخيل فنكاد نسمع صوت صهيل الخيل وهي تتراكض في ثنايا قلبه...ونكاد نرى صورتها وهي تعدوا في تلك الصحراء الشاسعة لوحدها..وما أجملها من صورة!

وذلك الاستخدام لصورة الخيل يوقظ فينا موروث ثقافي مرتبط بالخيل ونواصيها وجمالها من ناحية، ويستحضر في ذهننا خيول الشعراء الكبار أمثال المتنبي، كما يحرك فينا بعنف حاسة السمع من خلال استخدام كلمة (صهيل) وهي من أهم الحواس على الإطلاق، كما أنها أول حاسة تتفعل لدى الطفل عند الولادة...فنكاد نسمع صهيل الخيل ...ولذلك كله يكون وقع الصورة الشعرية هنا بليغ الأثر على المتلقي.

ايوب صابر 12-01-2011 09:21 PM

ألمْ يَخْتبِرْ فِيكِ غَيْظَ المَرَايَـا
وَمَوْجِدَةَ الكـأسِ والمِشْعَـلِ؟


ويستمر الشاعر في مخاطبة حبيبته في هذا البيت أيضا وفيه يسوق الشاعر لها ولنا المبررات التي جعلت قلبه الواسع بوسع الصحراء يقتصر في حبه عليها، هي فقط، كونها تلك الفتاة الجملية ملهمته وملهبة نار الحب في قلبه، هي فقط التي مرت بخيلها عبر ارض وصحراء قلبه الشاسعة دون غيرها.

فمن ناحية يقول الشاعر أن سبب ذلك هو شدة جمال وحسن تلك الفتاة ذلك الجمال الذي أغاظ المرآة والدليل على ذلك انه حينما تنظر تلك الفتاة في المرآة تغتاظ المرآة من شدة جمالها.
ومن ناحية أخرى يصف الشاعر جمال حبيبته على أنها جميلة بجمال تلك الفتيات التي تكلف عادة بتقديم (الكأس والمشعل) في حضرة الملوك ربما وهي فتيات لا بد بالغة الجمال...
وقد يكون هذا الاستخدام لكلمات (موجدة الكأس والمشعل) مأخوذة من التراث المغربي وربما من التراث الأدبي العالمي كون الشاعر مطلع على الأدب الانجليزي بحكم تخصصه ...فربما استعار هذه العبارة من مسرحية روميو وجوليت مثلا، لكن السياق يوضح لنا بأن ما هو مقصود بها المبالغة في وصف جمال تلك الفتاة ولذلك فقد اكتفى بحبها.

ويستمر الشاعر، في البيت التالي، في سوق مزيد من الأدلة والأسباب وهو يخاطب حبيبته، تلك الفتاة التي جعلته يقتصر في حبه عليها ولم يتسع قلبه لأحد سواها فيقول لها:

ألمْ يَغْفُ فِيكِ؟ ألـمْ يَلْتَحِـفْ
بِثَوْبِ نَضَارَتِـكِ المُخْمَـلِ؟

وكأنه يقول ويتساءل... أي حبيبة ...كيف لا يقتصر حبي عليك وقد عشقك قلبي عشقا يصل حد الهذيان، عشق يذهب العقل...

ثم الم تلاحظي أيضا بأنه ومن شدة حبك كان قلبي يبدو وكأنه يلتحف بثوب نظارتك المخمل؟ وهي كناية أخرى يعبر فيها الشاعر عن شدة جمال فتاته تلك...وهي من المبررات الأخرى التي جعلت قلبه لا يحب سواها...وفي ذلك تشخيص للقلب إذ جعله الشاعر هنا وكأنه إنسان يغفو ويلتحف بجمال وحسن تلك الفتاة ذلك الحسن المخملي الرائع.

ولولا شُموعٌ بِكَفَّـيَّ يَقْظَـى
أفَـاقَ قليـلاً ولـمْ يَعْـجَـلِ

ويستمر الشاعر في مخاطبة حبيبته بعد أن شخصن في البيت السابق قلبه فجعله كمثل طفل صغير يغفو في حضنها ويلتحف بثوب جمالها الناعم والدافئ وكأنه ثوب من الحرير أو المخمل...فكان نومه وغفوته عميقة في مثل ذلك الجو المريح والدافئ بل المشتعل بالحب.

وفي هذا البيت يستمر الشاعر في مخاطبة حبيبته فيقول ..أي حبيبة..نعم ...تأكدي بأن غفوت قلبي في حضن الحب المخملي ( الم يغفو فيك؟ )، حبك أنت لوحدك، كان يمكن أن تطول وتستمر، وكان يمكن لقلبي أن يظل يغط في نوم عميق وهو يلتحف بثوب نظارتك المخملي، لولا أن نيران الحب هذه المشتعلة في كياني جعلت أصابعي تضئ فأصبحت وكأنها شموع مشتعلة فاستفاق قلبي، ولكنه استفاق على مهل ولم يتعجل...حيث كان من الممكن أن يستمر في تلك الغفوة إلى ما لا نهاية وذلك بسبب ذلك الجو المخملي المفعم بالحب الذي يوفره جمالك ونظارة وجهك.

وهذا البيت كناية أراد الشاعر أن يعبر فيها عن شدة الحب أيضا، وهو ما جعله يقتصر في حبه عليها، وكأنه يقول أن جمال فتاته كان رائعا مخمليا إلى الحد الذي وفر له مكانا مريحا جدا، فغفى قلبه فيه، واستغرق في غفوته، لولا أن حرارة الحب المشتعلة في ثنايا قلبه جعلت أصابعه تضئ فاستفاق من شدة الوهج وحرارة الحب.

فمن ناحية غفى الشاعر في حضن الحب وتلحف بثوب جمال تلك الفتاة المخملي، وكان يمكن أن يظل يغط في نوم عميق إلى ما لا نهاية بسبب ذلك الجو المفعم بالحب والدفء والإحساس المخملي، ولكنه استفاق كنتيجة لحرارة الحب المشتعل في قلبه، والدليل على ذلك أن أصابعه قد أضاءت من شدة ذلك الاشتعال ( الحب ) الملتهب في كيانه.

وقد أبدع الشاعر هنا إذ شبه أصابعه بالشموع المشتعلة، وشبه القلب بالطفل الذي يغفو ويستيقظ...وهو ما جعل هذا البيت من الشعر يضج بالحياة...وقد سخر الشاعر هنا التضاد من جديد فمن ناحية تحدث عن النوم واليقظة ومن ناحية أخرى تحدث عن البطء والقلة والعجلة...فتمكن من اسر انتباه المتلقي...من خلال هذه الصورة الشعرية الجميلة.

فإنْ تسْألِي كَيفَ يَذوِي الرَّبيعُ
يُنَبِّئْكِ صَيْـفٌ، وَإنْ تسْألِـي
لِماذا هَوَتْ لَبِنَـاتُ الأمانِـي
تُخَبِّـرْكِ ذاكِـرَةُ المِـعْـوَلِ

وما يزال الشاعر في هذين البيتين يخاطب حبيبته مستعطفا إياها راجيا لعلها تحن عليه فتعود إليه أو تتوقف عن مقاطعته والنأي عنه وهو هنا يصف حاله البائس وما حل به بعد أن تركته وحيدا من خلال طرح الأسئلة والإجابة عليها.

ويشبه الشاعر نفسه بالربيع ويقول مخاطبا إياها: أن تسألي كيف يذوي الربيع، ربيع العمر طبعا، أي كيف انه أصبح شاحبا، بائسا، حزينا، مصفر الوجه ضعيفا؟ يأتيك الجواب بأن الصيف بحرارته هو المسئول عن ذلك، أي أن شدة حرارة الحب والحرمان الذي شبهه الشاعر بحرارة الصيف هي التي تسببت بكل ما أصابه من الم، فذوى جسده وكأنه ربيع ذهبت عنه الخضرة.

ويستمر الشاعر في مخاطبة حبيبته في البيت التالي فيسألها مزيدا من الأسئلة الاستنكارية...فيقول وان تسألي لماذا تحطم أملي بالحب وتكسرت الأمنيات وتهدمت؟ (لماذا هوت لبنات الأماني؟)، فيأتي الجواب في الشطر التالي...يمكنك أن تعرفي الإجابة...فأنتِ السبب في ذلك... ونجد الشاعر هنا قد شبه الحب وأحلامه فيه بـ لبنات الأماني، أي الأمنيات،بينما شبه صدودها وبعدها بالمعول الذي تسبب في هدم لبنات الأماني تلك.

وكأن الشاعر يقول لحبيبته بأن ما أصابني من شحوب وضعف ومن ثم تحطم كل أحلامي وأماني هو في الواقع ناتج عن صدودك وبعدك...وفي ذلك استعطاف لتلك الفتاة بأن تعود له ربما.

وهنا شخصن الشاعر الربيع فجعله كشخص يذوي وشخصن الصيف فجعله السبب في ذويان الربيع، وشخصن الأمنيات والأحلام فجعلها تتهدم كاللبنات، وشخصن المعول فجعل له ذاكرة وكأنه إنسان يمكنه أن يتعرف على ما فعله.
والتضاد يظهر من جديد في الربيع والصيف واللبنات والمعول... وطرح الأسئلة هنا والإجابة عليها حواريه تلفت انتباه المتلقي وتقحمه في الحدث.

ايوب صابر 12-01-2011 09:22 PM

وها أنتِ في نَزَقِ الياسَمِيـن
تعودِيـنَ بالعَبَـقِ الأكْـمَـلِ


ويستمر الشاعر في رواية قصته مع تلك الفتاة هنا بهذه الكلمات المعبرة والصور الشعرية الساحرة والدافئة، فبعد أن وصف لنا حسنها وحبه الملتهب وما لاقاه ويلاقيه كنتيجة لبعدها من بؤس، وضعف، وألم، واثر ذلك عليه جسديا، فصار كأنه الربيع الذي يذوي، ويخبرنا أن نأيها كان السبب في ما أصابه.

يخبرنا الشاعر في هذا البيت بأن محبوبته قد عادت إلى المكان الذي يعيش فيه ولكن أي عودة تلك التي يتحدث عنها الشاعر هنا؟ إنها تعود بخفة الياسمين وجماله وعبقه الكامل... فنجد الشاعر هنا يشبه حبيبته بزهرة الياسمين في خفتها، ورشاقتها، وجمالها، ورائحتها العطرية الزكية الطيبة الكاملة....وكأنه قطر عطر الياسمين جميعه في كلمة (الأكْـمَـلِ ) ليصف فيه عذوبة ما هي عليه حبيبته عند عودتها.

إلَـيَّ فَعُـودِي وَأَلْقِـي إلَـيَّ
بأجْنِحَـةِ الخَبَـرِ المُهْـمَـلِ

وبعد أن اخبرنا الشاعر بأنها عادت إلى المكان الذي يسكن فيه، يتوجه إليها في هذا البيت بالحديث، طالبا منها أن تعود إليه شخصيا، ولا تكتفي بالعودة إلي المكان الذي يسكناه أصلا، والذي شاهدها فيه لأول مرة فوقع ما وقع من حب وصل حد الهذيان وأدى إلى كل ذلك الوله والنحول...بل يطالبها وقد أوضح لها ما أصابه من هزال وألم واحتراق وغليان كنتيجة لبعدها ونأيها... فيطالبها بأن تصرح له بحبها الذي أهملته وأنكرته طويلا...بعد أن أورد لها مبررات كثيرة تدلل على مدى حبه لها...وهو يستعجلها بالعودة والتصريح بحبها له ومبادلته الشوق والحب والحنين... فلذلك يطلب منها أن تعود على أجنحة السرعة.. لتخبره بكل تلك المشاعر التي ظلت مهملة لمدة طويلة لأنها تركته وغابت كل تلك المدة...وهنا يشبه الشاعر الخبر وكأنه الطير له أجنحة وفي ذلك تعبير عن شدة الشوق للقاء الحبيبة فهو لا يستطيع الانتظار ونعرف السبب كما يصفه الشاعر في البيت التالي.

ألـمْ تعْلمِـي أنَّ يَوْمِـي، إذا
توَارَيْتِ، فِي لَهَبٍ يَصْطلِـي؟

وفي هذا البيت يعود الشاعر فيؤكد لفتاته مستعطفا أيها وحاثا أيها أن تعود إليه من خلال سؤاله، أي حبيبة، ألم تعلمي أن يومي يكون إذا تواريت عني في لهب يصطلي؟ اي يشتعل احتراقا ...وهو بذلك يستمر في التعبير عن حبه الملتهب واثر بعد فتاته عنه...ولذلك فهو يستعجل عودتها على جناح السرعة...وهنا نستشعر حرارة ذلك الحب من خلال استخدام كلمة (يصطلي).

إليكِ ـأَقُبَّرَةَ القلـبِ ـأهْفـو
تعالَيْ وَحُطِّي على كَلْكَلِـي

وفي البيت الأخير من القصيدة نجد الشاعر يصرح بحبه لها بصورة جليه واضحة ومباشره، فمن ناحية يشبهها بطائر القبرة الجميل...لكنها قبرة قلبه هو، وذلك تعبير عميق عن الحب لها... ومن ناحية أخرى يطلب منها وإذ هي عادت إلى المكان الذي يسكن فيه أن تعود إليه هو فتصل ما انقطع، لكل تلك المبررات التي ساقها، لا بل هو يطلب منها أن تعود إليه بسرعة الطير مرة اخرى، فهو إذ شبهها بطائر القبرة يطلب منها أن تطير لتحط على صدره فيضمها إليه.

وفي هذه الأبيات الأخيرة الكثير من الحركة والتي توحي بها كلمات (تعالي وعودي) والصور الشعرية الجميلة (أجنحة الخبر، أقبرة القلب) والتعابير التي تدغدغ المشاعر والأحاسيس ومنها حاسة الشم واللمس والسمع ( عبق، لهب، يصطلي، الخبر)...وهو أسلوب بالغ التأثير يمتاز بالقوة والصور الجميلة والبلاغة الساحرة....أسلوب يأسر لب المتلقي ويجعله يصفق بحرارة للشاعر على قدرته الفذة على النظم الجميل والأصيل الذي يضج بالحياة.

انتهى،،

عبدالله الفيفي 12-02-2011 04:51 PM

عمل نقدي كبير ورائع

ونص فعلا قوي

تحياتي لك

ايوب صابر 12-04-2011 12:06 PM

استاذ عبد الله الفيفي

انت صاحب الذوق الرفيع.... اشكرك على مرورك الكريم.

اعمال الشاعر كبيرة وتستحق ان تقرأ بعمق...عسى ان يتدعى النقاد لانجاز هذا المشروع المهم والكبير...تحت عنوان قراءة معمقة لروائع الشاعر الكبير عبد اللطيف غسري،لعلنا نصل في النهاية الى شرح لديوانه المتكامل" .

عبد اللطيف غسري 12-04-2011 01:13 PM

أتقدم بالشكر الجزيل والامتنان العميق إلى أخي المبجل الأستاذ أيوب صابر على بادرته الراقية هذه التي تهدف إلى تسليط الضوء على قصائدي ونصوصي من منطلق نقدي رائع نرجو أن يُتخذ قدوة من قِبَل نقادنا الأجلاء فيتصدوا للإبداع بالنقد والتحليل..
مودتي الدائمة أخي الكريم.

وأشكر أيضا الأستاذ عبد الله الفيفي على مروره الجميل هنا.

غادة قويدر 12-05-2011 10:11 PM

المكرم أيوب صابر
قراءة رائعة ومفيدة ..
اسلوبك جميل جدا في النقد وتبيان ما ترمي اليه الصورة الشعرية
وايضا استنباط ما تكتنزه روح الشاعر من ابداع فتسلط الضوء عليه وبجدارة
كل الشكر لك والتقدير
ودوام التألق والابداع لشاعرنا القدير عبد اللطيف غسري
تحيتي لكم

ايوب صابر 12-07-2011 08:58 AM

الاستاذة غادة قويدر

مرورك ومداخلتك اجمل....ولا شك انني اصبحت الاحظ حضورك المميز هنا.

يجب ان نحاول اغناء المحتوى العربي والتوقف عن المجاملات في الردود...

نحن بحاجة لتحليل النصوص ومعرفة كنهها وما ترمي اليه ومدى ارتباطها بواقع الشاعر او المبدع.

صحيح ان ذلك يتطلب جهد لكننا في النهاية نحصل على محتوى عربي غني بالمعرفة يوفر مادة تعليمية للشباب الهواة ويساعد على صقل قدرتهم الابداعية.

حبذا لو يتم التفاعل مع هذا المشروع واطلاق اكثر من مشروع موازي لما فيه الفائدة.

ايوب صابر 01-05-2012 02:02 PM

قراءة معمقة لرائعة اخرى من روائع الشاعر الاستاذ عبد الطيف غسري:

قراءة في قصيدة " إلى البحرِ أطوِي كُلَّ مَوجٍ..." للشاعر الاستاذ عبد اللطيف غسري:



http://www.mnaabr.com/vb/showthread....d=1#post101926

ياسر علي 01-26-2013 02:43 AM

تحية للأستاذ الفاضل الذي تناول باستفاضة تحليل القصيدة الشيقة حتى رأيته ينسكب كماء شلال من عل .
قرأت القصيدة ولم أتبين كل خفاياها إلا بعد أن تنورت بنقدك الرائع .
فقط لي ملاحظة واحدة ألا ترى معي أستاذي الكريم أن هذا البيت هو من أعطى انطلاقة جديدة للقصيدة
ويغتسل الجمر من ماء حرفي... ومن ودق قافيتي المنزل
إذ فيه تناص كامل مع بداية القصيدة ، وهنا يعيد الشاعر افتخاره بشعريته الناتجة عن حرمانه من التفاعل مع المحبوب .
منذ قراءتي الأولى استثارني هذا البيت إذ فيه يكاد الشاعر يقول ، أنا من نظر الأعمى الى أدبي ....
ويزداد اتضاحا في البيت الموالي
غزلت رداء الحكايات حتى ..... توعدني ضجر المغزل
أعود الى قصة الجمر المغتسل لنستبين ماهية الغسل من انشراح وطهارة و اخماد للنار المحترقة التي نالت من الشاعر في بدايته ليكون شعره هو البلسم الشافي الذي طهره من أمراضه و هو نفسه من سيأتي له بحبيبته .
أخيرا إن لم أوفق في ملا حظتي فأرجو المعذرة وشكرا للشاعر وقارئه
ودام إبداعكما.

ايوب صابر 01-26-2013 11:05 AM

اشكرك استاذ ياسر علي.

واضح انك تهتم بالشعر وتذوقه. ليتنا نستطيع اكمال هذا المشروع الذي اطلقناه والهادف الى تقديم قراءات نقدية لاشعار الاستاذ عبد اللطيف غسري، هنا وليتك تتعاون معي في هذه المهمة ما دام لديك هذه القدرة في قراءة الشعر الجميل. علما بأني لا ادعي بأني اتبين خفايا نصوصه الا بشق الانفس. شعره صعب لكنه بديع وجميل ويستحق ان يدرس . ولعل الجهود المشتركة تسهل مهمة فهمه.

ايوب صابر 05-19-2013 12:30 PM

يا ترى اين هو الاستاذ غسري. من زمان ما طل علينا.

قراءة معمقة لقصيدة "الى البحر اطوى كل موج" ..على الرابط التالي:

http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=6048

عبد اللطيف غسري 05-30-2013 11:57 PM

أجدد الشكر الجزيل للأستاذ الكريم أيوب صابر على اهتمامه الحثيث بالشعر وأهله..
لا شك أن الشاعر يمتلئ أملا وثقة في مستقبل الشعر حين يجد من يهتم بما يكتب.
آمل أن تجد دعوة الأستاذ أيوب آذانا صاغية عند من يهتمون بالشعر والأدب.
أشكر أيضا الأستاذ ياسر علي على تعقيبه الجميل.
معذرة على التأخر في الرد.

عبد اللطيف السباعي 08-14-2014 01:49 PM


قراءة نقدية لنص(همسات في آذان البحر)للشاعر المغربي عبد اللطيف غسري
بقلم: عباس باني المالكي

لقلبيَ أن يحضن الموجَ،
أن يسأل الوقت كم عدد السمكات اللواتي تعبنَ
من الغوص في عنق الماءِ
أو من مصافحة البحر إثر أفول المرايا
ولم أستطع أن أضمّ
شفاه التباريح عن كشف خارطة الشوقِ
قلت له تلك أمنيتي أيها البحرُ؛
أن أركب الرمل فوق كثيب الحنينِ
فأنثر بين يديك حبيبات بوح ستخضل تنورة العشقِ
من زهرها المستباحِ
بليل تراوده ذكريات الصباحِ
وأمنيتي أن أجيئك فوق جناح السنونو،
إناث البلابل يتبعْنني
قد سكرْنَ بخمر الأقاحي
تضج حناجرهن بسيمفونية الشرقِ
كم ضاع في صمتك العذب من حلُم أيها البحرُ
لا تنسَ أنك كنت لفيفا من الضوءِ
يحمل بارقة التوقِ
نرسم تحت صبيبك أحلامنا عن عيون الصبايا
ونرتاح من شبق السوءِ
فوق ظلالك يوم تعج خواطرنا بغثاء الخطايا
ونملأ منك جِرارَ انتشاءٍ
بماء جزيئاته من حروف النوايا
وفوق جبينك نطبع من شفة الدفءِ
ما قد يطيب لنا في مقام القصيدةِ
من قبلات التأسي

عبد اللطيف غسري
بوجدور / صيف 2009
أن الارتقاء بدلالة النص إلى مستوى الذي يحقق انزياح في تكثيف الصورة الشعرية وفق الاستفادة من الاستعارة الوجودية التي تقارب المشاعر الداخلية ومخاضاتها إلى حركة الطبيعة التي تلتصق بالذات وتقاربها بالمعاناة وكأن الطبيعة هي الرؤى لكل ما نشعر به من مشاعر وأحاسيس ... لهذا يعتمد عمق النص قدرة الشاعر على تقريب مشاعره الداخلية إلى الطبيعة وما تحققه من تناغم وتمازج إلى حد تصبح الطبيعة والذات كل منهما يعبر عن الأخر ، حيث تصبح الاستعارة هنا هي النسق المتوالد في توسيع لغة الشاعر وفي نفس الوقت تعطي إلى الشاعر القدرة العالية على تكثيف وترميز النص وفق هذه الاستعارة وكما أكد عليها جاكويسون أن الشعر يتمحور على الاستعارة كتقنية أسلوبية ..فالاستعارة تعطي الشاعر المحاولات التي توصله إلى اقتناص المسافات الشاسعة بالتعبير الكامل عن مشاعره الكامنة في لحظة تصادمه مع المحيط حوله ، فالشعر كما أعتقد هو محاورة الذات في أقصى أزمتها من أجل الكشف عنها بهذا تبقى نقطة التمحور بين الذات والتعبير عن أزمتها هي الصياغة الصورية للتقارب الكبير بين العاطفة وفكرها .. فكل المدركات لا يمكن أن نراها ونجسدها بشكل كبير إذا لم تكن لها صورة لأن الصورة هي أدراك الموجودات في ذاكرة الأحاسيس ..فنجد أن الشاعر عبد اللطيف غسري قد استفاد من هذه الاستعارة ما جعل نصه هذا بمستوى النضج الصوري وتركيباته حيث نلاحظ الانزياح والتجاذب الصوري بينه والبحر ...

لقلبيَ أن يحضن الموجَ،
أن يسأل الوقت كم عدد السمكاتاللواتي تعبنَ
من الغوص في عنق الماءِ
أو من مصافحة البحر إثر أفولالمرايا
ولم أستطع أن أضمّ
شفاه التباريح عن كشف خارطة الشوقِ
فقلت له تلكأمنيتي أيها البحرُ؛
أن أركب الرمل فوق كثيب الحنينِ
فأنثر بين يديك حبيباتبوح ستخضل تنورت العشقِ




حيث نلاحظ هنا أن الشاعر قد أستخدم اللغة المعبرة بكاملها عن التقارب الوجودي بين دقات القلب وموج البحر وهذا يعتبر قدرة رائعة على تحقيق التجاذب في ألاستعارة بين الموج ودقات القلب وقد أستخدم هنا الاستعارة بوصفها مجازا حيث أن قدرة أي شاعر تظهر من خلال الاستخدام الأمثل إلى الاستعارة لأنها العنصر الأهم في العملية الإبداعية وذلك لارتباطها بالإلهام والإبداع وكما أنها مرتبطة بأحداث الانزياح في تركيب الصورة الشعرية وما أكد عليها الشريف المرتضى ( أن الكلام متى ما خلا من الاستعارة وجرى كله على الحقيقة كان بعيدا عن الفصاحة بريا من البلاغة ) حيث نلاحظ الشاعر عبد اللطيف غسري أستخدمها ليبني في هذا النص اللغة الإبداعية التي استطاعت أن تقارب البحر مع تموجات روحه القلقة لأننا نلاحظ أن الشاعر في هذا المقطع قارب لغة البناء المعماري في اللغة فهو بقدر ما يدعو إلى الغوص يرى المرايا التي تعكس الظواهر حيث نجد مداخلة كبيرة في إحداث الانزياح الانسيابي وليس القصري فهو يدعو إلى قلبه أن يحضن الموج وهذه صورة شعرية عالية الاستعارة لأنها تمزج بين القلب الذي هو مركز حياة الإنسان وبين الموج أي أن الشاعر يريد أن يقول من خلال هذا أنه يعيش القلق الوجودي بكل أبعادة البستمولوجية أي عمق الحياة الحضارية فالغوص هو البحث عن الحقيقة الحياتية ولكن نجد هنا الغوص من خلال عنق الماء أي أن الحياة ضاقت عليه بالرغم من قدرته على امتلاك العمق الرؤيا وسعة أزمته ( لقلبيَ أن يحضن الموجَ، /أن يسأل الوقت كم عدد السمكاتاللواتي تعبنَ /من الغوص في عنق الماءِ)
ولكن هذا العمق وسعة الأزمة تبقى ظاهرا في المرايا وهنا أستخدم استعارة التضاد فهو بقدر مايملك من مشاعر وجدانيه عميقة يبقى الأخر لا يرى العمق إلا في المرايا وهذه هي أزمة الشاعر هنا في هذا النص هو يريد أن يعيش العمق والأخر تجذبه ظواهر الحياة الأفله(أو من مصافحة البحر إثر أفولالمرايا ) وهو بهذا أستعار البحر بدل الحبيب ليرسم أناشيده ، والسبب الذي دعا الشاعر لهذه الحالة هو أن الأخر لا يمكن أن يستوعب عمق روحه في الشوق و الحنين إليه لهذا حدث تجاذب نفسي بين روحه والبحر ليحقق التوازن النفسي الدلالي في استيعاب همومه التي لا يدركها الأخر، أي أن البحر أصبح هو الحبيب الذي ينشده فالشاعر ارتقى بدلالته الشعرية إلى إضفاء الصفات الإنسانية على كل من المحسوسات المادية والأشياء المعنوية أي جعل من المعنوي ماديا أو حسيا على سبيل الاستعارة ، وهذا مركز أبداع الشاعر وقدرته العالية في توسيع أفقه الشعري والبناء العميق للنص وفق أنساق التجاذب الوجودي لأزمته الإنسانية ( ولم أستطع أن أضمّ /شفاه التباريح عن كشف خارطة الشوقِ /فقلت له تلكأمنيتي أيها البحرُ؛ )
حيث يبقى شوقه خارج خارطة الشوق ، لهذا يبقى متشبث بالبحر رمزا للحبيب في كل مخاضاته الوجودية والإنسانية لأنها أكبر من أدراك الأخر لكل هذه العشق في داخله إليه ، وقد يكون هنا الشاعر لايستطيع البوح إلى الأخر بمكنوناته لأسباب أو أن الشاعر يدرك أن الأخر لا يستطيع أن يستوعب عمق أحاسيسه وفي كلا الحالتين تبقى أزمته يعيشها في ذاته فكان البحر هو المستوعب لكل هذا ، فهو هنا خلق التماثل الشخصي ل(الأنا ) ومثلها بالبحر لتقارب أو التجاذب النفسي لحقيقة مشاعره المتقاربة من صورة البحر ...

من زهرها المستباحِ
بليل تراوده ذكرياتالصباحِ
وأمنيتي أن أجيئك فوق جناح السنونو،
إناث البلابل يتبعْنني
قدسكرْنَ بخمر الأقاحي
تضج حناجرهن بسيمفونية الشرقِ
كم ضاع في صمتك العذب منحلُم أيها البحرُ
لا تنسَ أنك كنت لفيفا من الضوءِ
ويستمر الشاعر بالصورة الأستعارية ذات الطاقة الجمالية وما يرافقها من تداخل الحواس مع تماثل البحر، فهنا ارتفعت الذات إلى مستوى الرمز ، ولكي يكتسب هذا الرمز أبعاده الوجودية من امتداد خلال مدارك الحواس وتمثل هذه الحواس إلى الصورة تستمد مقوماتها في الفعل الذهني المترابط مع تشظي وجدان الشاعر ومداركه الشعرية ..، عندها تقفز الذات إلى تمثيل الوجود الذي حولها لكي تكسب الحقيقة في خلق تصوراتها الإنسانية ، وهذا ما فعله الشاعر عبد اللطيف بقدرة عالية اللغة والمستمدة نسقها من ضخامة معاناة هذا الشعر وأزمته النفسية ، حيث اكتسبت الصورة المتمثلة بالبحر والموجودات التي حوله ، حيث نلاحظ أن الشاعر هنا يمازج بين ذاته وهذا الموجودات وانفتاح هذا بأفق واسع كما نلاحظ في هذا المقطع ( من زهرها المستباحِ /بليل تراوده ذكرياتالصباحِ /وأمنيتي أن أجيئك فوق جناح السنونو،/إناث البلابل يتبعْنني /قدسكرْنَ بخمر الأقاحي ) وهنا الشاعر يحقق رؤاه الحلمية بالانتقال من التجاذب مع أمواج البحر التي تذكره بالحبيبة الغائبة في حاضره الآن ، الشاعر كان أمام البحر وبعد أن هدئت روح من هيجانها وأطمئن أنتقل إلى الحبيبة فهو يريد أن ينتقل إليها على أجنحة السنونو فقد سكر بخمر الأقاحي ، لأن الشاعر بعد أن تمازجت روحه الهائجة مع أمواج البحر وأطمئن من حبها أراد أن ينتقل إليها ، أي الشاعر بعد ما تأكد من حب حبيبته وعمق هذا الحب أراد أن يعبر لها عن هذا الحب لأنه وصل إلى حالة السكر بخمر الأقاحي أي أن روحة أطمئنت إلى هذا الحب ، و لإدراكه ببعد هذه الحبيبة أنتقل إلى مغازلة البحر ، وهذه المرة كان البحر متمثل بحبيبة وليس كما كان في المقطع الأول بين ذاته والبحر من خلال الحوارية ( تضج حناجرهن بسيمفونية الشرقِ /كم ضاع في صمتك العذب منحلُم أيها البحرُ /لا تنسَ أنك كنت لفيفا من الضوءِ ) حيث نلاحظ هدوء ذاته وتأكد انتمائها إلى الشرق ، أي هو يؤكد انتمائه العربي ، وقد تكون هذا الحبيبة من الجهة الثانية من البحر لأن الشاعر هنا يؤكد على أن البحر هو لفيف من الضوء أي أن الشاعر كثيرا ما يحدق في النهارات إلى البحر وبعد حبيبته خلف هذا البحر ، والجمال الذي يكمن في هذا النص تدرج ذات الشاعر من الموج والتشظي إلى الهدوء السيمفوني وكأنه يعزف سيمفونية بتوترها وهبوطها وتوترها .. وهذا السبب الكبير أن الشاعر حافظ على صورته الشعرية رائعة لنهاية النص ....
يحمل بارقة التوقِ
نرسمتحت صبيبك أحلامنا عن عيون الصبايا
ونرتاح من شبق السوءِ
فوق ظلالك يوم تعجخواطرنا بغثاء الخطايا
ونملأ منك جِرارَ انتشاءٍ
بماء جزيئاته من حروفالنوايا
وفوق جبينك نطبع من شفة الدفءِ
ما قد يطيب لنا في مقامالقصيدةِ
من قبلات التأسي
ينتقل الشاعر بثلاث حالات الأولي وهو مفرد أمام البحر و حواره معه والثانية يتذكر الحبيبة والثالثة ينتقل إلى الجمع ( نرسم،نرتاح ،نملا )أي يجتمع مع حبيبته أي أن النص يحتوى على ثلاث محاور داخلية محاورة مع البحر محاورة مع الذات و الاجتماع مع الحبيبة ، فالشاعر حقق منولوج داخلي في توتراته الوجدانية والعاطفية حيث أستطاع أن يحتفظ بالتأويل الدلالي في عمق صورة النص ، فهو أستخدم لغة مطابقة ما نظر إليها سوسير* والذي رفض على أعتبار اللغة بوصفها ركاما من الكلمات ، بل نلاحظ أن الشاعر جعل من اللغة هو الفعل العقلي التصوري في الحياة أي كما قال سوسير ( إن اللغة نظاما يعتمد على التقابل بين وحداته الملموسة ) حيث أن الشاعر قارب حواره مع الموجودات من صورة شعرية وأضفى عليها الحياة ، فأرتفع باللغة وجعلها المعبر الحقيقي عن ما أراد أن يوصله فهو حقق البنية العميقة في اللغة كما نلاحظ في هذا المقطع ( يحمل بارقة التوقِ /نرسمتحت صبيبك أحلامنا عن عيون الصبايا /ونرتاح من شبق السوءِ /فوق ظلالك يوم تعجخواطرنا بغثاء الخطايا ) فهو يستمر بمناشدة البحر ولكن هنا هو بقى يرى بالبحر العمق الذي يريد والمعبر عن كل الأشياء التي تمناها في الحياة فهو يحمل بارقة التوق ويرسم تحت صبيبه أحلامه إلى عيون الصبايا أي ما يحمل البحر من رمزية تمثل كل توق وتطلعاته التي ينشدها ، فالبحر بنقائه الشاسع الذي لا يستطيع أحد أن يلوثه تحول في رؤى الشاعر التي تثقلها أزمته إلى رمز الحياة نفسها فكل ما يعيش الشاعر من خواطر ورغبة إلى النساء ( الصبايا) والتي تبقى دفينة ذاته ولكنه يكشفها إلى البحر فالبحر تحول إلى رمز يخزن أسراره كذاته الباطنية التي لا يجد ما يقاربها سوى هذا البحر فهو يرمي إليه كل همومه وحتى شبق السوء ، لأنه أصبح بوسع ذاته ومستوعبا لها فهو عندما يكون أمام البحر يكون متقارب إليه كثيرا فحتى ظلاله تعج بخواطره بغثاء الخطايا ( ونملأ منك جِرارَ انتشاءٍ /بماء جزيئاته من حروفالنوايا /وفوق جبينك نطبع من شفة الدفءِ /ما قد يطيب لنا في مقامالقصيدةِ /
من قبلات التأسي ) وأننا ندرك أن الشاعر دائما أمامه البحر وقد يكون أمام نافذته أي دائما يقع نظره يقع عليه لهذا أمتلك كل مساحات روحة وهمومها أي الشاعر توحد ومتزج معه إلى حد أصبح يملا منه جرار انتشاء ، و في كل ما يحاول أن يفعله في الحياة ، الشاعر أستطاع يعبر عن عنوان النص بشكل كامل إلى حد ندرك أنا النص كله هو عبارة حقا عن همسات في أذان البحر لروحة الحاضرة والمتماهية به ...فالشاعر سيطر على لغة وجعلها المعبرة القريبة إلى روحة وقد مزج معها الرمز مع الاستعارة الواسعة والذي أضاف إلى نص روعة عالية في الصورة والتأويل الدلالي في نسق فكري عاطفي رائع وجميل .

عبد اللطيف السباعي 08-14-2014 01:55 PM

قراءة معمقة في قصيدة "الجرس الخفي" للشاعر عبد اللطيف غسري
:
بقلم الناقد الاستاذ ايوب صابر

الجَرَسُ الخَفِيُّ

عبد اللطيف غسري


بِدَاخِلِي مِنْ كِنايَاتِ الأنَا جَـــــرَسُ
مَعْنَى السُّكونِ بِهِ نَاءٍ وَمُلْتَبِــــــسُ

يُدَقُّ حِينَ يَصُبُّ الغَيْمُ أحْرُفَــــــــهُ
زَخَّاتِ حَشْرَجَةٍ يَهْمِي بهَا الهَـــــوَسُ

أيْنَ الوَمِيضُ وَهَذا الصَّدْرُ بَوْتَقََـــةٌ
حَمْرَاءُ مِنْ كُلِّ إحْسَاسٍ بهَا قَبـــَسُ

أيْنَ السَّبيلُ... مَسِيرُ الذاتِ هَرْوَلَــةٌ
فِي مَهْمَهِ الليْلِ لَمْ يَفْطِنْ لَهَا العَسَسُ

إنَّ المَسَافاتِ فِي دَرْبِي مُجَنَّحَــــــةٌ
يَكْبو على إِثْرِهَا البِرْذوْنُ والفـَرَسُ

شَوْطًا قَطعْتُ وَشَوْطٌ كادَ يَقْطعُنِــي
وَمُمْسِكٌ بِتلابِيبِ المَدَى النَّفَـــــــسُ

فَهَلْ أضَعْتُ بِجَيْبِ الوَقْتِ بَوْصَلَتِي
إنِّي لَأطلُبُ آثَارِي وألْتَمِـــــــــــسُ

وَما بَرِحْتُ مَكانِي قَيْدَ أُنْمُلَـــــــــــةٍ
وَما شَهِدْتُ زَمَانِي وَهْوَ يَنْتَكِـــــسُ

أنا المَشُوقُ إلى ما فاتَ مِنْ زَمَــــنٍ
أطْلالُ قَلْعَتِهِ تَهْوِي فَتَنْــــــــــدَرِسُ

هَذِي نسَائِمُهُ حَمَّلْتُهَا كُتُبِـــــــــــــي
وكُلُّ حَرْفٍ بِها فِيهِنَّ مُنْطَمِـــــــسُ

لَكِنَّمَا الجَرَسُ المَخْبُوءُ فِي جِهَــــــةٍ
مِنْ مَوْطِنِ الرُّوحِ يُغْرينِي بهِ الأنَسُ

يَهُزُّنِي كُلَّما أغْفَيْتُ عَنْ هَدَفِــــــــي
وَالكَوْنُ فَوْقَ مَرَايَا النَّفسِ يَنْعَكِـــسُ

وَلَسْتُ آنَفُ إنْ أسْرَجْتُ قافِيَتِــــــي
إلى المُنَى، حَوْلَهَا مِنْ أدْمُعِي حَرَسُ

مِنْ أنْ أنامَ على أسْمالِ خاطِــــــرَةٍ
أوْ أنْ يَكونَ طعَامِي التَّمْرُ والعَدَسُ

إذا يَضُخُّ المَدى فَوقِي غَمَائِمَـــــــهُ
مَاءُ التَّفَكُّرِ مِنْ عَيْنَيَّ يَنْبَجِـــــــــسُ

أُجَالِسُ النَّهْرَ مَفْتونًا بِجِدَّتِــــــــــــهِ
لا يَسْتَحِلُّ خُدُودَ الضِّفَّةِ الدَّنَـــــــسُ

أُلْقِي بهِ زَوْرَقِي المَشْبُوبَ عَاطِفَـــةً
لعَلَّهُ عَنْ لِقائِي لَيْسَ يَرْتَكِــــــــــسُ

لعَلَّ أشْرِعةَ الآتِي تَجُوبُ بـــــــــهِ
أعْمَاقََ رُوحِي فَيَبْلوهَا وَيَنْغَمِـــــسُ

تَمُرُّ بِي كَلِماتُ النَّهْرِ صَامِتَــــــــةً
صَوْتُ التأمُّلِ مَحْفُوفٌ بِهِ الخَرَسُ


هذه هي القصيدة الثانية التي أحاول سبر أغوارها وتقديم قراءة معمقة لها للشاعر الظاهرة عبد اللطيف غسري، وهي لا شك قصيدة جميلة جدا ذات موسيقى عذبه وفيها صور شعرية جميلة للغاية، كما أنها محبوكة بصورة فذة، سخر فيها الشاعر كل عناصر القوة التي تجعل من النص الشعري، فذ، وعبقري، وجميل، وبليغ، ولا شك أن لها وقع مؤثر للغاية على نفس المتلقي رغم طابعها الفلسفي العميق والمعقد من حيث المعنى.

القصيدة تبدو ومن مطلعها أنها مناجاة يناجي فيها الشاعر نفسه فهو يسمع في داخله صوت جرس يدق لكنه جرس خفي، ومن هنا جاء عنوان القصيدة "الجرس الخفي" ولا شك أن هذا العنوان جاء موفقا، وهو حتما مدو ويعبر بقوة عما يجول في خاطر الشاعر، وفي نفس الوقت له وقع شديد على أذن المتلقي... ويوقظ في نفسه الإحساس بالجمال والروعة من اللحظة الأولى.

ومهارة الشاعر تظهر حتى من مطلع القصيدة فهو لا يضيع وقت بل يخطف أنظار وانتباه المتلقي فورا من خلال حشد المحسنات المؤثره في ذهن المتلقي، فنجد في العنوان استثمار للتضاد في المعاني (جرس – خفي) وطبعا فيه استفزاز لحاسة السمع، وهي الحاسة الأهم لدى المتلقي، وفيه أثارة تجعل المتلقي يندفع للقراءة لمعرفة قصة ذلك الجرس الخفي.
وبعد أن يشد الشاعر انتباهنا بقوة بقرعه لذلك الجسر الخفي يدعونا إلى رحلة نعبر خلالها إلى ثنايا نفسه حيث يكمن ذلك الجرس:

بِدَاخِلِي مِنْ كِنايَاتِ الأنَا جَـــــرَسُ
مَعْنَى السُّكونِ بِهِ نَاءٍ وَمُلْتَبِــــــسُ

ففي هذا البيت، والذي هو مطلع القصيدة، يخبرنا الشاعر بأن في داخله جرس، ويصف لنا الشاعر حال هذا الجرس فهو يدق باستمرار ولا يكاد يستكين أو يسكن.
وكأن الشاعر يتحدث عن الساعة البيولوجية في داخل كل منا والتي يجيد البعض الاستماع لدقاتها، وهي كما يخبرنا الشاعر عنده لا تتوقف عن الرنين، لكن لا بد لنا أن نتابع القراءة لنعرف أسباب استمرار تلك الساعة( الجرس) في الرنين عند الشاعر.

وقد أبدع الشاعر إذ ضمن في ثنايا هذا البيت التضاد في معنى الكلمات (الجرس والسكون) وهي من المحسنات بالغة التأثير في جلب انتباه المتلقي، كما أننا نكاد نسمع الجرس وهو يدق إذ يستثير الجرس فينا حاسة السمع، وندهش حينما نعلم بأن ذلك الجرس داخلي يدق في ثنايا الأنا وفي ناحية من نواحي كيانه.

يُدَقُّ حِينَ يَصُبُّ الغَيْمُ أحْرُفَــــــــهُ
زَخَّاتِ حَشْرَجَةٍ يَهْمِي بهَا الهَـــــوَسُ

في هذا البيت يخبرنا الشاعر بأن ذلك الجرس الكائن في زاوية من زوايا الذات الشاعرة... يدق حين يصب الغيم أحرفه... ولا بد أن الشاعر يشبه هنا ذاته الشاعرة بالغيم الذي يصب أحرفه كزخات حشرجة...والأحرف لا بد أنها كناية عن الأشعار أو الأفكار أو الأحاسيس والمشاعر التي تهطل في ذات الشاعر على شكل زخات وكأنها زخات المطر، أي غزيرة ولها صوت الحشرجة وربما في استخدام كلمة حشرجة ما يشير إلى الألم والمعاناة.

كما يخبرنا الشاعر بأن مصدر كل تلك الزخات هو الهوس، وهي حالة نفسية تصيب الذات الشاعرة فينتج عنها زخات من الأفكار أو الأشعار أو الأحاسيس والمشاعر تنهمر كما المطر في ثنايا الذات الشاعرة...ومثل هذه الحالة النفسية التي تشير إلى افتنان أو هوس الشاعر بأمر ما وربما هي ذاته الحساسة الشاعرة والتي دائما تغمرها الأحاسيس الملتهبة! وهي حتما ما يتسبب في أن يدق ذلك الجرس المخبوء في ناحية من نواحي الذات الشاعرة.

وهذا البيت يستنفر حواس المتلقي ويوقظها بسبب استخدام كلمات (يدق، وزخات، وحشرجه)، وفيه صورة شعرية جميلة للغاية...وفيه تشخيص للهوس.

أيْنَ الوَمِيضُ وَهَذا الصَّدْرُ بَوْتَقََـــةٌ
حَمْرَاءُ مِنْ كُلِّ إحْسَاسٍ بهَا قَبـــَسُ

وفي هذا البيت يخبرنا الشاعر ومن خلال هذا التشبيه البليغ ( الصدر بوتقة ) بأن صدره والذي هو مكمن الأحاسيس والمشاعر يمثل بوتقة حمراء تشتمل في ثناياها على قبس من كل إحساس يشعر به الشاعر...ولكن الشاعر يتساءل مستغربا ومستعجبا...كيف لا يصدر عما يدور في صدره وميض!؟ رغم أن ذلك الصدر تحول إلى بوتقة تحوي في ثناياها قبس من كل إحساس لا بد ملتهب..فأصبحت بوتقة الصدر حمراء من شدة الحرارة طبعا، حرارة تلك الأحاسيس، وفي ذلك كناية عن حدة تلك الإحساس التي تنصهر في بوتقة صدر الشاعر فلا يظهر لها وميض...والانصهار لا بد يحدث بسبب حرارة اشد من الاشتعال الذي يعطي الوميض حيث أراد الشاعر أن يعبر من خلال هذه الصورة عن عمق ما يدور في خلده وتلك الأحاسيس التي تغلي وتنصهر في بوتقة الصدر.. فهي أحاسيس ملتهبة حد الانصهار الذي لا يصدر وميضا!

وهذا البيت يستفز في المتلقي حاسة البصر من خلال استخدام ( أين الوميض) ويوقظ كل الأحاسيس في ذات المتلقي من خلال استخدام ( من كل إحساس) ويكاد يستعر المتلقي بلهيب تلك المشاعر من خلال استخدام كلمات ( حمراء وقبس، والوميض، والبوتقة).

وفي البيت ربما معنى آخر وكأن الشاعر وقد احتشدت في صدره تلك الأحاسيس والمشاعر الملتهبة أصبح وكأنه في متاهة لا يعرف أين الصواب أو أين الاتجاه الصحيح، وكأنه يركب قارب في عرض البحر تتقاذفه الأمواج فيبحث من بعيد ويتساءل عن وميض تلك المنارة التي تظهر في الميناء من بعيد لتدله على الاتجاه.

وفي كلتا الحالتين تشير الصورة الشعرية في هذا البيت بأن الشاعر يعبر عما يجول في خاطره من مشاعر متأججة وتيه افقده الاتجاه كنتيجة لما يملا صدره من مشاعر وأحاسيس.... ويؤكد على ذلك ما يقوله الشاعر في البيت التالي

أيْنَ السَّبيلُ... مَسِيرُ الذاتِ هَرْوَلَــةٌ
فِي مَهْمَهِ الليْلِ لَمْ يَفْطِنْ لَهَا العَسَسُ

يعود الشاعر في هذا البيت للتساؤل أيضا ومن جديد( أين السبيل...؟) وفي ذلك ما يدل على تلك الحالة النفسية التي كان يمر فيها الشاعر والتي تشبه إلى حد بعيد حالة من التيه والضياع والاضطراب وفقدان الاتجاه، والتي أدت إلى كل تلك المشاعر المختلطة والتي كانت تعصف بالشاعر وكانت كأنها تنصهر في بوتقة الصدر...

وهو يرى نفسه وكأنه يهرول في كل الاتجاهات أثناء الليل.. حتى أن ذاته تاهت أو ربما فقدت الاتجاه ووصلت إلى شِعاب بعيدة ومناطق نائية لا يستطيع حتى العسس، وهي قوات الأمن والشرطة والتي دائما تصل إلى أي مكان تريد مهما كان نائيا او خفيا اوبعيدا، لم تستطع حتى هذه القوات أن تفطن لها أو تعرف أين هي هذه الأماكن، وفي ذلك ما يشير إلى حالة الكرب والاضطراب والمشاعر المختلطة التي كانت تمر في ذات الشاعر فكادت تفقده الاتجاه.

هنا نجد أن الشاعر أورد كلمات تدل على الحركة وهي ( مسير وهرولة ) وهي كلمات تضفي حيوية على النص وتجعله حيا بل نابضا بالحياة.

إنَّ المَسَافاتِ فِي دَرْبِي مُجَنَّحَــــــةٌ
يَكْبو على إِثْرِهَا البِرْذوْنُ والفـَرَسُ

وبعد أن يتساءل الشاعر أين الوميض؟ وأين السبيل؟ ويصف لنا تلك الحالة من الضياع والتيه وفقدان الاتجاه وانصهار تلك المشاعر الملتهبة في بوتقة الصدر...
ها هو في هذا البيت يخبرنا المزيد عن حالته النفسية فهو يرى المسافات بعيدة والسفر شاق وناءى إلى حد أن الفرس والبرذون، وهو حيوان اشد قوة وجلد من الفرس، تكبو كنتيجة لطول تلك الطريق التي يراها الشاعر مجنحة وبعيدة ومتعرجة وصعبة ووعرة وشائكة...
وفي ذلك كناية عن تلك الحالة النفسية التي يمر بها الشاعر في تلك اللحظة من مناجاة النفس...والتي يبدو فيها الشاعر وكأنه فقد الاتجاه والهدف أو انه يشعر بأن الوصول إلى هدفه أو أهدافه أمر بعيد المنال إن لم يكن ضرب من المحال.

وفي هذا البيت يأتي الشاعر على ذكر البرذون والفرس فيوقظ فينا موروث ثقافي غني كما يأتي على ذكر (المسافات/ ومجنحة ويكبو) وفي ذلك ما يشير إلى الحركة ويجعل البيت ينبض بالحياة أيضا. ويجعل المسافات مجنحة، إي ذات أجنحة، وفي ذلك تشخيص يجعل البيت ينبض بالحيوية.

ولا شك أننا نلمس من خلال النص ذلك الصراع الخفي الذي يدور في نفس الشاعر ربما حول الهدف من حياته وتلك الصعوبات الجمة التي تقف عائقا أمام تحقيقه لأهدافه...والصراع هو عامل آخر يجعل النص يضج بالحياة.

شَوْطًا قَطعْتُ وَشَوْطٌ كادَ يَقْطعُنِــي
وَمُمْسِكٌ بِتلابِيبِ المَدَى النَّفَـــــــسُ

في هذا البيت جمال سحري عجيب وهو فعلا يمسك بتلابيب القارئ، كما يقول الأستاذ الشاعر أبو غريبه، ويحتار المتلقي من أين يأتي هذا الجمال في هذا البيت والذي يشير الشاعر فيه لما حصل له وهو يفكر في قطع تلك المسافات الطويلة التي وصفها لنا في البيت السابق فجعلها طويلة ومتعرجة والسفر فيها متعب حتى على الفرس والبرذون التي تكبو حين تقطعها.
فيخبرنا الشاعر هنا انه قطع شوطا من تلك المسافات الطويلة لكنه كاد يموت وينقطع نفسه أثناء قطعه لما تبقى من تلك المسافات الطويلة وفي ذلك كناية عن طول المسافة وعناء السفر وتشعب الدرب الذي سار فيه الشاعر في محاولة للوصول إلى هدفه أو أهدافه...

وواضح أن السفر الذي يتحدث عنه الشاعر هنا هو ليس سفر حقيقي وإنما هو يتحدث عن رحلة العمر وسعيه لتحقيق أهدافه في رحلة الحياة هذه وهو يقول بأن جزأ من هذه الأحلام والأهداف قد تحقق لكن أشياء كثير كان يرمي الوصول إليها لم تتحقق وكاد سعيه لتحقيقها أن يقتله...فهو يتحدث عن رحلة نفسية وليس رحلة حقيقية، والمسافات هي الدرب الطويل الذي احتاج الشاعر أن يقطعه حتى يتمكن من تحقيق أهدافه....

وفي هذا البيت ما يوحي بالحركة من خلال استخدام كلمات ( شوطا قطعت )، كما يشتمل البيت على تشخيص جميل فالشاعر يصور لنا المسافة وكأنها سيف قاطع، ويصور ( النَّفَـــــــسُ ) وكأن له أيدي يمسك بها...كما انه يصور المدى وكأن له تلابيب...واستخدام كلمة ( ممسك ) توقظ في المتلقي حاسة اللمس..اما استخدام كلمة (النفس ) فيوقظ في المتلقي حاسة الشم..

وقد جعلت هذه الصور والتشخيص والحركة وإيقاظ الحواس ..جعلت هذا البيت حي جميل له وقع سحري ...لكن السر الذي يجعل هذا البيت شديد الوقع ربما يكمن في وصف حالة الصراع تلك والتي تعصف بالشاعر كما يصفها في سعيه لتحقيق أهدافه في هذه الحياة....ذلك الصراع الخفي لكنه صعب كاد يقطع الشاعر ويهزمه في بعض مراحل حياته ..

فَهَلْ أضَعْتُ بِجَيْبِ الوَقْتِ بَوْصَلَتِي
إنِّي لَأطلُبُ آثَارِي وألْتَمِـــــــــــسُ

في هذا البيت يتساءل الشاعر وهو ما يزال يناجي نفسه طبعا...ما الذي جعله في مثل تلك الحالة من الضياع، والتيه وفقدان الاتجاه وعدم الوضوح في الرؤيا؟

ولا شك أن هذا التساؤل هو احد أصوات ذلك الجرس الخفي الذي كان الشاعر يسمعه في داخله...وهو يطرح على نفسه هذا السؤال الاستنكاري طبعا ...فيسأل ما الذي جعله في مثل تلك الحالة النفسية؟ التي أصابه فنتج عنها زخات من الأفكار وكأنها المطر؟ وما الذي جعل صدره مثل بوتقة تنصهر فيها الأحاسيس؟..وما الذي جعله في مثل هذه المتاهة فصار كمثل مركب في بحر مائج هائج تتقاذفه الأمواج؟ وهو نفس الشعور الذي دفعه للتساؤل أين الوميض؟ وأين السبيل؟ الخ..

من هنا يأتي هذا السؤال الاستنكاري في هذا البيت (فَهَلْ أضَعْتُ بِجَيْبِ الوَقْتِ بَوْصَلَتِي ) ..وكأنه رد على تلك التساؤلات ..وكأن الشاعر يقول..هل حدث كل ذلك لأنني أضعت بوصلتي في جيب الوقت؟ أي بسبب عدم انتباهي لأهمية الوقت؟ وعدم استثماره بصورة صحيحة؟ حيث جعل الشاعر الغفلة عن الاستثمار الصحيح للوقت وكأنه بمثابة إضاعة للبوصلة وهي الأداة التي ترشد البحار أو المسافر ليسلك الاتجاه الصحيح.....

فنجد الشاعر هنا يساءل نفسه طبعا ...هل ذلك هو الذي افقدني الاتجاه الصحيح فصار له ما صار وصفه الشاعر في الابيات السابقة باقتدار حيث بين انه كان وكأنه يهرول في كل الاتجاهات، ويدور حول نفسه، ووجد الطريق طويل ومتشعب ...

ولا بد من التذكير بأن السفر الذي يتحدث عنه الشاعر هو سفر رمزي يمثل رحلة العمر وسعيه من اجل تحقيق أهدافه وما حققه من أهداف سعى إليها وما عجز عن تحقيقه من تلك الأهداف...

بينما يشير الشاعر في الشطر الثاني من البيت (إنِّي لَأطلُبُ آثَارِي وألْتَمِـــــــــــسُ) بأنه وحيث حدث ما حدث وحيث أصبح في مثل تلك الحالة فأنه اخذ يراجع نفسه ويدقق في الذي جرى لمعرفه ما الذي حدث تحديدا...فهو يلتمس أسباب ما حدث في مراجعة للنفس....ربما؟

وَما بَرِحْتُ مَكانِي قَيْدَ أُنْمُلَـــــــــــةٍ
وَما شَهِدْتُ زَمَانِي وَهْوَ يَنْتَكِـــــسُ

في هذا البيت ما يؤكد بأن الرحلة والسفر الذي تحدث عنها الشاعر هي في الواقع رحلة روحية أو هي رحلة الحياة بما فيها من سعي لتحقيق أهداف، وبما فيها من تيه حيث لا يدري الساعي إذا كان قد أصاب في مسعاه أو أن الحظ جانبه وربما المصاعب المحيطة فتعثر ولم يحقق ما يصبو إليه من أهداف...حتى دق ذلك الجرس الخفي في ثنايا الروح ينبه الشاعر ليعد النظر في مسيرة حياته ويتساءل أن كان قد حقق أهدافه التي كان يجب أن يحققها..
فهو يخبرنا بأنه لم يغادر مكانه ولم يتحرك حتى قيد أنملة رغم حديثه عن السفر ومصاعبه بتلك الطريقة والوصف البارع.

كما يوضح الشاعر في الشطر الثاني بأن ما وصل إليه هو في الواقع نتاج لماضٍ صعب تراكمت فيه الظروف فصنعته وشكلته ولم يكن له يد في انتكاسته...وكأنه يلقي باللوم على الظروف التي أوصلته إلى تلك الحالة من التيه وفقدان الاتجاه ومحاسبة النفس وإعادة النظر في الأهداف التي حققها...

وفي هذا البيت استثارة لحاسة البصر باستخدام ( وما شهدت ) وفيه ما ينم عن الحركة ( وما برحت ) وفيه وصف جميل للغاية ( وما برحت مكاني قيد أنملة)...

عبد اللطيف السباعي 08-14-2014 01:57 PM

قراءة اخرى في قصيدة..
الجرس الخفي

بقلم: منتظر السوادي

العنوان يحمل تناقضاً ظاهراً ، إِنَّ هذا التناقض يؤجج الفجوة لدى المتلقي ، فيعْمل فكره وخياله باحثاً عن كيفية التوافق بينهما ، لِأنَّ المتلقي يعلم أَنَّ الجرس يهزّ الجدران لا الآذان ، لكنّه في هذا النصّ خفيّ لا يسمعه الآخرون ، فهو جرس من غير صوت ، على الرغم من عمق رناته الاهتزازية لكنه يعمل بخفاء وصمت ، يبدو أنَّ العنوان موفق إلى حدٍّ بعيد حتى مع النغمة الموسيقية في القصيدة وسيطرة حرف السين الصفيري المهموس ، الذي يلاءم خفاء الجرس فكأن الجرس يهمس همساً ، أضف أنَّ العنوان يوافق المضمون بصورة تامة ، رغم هذا الا ان للقارئ وجهة نظر حول العنوان ، باعتبار العنوان هو العتبة الأولى التي منها نلجّ إلى عالم الشعر أو القصيدة فينبغي أن يحمل عنصرَ تشويقٍ يشدّ انتباه القارئ ويجعله مأسوراً حتَّى نهاية النص ، ومن ثمَّ لو كان العنوان " جرس خفي " لكان أكثر تشويقاً للقارئ لأنه نكرة فيبحث القارئ عن معنى هذا الجرس ومدلولاته في النص ، وعندها يكسب المؤلف أول جولة له من الحرب ، على اعتبار القراءة حرب ، ساحتها النص ، وطرفيها القارئ والمؤلف .
مدلول النص أو الفكرة التي يريدها النص هي الحديث مع الذات وحديث النفس معه ، واتسمت النفس بالإيمان أو كان الطابع صوفي في اغلبه ، يلاحظ القارئ ألفاظا صوفية ؛ ( الخفي ، وميض ، السبيل ، الذات ، النفس ، المشوق ، الروح ، أسرجت ، التفكير ، التأمل ) هذه الألفاظ كست النص حلية أو لنقل نغمة عرفانية صوفية ، ومن ثم فالنص عميق الدلالة صعب المراس .
بؤرة النص هي حديث الذات ، وظهر ذلك جلياً في قول الشاعر : ( كنايات الأنا ، الجرس المخبوء في موطن الروح ، يهزني كلما أغفيت ) فالجرس هو حديث من أعماق الروح يهزُّ الكيان هزّاً ، ويرن كلما غفل البطل عن هدفه ، يعلو منه عتاب وتأبين إن أغمض عينه ، أو وضع آماله في غير موضعها ، فقال :( أسرجت قافيتي إلى المنى ) ، ويبدو أنَّ هدفه العودة تائباً إلى الله ، بدلالة الدمع ، فالدمع يرافق التائب في توبته ، وكذا يُلاحظ أَنَّ البطل في البيت السابق قال : ( أنا المشوق إلى ما فات من زمن ) فالندم يصحب البطل ، والتوبة أولها ندم ثم تسرج القافلة في الرحلة إلى الله تعالى ، ويمسك التائب وهو على ناقة التوبة بزمام الدموع ؛ دموع الندم على التفريط .
أيْنَ الوَمِيضُ وَهَذا الصَّدْرُ بَوْتَقَةٌ = حَمْرَاءُ مِنْ كُلِّ إحْسَاسٍ بهَا قَبَسُ
أيْنَ السَّبيلُ... مَسِيرُ الذاتِ هَرْوَلَةٌ = فِي مَهْمَهِ الليْلِ لَمْ يَفْطِنْ لَهَا العَسَسُ
نجد البطل يناجي نفسه ، يقارن حاله المتعب المهرول نحو الفناء المستعر بأحاسيس غريبة كثيرة من كل نوع ، والتي أرهقت القلب وجعلت منه بوتقة مستعرة حمراء تصهر الروح مرات تلو المرات ، وبما يرغبه من طمأنينة بيضاء مستقرة وتوقف تلك الهرولة في عتمات المجهول ، فهو يريد الوميض الذي يشق القلب ويغرس فيه النور وينزل فيه الغيث ويطفئ النار الهائجة بالأحاسيس المختلفة ، بعد هذا الوميض يريد الدرب الصحيح ليسلكه بصمت وتأمل ويترك الهرولة في العتمة ، ومن ثمَّ فيلاحظ القارئ أنّ النص موفق في تلازم الوميض مع السبيل فالنور هو الذي ينير الطرقات بل النور هو يغرس الاطمئنان في الفؤاد ومن ثم يسلك الدرب الصحيح ، يقول الأمام علي بن أبي طالب عليه السلام ( النوم على يقين خير من عبادة على شك ) فالنور يغمر النفس ثم تسلك طريق العبادة مع تأمل كما جاء في آخر النص :
( تمر بي كلمات النهر صامتة ***** صوت التأمل محفوف به الخرس )
فعودة البطل مفكراً في عجائب خلق الله ، وصامتاً بأفضل أنواع الصمت إنّه التأمل ، والتفكير في الخلق خير من عبادة عمياء ، لذا فيُلاحظ أنّ البطل لما رأى العالم غائراً في الضبابية وعدم الوضوح ، بعد أن تغيرت الأَشياء رنَّ الجرس في أعماق الروح ليعود إلى نفسه باكياً ومفكراً على هذه الحال التي تعيشها الأمة .
أُجَالِسُ النَّهْرَ مَفْتونًا بِجِدَّتِهِ = لا يَسْتَحِلُّ خُدُودَ الضِّفَّةِ الدَّنَسُ
أُلْقِي بهِ زَوْرَقِي المَشْبُوبَ عَاطِفَةً = لعَلَّهُ عَنْ لِقائِي لَيْسَ يَرْتَكِسُ
لعَلَّ أشْرِعةَ الآتِي تَجُوبُ بهِ = أعْمَاقَ رُوحِي فَيَبْلوهَا وَيَنْغَمِسُ
الأبيات هذه تروي حال البطل ،لا بل هو يروي حاله ، ربما يرمز النهر إلى الحياة المتجددة والعلاقة بين الماء والحياة جلية ، وربما النهر رمز يدل على الدنيا ، وتتجدد الحياة في الدنيا يوما بعد يوم ، ويبقى الإنسان مفتوناً فيها ، حتى حين . وقد رمز البطل إلى عيشه في هذه الحياة بـــ( زورقي ) انه سائر في الدنيا / الحياة ( النهر ) حتّى الموت ولقاء الله تعالى ، ويختم هذه الرحلة بترجٍ لتكون أعماق الروح مؤمنة ببلاء الله .
وهناك معنى آخر للنهر يبدو اقرب للتأويل لدى المتلقي المسلم وهو أَنَّ النهر يراد به ( القرآن الكريم ) فالقرآن الكريم نهر تغرف منه البشرية العلوم النافعة والشفاء والأمن والطمأنينة ، أضف أن القرآن لا ينضب أشبه بالأنهار – إن جاز لنا التشبيه بل ان النهر ينضب وكلام الله لا ينضب - والبطل متعجب من تجدد القرآن عند كل قراءة ، ثم يلقي بنفسه بين آياته بعاطفة الحب والتلذذ ، عسى أن يكون اللقاء غير خاسر ، ثم يردف بـــ عَلَّ آيات القران تدخل أعماق الروح وتُغرس هناك ، وتنفعه يوم تبلى السرائر ، ويختم القول بأنَّ كلمات القران تمرّ على قلبي فيصمت متأملاً خاشعاً خرساً لله تبارك وتعالى ، لأَنَّه يطبق قوله تعالى (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )

عبد اللطيف السباعي 08-14-2014 02:00 PM

إضاءات نقدية موجزة على قصيدة (غربة القلب) للشاعر عبد اللطيف السباعي (غسري)
بقلم: الناقد والأديب المصري الأستاذ محمد عبد السميع نوح

غربة القلب



تأوّهَ الطِيبُ في أعطافِها نــَــــــوْرَا
فاجتثّ من لِينتِي أفنانَها الحَــــــرّى



وقدّ من مقلة الأشواق زُنبُـــــــــــقة ً
تنفسَ الليلُ من إشراقِها فجـــــــــــرا



فالتاعَ مني شغافُ الوجدِ، جندَلنِــــي
والشوقُ حمّلني أثقالـَه الكبــــــــــرى



هل كان في نيتي أن يُسْتدَرّ دمـــــــي
هل كان من عادتي أن أصْرَعَ البحرا



هامتْ على زورق الآهاتِ قافيتـــــي
ما زلتُ أُتبعُها عِلاتِها العَشـــــــــــرا



الهمّ والحلمَ والوهمَ الذي بيـــــــــدي
والعطرَ والسحرَ والأسرارَ والخمــرا




وغصة ًفي حلوق الليل رابضــــــــة ً
طورًا تمورُ وتعلو تارة أخــــــــــرى



والحِبْرَ إذ يعتلي رأسَ اليراع لـــــــه
لونُ الطحالب يغزو السطحَ والغـَـوْرا



وصفحة َاللوح إذ يلهو البياضُ بهـــــا
مستبشرا، ثغرُه بالبسمةِ افـْتــَـــــــــرّا



فألـْقـَمَتـْنِي الخطايَا قعْرَ هاويـــــــــــةٍ
كالسحر يَأسَرُ مني الحِقـْوَ والصــــدرا



يا غربة َالقلب في أدغالِ فاتنــــــــــةٍ
تتيهُ في تِيهِهَا أحلاميَ السكــــــــــرى


فتشتُ عن لغةِ النجوى بذاكرتــــــــي
فما وجدتُ سوى ما يَقدَحُ الجمـــــــرا



أينَ الجنونُ الذي أقعَى بناصيتــــــــي
واختطّ للبوح فيهَا أسْطـُرًا حُمْـــــــــرا



واجتزّ من جسدِ الأشعار خاصــــــرة ً
ومن سماء القوافي أنجمًا خُضــــــــرا



لا شئَ يَرْبأ بي عن وأدِ خاطرتــــــــي
في تربةِ الصمتِ ما قد يُنبتُ الزهــــرا


المغرب
18/8/2009

1

عنوان القصيدة نثري مفعَّل على تفعيلة الرمل + حركة واحدة : غربة القلْ (فاعلاتن) +بِ (فَ)

2
يتخلق الكائن الفني على شكل تراتبيٍّ اعتمد على مفارقة خارقة للعادة في البداية ثم تولدت عنها كافة المفارقات والمواقف الساخنة في القصيدة ، انتقل الشاعر في ست قفزات أولية هي الشطرات للأبيات الثلاثة الأولى ، ثم ومن أول البيت الرابع ينطلق السؤال الفاتح للحالة الشعرية للغربة وتتفرق.. فيعد علات القافية التي هي علات غربتة متماهيتين في تناص مع الوصايا العشر وفي حالة تركيز ووعي تام بالقضية ، وقد استعان غسري بمقدرته الفائقة في تطويع اللغة واللعب على العروض الخليلي بمهارة ضفرت الكلام والموسيقى في شعر حقيقي قاصدا بذلك إثارة دهشتنا وهو نجح في ذلك بلا أي شك.


3
ميزة غسري أنه لم يغفل القارئ لحظة واحدة ولم يغب عن باله أنه يخاطب مستويات متباينة من الثقافات فوقف بالتجربة ( هو الذي وقف ولم يوقَف قسرا) على مستوى ما هو شعر وشعور يتلقاه الذوق بترحاب وينفعل معه انفعال الغربة الذي انحكمت به القصيدة ،
وانظر إلى مطلع القصيدة:

تأوه الطيب في أعطافها نورا == فاجتث من لينتي أفنانها الحرى
وقد من مقلة الأشواق زنبقة == تنفس الليل من إشراقها فجرا

الصورة مغرقة في الجمال ، لا ينتقص من جمالها الإقرار في الأفعال الماضية الأربعة : تأوه ـ اجتث ـ قدَّ ـ تنفس .. إقرارا لا يقبل الشك ، ولا بأس لأن التجربة تتحرك في واقع الحياة تحوله إلى هذا الشعر.

4

انظر إلى هذا التركيز الشديد والصحو والوعي الشديد والبصر الحديد :

هامت على زورق الآهات قافيتي == ما زلت أتبعها علاتها العشرا

ثم هو يعدد العشر العلات في نسق منطقي دقيق:

الهم والحلم والوهم الذي بيدي == والعطر والسحر والأسرار والخمرا (7علات(
وغصة في حلوق الليل رابضة == طورا تمور وتعلو تارة أخرى (واحدة(
والحبر إذ يعتلي رأس اليراع له == لون الطحالب يغزو السطح والغورا(واحدة(
وصفحة اللوح إذ يعلو البياض بها == مستبشرا ثغره بالبسمة افترا (واحدة(

وكان اصطدام المنطق / العقل والفكر بالعاطفة / البديهة والموهبة التلقائية أثر في مجيء العلات السبع الأولى في بيت بينما الثلاث الأخريات كل واحدة في بيت ، ذلك اصطدام أنتجه الالتزام العروضي من جهة ومنطق النص الشعري الواقعي بدرجة ما من جهة أخرى .. أليس من حق المتلقي أن يسأل الشاعر في أمر هذه القسمة بين العلات ومساحتها على الورق ؟ وما دام منطق النص الشعري كذلك فإنه لايمنع من أن يكون منطق التلقي كذلك أيضا .

5
ويقدم الشاعر الحكمة وشيئا من خلاصة تجربته الحياتية فنجد الحكمة عند غسري مستلة من كل تراثنا الديني والشرقي ، وأن عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم .. وقد يجعل الله سره في أضعف خلقه ، وما إلى ذلك مما يدور حول هذا المعنى ، يقول غسري :
لا شيء يربأ بي عن وأد خاطرتي == في تربة الصمت ما قد ينبت الزهرا

6
تقدم قصيدة غربة القلب لغسري تجربة فريدة أيضا في تواطؤ الفكر مع الوجدان في إنتاج حالة شعرية صادقة ، الفكر والعاطفة ، العقل والموهبة فيزول ما بينهما من تنافر في قصيدة استفادت من المنطق الرياضي البحت ومن العاطفة الإنسانية الرفيعة في آن واحد

7
في هذه القصيدة نجد "غسري" في تجربة منطلقة إلى آفاق الشاعرية محتضنا الإنسانية بأوجاعها وأفراحها دمه في دمها وواقعه من واقعها يناقش قضية الغربة القلبية بموضوعية تلبس من الشعر حلل الاستعارة والمجاز والصورة الدافئة.

عبد اللطيف السباعي 08-14-2014 02:09 PM

[SIZE="4"][COLOR="Black"]
وفيما يلي قراءة مستفيضة لشاعرية عبد اللطيف غسري..



جلسة إلى الشاعر المغربي
الأستاذ: عبد اللطيف غسري


بقلم الأديب والناقد المغربي الأستاذ محمد داني



ـ مدخل
ـ المقدمة والاستهلال في قصائده
ـ الشكل والمضمون في شعره
ـ اللغة الشعرية في شعره
ـ الموسيقى الشعرية
ـ التكرار في شعره
ـ المعارضة في شعره
ـ الصورة الشعرية في شعره
ـ مفهوم الشعر عند عبد اللطيف غسري
















مدخل:
نصوص شعرية لفتت انتباهي.. وجرت فضولي لدخول غمارها.. والإبحار في ينابيعها...
ما إن دخلت عالمها حتى وجدتها تحمل طاقة جمالية ،وفنية أغرتني بالتناول...طاقة فجرت دهشتي.. وأسالت تفاعلي معها.. فتيقنت أنني أمام شاعر مغربي يعي ضمن متخيله تبادل الأدوار بين المرسل( الشاعر)، والمرسل إليه( المتلقي)، أثناء عملية القراءة...
صحيح أن هذه الدهشة التي تولدت جراء اتصالي بقصائد هذا الشاعر المغربي، تطلبت مني اعتماد أحكام قيمة.. وتوسل مقاييس أثناء قراءتي المتعددة.. متوسلا التأويل ، والتفسير والتساؤل.... وكل هذا لأبرر الدهشة الجمالية التي فجرتها في هذه النصوص الشعرية...
إن الأمر:"يتعلق بتأمل الذات في بعدها الحقيقي، والعميق والحفر في الوجود واللغة والمتخيل لنستعيد مع الشعراء لحظة الإبداع الممتدة في اللانهائي"[1]...
إن الشاعر المغربي الأستاذ عبد اللطيف غسري الذي سنكون في ضيافته الشعرية، جعلنا نسكن الفن والشعر، والجمال، وسحر الكلمة، ورقة الصورة من خلال الشعر...فهو يفرش لنا ذاته عبر اللغة، والصورة.. ليجعلنا في حضور الدهشة، نتماهى الشعر ومتخيله...
أول ما يسترعي انتباهنا عند أول لقاء مع نصوص الشاعر عبد اللطيف غسري، هو الشكل الشعري الذي اعتمده.. ليجعلنا من خلال التواصل الأولي نسترجع مرجعية القصيدة.. في تاريخها الشعري العربي... فنتذكر ارتباط هذا الشكل المعتمد في الكتابة بالإنشاد، والسماع، والمشافهة، والإلقاء...مع التركيز على النبر والإيقاع، والموسيقى، والتعبير الجسدي( الحركات، وملامح الوجه)، وكلها آليات تدخل في البناء الشعري ، وطقوسه....
لكن حاليا.. تراجع هذا المنظور الصوتي، فاسحا المجال أمام الحضور القوي للخط، والطباعة.. الشيء الذي نقل النص الشعري من ميزته الشفوية إلى مجال آخر ، هو الكتابة...مما ربط الشعر بالسيميائية...وهذا يدفع المتلقي إلى التسلح باستراتيجية قرائية مخالفة لاستراتيجية التقبل السماعي...
إن الشكل العمودين الكلاسيكي، والذي يهيمن على جل قصائد شاعرنا سي عبد اللطيف غسري، والذي اختاره عن وعي، يجعلنا نتوقف طويلا أمام هذا الاختيار لمحاورته، واكتشاف جمالياته...
والقصائد التي اخترناها لمحاورة الشاعر عبد اللطيف غسري، هي:
- طبق لطعام الليل وأرغفة القلب
- فراشة الشبق
- قلم ينز حلما
- حدود حماي صوت الهجرس
- هل أشتكيك لبعض أنسام الدجى
- أنا شبح يختلي بالمرايا
- عاشق الكفتة
- فلسطين يا منتهى شجني
- رباعيات عاشق
- عصر المغاوير
- بغداد يوم الكريهة
- غربة القلب
- سيف الملامة
- يا سيد الليل
- قبس العندليب من ألحانك..


[1]- آيت اوشان، (علي)، الذاكرة والصورة، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، ط1، 2005، ص:7


عندما نرى هذه القصائد المختارة، تستلفتنا العناوين المصدرة لها.. وكما قلنا في كتابات سابقة، أن العنوان له سيميائياته ، ودلالته،ووظيفته في التشكيل الشعري...
وهنا يحضرنا تعريف ل(ليو هوك) للعنوان، إذ يقول:" هو مجموعة من الأدلة اللسانية التي يمكن أن تعتلي النص والإشارة إلى محتواه العام، وإغراء الجمهور المقصود"[1]...
وقد أدى العنوان في مجموعة النصوص الشعرية هذه، وظيفة جذب وتشويق.. ومساعدة على القراءة والتأويل... وكل العناوين تأتلف في صيغ اسمية كلها مركب، ما عدا قصيدة واحدة، فقد جاءت تأتلف في صيغة فعلية، وهي(هل أشتكيك لبعض أنسام الدجى).
ونستنتج من هذا كله :"أن الشاعر يحاول بهذه الصيغ والتراكيب الاسمية النفاذ إلى المكونات الثابتة في بنية اللغة قصد إعطائها أبعادا بلاغية تخرجها من دلالتها المباشرة إلى دلالات رمزية وجمالية"[2]...
كما أن هناك ملاحظة ملفتة، وهو أن الشاعر عبد اللطيف غسري قد صدر بعض قصائده بحاشية، يحدد من خلالها اسمه ولقبه، وتوضيحه أو دافعيته في كتابة هذا النص الشعري أو ذاك... مثل :(فراشة الشبق)،و(حدود حماي صوت الهجرس)، و( هل أشتكيك لبعض أنسام الدجى).. والتي يبين فيها معارضته لبعض قصائد الشاعر الكبير الدكتور مصطفى الشليح( سينيته)(ونرجس لا تنبس)، والرد عليه...أو يبين من خلاله إهداءه هذا القصيد للشاعر الشليح.
وهذا التصدير أعطى للقصيدة دلالتها.. وحدد سياقها.. وأزال بها الملابسات الخاصة بإنتاج بعض هذه النصوص الشعرية... وهذا حقق من خلاله الشاعر عبد اللطيف غسري غايتين:
1- الحفاظ على التقليد الذي عرفته القصيدة العربية التقليدية، كما نجد عند شوقي وحافظ وشعراء البعث، والمدرسة الكلاسيكية..
2- البحث عن ربط ميثاق ، وتشكيل تعاقد ضمني مع المتلقي، يوجه من خلاله ظروف النص، ومعناه.. والإعلان عنهما بصراحة...
ملاحظة ثانية... نستنبطها من قراءتنا الأولية لهذه النصوص الشعرية... وهي أنها – كلها- خالية من علامات الترقيم...كأننا أمام قراءة إيطالية لا تعتمد علامات الترقيم.. مع العلم ،-وهذا يعلمه الشاعر عبد اللطيف غسري جيدا- أن لعلامات الترقيم بعدها الصوتين والتركيبي، والدلالي، والتداولي..فهي ليست علامات ، أو رموز للزينة.. نوزعها في النص اعتباطا.. بل إنها تمتلك دلالات تعيينية وإيحائية... بالإضافة إلى تضمنها توزيعية الكثافة الصوتية من جملة إلى أخرى، والعلاقة بين مكوناتها...ولا أدري لم حذف الشاعر عبد اللطيف علامات الترقيم من قصائده... هل ليترك للمتلقي مبادرة المشاركة في تحديد إيحائية الجمل الشعرية؟... وحدودها؟...أم أنه يمتنع عن ترقيم قصائده حتى لا يعطيها معنى مضادا؟...أم أن طريقته في الكتابة مبنية على الاسترسال، وترقيم الكتابة ينبني على الإدراك بحدود البنية الصوتية وامتداداتها، وارتداداتها؟...وبما أن الكتابة عنده مبنية على الاسترسال، فهذا يتطلب منه انسيابية ترتكز على محو الفواصل.. وأن المعنى واحد يبدأ من أول كلمة ، ولا ينتهي إلا بانتهاء القصيدة....؟...أو ربما، أن الشاعر لا يومن بسلطة العلامات الترقيمية على لغته الشعرية؟...
شخصيا...أجد أن هذه الظاهرة تعود إلى طقوس الكتابة عند الشاعر عبد اللطيف غسري..طقوس نستشف من خلالها حالة القلق التي يعيشها وهو يكتب الشعر.. فهو في لحظات المخاض والولادة، يعبر عن الذات الشاعرة وما يلتبسها من وحي شعري...وعندما تتلبسه الحالة الشعرية..وحالة الكتابة، لا يعرف حدودا لما يكتب.. ولذا تنتفي العلامات الترقيمية.. لأنها تشكل عيا، وحصرا.. وانقطاعا لهذه الانسيابية التي يعيشها ويحياها...
- البياض والسواد:
عندما ننتقل من السماع، والمشافهة إلى عملية القراءة البصرية.. تأخذ النصوص الشعرية مجالا ثانيا، هو المجال المكاني.. وبالتالي ، هذه القراءة تبين حيزها المكاني، أو علاقتها مع الفضاء.. ومن ثمة تصبح خاضعة لقانون تشكيلي مرتبط بالفضاء.. وجماليته...
هكذا ، عندما نقف إلى قصائد عبد اللطيف غسري، نجد أن الفضاء متساو، ومتناسق، لا تفاوت فيه...وبالتالي يتساوى البياض والسواد، ولا يركب أحدهما الآخر.. ما دام الشاعر قد اعتمد الشكل العمودي ذي الشطرين، بناء وتشكيلا في جل قصائده...


[1] - Gérard , genette : Seuils, ed, De . Seuil, 1987 ; p : 54

[2]- علي آيت أوشان، المرجع نفسه، ص: 18

المقدمة والاستهلال في قصائده

لقد أدرك الشاعر عبد اللطيف غسري، أن للقصيدة العمودية تقنياتها في تواصلها مع المتلقي...مع العلم أنه يضع أمام عينيه طريقة الشاعر العربي في بناء قصيدته..وكيف كان يعتمد الطرق العديدة لجلب الأسماع إليه، وشد السامعين...
وشاعرنا عبد اللطيف يعي جيدا ، أن حسن الاستهلال يصرف الأسماع والقلوب إليه..لأن:"حسن الافتتاح واعية الانشراح، ومطية النجاح"[1]...
ويدرك أن الشاعر العربي القديم كان يستهلل قصائده بالنسيب ا الوقوف على الأطلال، والدمن... وهذه الطريقة في الأداء عمل بها شاعرنا عبد اللطيف ن ولم شيد عنها.. وبالتالي جاءت قصائده متكونة من:
- مقدمة.
- موضوع.
- خاتمة.
ولكن هذا لا يصدق على كل قصائده..بل جاءت بعضها بدون مقدمات، أي جاءت بتراء...
والمقدمات التي استعملها عبد اللطيف غسري، إما مقدمات رسمية، وتشتمل على المقدمة الطللية... أو مقدمات ثانوية، وتهتم بالنسيب، ووصف الطبيعة، والبكاء على الشباب، والتأسف، والشكوى، وما إلى ذلك...
ومن القصائد التي اعتمدت المقدمات الرسمية، وتضمنت الوقوف على الأطلال، والديار والرسم...قصيدته (قلم ينز حلما)، والتي يقول فيها:
هذي رسوميَ أطياف وأشياء++++ وأوجه مستطيلات وأفياء
معشوشب قلمي سود غمائمه++++ تسوقها ألف في إثرها ياء
شعاره خطفة للضوء مبصرة++++ لا خطوة في دروب الظل عمياء
لا يبرح المزن في آفاقه نزلا++++ عروشها كنوايا البحر علياء
وقصيدته (أنا شبح يختلي بالمرايا)، والتي يقول فيها:
تبعثرني ولولات الصدى++++ ولغو يدك حصون المدى
فأرتد صوتا كوجه المساء++++ يلملم أنفاسه مفردا
صحوت وفي الصحو بعض قفول++++ إلى خبر ينثني أوحدا
ومن القصائد التي اعتمدت المقدمات الثانوية، والتي تضمنت استهلالا حول:
- لحظة رؤية الحبيب ومروره: مثل قصيدته (تمرين بي)، والتي يقول فيها:
تمرين بي لكأني الشجون++++ وغيماتها أو كأني السكون
أنا واقف في زوايا اشتياقي++++ تعيش بثوب ربيعي السنون
أصارعُ وجديَ في درب صمتي++++ ويَصرَعُني مِن شذاكِ الفُتون
- وصف لحظة عشق، ووله. مثل قصيدته( رباعيات عاشق)، والتي تغرق في الوصف والنسيب، والتي يقول فيها:
متيمتي نور فجر أطل++++ يشد العقول ويسبي المقل
نسجت لها من دمي بردة++++ مطرزة بخيوط الغزل
خريدة حسن لها سمرة++++ بلون الغروب إذا ما اكتمل
أسيلة خد لها طله++++ تميت الشجون وتحيي الأمل
- البوح والنداء، والتباريح: كما في قصيدته( فلسطين يا منتهى شجني)، والتي يقول فيها:
فلسطين يا منتهى شجني++++ ويا مصدر السقم في بدني
ويا وهجا في الفؤاد مضيئا++++ يراود ذاكرة الزمن
يعود فيبحر في كل يوم++++ بموج الضمير بلا سفن
- وصف الطبيعة وحالة الذات الشاعرة: كما نجد في قصيدته( غربة القلب)، والتي يقول فيها:
تأوه الطيب في أعطافها نورا++++ فاجتث من لينتي أفنانها الحرى
وقد من مقلة الأشواق زنبقة++++ تنفس الليل من إشراقها فجرا
فالتاع مني شغاف الوجد جندلني++++ والشوق حملني أثقاله الكبرى
- الشكوى، ووصف الليل: كما نجد في قصيدته(يا سيد الليل)، والتي يقول فيها:
يا سيد الليل والأفراس والمال++++ متى ستسمعنا من برجك العالي
اهبط إلينا نبادلك القلى مقة++++فبسمة الدهر لا تبقى على حال
جدد عراك التي قدت حبائلها++++ بغفلة منك في الماضي وإهمال
وساند الناس في خطب وضائقة++++ واسق الورود بماء منك سيال
هكذا نجد تنوع المقدمات في شعر الشاعر عبد اللطيف غسري، وبالتالي تنوعت معها المواضيع من حب ووصف للطبيعة، واهتمام بالقضايا العربية المعاصرة، وما إلى ذلك...


[1]- الحسن بن رشيق القيرواني،العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق : منحيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، ط5، 1981،ج 1، ص:217





الشكل والمضمون في شعره

عندما نتمعن جيدا في شعر الشاعر عبد اللطيف غسري، نجد انه شعر واقعي في مجمله.. وبالتالي نجزم أن شاعرنا شاعر واقعي ، ملتزم...
نعم.. رب قائل : إن عبد اللطيف غسري لا ينتمي إلى الواقعية الصرفة في شيء...في تصوير تجربته الشعرية..وانه حافظ على النمط الموروث، وانفتح على مواضيع عدة، وبرؤى مختلفة...
شاعرنا آمن بالحب والحياة..والعلاقات الإنسانية...فقد كان إنسانا قبل أن يكون شاعرا.. وما زال الشاعر يحمل الإنسان.. ولذا كانت عينه على كل شيء...يلتقط المواقف، فيعبر عنها شعرا عندما تحرك سواكنه.
عشق الحياة.. والجمال...والطبيعة...والإنسان...فاستمد من هذا العشق مضامينه الشعرية....فكانت قصائده لا تخلو من قيم، ورؤى، ومبادئ...وبالتالي كانت قصائده عبارة عن تداعيات نفسية...وعبارة عن بوح شعري- إن جاز لنا ذلك- ... ولو عن غير قصد... ومن ثمة تنوعت الأغراض في شعره.. واختلفت المواضيع...فكان كالنحلة البهية، لا يمتص إلا رحيقا، ولا يمد إلا عسلا مصفى...
ففي حديثه عن الصداقة نجده يصف صديقا له في جلسة عفوية.. يصف شغفه بالكفتة، ونهمه.. تصويرا جميلا لا يخلو من صدق ، وعفوية....نشتم فيه مدى الحب الذي يكنه لهذا الصديق...ومدى الألفة والصداقة التي تجمع بينهما، ولو أن وصفه يعد من باب النميمة...
كما أننا نجده في غزلياته- إن شئنا- يصور المشاعر الإنسانية بدقة متناهية، ويصور حالة الفرح والانتعاش التي تكون عليها النفس،وهي في حالة غرام، وهيام.. أمام الحبيب.
وفي قصيدته(فلسطين يا منتهى شجني)و( بغداد يوم الكريهة) نراه يصور ألمه.. وحزنه... وما يحس به من فجيعة اتجاه بلدين عزيزين( فلسطين)و( العراق).. ومن خلال معاناته وحزنه يتمرأى لنا معاناة الشعبين العراقي والفلسطيني...
وشعر عبد اللطيف غسري، يظهر من خلاله أنه شاعر مجيد...كالشعراء الكلاسيكيين.. اهتم بالشكل واعتنى به كثيرا... من خلال اعتماده على عمودية الشعر، والصياغة اللفظية.. وجمالية العبارة الشعرية...
صحيح أن له قصائد تفعيلية ، لكن الغالب عليه هي: القصيدة العمودية، لأنه يجد فيها سواكنه، ولذته...
والجميل في شعر عبد اللطيف غسري، هو أننا نجده متعدد المواقف.. حيث نجد أن تجربته الشعرية متنوعة الاتجاهات، والمذاهب.. فهو شاعر كلاسيكي لا يختلف عن رواد الكلاسيكية(شوقي- حافظ- مطران-الرصافي- الجواهري-.....وغيرهم).
وأحيانا نجده رومانسيا متأثرا بمدرسة أبولو.. فلا نجده يختلف عن الشابي، والهمشري، وأبي شادي،والأخطل الصغير،وصالح جودت،وغيرهم...
وأحيانا نجده حداثيا، يسير في ركب شعراء الحداثة: أدونيس، والبياتي، والسياب،ودرويش، وغيرهم...
فعبد اللطيف غسري، لم يسجن نفسه في حيز معين، وبالتالي لم يتقيد بمبدإ ما .... وهذا ما وفر له نوعا من الحرية في الاختيار، والتعبير، والرؤية... وبالتالي كان شاعرا حرا، غير ملزم...أو الانطلاق من فلسفة معينة...
لذا كانت قصائده قناعات ، واختيارات، تصبو من رؤية خاصة للحياة.. ومعايشة للأحداث... ومعاناة ذاتية... فهو شاعر مطبوع.. يعرف مدى الرسالة الملقاة عليه...
وتجربته الشعرية، لا تخلو من روح المعاصرة... دون الإغراق في الحداثة والتجديد المسف...ومن ثمة لا نجد في شعره غموضا.. أو لبسا..أو ألغازا...كما نجده خاليا من الركاكة، والفظاظة، والإسفاف، والخلط بين الأجناس الأدبية...
وفي كثير من قصائدهن نجد رومانسيته ظاهرة للعيان.. تتدفق منها مشاعره وشعوره.. يغلب فيها الشكوى، والحنين، والأنين،والقلق،كما نجد في قصيدته ( رباعيات عاشق)، والتي يقول فيها:
إذا حدثت شاقني صوتها


وحملني نشوة كالحزن


وعلمني كيف تحلو الحياة


وكيف يلد مذاق الشجن


وكيف يصير الهوى جنة


وكيف تهون جميع المحن


لمن حلمه أن يعيش كعنـ


ـدليب يغرد فوق فنن


+++++++


إذا الليل جن علي استوى


لدي الكلام وصمت الحجر


أبيت أعد نجوم السماء


وأبحث عن وجهها في القمر


إلام أظل أسير الهموم


يعذبني حبها بالسهر


إذا الشوق زاد اكتفيت بأن


أرى سحرها في كتاب الصور

وشعره يمتاز بالوحدة العضوية:"لأن وحدة الشعور والإحساس الذي ينتظم أجزاء معظم قصائدهن نراها تكون ما تشتمل عليه القصيدة من صور وموسيقى وتعبيرات، بلون واحد نابع من الموقف النفسين المسيطر على الشاعر لحظة إبداعه القصيدة"[1]..
وبالتالي ، يلتقي الفن بالشعور عند عبد اللطيف غسري.. كما تلتقي الوحدة الفنية بالوحدة الشعورية في قصائده...لأن كليهما واحد..
قصائده لا تخلو من صور بديعة....وراقية...وهذا يبين مدى الخيال الذي يتمتع به.. وقد استعان في صياغته هذه الصور على الأساليب البيانية المعروفة ( التشبيهات، والاستعارات، والمجازات، والكنايات، والمحسنات البديعية)... وبالتالي استطاع أن يقدم لنا كثيرا من الصور الفنية.. وصبغها بعواطفه، وأحاسيسه، وجمال نفسه...دونما صنعة أو تصنع...
وقد برع كثيرا في خلق صور غير قابلة للتجزيء.. والتي حولت القصيدة إلى لوحة فنية شاملة.. ومن هذه القصائد ( عيناك تفاحتان)، والتي يقول فيها:
عيناك تجترحان الرشق بالخفر


وتجرحان خدود الماء والقمر


عيناك تفاحتان امتدتا وهجا


في قامة الليل أو في باحة العمر


النبض إثرهما يغفو على شغف


والقلب بينهما يصحو على سفر


سافرت كالشفق المبتل صوبهما


ما للبنفسج في عيني من أثر


أشتم رائحة الوقت المراق على


ثوب الطريق وفوق العشب والصور


وأشرئب وكلي للسنا ظمأ


ظل الأماني بساط قدَّ من شرر


يممت شطر التباريح التي غربت


في أفق خاطرة مشدودة الوتر

حيث يصف فيها عين حبيبته.. فيشبههما بالتفاح، وبالبحر.. ويبين فيها لوعته، وشوقه وحنينه إلى رؤية هاتين العينين القتالتين...وأمام جمالهما ، يطلق لنفسه العنان لتصف كما تشاء... وهي ترى فيهما الدنيا ..فنجد صورا ووصفا جميلا يرشح صبابة.. إنها تعرية للذات، وكشف للنفس، وتعرية للخواطر... وفي هذه التعرية صدق العاطفة، والأحاسيس...
ومن الصور المبتكرة والجميلة هذان البيتان.. حيث يصور فيهما الغيم والسحاب، وقد تحولا إلى كتاب، وشرع يقرأ فيه، ويتصفحه.. كما يصور حالته الشعورية، عندما انتابته الأحلام، وتحولت إلى يد تلقي في جرابه حصوات.. وما هذه الحصوات إلا الأحلام التي تلقى في خاطره.. وذهنه.....
أقرأ الغيم سطورا++++ ماثلات في كتابي
وأكف الحلم تلقي ++++ حصوات في جرابي
وقوله أيضا، وهو يصف أسنان حبيبته بالثلج لكثرة بياضها.. كما يصف فمها بالبرقع.. عندما تبتسم تظهر ثناياها البيضاء...فيشع نور يخترق ظلمة الليل... وضحكاتها، وصوتها كاللوز المتساقط.. فهو الجمال يقطر منها ضحكا، وابتساما.. ونظرا ...وعطرا...
كما أن الضوء يعشق خطواتها، ومشيتها ، ويجد فيه جمالا.. أما الورد فيأخذ لونه وحسنه منها:
يا طفلة يتعرى الثلج إن فتحت +++++ أزرار برقعها في هدأة السحر
ويسقط اللوز من شباك ضحكتها +++++ ويستجم الندى في ظلها العطر
ويرتمي الضوء مسكونا بخطوتها +++++ ويشرق الورد من ألوانها الكثر
ويقول عن القصيدة، مصورا أوارها، وعراكها.. وكيف يستعد الشاعر لاصطيادها حيث يعد عدته..إنه يقدم لنا صورة معركة بينه وبين القصيدة.. وكيف يجاهد نفسه ليفوز بها.. إنه يحول قول الفرزدق:"لخلع ضرس أهون علي من قول بيت من الشعر"، إلى قصيدة جميلة حالمة بالصور، والاستعارات:
إذا ظبي القصيدة صيد حيا +++++ فقد شبعت مروج الفكر ريا
وقد لبس الخيال رداء خصب +++++ زكي الروح مؤتلقا نديا
فهل أعددت للكلمات سهما +++++ بلا قوس وسيفا مشرفيا
فتردي شارد النجوى قتيلا +++++ وتصمي في الهوى كبدا طريا
وهل أسرجت خيلك باقتدار +++++ إلى جوزاء حرفك والثريا
وقدت جحافل النبضات طرا +++++ بشعر كنت فارسه الكميا
نعم جرعات قلبي من رحيق +++++ وكم من هضبة تنمو لديا
فأقبل يا وشاح النار أقبل +++++ وأحضر كل قافية إليا
ستحملني إلى خلجان بوحي +++++زوارق كنت أرعاها مليا
يلاطمها عباب في دمائي +++++ وعاطفة تدمدم في يديا
وأصوات تولول في يراعي+++++وتعزف في المدى نغما ثريا
مقامي لا يبث النَّوْرَ إلا +++++إذا كان الضياء له سميا
ويقول في قصيدته (تمرين .. بي) مصورا حبيبته في أحسن بهاء.. وهي تمر به.. ومن أمامه، كأنها الحسن الناطق... على وجنتها الورد .. وفي شفتيها دمه.. وعندما تفتران عن ابتسام .. يظهر صفان من اللؤلؤ الناصع البياض.. وهذا ما يزيد الشاعر افتتانا.. وولعا.. وصبابة...
تمرين ... في وجنتيك الأقاحي +++++ يسافر في لونهن المجون
وفي شفتيك استدارات ورد+++++يكون له الشوق أولا يكون
إذا افترتا عن بياض الأماني+++++رذاذ الرجاء تدر الجفون
ويصور سهره وأرقه، وهو يناجي نجم السماء، باحثا عن قافية، شاردا وراء صورة.. باحثا عن مدخل إلى قصيدة.. إنها لحظات المخاض والولادة.. يصورها بفنية عالية.. فلنقرأ قوله:
يا أيها القلم المصلوب في قمر +++++ناءٍ على كل شلو منه أجزاء
آليت أن تركب الهمس المدوم في+++++ غلالة الصمت لا تثنيك أرزاء
عزَّ اقتفاء النجوم الساريات فما+++++ يغشي مداراتها إلا الأعزاء
فاستشرف الضوء من وجه تهيم به+++++كأن هامته في الحسن جوزاء
وقد أكثر عبد اللطيف غسري من استخدام التشبيهات التمثيلية، والضمنية، التي أعطت للصورة فنيتها وجماليتها.. وبعدها الدلالي المنشود.. وهذا لم يجنح به إلى الخروج عن الذوق العام، أو الإسفاف، أو الإخلال بالحياء العام...
ومن براعته في التصوير، قوله:
أنا الموج ، إن هجت فالبحر لا +++++ تؤوب قواربه ناجيهْ
كتبت تعاويذ للعشق في+++++جبيني وفي الصحن والآنيهْ
وسافرت في القوس والمستطيل+++++وبين الدوائر والزاويه
أعابث صيف المعاني فيحنو+++++وأشرق في شمسه الحاميه
ففي كل الصور التي عرضناها، نجدها لا تخلو من محسنات بديعية.. إذ تتوفر على طباق وجناس، وتورية، وكناية، ومقابلة...

[1]- د. شرف، (عبد العزيز)و ، د. خفاجي، (محمد عبد المنعم)،النغم الشعري عند العرب، دار المريخ للنشر، الرياض، طبعة 1987

اللغة الشعرية في شعره

اللغة أداة التواصل .. والشعر يختلف لغة عن لغة الحديث اليومي..إذ إن لغة الشعر لغة انزياحية...غنية بدلالتها... فنية...إيقاعية... خاصة...والشاعر في لغته الشعرية يتخلص من لغته الأولى التي هي الحديث اليومي...
والشاعر عبد اللطيف غسري، شاعر شاب ، يعي اللغة الشعرية ودورها.. ويعمل على تطويرها.. ويسكب عليها من ذاته، وروحه.. ولذا جاءت لغته مرآة لذاته ، ونفسيته...
وعندما نتمعن في قصائده التي اعتمدناها ، نجده وظف لغة فصيحة، خالية من أي ابتذال... وإذا ما قمنا بعملية إحصائية لأن :"الطريقة الإحصائية تضع يدنا على بعض الترددات التي هي ذات مغزى. فلا أحد ينكر دورها في رصد المحاور التي يدور عليها الديوان أو القصيدة، ولا أحد يجادل في أن تلك الترددات تضمن انسجام النص مع نفسه، ومع النصوص الأخرى التي ينتمي إلى جنسها"[1]...
وفي قصائده العمودية، تظهر لنا المفردات جلية، والتي تشكل قاموسه الشعري. ويمكن ترتيبها على الشكل التالي:
1- السحاب- الضباب- الغيم- قطرات- رضاب- سراب- بخار- ماء- الثلج- موج- فجاج- شعاب- تراب- أدغل- البحر- شاهق- جبل- الخمائل- المطامير- الطوابير- الصخور- الهضاب- دمن- الروابي- الخراب- نوافير- اليباب- متاهات- قوارير-
2- ود- ولهان- عاشق- أحن- شفاف- تهيم- مهجتي- شاق- نشوة- الأشواق- الاغتباط-
3- غامق- محتقن- نور- الغروب- الليل- الفجر- القمر- مورد الخد- الدياجير- نوارا- بياض.
4- شجن- الهم- السقم- الحزْن- العزاء- الشجون- ألم- السعادة- البعد- العدم- الحزَن- المحن- الصمت- وصال- القهر- يرزح- نير- الزيف- ضعف- صرخة- جرح نازف- الرعب- تباكت- عجز- الدمع- جفن ذارف- أثقال- آهات- الحلم- الوهم- غصة- تيه- الجمر- واد- كدمات...
هذا بعض من قاموسه الموظف في قصائده، وهو يبين أنه لا يخرج عن القاموس اللغوي الشعري المعتمد عند الرومانسيين..به يعبر عن ذاتيته وغنائية شعره...
وهذا القاموس نجده يعبر عن حالات نفسية، هي:
1- صورة الطبيعة ومكوناتها...
2- صورة المشاعر والحب، والعشق والسعادة.
3- صورة التيه والحيرة، والصراع النفسي.
4- صورة الحزن، والكآبة والألم.
إن قاموسه الشعري، يبين إقبال الشاعر على الحياة، وانشراحه، وشعوره بالحياة، وبالأمل... وربما وضعه الأسري، والاجتماعي يلعب دورا كبيرا في هذا الاستقرار العاطفي والوجداني، والنفسي...
والأبيات التالية ، تعبر عن هذه الحالة النفسية، التي تشعها الثقة ، والاستقرار النفسي:
ولكنني كل يوم مقيم+++++على قمة الهضبة العاليهْ
لأرشف من قدح المفردات+++++وآكل تفاحتي الغاليه
فظل الفراغات لا يحتويني+++++ولا يكسر الحوض والجابيه
وهذا لا ينفي وجود حالات من القلق، والتبرم، والشعور بالغم.. فهي لا تخرج عن المعتاد، والمألوف عند الشعراء... خاصة عندما يدق العشق بابه... فنحس نبضه ، وتوهج إحساسه.. وتصلب عينيه...واصطخاب دمعه...عندما يرى في معشوقته ما لا يراه غيره...يراها كالشفق المسافر، وفي الترقب يحس بثقل الوقت، وصلابة الزمان...فينتظر ، ويتطلع ، وفي الأخير ييمم شطر التباريح عله يجد راحة النفس، والبدن.. فيحس أمام لهفته وشوقه أنه أصبح تاريخا من الحشرجة.. وأنه من الوجع والألم أصبح يتساقط أجزاء و ذرات...
ورقي وهج خلفي أمم+++++وسفوح تباريحي قمم
أنا تاريخ من حشرجة+++++يتساقط من وجعي زخم
والشجو الصاعد من ورقي+++++ترف لم يألفه القلم
شرفاتي تصهل يا امرأة+++++يتدفق في يدها النغم
ويضيء العشب إذا برزت+++++كسراج تعشقه الظلم
وعندما نتمحص شعر عبد اللطيف غسري، نجد أنه تراوح بين استخدام الجملة الفعلية والاسمية، داخل القصيدة العمودية الواحدة...والجدول التالي يبين ذلك:
الجدول رقم: 1 جدول تصنيفي للجملة الموظفة في قصائده
القصيدة
نوعها
عدد أبياتها
عدد الجمل الفعلية
عدد الجمل الاسمية
كوني لوجودي يا امرأة
عمودية
13
06
07
أنا الموج
عمودية
37
24
13
تقاسيم على أوتار رملية
عمودية
26
12
14
جبين من لجين
عمودية
10
01
09
تمرين بي
عمودية
19
11
08
عيناك تفاحتان
عمودية
17
11
06
ظبي القصيدة
عمودية
18
13
05
فراشة الشبق
عمودية
14
08
06
قلم ينز حلما
عمودية
16
07
09
حدود حماي صوت الهجرس
عمودية
14
10
04
هل أشتهيك لبعض أنسام الدجى
عمودية
10
08
02
أنا شبح يختلي بالمرايا
عمودية
14
10
04
عاشق الكفتة
عمودية
18
10
08
فلسطين يا منتهى شجني
عمودية
20
11
09
رباعيات عاشق
عمودية
20
10
10
عصر المغاوير
عمودية
30
18
12
بغداد يوم الكريهة
عمودية
34
16
18
غربة القلب
عمودية
15
07
08
سيف الملامة
عمودية
34
20
14
يا سيد الليل
عمودية
13
07
06
قبس العندليب من ألحانك
عمودية
15
11
04
المجموع
21
407
231
176
طبق لطعام الليل وأرغفة القلب
التفعيلة
62
19
43
أنين الوتر
التفعيلة
24
08
16
المجموع
02
86
27
59
ويتبين من الجدول أن نسبة الجمل الفعلية بلغت 56،75%، والجمل الاسمية بلغت نسبتها 43،25%.. وتمثل النسبة الأولى غلبة الجملة الفعلية في تشكيل القصيدة الشعرية عند عبد اللطيف غسري..
وقد اختار توظيف الجمل الفعلية لأن الحالة النفسية التي كان عليها ساعة ولادة النص الشعري، تطلب منه ذلك...وهي تدل على القلق الذي يعانيه لحظة القول الشعري، والتوتر الذي يعانيه.. كما أن الفعل يبين به سرعة الحدث، واستمراره، وحيوية الموقف وأثره، ومدى اتصاله بذاته، وبكينونته كشاعر، وكإنسان...
وشاعرنا لا يستعمل الألفاظ الدارجة أو العامية، أو يقوم بتفصيحها.. جل ألفاظه وعباراته فصيحة،تمتح من قاموس شعري متين، ورصين: (شهل- العوسج- السندس- رسوم- أطياف- النوق- جوزاء- الكنس- الأسيل- الخنس- الهجرس- أفنان- فلوات- الهجن- فريدة- الغسق- اليعافير- جحافل- أعطاف- هماز- الهتون- أتون)..

عبد اللطيف السباعي 08-14-2014 02:12 PM

الموسيقى الشعرية

الموسيقى لها اثر على الجو النفسي المرتبط بالصورة الشعرية، والراسم لها... وهي من أهم عناصر الشعر. ولعل الوزن والقافية هما أكثر عناصر الموسيقى أهمية.
والموسيقى- كما يقول الشاعر سليمان العيسى- :"عصب الكلام الجميل شعرا ونثرا، تبلغ ذروتها في الشعر، والذين لا يحسون بها، ولا يجيدونها لا يملكون العصب السليم"[1]. وهذا القول يبين لنا أهمية الموسيقى في الشعر، والقائمة على مجموعة من القواعد.
والموسيقى مرتبطة أشد الارتباط بالمشاعر."لكونها من أساسيات البناء الشعري والشعوري. وعلى هذا الأساس لا يمكن أن يبنى بناء شعري إلا من خلال هذا النسيج الموسيقي الذي تتحول فيه الفكرة إلى لغة شعرية، ومن تم إلى جمل شعرية، ثم أبيات منتظمة أو أسطر شعرية، وأخيرا إلى قصيدة كاملة البنيان"[2].
وموسيقى الشعر نوعان: داخلية، وخارجية.
فالخارجية تتمثل في الوزن والقافية. والوزن هو: التفعيلات والبحور المستعملة في الشعر العمودي، أو التفعيلي. والقافية: هي الكلمة الأخيرة من البيت وحركتها.وقد عرفها الخليل بن أحمد الفراهيدي، بقوله:"هي من آخر حرف في البيت إلى أول ساكن يليه مع حركة ما قبله"[3]. وعرفها الأخفش، بأنها:"آخر كلمة في البيت"[4]
أما الموسيقى الداخلية، فهي نوعان:
1- الموسيقى الداخلية الواضحة، والمتمثلة في المحسنات البديعية، والتجانس بين الكلمات، والحروف.
2- الموسيقى الداخلية الخفية، وهي التي يمكن أن نحسها فيما تشيعه من جو يتلاءم مع انفعال الشاعر ونوع تجربته.
- الإيقاع:
الإيقاع في مفهومه مطابقة للوزن.. لم ينتبه إليه دارسو الشعر القدامى، وأهملوا حركية الإيقاعية:"ولم يلحظه الدراسون إلا من خلال الموسيقى والوزن الشعري، مع أنه كان من أوضح فني العمارة والزخرفة الإسلاميين. كما كان الأساس الذي قامت عليه علوم البلاغة والفن اللغوي"[5].
ويعتبره بعض الدارسين بأنه :"تتابع منتظم لمجموعة من العناصر، وفي الفنون يتكون الإيقاع من حركات( الرقص) أو أصوات ( الموسيقى)أو ألفاظ(الشعر)"[6]
ونفس الطرح أكده ابن فارس ، حيث قال:"إن أهل العروض مجمعون على أنه لا فرق بين صناعة العروض وصناعة الإيقاع، إلا أن صناعة الإيقاع تقسم الزمان بالنغم ،وصناعة العروض تقسم الزمان بالحروف المسموعة"[7].
والدرس الحديث ، اهتم بالإيقاع ، واعتبره مصطلحا انجليزيا، انشق من اليونانية ، بمعنى ( الجريان)، و( التدفق). وتطور ليصبح مرادفا للكلمة الفرنسية( Mesure) المعبرة عن المسافة الجمالية.
ويرمي بصفة عامة- كما يقول عبد الكريم شبرو- إلى التواتر المتتابع بين حالتي الصمت والصوت، أو الحركة والسكون، أو القوة والضعف، أو الضغط واللين، أو القصر والطول، أو الإسراع والإبطاء، أو التوتر والاسترخاء[8].
والإيقاع خاصة الداخلي منه، يؤدي دورا هاما في تعميق الإيقاع النفسي، وفي خلق نغمات وإيقاعات أخرى تتوازن مع الإيقاع الخارجي للقصيدة[9].
وعبد اللطيف غسري يعرف أن أهم قيم الإيقاع : الوزن. وهو يساند المعنى، ويبين العاطفة المتضمنة في النص الشعري:"والقيمة الحقيقية للإيقاع وهو ذلك النوع المسمى بالوزن، لا تمكن في العلاقات الصوتية نفسها، بل في التهيؤ النفسي الذي يحدثه الأثر الأدبي الجيد، من خلال شبكة عظيمة من العادات والمشاعر ، والدوافع، يبدأ من الكلمات الأولى، ويستمر في النمو"[10].
وكما نعرف، فالوزن مجموع التفعيلات المكونة للبيت. وهو نظام من الحركات والسكنات يلتزمها الشاعر في بنائه الشعري.. أي الالتزام ببحر معين.
والوزن يكون من وحدات صوتية خاصة ، يرمز إليها في علم العروض بالمتحرك والساكن، وهي بدورها تتشكل من التفعيلات الشعرية المكونة للبحور الشعرية...
ويرى الدكتور محمد العمري أن المقوم الصوتي الإيقاعي في الشعر العربي ، يتكون من ثلاثة عناصر رئيسية، هي[11]:
1- الوزن المجرد القائم على المقاطع أو التفعيلات،سواء أكانت منتظمة
أم حرة.
2- التوازن أو الموازنات.. ويتألف من عناصر لغوية مشخصة، كونه عبارة عن ترديد الصوامت" التجنيس" والصوائت" الترصيع"، اتصالا وانفصالا.
الأداء ، وهو عملية التجسيد الشفوية، حيث يقوم القارئ أو المنشد بتأويل العناصر الوزنية ، والتوازنية،وما يقع من انسجام واختلاف في تفاعل مع الدلالة ، اتساقا واختلافا.
والشعر يصدر عن رؤيا وليس عن واقعه.. عبد اللطيف غسري، يعتبر القصيدة حركة لا تخضع لسكون أبدا...<< وليس مقياس عظمتها في مدى عكسها أو تصويرها لمختلف الأشياء والمظاهر الواقعية. بل في مدى إسهامها بإضافة جديد إلى هذا العالم..>> [12].
وهولم يتمرد على عمود الشعر والقصيدة الكلاسيكية، بل حافظ عليها ، وأبدع فيها . لكن دون أن ينسلخ إلى حداثة القصيدة العربية.. بل كان محافظا، ومجددا.. فكان شاعرا حداثيا، مبدعا...
والشكل يخضع للرؤيا، فكل رؤيا عاشها ، إلا ووظف لها الشكل الخاص الذي يناسبها... ومن هنا جاء اهتمامه بالقصيدة ككل، ولو يهتم بالبيت الشعري، لأنه يعرف أن البيت سيضعه في حدود ضيقة، وسجن مغلق.. ولذا جاءت قصائده العمودية ذات الشكل البنائي التقليدي معتمدة على التماسك ووحدة الموضوع... يتخللها إيقاع جميل، يطرب الأذن.. وهو واع كل الوعي بان العروض أو البحر الذي يبنى عليه قصيدته هو عنصر من الإيقاع..ولكنه خرج على مضض على العروض، وخرق الالتزام به في قصائده التفعيلية..
وعبد اللطيف غسري بهذا التنويع وهو الكتابة على النمط التقليدي، واعتماد قصيدة التفعيلة، لم ينف من خلاله البيت الشعري القديم. فقد جمع في النموذجين السابقين شكل البيت الشعري...وبالتالي شكل منه نموذجين من النماذج الثلاثة التي حددها الدكتور محمد بنيس في دراسته عن الشعر العربي الحديث، وهي: التقليدية، والرومانسية العربية، والشعر المعاصر.. فوجدنا عنده التقليدية والرومانسية...
وكنموذج عن هذا التنويع نورد النموذجن التاليين من شعر شاعرنا عبد الطيف غسري.
1- النموذج التقليدي: يقول في قصيدته (سيف الملامة):
البدر لا تنتابه الرعدات+++++ أو يعتريه الخوف والرجفات
إلا إذا رعشت له أجفانها+++++أو أشرقت من ثغرها البسمات
خنساء أطربها النسيم على الربى+++++فتراقصت من شعرها الخصلات
الليل في أهدابها طفل على+++++كتفيه تعزف لحنها النسمات
يغدو فيربكه الحياء كأنما+++++طبعت على وجناته القبلات
في مقلتيها عندليب دأبه+++++فوق الرموش تململ وسبات
2- النموذج الرومانسي: يقول:في قصيدته(أنين الوتر):
1
النجوم تئن
تبعثر حبات عقد القصيدة
تصرخ في مسمع الليل:
هذا المساء تعيث الجراثيم في أحشاء القمر
أجراس الظلام ترن
تدق بكف الخطر
2
يرقد النهر في أحضان السكينة
منتظرا طلعة الأعين الشهل
والسوسن الغض فيه يحن
يراقب خفق الشجر
ما لأشرعة الضوء غرقى
ما لوشاح الندى لا يغطي رؤوس الثمر
ما بال القناديل تلبد في الظل
ما لهديل الحمام يكن
ومركب هذا الربيع يسافر تحت البصر
وعناقيد هذا الغروب ما بالها تنكسر
تتساقط فوق جبال المدينة
فوق أنين الوتر
- الوزن:
الشاعر نوع في أوزانه الشعرية. فاعتمد في قصائده العمودية على الوحدة الوزنية التي يتساوى فيها عدد التفعيلات في كل من الصدر والعجز... وبذلك تساوت الأبيات وأشطرها، وتساوت كذلك تفعيلاتها... فهي خاضعة لنظام وزني خليلي لا يمكن الخروج عنه، لأن كل خروج يسبب اختلالا عروضيا ، وإيقاعيا في القصيدة.
والقصائد العمودية التي اعتمدناها في قراءة شاعرية عبد اللطيف غسري، بنيت على أوزان هي كالتالي:

الجدول رقم: جدول الأوزان وقافيتها وعدد أبياتها
عنوان القصيدة
الوزن
القافية
سيف الملامة
الكامل
التاء
عصر المغاوير
البسيط
الراء
عيناك تفاحتان
البسيط
الراء
تمرين بي
المتقارب
النون
تقاسيم على أوتار رملية
مجزوء الرمل
الباء
ظبي القصيدة
الوافر التام
الياء المشبعة
جبين من لجين
المتقارب
الزاي(الزين)
كوني لوجودي يا امرأة
المتقارب
الميم
أنا الموج
المتدارك
هاء السكت
قبس العندليب من ألحانك
الخفيف التام
الكاف
قلم ينز حلما
البسيط
الهمزة
حدود حماي صوت الهجرس
الكامل
السين
هل أشتكيك لبعض أنسام الدجى
الكامل
السين
أنا شبح يختلي بالمرايا
المتقارب التام
الدال المشبعة
فراشة الشبق
الكامل
السين
يا سيد الليل
البسيط
اللام
عاشق الكفتة
المتدارك( الخبب)
القاف
فلسطين يا منتهى شجني
المتقارب
النون
رباعيات عاشق
المتقارب
القاف
بغداد يوم الكريهة
المتدارك
الفاء
غربة قلب
البسيط
الراء المشبعة

هكذا نجد أن المتقارب وظف 6 مرات، ويمثل نسبة 28،57% ، والبسيط 5 مرات، بنسبة 23،80%. والكامل4مرات، بنسبة19،04%،والمتدارك3مرات،بنسبة14،28% ومجزوء الرمل،والوافر، والخفيف ، مرة واحدة...بنسبة 14،31%(4،77X3)...
أما روي القافية، فنجد السين تكررت 3 مرات، والراء كذلك،والقاف والنون مرتين،والباقي تكرر مرتين...
إلى جانب القصيدة العمودية، اعتمد عبد اللطيف غسري القصيدة التفعيلية، وتمثل ذلك في قصيدتين هما (طبق لطعام الليل وأرغفة القلب)، و(أنين الوتر) وجاءا معا على وزن المتقارب...
- القافية:
يؤكد الدكتور عبد الرضا علي[13]، أن القافية هي: مجموعة أصوات تكون مقطعا موسيقيا واحدا يرتكز عليه الشاعر في البيت الأول. فيكرره في نهايات أبيات القصيدة كلها مهما كان عددها( في القوافي المفردة)، كما في قول الشاعر عبد اللطيف غسري:
يا سيد الليل والأفراس والمال+++++متى ستسمعنا من برجك العالي
اهبط إلينا نبادلك القلى مقة+++++فبسمة الدهر لا تبقى على حال
جدد عراك التي قدت حبائلها+++++ بغفلة منك في الماضي وإهمال
وساند الناس في خطب وضائقة+++++ واسق الورود بماء منك سيال
ففي يديك دماء من عروقهم+++++ وفي جيوبك حلم العاشق السالي
وفوق ظهرك أثواب مطرزة+++++ بالرمش من عين ذات المعطف البالي

وعندما نقف إلى شعر الشاعر عبد اللطيف غسري، نجده متنوعا في قوافيه. فقصائده العمودية اعتمدت القافية وحافظت عليها، وبالتالي اتسمت بشاكلة وشكلية القصيدة الكلاسيكية الموروثة.
كما اعتمد الفرباعيات، حيث كل كوبليه له قافيته المستقلة به... مثل قصيدته ( رباعيات عاشق)، والتي يقول فيها:
متيمتي نور فجر أطل+++++ يشد العقول ويسبي المقل
نسجت لها من دمي بردة +++++ مطرزة بخيوط الغزل
خريدة حسن لها سمرة +++++ بلون الغروب إذا ما اكتمل
أسيلة خد لها طلة +++++ تميت الشجون وتحيي الأمل
----------
يخط الجمال قصيدة شعر +++++ على شفتيها بلون الشفق
ويرسم في بؤبؤي مقلتيها +++++ غلالات نور ذوات ألق
أحن إلى جرس ضحكتها +++++ وعطر لماها الندي العبق
هي الشدو جادت به وهي تقتات قبرة الشرق عند الغسق
----------
لها أثر في شغف الفؤاد+++++ يناجي الجوارح مثل النغم
تهيم بأسراره مهجتي+++++ وإن عز ما أحدثت من ألم
فلا لحن يحلو لها غيره+++++ كأن بها عن سواه صمم
كمال السعادة في قربها+++++ ولم ألق في البعد إلا العدم
أما في قصائده الحداثية، التفعيلية، فإننا نجد تنوعا تقوم عليه القافية في شعره.. إذ نجد القافية المتتابعة، ولو أنه في قصيدته ( طبق لطعام الليل) يحافظ على النموذج التقليدي، إذ يمكن كتابة القصيدة على هذا الشكل دون أن يقع أي تغيير في المعنى:
جناحاه اخترقا حجب الضوء استبقا لرهان العزة في خطوات الأعرج
جفناه التصقا من خشيته أن يعشو عن طرقات المنهج





[1] - صبحي،(محيي الدين)، مطارحات في فن القول، ص:87

[2] - قادري، (عمر يوسف)، التجربة الشعرية عند فدوى طوقان بين الشكل والمضمون، دار هومة ، ص: 109

[3] - الشنتريني،( افن سراج)، أوزان الشعر والكافي في علم القوافي، تحقيق محمد الداية، بيروت، (د- ط)،1974،ص:97

[4] - المرجع نفسه،ص: 98

[5] - اسماعيل، (عز الدين)، الأسس الجمالية في النقد العربي، دار الفكر العربي، القاهرة، (د- ط)، 1992، ص: 281

[6] - د. يونس، (علي)، نظرة جديدة في موسيقى الشعر العربي،الهيئة المصرية العامة للكتاب، (د- ط)،ص: 17/18

[7] - ابن فارس، الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها، تحقيق السيد أحمد صقر، دار إحياء الكتب العربية، بيروت، 1977، ص: 238

[8] - المرجع نفسه، ص: 112

[9] - فوزي،( عيسى)، النص الشعري وآليات القراءة، منشأة المعارف، مصر ، (د- ط)، 1997، ص: 441

[10] - قادري، (عمر يوسف)، التجربة الشعرية عند فدوى طوقان بين الشكل والمضمون، دار هومة، ص: 148

[11] - العمري، (محمد)،الموازنات الصوتية في الرؤية البلاغية، نحو كتابة تاريخ جديد للبلاغة العربية،منشورات دار سال، الدار البيضاء، ط1، 1991، ص: 3

[12] - بنيس،( محمد)، الشعر العربي الحديث: بنياته وإبدالاتها، ج3، دار توبقال للنشر،الدار البيضاء، ط3، 2001، ص: 39
[13] - د. عبد الرضا ، ( علي)، موسيقى الشعر العربي قديمه وحديثه، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، ط1، 1997، ص: 167

التكرار في شعره

لا تخلو قصائد الشاعر عبد اللطيف غسري من التكرار.. والذي وظف بعناية فائقة، محققا به نغمية، وموسيقى داخلية.. بالإضافة إلى ترسيخ المعاني وتأكيدها...
والتكرار ظاهرة موسيقية، ومعنوية، يؤكد دلالة الجملة الشعرية... بالإضافة إلى أنه يؤدي إلى رفع مستوى الشعور في القصيدة.. وهو يغني الشاعر عن الإيضاح المباشر، ويغنيه عن الإخبار... وهو رهين بالحالة النفسية.. والحالة التي تكون عليها الذات الشاعرة ساعة خلق القصيدة....
والشاعر عبد اللطيف وظف التكرار في شعره، وجاء متنوعا، لأنه يعي أن :"تكرار الأصوات والكلمات والتراكيب، ليس ضروريا لتؤدي الجمل وظيفتها المعنوية والتداولية، ولكنه شرط كمال أو محسن أو لعب لغوي، ومع ذلك فإنه يقوم بدور كبير في الخطاب الشعري او ما يشبهه من أنواع الخطاب الأخرى الإقناعية"[1]..
والتكرار الموظف، نجده على الشكل التالي:
- تكرار الفعل:وهو تكرار يتغيى منه الشاعر عبد اللطيف غسري تبيان استمرارية الانفعال ، والحالة الشعرية، ودينامكيتها.. كما يبن من خلالها حالة المخاض التي يعيشها... وهذا التكرار للفعل جاء متنوعا، وغنيا بدلالته...ومنه:
1- أفعال الاستمرار: وظف عبد اللطيف غسري في شعره أفعال الاستمرار، وهي من النواسخ الفعلية.. كما في قوله في قصيدة ( فلسطين يا منتهى شجني):
أما زال أفقك محتقنا+++++ برائحة الموت والحزن
أما زال طفلك يمشي وحيدا+++++أما زال يبحث عن وطن
أما زال يرجو هبوب الريا+++++ ح من كربلاء إلى عدن
أما زال أهلك في نفق+++++ يتيهون فوق ذرى الدمن
2- الفعل المضارع: كما في قوله في قصيدة ( رباعيات عاشق):
يخط الجمال قصيدة شعر+++++ على شفتيها بلون الشفق
ويرسم في بؤبؤي مقلتيها+++++ غلالات نور ذوات ألق
وقوله أيضا في قصيدته ( عصر المغاوير):
يحلمن غير كليلات القلوب ولا+++++مستسلمات لأهوال المقادير
يبحثن في شفق الآفاق عن ألق+++++ به يحطمن أسوار الدياجير
يرقبن فيه وصال البدر مكتملا+++++وفيه يجتزن أعشاش الدبابير
يثبن منه إلى حقل الضياء بأحلام الصبايا وسيقان اليعافير
وقوله في نهاية نفس القصيدة:
يبعن في كل أسواق الهوى عرقا+++++ يجري سيولا بأبواب المواخير
ينشرن فلسفة الإسفاف في صفحات الليل أو في مجلات المشاهير
يصنعن منها خريفا للحضارة لا+++++ يخضر إلا بأذهان المغامير
وقوله أيضا في قصيدة( أنا الموج):
أعابث صيف المعاني فيحنو+++++ وأشرق في شمسه الحاميه
وأرسم منهن عشرين ألفا+++++ على دفتر الأنجم الباديه
وأختار قطر الندى لي شرابا+++++ وأسبح في البرك الصافيه
وأطلق في هضبات الشعور+++++ دمي وفراشاتيَ العانيه
وأجعل من موطن الشعر حضنا+++++ وأرتاح في كفه الحانيه
- تكرار الضمير: نجد الشاعر عبد اللطيف غسري، يكرر في كثير من قصائده الضمير المنفصل.. ليبين الذاتية التي تتحكمها الحالة الشعرية... والجو الذي يسيطر على الذات الشاعرة.. كما في قصيدته ( قبس العندليب من ألحانك):
أنا أرسلته ليخبر عني+++++ حمما تستطير من بركانكْ
فاسألي المفردات تخبرك عني+++++ أنا شدو المساء في أركانك
صدحت ألسُنُ القصيدة مني+++++ بكتاب ختمته ببنانك
أنا طهر التراب في فلوات+++++ سوف تروى بهمسة من لسانك
وقوله في قصيدته( عصر المغاوير):
فهن متعة دنياكم وهن لكم+++++ نعم الصواحب في كل المشاوير
وهن في منهل التقوى شقائككم+++++ في الصالحات وفي حسن التدابير
- تكرار الحرف: نجد في قصائده :
- تكرارا لحرف الجر ، مثل ما ورد في قصيدته ( أنا شبح يختلي بالمرايا)، حيث يقول:
صحوت وفي الصحو بعض قفول+++++ إلى خبر ينثني أوحدا
إلى جبل ينحني للرياح+++++ إذا راح في جوفها واغتدى
إلى أرق يرتدي زهو نار+++++ وظل ينازعه ما ارتدى
رعته الهواجس حتى غواها +++++ وأوردها شرفات الردى
إلى وتر مل جنب التأسي+++++ وأورق طلحا له أنشدا
- تكرار حرف التوكيد الذي يفيد التحقيق أو التقليل(قد).. كما في قصيدته ( عصر المغاوير)، والتي يقول فيها:
لقد دققتم بنعش الحق من زمن+++++ في ملتقى زيفكم شتى المسامير
وقد عدوتم على أغصان دوحتنا+++++ وغركم صمت أشباه النواطير
تكرار حرفي الاستفهام(أ)، و(هل)، كما في قصيدته ( ظبي القصيدة) و(فلسطين يا منتهى شجني)، واللتان يقول فيهما:
أما زال أفقك محتقنا+++++ برائحة الموت والحزن
أما زال يرجو هبوب الريا+++++ ح من كربلاء إلى عدن
فتقطع دابر مغتصب+++++ له ألف وجه بلا أذن
أما زال أهلك في نفق+++++ يتيهون فوق ذرى الدمن
وقوله أيضا:
فهل أعددت للكلمات سهما+++++ بلا قوس وسيفا مشرفيا
وهل أسرجت خيلك باقتدار+++++ إلى جوزاء حرفك والثريا
وقوله في قصيدته ( غربة القلب) :
هل كان في نيتي أن يستدر دمي
هل كان من عادتي أن أصرع البحرا
- تكرار حرف النداء والمنادى، مثل قصيدته ( طبق لطعام الليل وأرغفة القلب)، والتي يقول فيها:
يا سوسنتي المطمورة
تحت أديم العوسج
خلف جدار الرهبة...
.....................
يا سوسنتي اختبئي
في جيب قميصي
- تكرار الاسم:
1- تكرار أسماء الاستفهام: نجد تكرارا لأسماء الاستفهام ، كما في قصيدته(تقاسيم على أوتار رملية)، حيث يقول:
كيف تحصَى وهي شتى+++++ مثل ذرات التراب
أين مني ذكريات+++++ كن يلزمن ركابي
أين مني شهقات+++++ ملء أنفاس الروابي
2- تكرار الاسم: كما في قصيدته( عيناك تفاحتان) التي يقول فيها:
عيناك تجترحان الرشق بالخفر+++++ وتجرحان خدود الماء والقمر
عيناك تفاحتان امتدتا وهجا+++++ في قامة الليل أو في باحة العمر
عيناك أنت إذا تغشاهما سفني+++++ تمر في أفق قد غص بالحور
- تكرار الظرف: كما في قصيدته ( رباعيات عاشق)، والتي يقول فيها:
إذا حدثت شاقني صوتها+++++ وحملني نشوة كالحزن
أبيت أعد نجوم السماء+++++ وأبحث عن وجهها في القمر
إلام أظل أسير الهموم+++++ يعذبني حبها بالسهر
إذا الشوق زاد اكتفيتُ بأن+++++ أرى سحرها في كتاب الصور
وهذا التكرار الموظف قد أعطى لشعره إيقاعية ، وأغنى موسيقاه وأغنى دلالته..
هكذا نرى أن الشاعر عبد اللطيف غسري قد اعتنى بالتكرار لوعيه لما له من دلالة...كما أنه يعين الدارس على تجلية نفسية الشاعر.....
ويؤكد الدكتور محمد مفتاح أهمية التكرار بقوله:"أن تكرار الأصوات والكلمات ، والتراكيب ليس ضروريا لتؤدي الجمل وظيفتها المعنوية والتداولية .. ولكنه ( شرط كمال) أو محسِّن أو لعب لغوي"[2]... ويضيف قائلا:"ومع ذلك فإن التكرار يقوم بدور كبير في الخطاب الشعري أو ما يشبهه من أنواع الخطاب الأخرى الإقناعية"[3]...
وعبد اللطيف غسري، لا يرى في التكرار فضلة.. وترفا لفظيا.. بل يرى فيه إغناء لتجربته الانفعالية، وعكسا لها.. وهو يعرف أنه:"لا يجوز أن ينظر إلى التكرار على أنه تكرار ألفاظ بصورة مبعثرة غير متصلة بالمعنى، أو بالجو العام"[4]



[1]- د. مفتاح،(محمد)، تحليل الخطاب الشعري: استراتيجية التناص، ص:39

[2]- د.مفتاح، (محمد)، الخطاب الشعري( استراتيجية التناص)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط3، 1992، ص: 39

[3]- محمد مفتاح، المرجع نفسه، ص: 39

[4]- ربابعة، (موسى)، التكرار في الشعر الجاهلي، دراسة أسلوبية، جامعة اليرموك، الأردن، مؤتمر النقد الأدبي 10- 13 تموز، 1988، ص: 15


المعارضة في شعره

ارتأى أنطوان كمبانيون أن التناص أوسع من السرقات الأدبية، التي جاءت بهاج وليا كريستيفا، وأوسع من التلميح الذي جاء به ميشيل ريفاتير...إذ ربطه بالتكرار، والاستشهاد، والأمثال، والخطاب المباشر، والخطاب غير المباشر، والتقليد، والنقد، والمعارضة، والباروديا، والمصدر، والتأثير، والتعليق، وغيرها...[1]
ورأى مارك ألجندنكر أن التناص يأخذ أشكالا أربعة، وهي: الاستشهاد، والتلميح، والمعارضة، والباروديا[2]...
ويرى الدكتور محمد مفتاح، أن هناك نوعين من التناص: المحاكاة الساخرة ( النقيضة)، التي يحاول كثير من الباحثين أن يختزل التناص إليها، ثم المحاكاة المقتدية ( المعارضة) التي يمكن أن نجد في بعض الثقافات من يجعلها الركيزة الأساسية للتناص [3]...
ويذهب جيرار جينيت أبعد من ذلك ،عندما اعتبر التعلق النصي Hypertextualité أدبا من الدرجة الثانية، وعرفه ( أي التعلق النصي)، بأنه:"كل نص مشتق من نص سابق بواسطة تحويل بسيط أو تحويل غير مباشر"[4]...وأنه ينقسم إلى ثلاثة أشكال تناصية، هي: المعارضة والباروديا، ثم التحريف Travestissement...
وقد اهتم الشاعر عبد اللطيف غسري بالمعارضات الشعرية، واعتبرها نوعا من التفاعل النصي، والشعري.. مع نصوص أخرى مؤثرة....واعتبرها- أيضا- نوعا من المحاورة مع هذه النصوص المؤثرة...
1- مفهوم المعارضة Pastiche:
يؤكد الأستاذ الدكتور عبد القادر بقشى في كتابه " التناص"، إلى أن المفهوم الاصطلاحي لكلمة(معارضة) في المعاجم العربية له معنيان، هما:
- معنى حسي: حين يدل على السير والمحاذاة...
- معنى معنوي: ويدل على المقابلة والمباراة، وتحقيق المناقضة.
وبالتالي ، نرى أن مفهوم المعارضة اللغوي، هو:"المقابلة، والمحاذاة،والمباراة، والمناقضة..."
وقد اهتم النقد العربي القديم بالمعارضة، حيث اعتبرها نوعا من الموازنة، والمفاضلة بين الشعراء.. وهذا ما نجده عند الأصمعي، وأبي عبيدة، وعند الآمدي في موازنته بين أبي تمام والبحتري.. وعند حازم القرطاجني، اللذان يريان أن المعارضة لا تتحقق في نصين إلا إذا اجتمعا في غرض ووزن وقافية.[5] ولو أنهما ( الآمدي و حازم القرطاجني) لم يصرحا بلفظة المعارضة في كتابيهما.لينتقل المفهوم إلى معاني أخرى ، هي: المجاراة، والمساواة،والمخالفة، والاختلاف.
وقد اتفق النقاد العرب القدامى، على أن المعارضة لا تكون بإبدال كلمة مكان أخرى.. ولكن بإنشاء كلام فني يأبى التشابه، ويحقق الاختلاف[6]..
واهتمت الدراسات النقدية الحديثة بالمعارضة، إذ اعتبرتها :"أن يقول الشاعر قصيدة في موضوع ما ومن أي بحر وقافية. فيأتي شاعر آخر فيعجب بهذه القصيدة: بجانبها الفني وصياغتها الممتازة. فيقول قصيدة من بحرها وقافيتها وفي موضوعها (...) حريصا على أن يتعلق بالأول في درجته الفنية، أو يفوقه فيها"[7]...
والمعارضة إما معارضة صريحة حين يكون التوافق في كل شيء...ومعارضة ضمنية وغير تامة...إذا ما نقص شرط من شروط المعارضة السابقة أعلاه...
والشاعر عبد اللطيف غسري، قد تضمنت أشعاره بعض المعارضات، فنجده عارض قصيدة الشاعر المغربي الكبير الدكتور مصطفى الشليح( وبنرجس .. لا تنبس)، والتي يقول فيها:
فيم الشكاة تجوس ليل النرجس++++ طرفا صحا متوجسا لم ينعس؟
حدس المساء يدس في أجراسه++++ قبسا من الأجراس لما يقبس
كنس الفضاء بشمسه ليجسها++++ بيد الظلام قصيدة لم تنبس
شمس على جلبابها همس سرى++++ مستأنسا بالهمس عند المجلس
مثل الهسيس يرف من أنفاسه++++طيبا إلى الأنفاس سار بمعطس
يكسو الرواء بسندس من سندس++++ فإذا الرواة سفارة للجلس
سأسو الكلام جراحه بكلامه++++وجراحه بوشاحه في مقدس
يرسو على آهاته متلبسا++++ أقواسه...فكأنه بالملبس
قوس تغرس في عبارته التي++++ عطست ستارتها بهاء ملبس
قوس كأن الليل يمحو طرسه++++ بيد لتجرحه يد المتلمس
اجلسْ إليك صحيفة ماسية++++ واحدس قليلا من بهاء النرجس
ثم اختلس منه وسامته التي++++ بسمتْ.. فلا عين رأت بالمجلس
اهمسْ بكل قصيدة ضوئية++++ ما شئت ..إنك للقصيدة ، فاهمس
احرسْ ظلال الماء في أقداسها++++ من حبسة المعنى.. وماءك فاقبس
انبسْ بقولك .لا.لصمتك خفقة++++ لغوية ..وبنرجس..لا تنبس
وقد عارض هذه القصيدة بقصيدتين، الأولى (هل أشتكيك لبعض أنسام الدجى)، والتي يقول فيها:
نبست مفاتنها بما لم أنبس++++ قالت هنا حسن التجلي فاجلسِ
واملأ قوارير المساء مدامة++++ واسق الفؤاد قصيدة واستأنس
إن ضل صوتي عن مسامعك استمع++++ أو غاب عنك هلال وجديَ فاحدس
وانسج على منوال همسيَ بردة++++ واصرخ إلي بملء صوتك واهمس
هذي حديقتي الصغيرة فانتسب++++ هذا غديري تحت رجلك فاغطس
وهنا يتبادر لنا ركام من الأسئلة: لم هذه المعارضة؟ وفيماذا تمت ؟ وما قيمتها الجمالية والفنية؟ وماذا قدمت هذه المعارضة للشاعر عبد اللطيف غسري؟...
لقد تمت هذه المعارضة ن وتحقق من خلالها نوع من التشابه على مستوى:
1- الوزن: فقصيدة الدكتور مصطفى الشليح جاءت على وزن الكامل التام( متفاعلن متفاعلن متفاعلن).... وقصدتا عبد اللطيف غسري جاءتا على نفس الوزن ، أي البحر الكامل. مع ما دخل على تفعيلاته من زحافات وعلل.
2- القافية: قصيدة الدكتور مصطفى الشليح، قافيتها سينية. كذلك قصيدتا عبد اللطيف غسري،جاءتا على قافية سينية مشابهة.
3- الألفاظ المستعملة( القاموس أو المعجم المستعمل): في القصيدتين للشاعر عبد اللطيف غسري، نجد توظيفا لكثير من الألفاظ التي وردت في قصيدة الدكتور مصطفى الشليح... والجدول التالي يبين ذلك:
الجدول رقم: جدول الكلمات المستعملة في القصائد بثلاثتها
كلمات قصيدة الدكتور مصطفى الشليح
قصيدة (حدود حماي صوت الهجرس)لعبد اللطيف غسري
هل أشتكيك لبعض أنسام الدجى(عبد اللطيف غسري)
الشكاة-تجوس-ليل-النرجس-لم ينعس- حدس-المساء-أجراسه-قبسا- كنس- الفضاء شمسه-يجس-الظلام-قصيدة-تنبس-جلبابها-همس-سرى-مستأنسا- المجلس- الهسيس- يرف-أنفاس-طيب- معطس- يكسو- الرواء- سندس- الرواة- سفاره- الجلَّس-يأسو- جراح- الكلام- بوشاح- مقدس- يرسو- آهات- متلبسا-أقواس- الملبس- ماء- يمحو- طرسه-المتلمس- اجلس-صحيفة-ماسية-احدس-بهاء-اختلس-وسامته- بسمت-لا عين- اهمس- ضوئية- للقصيدة- ظلال- احرس-أقداسها- حبسة- فاقبس- خفقة- صمتك- لغوية-
اشرح- ظل- البسي- أثواب-تتوجسي-الشفق-أذياله-وجنتيك-الجواري الكنس-أهفو-تشتغل- القصيدة-برهة-ناصيتي-الأسيل-الملمس-اهزني-صخبا-الصدى-قمم-الغمائم-سفوح-سيري-اوتار-عشقي-اسبحي-الطيف-ملكوت-صمتي-انعسي-ما خطب-قلبك-بين كفيك-استوى-متضرجا-القافيات-الخنس-دم الكلام-يسيل- شفتيك- يمتار اخرس- تتأجج- الكلمات- جمراته- جوف الليل- أشرس- حمي- الوعيد- بنفسج- الياسمين- لون- حزنك- يكتسي- لا تشتكي- درة- تحتلني- متنفس- يضيف- أفق- تمكثين ببابه- تضيق- أقفاص- الدجى- النورس- تحسبين- حرر حسنك- آسري- مزفت- ملبسي- انسك- يستبد بوحدتي- دعي- بساتين- لا تتجسسي- شذاك- المدى- فتطيبت- أنوف- الجلس- تذكري- أجوس- البحر- لغتي- حدود حماي- صوت الهجرس.
نبست- مفاتنها- انبس- جست- قالت- التجلي- فاجلس- املأ قوارير- المساء- مدامة- اسق- الفؤاد- قصيدة- استأنس- ضل- صوتي- مسامعك- استمع- غاب- هلال- وجدي- فاحدس- انسج- منوال همسي- بردة- اصرخ- صوتك- اهمس- حديقة-انتسب- غديري- رجلك- فاغطس- نامت- كتفيك- ذاكرتي- نظفتها- ليلي- المتكدس- تحسس- الورد- يعتادها- فاحن- كفك- المتحسس- أرخيت- الستائر- جملة- رغبت- صنو- الندى- مجلسي- التمنع- يديك- جريدة- مشؤومة- صحيفة المتلمس- أشتكيك- أنسام الدجى- شذا- النرجس.
4- الموضوع: الشاعر مصطفى الشليح في قصيدته (وبنرجس...لا تنبس)، والتي يهديها إلى الشاعر عبد اللطيف غسري، ويضمنها انطباعه عن الشعر، والقصيد، وخلق الشعر...ويطلب فيها من الشاعر غسري أن يجول في عالم الشعر، ويدخل سحرها وعوالمها... وأدغالها..وأن يسهر وراء شواردها.. ويقتبس من الكلمات ما يراه وردا ونرجسا يزين قصيدته...وأن يجلس إلى الشعر ، يتمحصه، مستحضرا القصيدة العربية، يحدس منها.. ويختلس منها بعض البسمات الجميلة...إنها دعوة إلى الشعر من شاعر إلى شاعر...
وفي قصيدتي عبد اللطيف غسري، نجد الموضوع لا يبتعد عما سطره الشاعر مصطفى الشليح..فيرد عليه ،أنه فعلا يدعو القصيد ليلا.. ويجلس إليه.. متمعنا في عوالمه.. يسوس عنانها، بعدما تشتعل القصيدة في خاطره.. ويأخذ بناصيتها، يزين أوصالها بلغة حالمة .. شاعرية.. وأنه لا يتوانى في نسج همساته قصائد... لا تقل جملا ، وشاعرية عن القصائد العربية كالبردة، وغيرها... وأنه كل ليلة يدخل حديقته الغناء، والتي هي حديقة الشعر.. ويغطس في غديره، بحثا عن لآلئ الشعر...
5- المسافة الجمالية أو الانزياح الجمالي: عندما نقارن النصين المعارَض، نجد أنهما يختلفان عنه من حيث القيمة الجمالية والشعرية..فأفق توقعاتهما تختلف عن النص الآخر.. فهي تتشابه في مسائل حددناها آنفا.. لكنها تختلف من حيث القيمة الفنية، والجمالية.. وهنا تلعب تجربة الشاعرين مصطفى الشليح، وعبد اللطيف غسري، وثقافتهما الشعرية، واطلاعهما الواسع على الشعر العربي ، دورا في هذه المعارضة، وتميز الرؤية الشعرية من شاعر إلى آخر...
لذا"ليس القول باختلاف النص المعارض، ذلك التحويل التام لمكونات النص المعارَض حتى لا علاقة ولا شبه بينهما. بل هو التحويل الذي يظل فيه النص النموذج طاقة تفجير لنصوص لاحقة ومصدر توليدها"[8]...
صحيح أن نص الدكتور مصطفى الشليح قد أوحى للشاعر عبد اللطيف غسري بقصيدتين.. لكن المستوى الفني والجمالي متباين جدا... وبذلك أعطتنا هذه المعارضة شبيهين مختلفين في الروح مع النموذج الأصل...
هذا يجعلنا نستحضر قولة للدكتور محمد مفتاح للاستشهاد بها... حيث يقول، بأن أي:"نص مهما كان ليس إلا إركاما وتكرار لنواة معنوية موجودة من قبل. ومعنى هذا اننا نعتبر النص الاول يتكون من مقومات(+أ)، (+ب)،(+ج)... والنص اللاحق له، الناسخ على منواله يحتوي على مقومات (+أ)،(+ب)،(+ص)..أو على (+أ)، (+ب)،(+ك)...فعملية الاشتراك في مقوم أو عدة مقومات ضرورية لتجنيس الخطاب اللاحق، مع السابق. فكلما قل الاشتراك في المقومات زادت فرادة الخطاب التالي وأصالته. وكلما اشترك النص في كثير من المقومات مع ما سبقه كاد أن يصبح نسخة مكرورة فاقدة للأصالة"[9]...
وهذا يدفعنا إلى القول أن الشاعر عبد اللطيف غسري كان موفقا في معارضته لقصيدة الدكتور مصطفى الشليح، واستطاع أن يربح الرهان ويعطينا قصيدتين متميزتين لا تخلوان من فنية، وجمال وإبداعية.


[1] - Compagnon , ( Antoine) : La seconde main ,ou le travail de la citation, Ed : Seuil, Paris , 1979, p : 54

[2]- د. بقشى، ( عبد القادر)، التناص في الخطاب النقدي والبلاغي، أفريقيا الشرق، (د-ط)، 2007، ص: 54

[3]- د. مفتاح،(محمد)، تحليل الخطاب الشعري(استراتيجية التناص)، ص: 122

[4] - Genette ,(Gérard) : Palimpsestes, la littérature au second degré, Ed : Seuil ,1982, p :14

[5]- حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تقديم وتحقيق، محمد الحبيب ابن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، ط3، 1986، ص:376

[6]- د. عبد القادر بقشى، المرجع نفسه، ص:63

[7]- الشايب، (أحمد)، تاريخ النقائض في الشعر العربي، دار الاتحاد العربي للطباعة، القاهرة، مصر، ط3،1966، ص: 7

[8]- المصفار، (محمود)، التناص بين الرؤية والإجراء في النقد الأدبي،مقاربة محايثة للسرقات الأدبية عند العرب، (د- ط)، (د- ت)، ص: 424

[9]- د. مفتاح،(محمد)،المرجع نفسه، ص: 25

عبد اللطيف السباعي 08-14-2014 02:13 PM

الصورة الشعرية في شعره

يتميز الشاعر عبد اللطيف غسري ببعد النظر، وعمق الرؤيا.. وهذا ما يلمس من شعره.. وقد استأثرت الصورة الشعرية باهتمامه، لما لها من أهمية.
والصورة الشعرية هي:"إعادة إنتاج عقلية، ذكرى لتجربة عاطفية أو إدراكية عابرة، ليست بالضرورة تعبيرية مباشرة"[1]...
والصورة مرتبطة بنفسية الشاعر، وهي جزء حيوي في عملية الخلق الفني.. وهي روح التجربة الشعرية، وبؤرة تشكيلها الجمالي.
والمتتبع لشعر عبد اللطيف غسري، يجد أن فيه استعمالا للأنماط البلاغية في رسم الصورة الشعرية.. كما كان متداولا عند الأقدمين، أو كما تعرفه القصيدة الكلاسيكية.. فنجد الشاعر يتوسلها بالتشبيهات، والمجازات، والاستعارات..
والصورة الشعرية الموظفة في شعره نجدها على الشكل التالي:
1- الصورة التشبيهية:وظف عبد اللطيف غسري الصورة التشبيهية في شعره، فتعددت أنواعها وأشكالها.. ومن التشبيهات الموظفة، نجد:
- التشبيه المرسل المجمل: وهو التشبيه الذي ذكرت فيه الأداة وحذف منه وجه الشبه، وهو كثير عند عبد اللطيف غسري.. وقد استعمل فيه أدوات التشبيه ليبين صوره.. ومن هذه الأدوات نجد(كأن- الكاف)، كما في قوله:
شرفاتي تصهل يا امرأة++++ يتدفق في يدها النغم
ويضيء العشب إذا برزت++++ كسراج تعشقه الظلم
وقوله أيضا:
تهيم بأسراره مهجتي++++ وإن عز ما أحدثت من ألم
فلا لحن يحلو لها غيره++++ كأن بها عن سواه صمم
وقوله أيضا:
ليس يحصيها خيالي++++ بالتخفي والغياب
كيف تحصى وفي شتى++++ مثل ذرات التراب
كما نجد نمطا ثانيا من التشبيه في شعر عبد اللطيف غسري، وهو:
- التشبيه البليغ: وهو تشبيه لا تذكر فيه أداة التشبيه، ولا وجه الشبه، كما في قصيدته ( عيناك تفاحتان)، والتي يقول فيها:
عيناك تجترحان الرشق بالخفر++++ وتجرحان خدود الماء والقمر
عيناك تفاحتان امتدتا وهجا++++ في قامة الليل أو في باحة العمر
ففي هذين البيتين نجد الشاعر وظف تشبيها بليغا وهو(عيناك تفاحتان) وهي تشبيهات كلها حذفت منها الأداة ووجه الشبه.
ففي المثال الأول نجد الشاعر يشبه عيني المحبوبة بالتفاح(عيناك كتفاحتين)، وهي تشبه التفاح جمالا، واستدارة،وألقا...كما أنه استعار للماء خدودا...ووجه الشبه في ذلك النضارة، والبريق، والملوسة، والصفاء، والإشراق...
وكل هذه التشبيهات تشبيهات حسية، الشيء الذي يجعل من الصور الشعرية، صورا مادية ملموسة...
- الصورة الاستعارية:
الاستعارة، تشكل وجها من وجوه المجاز اللغوي لعلاقة هي المشابهة مع قرينة ملفوظة، أو ملحوظة تمنع إرادة المعنى الحقيقي[2].
وقد اهتم عبد اللطيف غسري بالصورة الاستعارية، لأنه يعرف أنها:"قمة الفن البياني وجوهر الصورة الرائعة، والعنصر الأصيل في الإعجاز، والوسيلة الأولى التي يحلق بها الشعراء وأولو الذوق الرفيع إلى سماوات من الإبداع ما بعدها أروع ولا أجمل ولا أحلى"[3]..
ومن نماذج الصور الاستعارية التي وظفها الشاعر عبد اللطيف غسري، ما نجده في قصيدته ( سيف الملامة)،حيث يقول:
البدر لا تنتابه الرعدات++++ أو يعتريه الخوف والرجفات
إلا إذا رعشت له أجفانها++++ أو أشرقت من ثغرها البسمات
خنساء أطربها النسيم على الربى++++ فتراقصت من شعرها الخصلات
الليل في أهدابها طفل على++++ كتفيه تعزف لحنها النسمات
ففي هذه الأبيات صور جميلة، حيث استعار أوصافا شبه بها حبيبته بالبدر لبياضها، وجمالها الفضي...وأنها ثابتة لا تعرف تغيرا في سلوكها، أو عواطفها ومشاعرها...لا تعرف الخوف ، ولا الارتجاف...
والجميل هنا ن هو أنه جعلنا نتصور القمر جسدا، أو كائنا له أحاسيسه.. إلا انه ثابت الجنان، لا يرتعد خوفا أو فرقا...
كما أنه استعار الإشراق والشروق،واللذان هما سمتان لازمتان للشمس..ليلبسهما للبسمات التي ترتسم على شفتيها..كأن شفتيها شمس تشرق ضحكات وبسمات...
كما شبه حسناءه بالمها(الخنساء)، وهي البقرة الوحشية...وهو اسم كان الشاعر القديم يطلقه على المرأة الجميلة ذات العينين السوداوتين، وذات الحور...وذات اللحاظ الكبيرة...وذات الشعر الأسود الكحيل.. تتطاير خصلاته مع النسيم.. وهذا الشعر من شدة سواده، شبهه بالليل ليطلقه على لون شعرها...المتمايل، والمتطاير على كتفيها كأنه في حالة رقص، وغناء...
يقول في قصيدته (أنين الوتر):
يرقد النهر في أحضان السكينة
منتظرا طلعة الأعين الشهل
والسوسن الغض فيه يحن
يراقب خفق الشجر
فهو في هذا المقطع ن يقدم لنا صورة شعرية،تعتمد على الرمز والتصوير... فهو نسج صورة حسية ومجردة..إذ آدمي في حالة نوم واسترخاء...وهو مستلق في أحضان السكينة، والتي هي حالة مجردة نفسية....تتحول في هذه الصورة إلى حسناء، تضم إليها هذا النهر الراقد.. وبالتالي تتحول الصورة إلى رمز للطبيعة ومكوناتها.. وما يعمها من جمال وفتنة...
والجميل أننا أحيانا ، نجد شاعرنا عبد اللطيف غسري، يتلمس هذه الصورة ، والاستعارات مستخدما بعض الأساليب مثل النداء، أو الاستفهام، أو الإخبار،أو النفي، مثل قوله:
سافرت كالشفق المبتل صوبهما++++ ما للبنفسج في عيني من أثر
فقد استعار الحمرة التي يمتاز بها الشفق لحمرة الخدود اللذان تبلتهما دموع العينين..كما انه استعار البنفسج ولونه الأرجواني، والأبيض ليرمز به للدمع الذي ليسكن العينين، معتمدا على أسلوب النفي المتمثل في ( ما) بمعنى (ليس)...
وقوله:
هل يد الشوق منك تمتد طولى++++ أم لغصن الرجاء مني اهتزاز
إذ استعار للشوق والحنين صفات جسدية محسوسة.. وجعل له يدا تتصرف كما تشاء...كما أن لتسرب الشكّ، وبعض اليأس، يصبح الأمل والرجاء قليلا..
وتدبدبه ما بين اليقين والشك، جعل الشاعر يستعير صفات للشجر.... وعلاقته بالريح، ونتاج هذه العلاقة هو الاهتزاز والتمايل..ولذا شبه هذا الشعور بالشك واليأس، وفقدان الأمل باهتزاز الأفنان جراء الريح.. وما الريح إلا رمز للهجران والبعد ، والنوى.. وقد وظف في صيغة هذه الصورة أسلوب الاستفهام(هل......)



[1]- قادري، (عمر يوسف)،التجربة الشعرية عند فدوى طوقان، ص:74

[2]- البكري، (شيخ أمين)، البلاغة العربية في ثوبها الجديد(علم البيان)، دار العلم للملايين، بيروت، ط7، 2001،ص:67

[3]- المرجع نفسه، ص:100

مفهوم الشعر عند عبد اللطيف غسري

الشعر فهم للتجارب، ويتمظهر هذا الفهم في الصياغة اللفظية.. وشاعرنا عبد اللطيف غسري يجعلنا من خلال شعره وشاعريته نرى الشعر لذة ومنفعة، ومتعة... وجمالا...مع العلم:"أن الشعر هو رد الفعل الشخصي الذي يحدثه الكون على نفس الشاعر"[1]...
وقد رأى كثير من النقاد ، أن الشعر لا يسمى شعرا إلا إذا توفرت فيه أركان ثلاثة، هي:
1- أن معانيه تصب في صور خيالية تثير خيال القارئ أو السامع.
2- أن تتوفر في ألفاظه صفة التجانس بين اللفظ والمعنى. وتتوفر فيها صفة الجرس الموسيقي.
3- الوزن الشعري وخضوع الكلام في ترتيب مقاطعه إلى نظام خاص[2]...
ولا نريد أن ندخل في ماهية الكلمة(الشعر)، فهي واسعة جدا...يقول قدامة بن جعفر في كتابه (نقد الشعر)، معرفا الشعر:"إنه قول مقفى يدل على معنى"[3]...وهذا يجعلنا نتبين أن مقومات الشعر عنده أربعة، وهي:اللفظ والمعنى،والوزن،والقافية. وهذا كان معروفا لدى كثير من علماء العروض والشعر...
وقد تبعه الكثير في هذا التعريف، إذ نجد ابن رشيق القيرواني، يقول في (العمدة):"إن بنية الشعر من أربعة أشياء.. وهي: اللفظ، والوزن، والمعنى، والقافية"[4]...ويتبعه في القول ابن خلدون في (المقدمة)، حيث يقول:"هو الكلام الموزون المقفى، ومعناه الذي تكون أوزانه كلها على روي واحد ، وهي القافية"[5]...
ويعتبره ستدمان:"انه هو اللغة الخيالية الموزونة التي تعبر عن المعنى الجديد، والذوق والفكر والعاطفة وعن سر الروح البشرية"[6]...
ومن خلال ما أوردناه من تعاريف، نتبين أن قاسما مشتركا يجمع بينها، وهو:
- اشتراط الوزن في الشعر العربي عند الجميع.. وعلى أوزان الخليل..ولو أن هذا الكلام يتناقض مع ما تعرفه الساحة الأدبية من ازدهار للقصيدة الحرة، وقصيدة النثر...
- اشتراط القافية في الشعر.... ولو أن هذا أصبح اليوم شرطا متجاوزا.
هذا يجعلنا نتساءل بماذا يتميز شعر الشاعر عبد اللطيف غسري؟.ما هي خصائصه العامة؟...
من الخصائص التي نجدها في شعره، ما يلي:
1- العاطفة:إن شعر عبد اللطيف غسري غني بعاطفته.. ونقصد بها شعوره الوجداني.. وهذه العاطفة التي تغلف شعره، هي شعور بحقائق الأشياء..وتحدث هذه العاطفة عن حالة انفعال وتأثر...وعلم النفس أكد أن العاطفة هي استعداد وجداني مركب، وتنظيم مكتسب لبعض الانفعالات الموجهة نحو موقف معين، تدفع صاحبها للقيام بسلوك خاص[7]...ويقسمونها إلى نوعين:
- عاطفة الحب.
- عاطفة الكراهية.
وبينهما تدور الحياة العاطفية والوجدانية.. وتقوم على مبدأين أساسيين، هما: اللذة والألم. ولكل مبدأ انفعالاته الخاصة به.وبالتالي تتنوع العاطفة وانفعالاتها ما بين الفرح، والحزن، والغضب، والقلق، والانشراح.. وما إلى ذلك...وهذا كله يجعل العاطفة لا تخرج عن اثنين: حب أو كراهية...
وشاعرنا عبد اللطيف غسري بشر تتلون نفسه باختلاف الحالات والمواقف. وبالتالي ، تتنوع عواطفه..التي تحرك فيه الشعر.. وتخرج الألفاظ والصور معبرة عن هذه العاطفة في وجه من وجوهها...
وعندما نتمعن فيها نجده يوجه عواطفه أو عاطفته إلى اتجاهات متعددة، ومتنوعة:
- نحو شخص.
- نحو جماد( الطبيعة).
- مثل عليا وأفكار وقيم ( الوطن- قضايا عربية....).
وهذه العاطفة يمكن قياسها من خلال مقاييس نجملها في التالي:
- صدق العاطفة أو صحتها.
- قوة العاطفة أو روعتها.
- ثبات العاطفة أو استمرارها.
- تنوع العاطفة أو شمولها.
- سمو العاطفة أو درجتها.
ومن الشعر الذي تتعالى فيه عاطفته، نجد قصيدته(تمرين بي...)، والتي يقول فيها:
تمرين بي..لكأني الشجون++++وغيماتها..أو كأني السكون
أنا واقف في زوايا اشتياقي++++ تعيش بثوب ربيعي السنون
أصارعُ وجديَ في درب صمتي++++ ويَصرَعُني مِن شذاكِ الفُتون
وأنت هناك...تمرين بدرا++++ له في سماء التجلي كمون
ألم تستثرك الإشارات يوما++++ألم تختمر في رباك الظنون
تمرين في وجنتيك الأقاحي++++ يسافر في لونهن المجون
وفي شفتيك استدارات ورد++++ يكون له الشوق أو لا يكون
إذا افترتا عن بياض الأماني++++ رذاذ الرجاء تدر الجفون
ولكن ثلج محياك ترجى++++ حياة على دربه أو منون
ويا لطفولة عينيك! كم ذا++++ بعينيك يصهل مهر حرون
2- الخيال:لا بد للشاعر من خيال في رسم صوره.. وتحلية شعره.. وهو:"الإضافات التي يضفيها الشاعر على الصورة الحقيقية لتبدو جميلة"[8]...
والخيال وليد العاطفة، وهو يهدف منه الشاعر : الإمتاع بعمله الفني الشعري.ونلمس الخيال في شعر عبد اللطيف غسري من خلال ما استعمله من استعارات، وتشبيهات، كما في قوله في قصيدته(أنا الموج)، والتي يقول فيها:
لبدر الرؤى نظرة ساجيه++++ تراقبه مقل وانيه
يبادله الشفق الغمغمات++++ فيشرب حمرته القانيه
تحييه بالغمزات النجوم++++ وترمقه السحب الجاريه
تظل سماؤك تنثال يا++++ فؤاد رذاذا على الرابيه
ومن رحم الخوف يرتد وهم++++ لينخر كالسوس في الساريه
3- الروح الشعرية:وهي المعنى الدائم في التعبير، كلما ترجم من لغة إلى أخرى..وقد عمل عبد اللطيف غسري على ترجمة مجموعة من القصائد من الإنجليزية إلى العربية، واستطاع أن يحافظ فيها على روح الشعر ، بل يزيدها من روحه الشاعرة ...
4- الموسيقى:عندما نقرأ قصائد عبد اللطيف غسري، نتيقن أننا أمام شاعر كبير..يجنح به الخيال إلى آفاق بعيدة..في شعره موسيقى ملهمة,, تجعلنا نتيقن أن:"الشاعر كائن أثيري مقدس،ذو جناحين لا يمكن أن يبتكر قبل أن يلهم فيفقد صوابه وعقله. ومادام الإنسان يحتفظ بعقله فإنه لا يستطيع أن ينظم الشعر"[9]....
وقصائد غسري غنية بموسيقاها، لما وفرته فيها الأوزان الخليلية الموظفة فيها من نغمية وهرمونية وموسيقى...وهذا ما دفعه إلى الالتزام بالقصيدة العمودية، وبكل تقاليدها الفنية التي التزمها الشعراء القدامى في قصائدهم.

والشاعر المغربي عبد اللطيف غسري، يعي جيدا أنه يكتب لقارئ معين.....قارئ يتذوق القصيدة العربية في وجهها التقليدي، ووجهها الحداثي...
ففي قصائده هذه نجده يتغيى قارئا ضمنيا، يكون ذا تحقق نصي يضمن فعل القراءة، ووقعها.. ويحيا فعلها...
إن القصائد التي بين أيدينا، تخضع لجدلية تحاضر النموذج..إذ أن حركيتها وتحركاتها، هي في اتجاهات ثلاثة:
- من الماضي إلى الحاضر.
- من الحاضر إلى الحاضر.
من الحاضر إلى الماضي.
هذه الحركية التي يتغياها الشاعر عبد اللطيف غسري، خلخل بها المرجعية الموروثة.وأعاد تشكيلها ، وبناءها من خلال منظوره الخاص.. ومعناه:"أن النموذج الذي يتحرك نحو الماضي نموذج لا بد له من أن يستند إلى مرجعية معينة.. ولكن هذا الاستناد لا يعدو أن يكون امتصاصا لما هو سابق وقديم..استيعابا لعناصره المختلفة، ومكوناته. ثم إعادة لتشكيلها وبنائها، ليصبح النموذج ذا أثر رجعي"[10]...
وهذا يدفعنا إلى تبين مفهوم الشعر وكتابته عند شاعرنا عبد اللطيف غسري.
وهو يعرف أن الشعر – كما يقول في حوار له مع الأستاذ محمد فري- وما يزال أقل الفنون استقطابا للجماهير. ويرى أن هذا أمر تعزى أسبابه إلى طبيعة هذا الفن التي تتسم بنوع من "التعقيد التعبيري" الذي لا يستطيع إدراكه جميع المقبلين على الاغتراف من معين الفنون الإنسانية كلها. إن متلقي الشعر مثل قارئه يتوفر على أدوات خاصة تمكنه من فهم خصوصيات هذا الفن وتمثل إيحاءاته ومحاولة استيعابها. فالشعر مثلا يعتمد على الرمزية والإيحاء والبعد عن الطرح المباشر للمواضيع وهذا يسبب تشويشا أو على الأقل عدم وضوح الرؤية عند غير القادرين على قراءته واستيعابه. لذلك كله يبقى الشعر فنا "نخبويا" إذا جاز استخدام هذا اللفظ. لكن هناك أنواعا من الشعر تتميز بنوع من البساطة في الطرح على مستوى الشكل والمضمون وهي قادرة على أن تستقطب عددا أكبر من المتلقين مما قد يستقطبه الشعر المتلفع برداء الرمزية العالية والتعقيد الفكري والفلسفي.
ويرى الشاعر عبد اللطيف غسري أن ما ترمي به المطابع يوميا من دواوين شعرية ،لا يشير إلى شعبية أكبر للشعر، خصوصا إذا علمنا أن معظم هذه "الدواوين" ليس على مستوى عال من الشاعرية وينتهي أغلبه إلى رفوف المكتبات.
كما ينبه إلى خطورة المنتديات الرقمية، والتي أضحت تستثير اهتمام عدد كبير من المتأدبين في العالم العربي فصاروا يرشقونها بما يعنّ ُلهم من خواطر قد لا تصل إلى مستوى الشعر كما يراه ويفهمه وينظر له الخبراء به. وقد أدى هذا إلى وضع اختلط فيه الحابل بالنابل والغث بالسمين إذا أخذنا بعين الاعتبار حقيقة أن الكثيرين من هؤلاء المتأدبين أو المتشاعرين يُطبَّل لهم ويُهتف في كثير من هذه المنتديات. أجل، كان للتطور التكنولوجي الذي نعيشه في عصرنا الحالي أبلغ الأثر في تغير نظرتنا إلى الشعر والأدب عموما على الأقل من حيث أدواتهما الضرورية .
والشاعر عبد اللطيف عندما بدأ يكتب الشعر أول مرة وجد نفسه يخوض غمار صراع جارف بين عشقه للشعر العربي الأصيل الكلاسيكي وانبهاره بالشعر الحديث الذي يعتمد على تحديث الصورة الشعرية والابتكار على كل الأصعدة بما فيها الشكل. كان خياله الشعري موزعا بين هذا الإرث الضخم الذي تركه لنا شعراء العربية الفطاحل منذ العصر الجاهلي وبين هذا الأثر الفادح الذي خلفه تأثر شعرائنا المعاصرين الكبار بالثقافة الغربية. كان لكلا التيارين المتباينين سطوته الجبارة على فكره ووجدانه. وكان يتساءل في نفسه: "أي الاتجاهين ينبغي لي أن أسلك في تجربتي الشعرية؟.."
لا يعني هذا أنه كان يخطط لنفسه مسارا معينا في الشعر، فالشعر الحقيقي يأتي هكذا عفو الخاطر لا تكلف فيه ولا تخطيط مسبقا له. لكنه كان يريد أن يرضي رغبتين متباينتين في نفسه: أولاهما أنه كان يرغب في الإخلاص لشعرنا العربي الأصيل بما يتميز به على مستوى الشكل والمضمون عن باقي روافد الشعر الأخرى،والثانية أنه كان يريد أن يكتب شعرا يحترم روح العصر الذي يعيش فيه وثقافته. وقد خلص في نهاية هذا الصراع إلى الاقتناع بوجوب كتابة شعر يجمع بين هذين الأمرين المتنازعين في خياله الشعري: الأصالة والحداثة. وقد تساءل: "لِمَ لا نكتب شعرا حديثا ينتمي إلى العصر الذي نعيش فيه مع الحفاظ على خصائص شعرنا العربي الأصيل على مستوى الشكل؟ "...
لذلك نجده في قصائده الأخيرة يحاول أن يكتب شعرا عموديا ملتزما بالقافية والوزن التزاما صارما لا ترهل فيه لكن مع محاولة ابتكار صور شعرية جديدة يقول من خلالها أنه ينتمي إلى العصر وروحه وثقافته.
هذا سيحفزنا على معانقة شعر هذا الشاعر الجميل، ومحاولة استجلاء بعض جوانبه الشعرية..

[1]- د.شرف،(عبد العزيز)و، د. خفاجي،(محمد عبد المنعم)،النغم الشعري عند العرب،دار المريخ للنشر،الرياض،(د- ط)،1987، ص:11

[2]- المرجع نفسه، ص:11/12

[3]- قدامة بن جعفر، نقد الشعر، ص:5

[4]- ابن رشيق القيرواني، العمدة،1/77

[5]- ابن خلدون(عبد الرحمن)، المقدمة، مطبعة التقدم، ص:647

[6]- الشايب، (أحمد)،أصول النقد الأدبي، ص:294

[7]- النغم الشعري عند العرب، ص:22

[8]- النغم الشعري عند العرب، ص:23

[9]- النغم الشعري عند العرب، ص: 42

[10]- بلمليح، (إدريس)، القراءة التفاعلية، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء،ط1، 2000، ص:13

عبد اللطيف السباعي 08-15-2014 11:06 PM


قراءة في قصيدة (حَنـَانـَيْكَ يا طـُهْرَ المسافةِ...) للشاعر المغربي عبد اللطيف غسري
بقلم: الأديب والناقد المصري محمد عبد السميع نوح

رأيتُ بمرآتي العهودَ الخواليا
لها أثرُ الذكرى بـِيَوْمي وحاليا

تـَباعَدَتِ الأزمانُ لكنَّ ثِقـْـلـَها
يَنوءُ بهِ مستقبلي ومآلِيا

رأيتُ شماريخَ الطفولةِ غَضَّة ً
تطوفُ بوجداني وتـُذكِي خـَياليا

يُزاحمُها نبضُ الشبابِ بمُهجتي
فتـَصْطخبُ الآهاتُ حَرَّى بـِباليا

رأيتُ شآبيبَ الحنين تهاطلتْ
كقطر الندى تـَرْوي الربى والدواليا

وتغسلُ أوراقَ الفؤادِ فتنتشي
وتـَشْحَذ أطرافَ النـُّهى والحواشيا

وتـَسْقي بأنواءِ الصبابةِ دوحة ً
وتملأ بالشَّهدِ النمير السواقيا

أنـَظـِّفُ مرآةَ الخيال بخاطري
أرى حاضري والذكرياتِ البواقيا

فتقفزُ أحلامٌ بروحِي شفيفة ٌ
كأشباح أضواءٍ تـَشِفُّ الروابيا

وقفتُ على شَط ِّالشروق أبُثـُّهُ
لواعجَ أمسي والقروحَ الضواريا

فعَاوَدَنِي طيفُ الغروبِ بهمْسِهِ

وأشجانهِ، مَا لِلـْغروبِ ومالِيا

ولكِنـَّني لازمْتُ رُفقة َأحْْرُفٍ
يُغادِرْنَ أفياءَ السكونِ صَوَادِيا

ويبْحَثـْنَ عنْ رُكنٍ بـِصَرْح الضياءِ لا
يُغادِرْنَهُ إلا خِفافـًا كـَوَاسيا

فـَذِي صَهَوَاتُ الغيْم أضْحَتْ سَقيمة ً
وَذا جسدُ الأحزان أصبحَ عاريا

تـُرى هلْ يَشِينُ الوردَ أن يفقدَ الشذا
وأنْ يَخسَرَ النهرُ المياهَ الجواريا

حَنـَانـَيْكَ يا طـُهْرَ المسافةِ ضُمَّنِي
لقدْ تاهَ نجمي عن شجوني وَمَا بـِيا

أسابقُ بـِرْذوْنَ الزمان وفي يدي
لـُفافة ُشعرٍ أنـْزَلـَتـْها الرُّؤى لِيا

لعلَّ ظِباءَ البَوْح تملأ غـَابَتي
إذا صَحَّ عَزْمي فـَاقـْتـَنـَصْتُ القوافيا

وغامرتُ في صَيْدِ الشواردِ حية ً
وغافلتُ أطيَارَ الشعور الجواثيا

لعلـِّيَ أبْني لِلـْوُجودِ سفينة ً
فيبحرَ في يَمِّ القصيدةِ رَاضيا

وأصنعُ مجدَ القلبِ في ساحةِ المُنى
وفي مدنِ التطريبِ أعْلِي مَكانيا

المغرب
21/10/2009

عندما تجف ينابيع الحياة ، أو هكذا نتصور ، فإن الحلم هو البديل ، نهرب إليه من لظى الواقع ، وعندما يُشَوَّه الحلم ، أو تقطعه الكوابيس ؛ عندئذ لا يجد المرء مفرا من الانهيار .. ولكن الشعراء ، الشعراء فقط ينفذون من سم الخياط إلى بحبوحة القصيدة فينفثون فيها من أرواحهم اللواعج والآمال والآلام ولولا الصورة الجميلة تغلف الشعر كطبقة السكر على كبسولة الدواء لأحرق الشعر قراءه .. فنحن نتحايل بالموسيقى والمجاز الشعري والصورة الجديدة والنغم الحروفي للحروف وحرفة الإدهاش والمفارقة حتى نصل إلى قلوب المتلقين .. وفي القصيدة وقاية من أطباء النفوس والعقول وربما الأبدان ، وفيها الوجاء من جراحات الزمن في التشتت والضياع ، فهذا البوح لنا معشر الشعراء هو ما يحقق للشاعر توازنه النفسي ؛ذلك أن الشاعر تركيبة خاصة ومعقدة ، يذبحه القبح السائد في المجتمعات ، ويؤرقه الكذب والغدر والخيانة لو في آخر الدنيا .. الشاعر مرآة للآخرين فكيف لنفسه؟؟
وفي هذه القصيدة الجميلة المتوازنة لغة وموسيقى ، صورة وخيالا / يطالعنا الشاعر الكبير عبد اللطيف غسري بعنوان مكوَّن من ثلاث كلمات وحرف النداء :
حنانيك ...............1
يــــــــا............... 2
طُهْر..................3
المسافة........... .4
وزيادة على النداء المتضمن في البناء الخاص لـ "حنانيك " يجيء النداء بالأداة يا مقربا للحالة الاستجدائية الاستعطافية وهو يطلب لا حنانا واحدا بل حنانين ، تماما كما في نداء التلبية " لبيك " .. ويجعل الشاعر للبعد الروحي بينه وبين جزء من العمر صار ماضيا ولكنه مدفون فينا ، يجعل له هذا التجسيد في مفردة المسافة ، و تضع كلمة الطهرالمعنى الذي تدور حوله القصيدة ، وبشكل ربما يكون شخصيا جدا أحترم تلك التجارب التي تشير على أكبر مساحة ممكنة من الشعور فتجد الحبيبة الإنسانة وتجد العمر وتجد الوطن وتجد الأم وتجد الأرض وتجد نفسك ونفسي ونفس كل إنسان في القصيدة الواحدة ، ومن هنا وبناء على هذه الرؤية لا بد أن أتوقف عند الجمع في " العهود الخواليا " في البيت الأول وقد توهم الشاعر وأوهمنا معه أن عمره الذي مضى إنما هو عهودٌ خلت ْ ، وحول هذا المعنى : تباعدت الأزمان ـ رأيت شماريخ الطفولة ـ يزاحمها نبض الشباب .
تتكون القصيدة من واحد وعشرين بيتا في بحر الطويل الذي يشي اختياره بتضافره معالموضوع الذي يطرح قضية العمر وتجربة الحياة ، وكأنك مع زهير بن أبي سلمى في حوليته المعلقة : سئمت تكاليف الحياة ، ومن يعش = ثمانين حولا لا أبا لك يسأم ِ
القصيدة بجملتها وحي من نظرة في المرآة ، قد تكون المرآة على الحقيقة ، وقد تكون الرمز الذي أنتجته تأملات الشاعر ، ومن خلال الاستغراق في النظر تطرح القصيدة حدود المسافة التي تحاول أن تقصرها باسم الفعل " حنانيك " أي حُنَّ ثم حُنَّ أيها الطهر المسافرعلى تلكم المساحة الشاسعة من الوجود الذي يحاول الشاعر في آخر القصيدة أن يصيغه قصيدة َ شعر :
لعلي أبني للوجود سفينة = فيبحر في يم القصيدة راضيا
ولذلك نجد أن الأفعال في هذه القصيدة تقيم البناء في أحداث متراكبة تراكبا متسقا مع منطقية الحلم ، وهي على النحو التالي :
فعل ماض خالص : ستة عشر فعلا
فعل مضارع في معنى الماضي : ثلاثة وعشرون فعلا
فعل مضارع في الحال : خمسة أفعال
فعل أمر : واحد " ضمني "
إن ثمانية وعشرين فعلا في المضارع أمر يؤكد أن المسافة للوراء ،في الزمن المسترجَع ، ينسج منها الشاعر هذا السرد الشعري ، في الأبيات من :1 إلى 11تأخذه المرآة بمرائيها سنة من قبل سنة ، تماما كما تضع مرآتين متقابلتين بينهما منظر ،فإن المنظر يتكرر إلى ما لا نهاية .. ولو قلنا إن القصيدة تعمد إلى تلكم الصورة لكانت القراءة منتجة ، ولكنني أثرثر ـ استمتاعا بالفن ـ ، قلنا إن الأبيات من 1 إلى 11 هو في المرآة .
أما الأبيات من 12 إلى 21 النهاية فالشاعر يفر إلى نفسه ، إلى قلمه ، إلى عالمه ، إلى الشعر ..
ولنأخذ الأبيات الأربعة التالية من قلب القصيدة تماما : البيتان : 10 ، 11 نهاية بوح المرآة للشاعر ..
البيتان 12، 13 ردالفعل الشعوري ، وبالطبع فإن الأبيات السابقة على 10 ، 11 ، في سرد الحالة ، والأبيات اللاحقة لـ 12 ، 13 في وصف رد الفعل كيف سيكون والغرض منه والأثر الذي سيحدثه ،وكلها مهم ولكن القراءة تشير فقط وعليك عزيزي القارئ أن تطبق أنت فتقيم للقراءة نصفها الآخر ، وهذه هي الأبيات الأربعة :
وقفت على شط الشروق أبثه = لواعج أمسي والقروح الضواريا
فعاودني طيف الغروب بهمسه = وأشجانه ، ماللغروب وماليا
***
ولكنني لازمت رفقة أحرف = يغادرن أفياء السكون صواديا
ويبحثن عن ركن بصحن الضياء لا = يغادرنه إلا خفافا كواسيا
عناصر الجمال كثيرة ، وألتقط بعضها إضافة إلى ما سبق :
شآبيبب الحنين / شماريخ الطفولة / أوراق الفؤاد / أطراف النهى / أنواء الصبابة / مرآة الخيال / شط الشروق / طيف الغروب / أفياء السكون / صرح الضياء / صهوات الغيم / جسد الأحزان / وبالتأكيد : طهر المسافة / برذون الزمان / لفافة شعر / ظباء البوح / صيد الشوارد / أطيار الشعور / يم القصيدة / مجد القلب / ساحة المنى / مدن التطريب .. هذه منظومة من الصور الناتجة عن نحت المضاف والمضاف إليه بعضها مأهولٌ وبعضها جديد تماما .. والذي يعنينا هنا أن كثرة المضاف إلى النكرة يأتي كإضافة جزء من العمر متبقٍّ إلى مسافة فادحة من العمر تقضَّت ْ ..
وأشعر بميل إلى أن أختم القراءة بهذه الأبيات دون أن أفسد جمالها بالشرح والتحليل ، فهيا :

أسابق برذون السماء وفي يدي = لفافة شعر أنزلتها الرؤى ليا
لعل ظباء البوح تملأ غابتي = إذا صح عزمي فاقتنصت القوافيا
وغامرت في صيد الشوارد حية = وغافلتُ أطيار الشعور الجواثيا


عبد اللطيف السباعي 08-18-2014 03:04 PM

عبد اللطيف غسري شاعر يمسك بلجام القصيدة
بقلم الشاعر والناقد المصري عبد الله جمعة


اللغة : كلمة مشتقة من لغا يلغو إذا تكلم فمعناها الكلام .
وفي اصطلاح علم اللغة : فقد عرفت تعريفات عدة أشهرها ما ذكره ابن جني في كتابه ( الخصائص ) حيث قال : " حد اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم " وقد وردت بعد ذلك تعريفات عدة على يد كثير من علماء اللغة إلا أن كل هذه التعريفات قد اتفقت على أن اللغة ترتكز على أربعة ركائز هي :
1 – أصوات منطوقة 2- أن وظيفتها التعبير عن أغراض
3- تعيش بين قوم يتفاهمون بها 4- أن لكل قوم لغة
فهذه – تقريبا – هي الأركان التي يدور عليها تعريف اللغة عند جميع من عرفها وإن كانت بعض التعريفات الحديثة تتوسع فتدخل الإشارة وانفراجات أسارير الوجه وتقطيبها إلخ إلا أننا في بحثنا هذا معنيون باللغة التي هي كما عرفها ابن جني وجعلها في صورة صوت منطوق يعبر عن أغراض أقوام يتفاهمون من خلالها ...
وهنا نقف على سؤال : إذا وقف بشريان من منطقتين مختلفتين في اللغة دون أن يعرف أحدهما مدلولات الأصوات اللغوية للآخر فهل يحدث بينها تفاعل فكري ؟ بالقطع ستكون الإجابة لا ... وهذا أمر طبيعي .. ولكن غير الطبيعي أن يقف بشريان من منطقة لغوية واحدة وأحدهما ينطق بالصوت المتعارف عليه بين أهل هذه المنطقة ولكن لا يحدث تواصلا فكريا بينهما ,
ومن هنا أتساءل : ما الذي قطع التواصل الفكري بينهما على الرغم من توحد المفاهيم الصوتية بين المتحدثين الاثنين ؟ إن أشياء أخرى دخلت غير التعارف الصوتي للمنطوق أحدثت خللا في المنظومة التفاعلية بينهما فالمدلول الصوتي للغة واحد بين الطرفين ولكن حدث قطع لصلة التفاهم ومن هذا الأشياء :
1 – عدم القدرة على تركيب أحدهما للجمل بصورة تستدعي تفاعل الآخر معه على الرغم من فهمه مفردات الصوت المنطوق
2- فقد ملكة الإبهار والإدهاش لدى المرسل ومن ثم فتور المستقبل عن الاستقبال
3- ضعف المؤثرات الصوتية الأخرى كالموسيقى المصاحبة للفظ المنطوق وفي الشعر تكون ممثلة في الأوزان والتفعيلات ومن هنا أنوه على قيمة الصوت التفعيلي في الصوت الشعري لمن يدعون الحداثة وينكرون التفاعيل حيث يفقدون أهم مقوما من مقومات الصوت الشعري
4- اللجوء إلى الأصوات الغريبة الشاذة ذات المخارج المتداخلة الخشنة والتي تعسر العمل على وعي المتلقي فتشوشه وتجعله خارج نطاق خدمة الاستقبال السليم لما في الألفاظ من غرابة ووحشة
ومن هنا كان لزاما على الشاعر الواعي أن يحقق تلك المبادئ في منتجه الشعري ساعيا بكل طاقته أن يوظف مهارته في الوصول إلى المتلقي من أقصر السبل ولا يتأتى هذا إلا شاعر خبر واختبر وتفاعل واعتبر وهنا في القناديل مذ دخولي وأنا أتحسس طريقي إلى تلك الزمرة من الشعراء المبدعين الذين يقبضون على آلتهم الشعرية بإحكام وطمأنينة تجعل المرء يتساءل وما السر في هذا المنتدى الذي لا يجمع إلا تلك النوعية من الشعراء القادرين على بلوغ حالو السمو التعبيري ؟ حقيقة لم أصل إلى إجابة بعد ؟ فالويب تنتشر عليه المنتديات الأدبية ولكن حقيقة لا تقبل الجدل أن هذا المنتدى له رونق خاص في جمع هذا العقد الألق من الشعراء وذوي الفكر المتقد والبصيرة النافذة
ومن الشعراء الذين شغلوني كثيرا بمنتجهم الشعري لدرجة أن ملكتني الحيرة من أي الزوايا أغوص في بحره الشعري ... الشاعر ( عبد اللطيف غسري ) ذلك الشاعر الرصين الذي يشعرك حين تطالعه أنك تعيش في عالمين متناقضين جمعهما في ألفة شديدة ؛ عالم الشعر التقليدي الرصين وعالم المعاصرة الشعرية ومواكبة معطيات العصر ... فمن أين أتت تلك المقدرة على الجمع بين هذين النقيضين ؟
إن عبد اللطيف غسري يقبض على ملكات عدة نوهت عنها في بدء قراءتي هذه وهي :
1 – القدرة على تركيب الجمل بصورة تستدعي تفاعل الآخر معه وأعني بالآخر المتلقي ومن ذلك :
قوله في قصيدة سيف الكلام :


وَالليلُ جـاثٍ علـى أنَّاتِـهِ ضَجِـرٌ
هَل ضَمَّدَ الصَّمتُ جُرْحَ الليلِ أمْ نَكَأَهْ

والشاهد هنا قدرته على صياغة الجملة العربية حيث أصر على رفع كلمة ( ضجرٌ ) عن عمد وافتنان على الرغم من اقترابها من الحالية فإن جوزناها على الحالية نصبت فقلنا ( ضجرا ) حيث تصبح حالا لاسم الفاعل العامل عمل فعله " جاث " ولكن اسم الفاعل العامل عمل فعله أحدث السيولة المعنوية اللازمة فلم يحتج الشاعر إلى حركة الحال المعنوية فجمد لفظة ( ضجرٌ ) على الابتداء المتأخر ليحول الجملة من معنى الفعلية إلى الاسمية البحتة وما تحققه من ثبات في المعنى فضلا عن أن رفع الكلمة على الابتداء يفتح مساحة المعنى فيجعل من التعبير مركبا من جملتين إحداهما ( الليل جاثٍ ) والثانية ( على أناته ضجرٌ ) وكلاهما جملة اسمية ولكن الأولى أحدثت السيولة والحركة لما فيها من مشتق يقوم مقام الفعل في العمل ( جاث ) والثانية اسمية صرفة ( على أناته ضجرٌ ) وإصرار الشاعر دليل على وعيه التام بمدلول الجملة ومساحة التعبير الذي سيزيد اتساعا بجملتين بدلا من تضييقه باستخدام جملة واحدة وتحويل العمدة ( ضجرٌ ) المبتدأ إلى فضلة ( ضجرا ) على أنها حال ... وشاعر كهذا يمسك بزمام المعنى والمبنى معا عارفا كيفية تطويع المبنى لخدمة المعنى يقف أن يوقف عليه ويدرس شباب الشعراء كيف يمكن هذا التطويع الذي لم يتأتَ من فراغ وإنما من علم وطول دربة وممارسة شعرية
2- القدرة على إحداث الإبهار والدهشة مما يجعل المتلقي في حال من اليقظة الدائمة سواء بالالتفاف حول المعاني والبعد عن المباشرة أحيانا أو بالمباشرة المبهرة وإجادة توقيف المعنى مع مراعاة الوحدة الموسيقية ومنه قولهفي قصيدة ( قدر القصيدة ) :


ولكنْ بَهجة ُ الشعراءِ فـي أن
يقولوا ما يَضيقُ بـه المَقـالُ


أنهى البيت موسيقيا دون أن يتمه معنويا حتى يشغل المتلقي لمتابعة الحدث الشعري دون أن يتفلت منه أو يذهب مذهبا أخر وكأنه يشد المتلقي معه فلا يشعره بتمام المعنى إلا مع نهاية الوحدة الشعرية (البيت)
3- وجود المؤثرات الموسيقية إلى جانب صوت اللغة المنطوق كداعم ومؤثر خلفي للمعنى فيحيل النغم الموسيقي المتلقي إلى مستشعر بموسيقى تصويرية متفاعلة مع المعنى الشعري ومن ذلك في قصيدته ( سيف الكلام ) التي يقول في مطلعها :


سَيفُ الكلامِ أتانِي حامِلاً صَدَأَهْ
والليلُ يَنْفُثُ فِي أنفاسِهِ حَمَـأَهْ


لجوء الشاعر إلى قافية (الهمزة) ثم الإتيان بحرف الوصل ( الهاء ) ساكنا مقيدا والقافية ( متراكبة ) ودعوني أفصل القول في هذا المسميات الثلاثة حتى نعرف مدى التمكن الذي يمتلكه هذا الشاعر ليحدث موسيقى تصويرية من خلال القافية وحدها تستطيع أن تصله بالمتلقي فهو يرهق نفسه حتى يريح المتلقي في مسامعه
( الروي ) في القصيدة الهمزة وهي حرف ذو انفجار صوتي كما عبرت في موضع سابق
( الوصل ) الحرف الذي يقع بعد الروي وهو هنا هاء الضمير الساكنة
( المتراكب ) وهي القافية التي يقع فيها ثلاث متحركات بين ساكنين
ويسألني سائل : ولم شغلت نفسك بتلك المصطلحات وشرحها ؟
أقول : ما رأيك في سيارة تسير بمنتهى السرعة ثم تصطدم فجأة فتتوقف إنها تحدث رجة عنيفة لمن يجلس في داخلها ... بل أقول : هل منا من يذكر لعبة المدفع التي كانت تمارس في الموالد ؟ حيث يقوم الرجل بدفعها بمنتهى القوة وفي نهاية المجرى تصطدم اصطداما عنيفا بمادة مفرقعة فتحدث دويا هائلا ؟ إن تلك القافية التي استخدمها ( عبد اللطيف غسري ) فعلت بنا هذا تماما كما مثلت في المثالين السابقين ...
فقافية ( المتراكب ) سرعت الإيقاع بقوة المتحركات الثلاث المتتالية ثم ارتطمت فجأة بوقفة سكون على حرف ( الوصل ) الذي هو الهاء ليحدث اهتزازة تصادمية في آخر كل بيت تحيلنا إلى الإفاقة من التعاطي مع معنى البيت حتى نتهيأ لرحلة السرعة تلك مع البيت التالي حتى نصطدم مرة أخرى مع تلك القافية ( المتراكب ) السريعة المنتهية بحرف وصل ( الهاء ) ساكن فجاءت موسيقاه المصاحبة قوية تتوازى مع المراد إيصاله للمتلقي
4- البعد عن الأصوات الغريبة ذات المخارج الشاذة بل والسعي إلى انتقاء الفاظ متالية ذات مخارج صوتية متفاهمة مما لا يشعر المتلقي بحال من النشاذ الموسيقي لصوت اللفظ فجاءت مخارج أصوات الحروف متناغمة لا شذوذ فيها ولا نشاذ ...
هذه مجرد إضاءة علىبعض زوايا الإبداع لدى شاعر يستحق العكوف عليه دهرا لاستخراج ما عنده من مكامن إبداع ولكن الزمان والمكان دائما ما يضيقان على استخراج كل الدرر


عبد الله جمعة
الإسكندرية
الأربعاء 28 – 7
- 2010-07-29

عبد اللطيف السباعي 08-18-2014 03:06 PM

الشاعر عبد اللطيف غسري
بقلم: عبد الله جمعة

نتناول في هذا الفاصل مجموعة من زوايا الرؤية التي يتخذ منها الشاعر وجهة نظر في مواجهة واقعه الشعري محاولين تطبيق كل فلسفة من خلال نص شعري من شعراء القناديل قدر الإمكان حتى يكون الأمر قريبا من تفاعلنا ...
1 – فلسفة الشكوى : وهي واحدة من دوائر النضج الفكري الشعري تتولد من الصراع النفسفكري بين الشاعر وواقعه الشعري وفيها يتبنى الشاعر قيم الشكوى وعدم الرضا والسخط المستمر على كل ما يواجهه من مثيرات في هذا الواقع وفي هذه الدائرة يقوم الشاعر بتركيز تصويره على أدق تفاصيل الواقع القبيحة من خلال شكواه المستمرة متهما الواقع المحيط بفعل كل منتقص مفندا نواقص هذا الواقع وهذه الطبيعة الشعرية ترتكز على تضخيم المشكلة التي يتناولها في تجربته وتعد هذه الفلسفة خيطا يمتد عبر أغلب تجاربه على تنوعها وتقلبها ومن ثم يمكن وصف هذا الشاعر بالشاعر الشكّاء ومن هؤلاء الشعراء الذين دخلوا تلك التجربة بقوة وقاموا بملئها الشاعر الكبير ( عبد اللطيف غسري ) وسوف نتحقق من معالم تلك الفلسفة من خلال تعرضنا لبعض من نصوصه محاولين تحقيق معالم تلك الفلسفة من خلال نصوصه . من قصيدته ( قدر القصيدة ) :
أنينُ الحَرفِ في السَّحَرِ انْشِغالُ
بِـآلامِ القصِـيـدَةِ وَابْتِـهَـالُ
ولِلكلمَاتِ في وَصـفِ اللآلـي
جنوحٌ بالبَيَـانِ لـهُ اشْتغـالُ
فإن صَدَحتْ قرَائحُنا ببَعـضٍ
منَ الأشجانِ يرسُمُهُ الجَمَـالُ
فما كنَّـا علـى وَتـرٍ وقوفًـا
ولا أغرى جوانِحنَـا الـدلالُ
ولكنْ بَهجة ُ الشعراءِ فـي أن
يقولوا ما يَضيقُ بـه المَقـالُ
فكيفَ نُلامُ مِمَّنْ ليسَ تُرْعَـى
لهُ في الشِّعر نُـوقٌ أو جِمـالُ
وكيف يُقالُ ليـسَ لنـا ذِمـامٌ
وكيفَ يُقالُ فُـكَّ لنـا العِقَـالُ
وإنَّـا لا نبَـالـي باعْتـقـادٍ
ولا مَا تستقيـمُ بـه الخِـلالُ
إذا عَنَّتْ لنا بيـضُ القوافـي
على كثبٍ أوِ انْفتَـحَ المَجـالُ
لزرْعِ غيَاهبِ الأوقاتِ بِشْـرًا
فيُصبِحَ للوجـودِ بـهِ اكتمـالُ
وتلـكَ مقالـة ٌ لِلجَهـل فيهَـا
نـزُوعٌ واحتِبَـاءٌ واتِّـصـالُ
قديمًا أبْـرَقَ الجُعْفِـيُّ قـولاً
إلى مَن في مَدَاركِهِ عُضـالُ:
"ومن يكُ ذا فمٍ مُـرٍّ مريـضٍ"
فلا يَحلو لهُ المـاءُ الـزلالُ*
بِزندَقـةٍ قـدِ اتُّهِـمَ المعَـرِّي
ولمْ يكُ فِي الضمير لها احتمالُ
أدِينَ بمِثْلِِها الحَسَنُ بْنُ هانِـي
وقِيلَ لَبِئسَ قَوْلُـكَ والخِصـالُ
وبَعضُ النَّاسِ ليسَ لهُمْ عقـولٌ
فتُدركَ ما يَقولُ بـه الرجـالُ
فكيفَ إذا أتى الشعـراءُ يومًـا
بقولٍ لا يُحيـط بـهِ الخيـالُ
ترَاهمْ يَنظرونَ إلـى قُشـورٍ
لهَا عَن زُبْدَةِ المَعنى انْفصـالُ
ويَنتبذونَ عَـن عَمْـدٍ مكانًـا
قَصِيًّا في الجَهالـة لا يُطـالُ
فَذا قدَرُ القصِيدَةِ ليتَ شعـري:
عروسٌ لا يَطيبُ لهَا الوصالُ
الشاعر في هذه القصيدة يحاول أن يرسم لنا ما آل إليه قدر القصيدة من هوان على يد من لا يرعون للشعر حرمة ولا يقيمون لرحم الشعر وزنا حيث يسيطر بعض من لا يملكون حسا نقديا أو دعما معرفيا على دائرة الشعر فيطلقون أحكاما لا علاقة لها بالإبداع بل تنم عن جهلهم في تحويل مسار القصيدة بعيدا عما خلقت له وهذا هو الواقع الذي يتصادم معه الشاعر ومن ثم فقد أعد عدته وجهز أسلحة الشكوى التي يمتلكها ودخل دائرته الفلسفية التي تمثل وجهة نظره وبدأ في عرض تفاصيل تلك الشكوى الممثلة في : أولا : مدى المعاناة التي يعيشها الشاعر في إنتاج الحرف الشعري وآلام المخاض الشعري العسر حيث يبدأ الأمر بالانشغال بأنين الحرف وتوجعه وكأن آلام الطلق الشعري قد بدأت تعلن عن ميلاد تجربة ولكي يعد تمهيدا منطقيا للشكوى القادمة في الأبيات التالية جعل ذلك الأنين في أكثر الأوقات التي يكون فيها الناس العاديون في حالات الاسترخاء ورفاهية النوم ولكن الشاعر في ذلك الوقت يكون قد بدأ مرحلة المعاناة الشعرية فهو يعيش نقيض ما يعيشه الناس ففي وقت راحتهم هو ساهر على تجربته يعاني من آلامها ووجعها وحين تتحرك دوافعه النفسية راغبة في التفجر باحثة عن ممرات تعبيرية مناسبة يبدأ الانشغال في البحث عن تلك الممرات الممثلة في المركبات البيانية والتي هي تمثل جنوحا من قبل الشاعر عن الواقع ومحاولة منه للالتفاف حول هذه الواقع لإعادة تصويره وبنائه في الحيز الشعري فيتحول الأنين والألم لدى الشاعر إلى جمال تتقبله ذائقة المتلقي فيستمتع هو على الرغم من أن من أنتج هذا الجمال كان يعاني تماما كالأم التي تتألم في المخاض وتعاني أشد المعاناة لتخرج وليدها بهي الطلعة كل من يراه يتعجب من جماله ؛ " أمن الألم تولد هذه الجمال ؟" ولكن من يراهن على جمال الوليد لم ير ولم يستشعر ضراوة الآلام التي مرت بها تلك الأم ( الشاعر ) في ولادة هذا المخلوق الجميل الممتع ... ثم يبدأ الشاعر في تبرير رغبة الشاعر في ممارسة هذا العذاب بكامل إرادته فهو لا يبغي من ورائها ثمنا اللهم إلا رؤية وليده في صورة صحيحة جميلة يعجب الناظرون لرؤيتها ... ثانيا البدء في عرض تفاصيل الشكوى : حتى الآن الشاعر يمهد لعرض خيوطه النفسية التي ستمثل زاوية رؤيته وهي ( فلسفة الشكوى ) فيبدأ الانطلاق نحو تلك الصبغة التي يصطبغ بها ( عبد اللطيف غسري ) في الكثير من قصائده وهي الرغبة في الشكوى المستمرة من هذا الواقع وتكون إشارة البدء لعرض تلك الفلسفة من أول البيت السادس , حيث يعلن عن تعجبه ممن لا يمتلكون حسا شعريا أو نقديا ويتعرضون باللوم لذلك المنتج وهم لا يدركون مدى معاناة الشاعر في تخريج ذلك الوليد المرهق وقد مرت شكواه في هذا البيت من خلال ثقافة عربية ضاربة بجذورها في التاريخ ممثلة في مثل عربي - تناص معه الشاعر بمهارة وإتقان - حين قال ( فكيف نلام ممن ليس ترعى - - - له في الشعر نوق أو جمال ) فأحال المعنى على الحكمة العربية حيث لا يحق لمن ليس له ناقة ولا جمل في الأمر أن يدلي بدلوه في مضمار ليس له فيه شيء .. [ وهذا ماكنت أعنيه في المحاضرة السابقة من (((الامتلاء الفكري))) ... وهي قدرة الشاعر على استدعاء ما يشاء من رافده المعرفي وقتما يشاء بأي حيثية يشاء] ثم ينتقل الشاعر بين تفاصيل شكواه ممررا خيطه الفلسفي الشاكي في الأبيات التالية للبيت السادس من خلال الاستفهام التعجبي الذي جعل منه الشاعر صابغا لفلسفة الشكوى التي اصطبغ بها سائلا : فكيف نتهم بأننا ليس لنا ذمام من هذا الأخرق الذي لا يعرف قيمة العمل الشعري وكيف يتهمنا بالعشوائية الفكرية وأننا لسنا من أصحاب الاعتقاد ونحن الذين نكمل النواقص ولا تصبح للدوائر معان إلا بنا لأننا المتممون لتلك الدوائر فنحن بسمة اللذة في الوجود ونحن أمل التائه في صحراء النفس القاحلة , إن من يدعي ذلك علينا إنما هو جاهل موغل في الجهل ثم استدل من خلال ظاهرة التناص مع تراث شعري حيث اتهم من يقول هذا بمرض الفم وخبثه وعدم قدرته على صياغة الجمال أو التلفظ به ... ثم بدأ في استحضار الشعراء الذين يثبتون أن الشعر كائن مقدس ومحراب للزاهدين فجاء بالمعري وأبي نواس " الحسن بن هانئ " ذلك المتهم بالزندقة أليس قد ختم حياته زاهدا من أتقى الزاهدين والعبرة بخواتيم الأعمال وقد سُبِق بتلك التهمة من قبله المعري ... ( إن هذا ما عبرت عنه سالفا من الحديث عن الامتلاء الفكري عند الشاعر فلولا وجود هذا الجانب المعرفي بحياة المعري وأبي نواس في مخزون الشاعر ما استطاع جلب هذا المعنى الخالد الرقيق الشفاف ) وتتجلى هنا فلسفة الشكوى الظاهرة في شعر عبد اللطيف غسري وكأنها عرق رخامي يمر في حائط البناء الشعري للقصيدة واضحا جليا حين يبدأ في إلقاء اللوم على بعض الناس ممن ليست لهم عقول فيستقبلون قول ذلك الناقد المريض على علاته ويصدقونه فيكون هذا الناقد المريض قد شوه صورة الشعر دون أن يدري وبجهل مقيت .. ومن عيب هؤلا النقاد أنهم غير قادرين على الغوص في أعماق المعنى وإدراك ما وراء الكلمات فيشغلون أنفسهم بالقشور دون الغوص وراء الدرر الكامنة في قاع القصيدة الشعرية ثم يختتم بتلك الحكمة الرائعة الهائلة التي جسدت وكثفت هدف التجربة كلها إن القصيدة بين أيدي هؤلاء الأغبياء مثل العروس التي تزوجت ولكنها لم تنل من متعة الزواج شيئا وكأنها ( كالبيت الوقف ) كما يقول المصريون لم أكن من خلال العرض السابق أعني شرح الفكرة العامة للقصيدة فهي واضحة وضوح الشمس ولكنني مررت من بين افكارها لأبين كيف أن هذا الشاعر قد اتخذ من ( فلسفة الشكوى ) زاوية رؤية فكرية يرى من خلالها الواقع وسوف أستعرض جزءً أخر من تجارب للشاعر ( عبد اللطيف غسري ) محاولا تحقيق معالم تلك الفلسفة أو زاوية الرؤية أو وجهة النظر في مواجهة واقعه الشعري ومنها قصيدته ( إلى البحر أطوي كل موج ) وهي واحدة من الروائع التي نستدل منها وبها على معالم تلك الفلسفة التي تقوم على الشكوى يقول في مطلعها :
يَخُبُّ حِصَانُ الشَّمسِ والظلُّ واقِـفُ
وَأنتَ على تشْذِيبِ حُلْمِـكَ عَاكِـفُ
وَأوْراقُـكَ العَـذْراءُ سِفْـرٌ طَوَيْتََـهُ
وَمِنْ شَجَرِ الإحْسَاسِ فِيـهِ قطائِـفُ
وَلِلماءِ أُخْـدودٌ يَقـولُ لـكَ اقْتحِـمْ
عُيُونَ الشِّتاءِ الآنَ.. هَلْ أنتَ وَاجِفُ؟
إنه يبدأ بالشكوى إذ يقول ( يخب حصان الشمس والظل واقف ) لقد أحسست أمام هذه الجملة بأن الشاعر يصرخ إلى الداخل تاركا صدى الصوت هو الذي يخرج لنا مرتدا من داخله فإن ترك صراخه منطلقا إلى الخارج لأصبنا بالصمم من شدة صراخ الشكوى ... إن ( الخبب ) هو السير السريع فإذا خب الفرس نقل أيامنه وأياسره جميعا في العدوة الواحدة من سرعة العدو فصور الشمس جوادا ينطلق بسرعة مخيفة ثم مرر خيط الشكوى واللوم في قوله ( والظل واقف ) ويستمر في تفريغ شحنة الشكوى اللاحقة ( وأنت على تشذيب حلمك عاكف ) إن انفجار الشكوى كان مكمنه ( إنك تقوم بتهذيب حلمك الذي لم يعدُ كونه حلما والشمس التي هي رمز للحياة تتحرك بسرعة والظل الذي هو رمز لك مازال واقفا ... والمفارقة الرهيبة في أننا حين نرى الشمس تتحرك يكون المتوقع أن الظل يتحرك معها ولكن الشاعر أبى إلا أن يحقق التناقض في مفارقة غاية في الروعة والابتكار فجعل الظل تاركا الشمس واقفا لا يتحرك فالحياة تسير وأنت واقف ما زلت تسعى بحلمك إلى غاية الاكتمال لم تصل به إلى حيز الوجود بعد ...) إن الشاعر هنا يشكو ولكن ما قضية الشكوى المتفجرة في ذلك المطلع الذي هو بوابة الولوج إلى مضمون وهدف القصيدة ... ؟ إنها الشكوى من سرعة الحياة التي لم يعد المتقن المتأني قادرا على ملاحقتها ولم يعد له دور فيها ومن ثم فمن أراد ملاحقة الحياة عليه أن يخرج أحلامه منقوصة غير تامة أي يقتل ضميره ويسير على مبدأ الغش وتزييف بضاعته حتى يستطيع أن يواكب سرعة تلك الحياة ... إن الشاعر عبد اللطيف غسري تضج قصائده بالشكوى ولا يكاد يمر بيت علينا من قصيده إلا ولاحظنا تلك المسحة من الشكوى العارمة من كل شيء , كل شيء ... وتلك هي زاوية الرؤية الأولى التي أحصيتها في المحيط الشعري بعد طول بحث واستقصاء

عبد اللطيف السباعي 08-18-2014 03:09 PM

قراءة في ديوان قوافل الثلج للشاعر المغربي عبد اللطيف غسري
محمد محقق

قوافل الثلج أو عشق الشاعر المتدفق ينابيع من العواطف الجياشة تجاه المعشوق هو مقاربة منفتحة لشعر الشاعر المغربي عبد اللطيف غسري والمستهل بقصيدة( وتمرين بي إلى المتكالبون على رغيف الوقت ) فالرؤية الجمالية والتخييلية لهذه القصائد تبدو وكأنها قطعة موسيقية يسودها التوافق والانسجام اللذان يسموان بالنفس إلى مقامات البهجة والإنبهار، وهو يتألف من 96 صفحة من الحجم المتوسط ويتضمن 29 نصا شعريا من القصائد العمودية تتخللها نصوص تفعيلية ، وهذا الديوان تم إصداره عن مطبعة تبوك وهي الطبعة الأولى للكتاب الذي هو قطعة من حلم الشاعر الأثيل وتذكار أزلي لعلاقته بالحبيبة والطبيعة ولوحة الغلاف تعانق هذا البعد المكاني بما يتواشج في فضائها من مكونات بصرية كما أن العلاقة بين الشاعر والقصيدة العمودية التي ترجم من خلالها أحاسيسه ومشاعره الجياشة تجاه المعشوقة / الأنثى ، والطبيعة واللغة ، تعلو إلى مراقي العشق الخلاق المنسوج بحرير الحياكة الرؤيوية المغايرة والحلم المستشرف والممتد بين الإنتشاء والإفتتان، كل هذا جعلنا ندرك قدرة الشاعر على خلق روح الإنفعال العاطفي المتمثل في مناخ من الشعر الوجداني وهو بهذا صنع له عالما خاصا به حين استمر بتداخله العاطفي في طرح عشقه إلى معشوقته حيث طيفهالا يفارق مخيلته إذ هي دائمة الحضورفي رواحه وغداته وفي اختياره للعنوان قوافل الثلج الثلج/ الماء ، لأنه يمثل عنصر الحياة على سطح الكون,. . وبكل ما تحمله هذه التسمية ،. ماهي إلا تعبير يقوي هذه الرابطة ،وهي دلالة على الوحدة العضوية بين عشقه للأنثى وبين قوافل(كثرة) الثلج النقي الأبيض اللون الذي يدلّ على الطهارة والصفاء.
وبين هذه الظاهرة الطبيعية للثلج المتواجد على رؤوس الجبال وبين القافلة التي تحمله من هناك لسقي بذور النبات/ شرايين القلب العاشق ، لهو تصوير جميل لعنصر الحياة بالنسبة للشاعرالذي يترجم أحاسيسه وهمساته وعشقه عبررسائل بيضاء للحبيبة كماء زلال يمده بمتعة الحياة ولباس ثوب العافية. . حين يعبر عن ذلك ب:
ولكن ثلج محياك ترجى ************* حياة على دربه أو منون
والشاعرفي استخدمه للطبيعة في شتى قصائده جاء لتثبيت تشبته بهذه العلاقة الطبيعية الشفافة المتمثلة في صفاء الحياة وبراءة سننها، مبرزا قدرته على تمثيل ما بداخله عليها إذ هي مرآة لعواطفه ومخاض روحه في عشقه لحبيبته مستخدما في ذلك رموزها بشكل مكثف في قصائده( الثلج ، النار، البحر ، سواد الليل ، السواحل ، الفراش ، الورد ، السماء ، الطيور ، الأشجار ، البجع ، النسيم ، العطر، المساء ، منازل ، الأنهار ، الموج ، النجوم ، القمر ، البدر،الظبي ..) .
ولعل المتابع لقصائد هذا الشاعرالمبدع، يجد ما تحمله من عاطفة قوية تتغلغل في داخل القلب وتطرب لها النفس، ولعل قصيدتيه "قوافل الثلج و تتحدث ملء فم عبق " دليلٌ واضح على مدى صدق هذا التدفق العاطفي :
رذاذ التمنع في شفتيك شهي
كطعم البنفسج في همسات الفراش
.......
سأسكب قارورة الوجد
فوق سفوح الخيال وأرصفة القلب
........
تهتز لضحكتها الغرف
جدلا وتهش لها السقف
........
ونوافذ قلبي مشرعة
لنسيم تحمله السجف
وشموع الوجد ترافقه
فتضيء الروح وتنصرف
والعشق يحمل عادة على الشوق والصبابة والهوى النابع من جوف الروح وثغرة اللسان الذي ينفتح تلقائيا للتعبير مباشرة لهذا الهيام وجنون الحب الشيء الذي جعل شاعرنا يوظف كل الصور الدالة عليه ،والتي من خلال عناصرها أكسبت الديوان لغة تعبيريّة جديدة محتجبة في دلالتها ومتحوّلة في معانيها ومتداخلة في مقاصدها ، وهذا التفاعل الحاصل بين الشاعر وبين المشهد الطبيعي زاد من حيوية القصائد وقدرتها على التأثير؛ لما لها من الصدق في الإثارة وفي البناء والصياغة، فنجده يقول في مطلع القصيدة سيف الملامة
البدر لاتنتابه الرعدات
أو يعتريه الخوف والرجفات
إلا إذا رعشت له أجفانها
أو اشرقت من ثغرها البسمات
خنساء أطربها النسيم على الربى
فتراقصت من شعرها الخصلات
حيث نلاحظ ثراء لغة الشاعر واتساع مروحة موضوعاته وخصوبة مخيلته ومايوحد هذه القصائد على تباينها هو مصدرها القلبي وجذورها المكانية الطالعة من هامات السحاب وغلالات الضباب وأحشاء تلك الجبال الشامخة والهضاب والأودية والبحر و....
ونتحسس بعضها من قصيدة تقاسيم على أوتار رملية وهمسات في آذان البحر وأنا شبح يختلي بالمرايا...
ركز الوهم حرابي ********** فوق هامات السحاب
حين سافرت دهورا********* في غلالات الضباب
.........
أين مني شهقات ********** ملء أنفاس الروابي
.......
ومتاهاتي وسبلي********** وفجاجي وشعابي
...................................
لقلبي أن يحضن الموج
.......
أن أركب الرمل فوق كثيب الحنين
......
سألتك ياليل هل في رؤاك
غديفتدي يومه والغدا
وهل يسكن النجم برد الظلال
وقد بايعته الربى سيدا
فهذه مشاعر تصوغها مخيلة لاتنام ، دائمة التيه والترحال ، ترنو إلى توقيف الزمن وفتح باب الأمل ...
المنى في عيني غابة أيك *********** والأسى في كفيك حزمة شوك
......
تورد العمر مورد ليس فيه ********** غير تسهيد أو معيشة ضنك
......
فخذي أسباب الوصال ، تعالي ********* إن أسباب البعد أولى بترك
مع تأمل الشاعر لأداته الشعرية المتمثلة في الهجرة الرمزية التي تحمل ملامح شبه صوفية والمرتبطة برمزية الليل وهدأة المساء منطوية على الخوف و التفاؤل اللذين يبسطان دلالتهما على مابعدها في عينيه العاشقتين وفي بهجة تجدد حياته ، حيث نجده يقول في قصيدته ما زلت أشرد في آثار راحلتي و أكفان العتمة ملء يدي
منازل الدفء شتى ..كيف أحرسها ********* والثلج تلبسه ليلا ويلبسها
أنى مررت بها استشرفت طلعتها ********* في سورة الشوق حتى كدت ألمسها
......
ما زلت أشرد في آثار راحلتي ****** أتجأر الآن أم أرقى فأنخسها
أريدها رحلة في جوف عاصفة **** هوجاء لا نصب في القلب يحبسها
...................................
وأنوب وروحي هائمة ****** وأؤوب بقلب مبتهج
قمري ... مشكاتك مثبتة **** في باقة ليلي .. في الفرج
فأنا المولود على وتر **** ما حاجة شدوي للحجج
فالديوان قد أوصل الصورة التعبيرية للقارئ ،لما تحتوي عليه قصائده من جمالية وصور رائعة تستهوي النفس وتشد انتباهها خصوصا وهو يتغنى بالفراش وشدو الأطيار فنراه يقول :
رذاذ التمنع في شفتيك شهي
كطعم البنفسج في همسات الفراش
.......
وفراشة الشبق القريبة تنتشي
فتكاد تجدبنا اشتهاء تلبس
.....
يثب الفراش الغض بين أصابعي **** يجتاحه خفر يشب تضرعا
......
افرد جناحك ياهزاز تمنعا ********* للرفرفات نوافذ لن تشرعا
......
وذري للبلبل نمرقة
حبلى يتوسدها الحلم
.....
قالت عصافير الجنان غريرة
ومكانها الأشجار والعرصات
لو كان ربع العاشقين محصنا
تلقى على محرابه الصلوات
....................
فاختياره للفراش هو ترجمة لعشقه المتنقل عبر أزهار قلبه وحدائق نفسه ، المحترق في معاناته ليهبه قربانا للمحبوبة ،بشدى العصافير المغردة لجمالها الأخاذ وطلعتها البهية والتواق للعيش تحت ظلها محتفلا بالحياة بجانبها...
و في الختام نجد أن قصائد الديوان في شكلها ومضمونها، رائعة ودفاقة بالرومانسية التي طغت على أبياتها و تمتاز بالتجديد الحقيقي، كما أنها، جسدت حس الشاعر، و صورت أفكاره وانطباعاته وأعماقه في اتصاله المباشر بالحياة ، كما أن كلماتها غاية في الرقة والشفافية والوضوح .
والديوان هو بمثابة مجموعة من الثيمات (الحب والمرأة واللغة والطبيعة) والتي شغلت اهتمام الشاعر وعبر عنها بأحاسيسه ووعيه .وعندما تآزرت فيما بينها جعلت القصائد تتميز بعمل شديد التفرد والعمق والتأثير.

عبد اللطيف السباعي 08-21-2014 09:28 PM

رأي الأستاذ محمد يوب في ديوان "قوافل الثلج"..

عندما نقرأ عملا إبداعيا نشعر به ونتأثر بتيماته يكون هناك ارتباط بين النص /الإبداع و القارئ/ الناقد هذه العلاقة الحميمية تبدأ مباشرة عند الشروع في قراءة عمل من الأعمال الأدبية ، إن الناقد لا يدخل إلى عالم النص بل النص هو الذي يدخل إلى عالم الناقد ، كانت هذه الديباجة مقدمة للعلاقة التي ربطتني مع ديوان الشاعر المغربي عبد اللطيف غسري الموسوم ب" قوافل الثلج" الذي يقع في 96 صفحة من الحجم المتوسط.
إنني عندما قرأت هذا الديوان دعاني إلى قراءته بحكم أنه مازال جديدا ، أرضا بكرا يحتاج إلى المزيد من القراءات ، لأن الشاعر في هذا الديوان يخوض تجربة شعرية قل نظيرها عند الشعراء المعاصرين وهي المحافظة على القصيدة العمودية الموزونة دون الخروج عن أحداث العصر. وسأعمل على قراءته من زاويتين الأولى من حيث البناء و الثانية من حيث الخارج الذي يفرض نفسه على القارئ دون فصل الداخل عن الخارج .
إن بنية اللغة الشعرية في ديوان قوافل الثلج مربوطة بحركية غريبة استطاع الشاعر تتبع تفاصيل الكلمات المشكلة لأثاث القصائد ، هذه الحركية التي تمزج بين فضاءات النصوص المكانية و الزمانية وكأنك أمام فضاء واحد يتعايش فيه الزمان مع المكان في نوع من الهدوء الذ ي تفرضه طبيعة الشاعر وطبيعة المكان الذي نسجت فيه أغلب هذه القصائد ، وهو فضاء سيدي رحال المجاور لمدينة مراكش المدينة المغربية القابعة في سفوح جبال الأطلس الذي تتحكم فيه الطبيعة وجمالها وخصوبتها ، وبهذا تجد الشاعر يتناغم مع هذه الطبيعة ومن حين لآخر يجسدها ويحركها وكأنها كائنا حيا يتكلم . ففي قصيدة" تمرين بي" يستخدم الشاعر مفارقات غريبة بين تأثير الدهر في جسده المنهك وبهاء الحبيبة التي مازالت تتدلل وتتغنج هذا الحوار بين الحبيب و الحبيبة جعل الطبيعة تعجب بدلال الحبيبة التي مازالت في كامل رشاقتها مستخدما ثنائيات ضدية ساهمت في هذه الحركية الممتعة التي أضافت للديوان قيمة إلى قيمته .
وهذه الحركية تتخلل كل مفترقات القصائد وتنوعها فنجد الشاعر يخلق حوارا فيه شئا من السخرية ، هذا الحوار الذي تشهده الغرف التي تضحك و السقف التي تهش جدلا و الكأس الأزرق الذي يرمق هذه الحركية ويزيد من تصاعد حركيتها ، إن الفضاء هنا أصبح من بين الشخوص التي تزين أثاث هذه القصائد ، وهذا التحول في مستوى البناء يزداد تطورا وحركية كلما دخلنا في تفاصيل القصائد ويظهر بشكل جلي من خلال القصيدة المفتاح التي تعنون الديوان وهي قصيدة "قوافل الثلج" التي تزخر بتشبيهات جميلة تضفي رونقا وبهاء على النصوص إلى درجة أن الشاعر صاغ هذه المفارقة باعتبار أن الرذاذ التي يخرج من فم المحبوبة أصبح متمنعا هذه قمة في المفارقة التي تجعل الجامد متحركا يتجول بحرية في فضاء القصيدة تعبيرات مجازية فجرت اللغة وجعلتها تنزاح إلى معان أخرى غير المعنى المعتاد الذي نفهمه من اللفظ.
إن الشاعر يصف الثلج القادم من الجبال المجاورة و كأنه قافلة جنود قادمة من هناك حيث لا هناك هناك حيث الثلج قابع في مكانه لايتحرك ولكن الذي يتحرك هو الصورة التي خلق منها الشاعر كائنا حيا يغزو ويقاتل بغير قتال إنها قمة في السريالية و التجريد في رسم جدارية تحت إمضاء الشاعر عبد اللطيف غسري .
كما أن حركية القصيدة تبدو من خلال الاختيار الدقيق للعناوين إنها لم تأت هكذا اعتباطية بل الغاية منها إضفاء روح الحيوية و الدينامية على الصورة المشكلة لنفسية شعرية و شاعرية اجتمعت في نفسية الشاعر و أعطت هذا الزخم الهائل من المعاني و الصور .
إن الشاعر عندما يستخدم الخيال لا يستخدمه رغبة وحبا في الخيال بل يلجأ إلى الخيال لنقل صورة راسخة في ذهنه من زمان ويحاول نقلها إلى مستوى التخيل لتبقى لصيقة بالواقع إن التخيل عند الشاعر مرتبط بواقع يغلب عليه الطبيعة بخرير مياها بجمال أشجارها برونق وطيبوبة أهلها.
إن اعتماد الشاعر في قصائده على الأوزان العمودية يحاول من خلالها عقد صلح بين القديم و الحديث و الرجوع إلى الماضي دون الانغماس في هذا الماضي إنه يحاول استقدام لغة الماضي وتركيبها بشكل جمالي في مواضيع وهموم الحاضر بأن أضفى عليها هذه المسحة الجميلة التي تجمع بين الهزل و الجدية في تناول المواضيع ، إن القارئ و المتمعن في ديوان" قوافل الثلج" يشعر برزانة الشاعر وهزليته المراكشية من خلال توظيف كلمات فيها سخرية لكنها كلمات عفيفة أنيقة لا تخدش الحياء و لا تدفع القارئ إلى النفور و التأفف ، إنها لغة الأستاذ و الشاعر الذي يعرف كيف يوظف الألفاظ في أماكنها طبقا للمبدأ الأخلاقي لتوظيف الكلمة المناسبة في المكان المناسب ، فلكل مقام مقال هذا ما لمسناه في هذا الديوان الشعري.
كما أن حركية الديوان تظهر من خلال التوظيف السيميائي للغلاف حيث إن الشاعر اختار عن قصد أو دون قصد هذا الغلاف الذي يوحي للقارئ وكأن الثلوج قادمة من أعلى إلى أسفل وكأنها تغزو عالما سفليا لا قدرة له على الحرب ، إنها حرب الصور التي تخدع القارئ من خلال تمثل هذه الحرب وهذا الغو.
إن قوة الخيال عند الشاعر تبدو من خلال قصائده المتنوعة بتنوع درجات الخيال عنده فنرى في قصيدة "همسات في آذان البحر" كيف يغازل الشاعر البحر ويناجيه بكلمات معبرا فيها عن روح التأمل و الحب الجميل لدرجة أنه يتمنى أن يسافر إليه عشقا وحبا فيه فنرى بأن قوة استخدام الخيال الذي يغوص في أعماق الأشياء قوي جدا مع العلم أن علاقة الشاعر بالبحر ضعيفة جدا بحكم بعد منطقة سيدي رحال المراكشية عن البحر و رغم ذلك تشعر بأن الشاعر يسكن البحر بل قل البحر يسكن الشاعر.
ديوان قوافل الثلج صرخة أخرى من صرخات الشاعر عبد اللطيف غسري الذي يخوض تجربة الشعر العمودي بنوع من الثقة في النفس وبنوع من الجدية ويشعر القارئ أنه أمام شاعر من العيار الثقيل الذي يخطو طريقه في مجال الشعر العمودي بخطى ثابتة يرقى بالذوق القرائي عن المثقف العربي هدفه في ذلك رسم منهج في الكتابة الشعرية يتحدى بها من يريد المقارعة الشعرية المقارعة بالمعنى المدحي وليس بالمعنى القدحي.
محمد يوب
06-06-10

ايوب صابر 09-14-2014 01:03 PM

قراءة في قصيدة "إلى البحرِ أطوي كُلَّ مَوجٍ..." للشاعر المغربي عبد اللطيف غسري
بقلم: الأديب والناقد المصري محمد عبد السميع نوح


إلى البحرِ أطوِي كُلَّ مَوجٍ...


يَخُبُّ حِصَانُ الشَّمسِ والظلُّ واقِفُ = وَأنتَ على تشْذِيبِ حُلْمِكَ عَاكِفُ
وَأوْراقُكَ العَذْراءُ سِفْرٌ طَوَيْتََهُ = وَمِنْ شَجَرِ الإحْسَاسِ فِيهِ قطائِفُ
وَلِلماءِ أُخْدودٌ يَقولُ لكَ اقْتحِمْ = عُيُونَ الشِّتاءِ الآنَ.. هَلْ أنتَ وَاجِفُ؟
دَعِ القَلَمَ الوَرْدِيَّ يَرْسُمُ دَرْبَهُ = زَوَاحِفَ ضَوْءٍ ما لهُنَّ حَرَاشِفُ
وَكُنْ وَتَرًا لا يَسْأمُ الليلُ عَزْفَهُ = وَكُنْ خَبَرًا فِي جَوْفِهِ مِنهُ طائِفُ
أوِ اخْتَرْ وُقوفًا عِندَ ناصِيَة اللظى = هُنالِكَ جِسْرٌ نازحٌ بكَ عَارفُ
بِعَيْنَيْكَ فَجْرٌ أنتَ تَنْزِفُ طُهْرَهُ = فَهَلْ شَهِدَ الرَّاءُونَ ما أنتَ نازفُ؟
تجَلَّيْتَ فِي مَعْنى الحُضورِ وَإنَّمَا = حُضورُكَ طَيْفٌ فَي القراطِيسِ هَاتِفُ
ضِفَافُ الصَّدى تنزَاحُ.. أمْسِكْ ذُيُولهَا = إذا الصوتُ مَعْنًى لِلصَّدى وَمُرَادِفُ
على عَجَلٍ أبْحِرْ بِأشْرِعَةِ الأنا = لعَلَّكَ فُلْكَ الذكْرَياتِ تُصادِفُ
تركْتَ رَياحِينًا هُناكَ نَدِيَّةً = ـ أتذكُرُهَا؟ـ حيثُ الظنونُ عَواصِفُ
وحيثُ لِسَانُ الوقتِ يَجْرَحُ حَرْفَهُ = وحيثُ قُصَاصَاتُ السؤالِ صَحائِفُ
مَتَى يَشْرَئِبُّ النَّجمُ مِن شُرْفَةِ المدَى؟ = سُؤالٌ لِأسوارِ الإجَابَةِ ناسِفُ
وَنادَيْتَ عِشْتارَ القصيدةِ أنْ ضَعِي = نسِيغَكِ فوقَ الجِذعِ، فالغُصنُ راجِفُ
ألم تعْلمِي أنِّي عَصِيٌّ بنِينَوَى = وأنِّيَ طَوَّافٌ عَنِ النهرِ عَازفُ؟
إلى البحرِ أطوِي كُلَّ مَوجٍ وَطِئْتُهُ = أليْسَ لِأسْمَاكِي لديهِ زَعانِفُ
وإنِّي لَمَوْلودٌ بِزاوِيَةِ الرِّضَا = وَلَكِنَّ ظِلَّ الحُلمِ في القلبِ وَارفُ
وَإنِّي لِفَتقِ الأمْنِيَاتِ لَرَاتِقٌ = وإنِّي لِنَعْلِ القافِيَاتِ لَخَاصِفُ

قال المرحوم الأستاذ الدكتور الناقد محمود الحسيني :" النقدُ اكتشاف وليس تفسيرا " وهو قول أؤمن به ، وإن النص الأدبي برأي أستاذنا الرافعي رحمه الله يُكتبُ بفكر ويُقرأ بفكر آخر .
الشاعر هنا يجرد من نفسه ناقدا على المخاطب الذي قد يكون هو الشاعر وقد لايكون وليس هذا مهما .
وما يجريه الشاعر على مخاطبه هو ما يجريه الناقد على نص أدبي .. أتكلم عن قصيدة تشبه مشية غزال .
البداية صورة مرسومة لتدهش :
يخب حصان الشمس والظل واقف
وأنت على تشذيب حلمك عاكف
الأصل والظل ، حركة الحياة ، إيجابية أو سلبية الإنسان في الحركة ، عالم المثال وعالم الواقع .. يستمر الدفق الشعري منتقدا بمنطقية الواقع الملبوس بالصورة والكناية ليتحول إلى شعر عذب ٍ قريب الرمز عميق الدلالة ، القصيدة تضع القارئ في موضع الاكتشاف أيضا ولا تتركه يتحير كثيرا ، فهي تشير بأصبع إلى الخيال والحلم من خلال رموزها وتشير بأخرى إلى مفاتيح فك هذه الرموز ، ومن خلال هذا الاختيار الذي يضعنا الشاعر ويضع مخاطبه فيه تتجلى أبعاد الصراع النفسي الدائر مابين دنيا تموج بالحركة والأحداث وبين شاعر تتناثر حياته على السطور وكأنه / الإنسان حبر على ورق ، وياله من تشبيه عميق الدلالة .
اللغة ومفرداتها والموسيقى بإيقاعيها الداخلي والخارجي قدمت لنا كما قدمت في كل نصوص غسري شاعرا مطبوعا .. وهذه هي أهم ملامح هذا الشاعر الكبير .
تنتظم القصيدة في حالة نفسية واحدة من اللوم أو العتاب الدافع حتما إلى الاستنهاض أو بالأحرى التحريض من أول بيت في وحدة موضوعية .
نأتي إلى حركة الشمس وثبوت الظل ثم الأبحر والأنهار وكثير من جزئيات الطبيعة فنراها متناثرة في الأبيات في ترابط مشهدي واحد . وبتآلف العنصرين : وحدة الموضوع واتساق مفردات الصورة الفنية تنشأ الموسيقى الداخلية التي من خلالها نسمع وشيش الحركات سواء للماء أو الطيور والنجم والصوت والصدى .. إلخ ..
ويتناسب بحر الطويل مع التجربة على اعتبار أن ليالي الانتظار طويلة .. كما أنه بحر رصين وغنائيته تتلون مع كثير من الحالات الإبداعية في مرونة عالية ..
يخب حصان الشمس والظل واقف ** وأنت على تشذيب حلمك عاكف

الخبب : إيقاع مستحدث في أوزان الشعر العربي ، حين يجتمع القطع في تفعيلة المتدارك (فاعلن تصير فاعلْ) والخبن (فاعلن تصير فعِلن)ويصير الإيقاع في أغلب الأحوال كأنك تكرر : ما ما ماما بابا بابا (أو) تكْ تك ْ تكْتكْتكتك تكتك صوت عجلات القطار أو ارتطام حوافر الخيل بالأرض ، وفي هذه الحال يخلو الإيقاع من الأوتاد ويقتصرعلى الأسباب ،ولايعدو أن يكون سببا ثقيلا // يليه سبب خفيف
(فَعِلُنْ ـ ///0 )أو سببين خفيفين متتاليين ( فعْلنْ .. فعْ/0 لنْ / 0 )
وهو تسريع للأصل الذي بني عليه المتدارك (فاعلن .. أربع مرات في كل شطر)
ومن معنى التسريع الذي تؤديه الجياد في العدو حين تنقل الميامن جميعا والمياسرجميعا كانت تسمية هذا البحر خببا .
وكذلك حركة هياج موج البحر إنما هي خبب ، وأيضا الرجل يفسد الزوجة على زوجها والعبد على سيده خبب ، والخَِبُّ (بكسر الخاء وفتحها) الخائن ، نخلص من ذلك إلى أن الخبب حركة للتغيير ، وإتيان الشاعر بهذه المفردة كأول مفردة في القصيدة تفتح لنا مجالا محددا للقراءة والمحاكمة له أو عليه .
في البيت الأول : خبب حصان الشمس في مقابل وقوف الظل ، المعروف أن الظل يتحرك عكسيا مع حركة الشمس ، فإذا تحركت الشمس في الصورة الجيدة "حصان الشمس" فعلى الظل أن يتحرك ، المفارقة أنه واقف .. وتوضع الصورة الإنسانية في مقابل الظاهرة الكونية على نحو يوقف القارئ ولابد ، "وأنت على تشذيب حلمك عاكف " والظاهر لنا أن الشاعر ينعي على المخاطب ثبوته فيما تتحرك الدنيا ، الظل واقف وأنت عاكف ، فما المانع أن افهم أن المخاطب والظل سواء .. كأننا أمام صورة عالم المثل وعالم الواقع عند أفلاطون ، وهنا انكسرت نظرية أفلاطون على يد المخاطب المعاتَب بهذا العتاب ، قلنا إن لمفردة الخبب تجليات علمية في عروض الشعر ، وقلنا إن لها تجليات في هياج البحر ، وقلنا إن لها تجليات في عدو الجياد . وهذه التجليات مطروحة في القصيدة :
أما الجياد ففي البيت الأول ، وأما الشعر ففي البيت الأخير ، واما في البحرففي البيتين قبل الأخيرين مباشرة : وهاهما :
ألم تعْلمِـي أنِّـي عَصِـيٌّ بنِينَـوَى
وأنِّيَ طَوَّافٌ عَنِ النهـرِ عَـازفُ؟
إلى البحرِ أطوِي كُلَّ مَـوجٍ وَطِئْتُـهُ
أليْـسَ لِأسْمَاكِـي لديـهِ زَعـانِـفُ
هكذا أجدني أقرأ القصيدة كنص مسكون بالحركة والإيقاع النفسي ، فأنتقل إلى البيت الثاني
وأوراقك العذراء سفر طويته وفي شجر الإحساس منه قطائف
العذرية في إحساس الشاعر أي شاعر لاتبعد عن البراءة والطفولة أو الشباب الغض ، وهنا يشير إلى أن طي كتاب الماضي ماكان يجب أن يُطوى ، لأن فيه بقية حياة ، والإحساس الحياة لاشك ، وإلا لما تحرك حصان الشمس وأنت لم تبرح مكانك ..
وَلِلماءِ أُخْـدودٌ يَقـولُ لـكَ اقْتحِـمْ
عُيُونَ الشِّتاءِ الآنَ.. هَلْ أنتَ وَاجِفُ؟
دَعِ القَلَـمَ الـوَرْدِيَّ يَرْسُـمُ دَرْبَـهُ
زَوَاحِفَ ضَوْءٍ مـا لهُـنَّ حَرَاشِـفُ
وَكُنْ وَتَرًا لا يَسْـأمُ الليـلُ عَزْفَـهُ
وَكُنْ خَبَرًا فِي جَوْفِـهِ مِنـهُ طائِـفُ
أوِ اخْتَرْ وُقوفًا عِندَ ناصِيَـة اللظـى
هُنالِكَ جِسْـرٌ نـازحٌ بـكَ عَـارفُ
بِعَيْنَيْكَ فَجْرٌ أنـتَ تَنْـزِفُ طُهْـرَهُ
فَهَلْ شَهِدَ الرَّاءُونَ ما أنتَ نـازفُ؟
تجَلَّيْتَ فِي مَعْنى الحُضـورِ وَإنَّمَـا
حُضورُكَ طَيْفٌ فَي القراطِيسِ هَاتِفُ


الشاعر يناور مخاطبه ، تارة بالحكمة " وللماء أخدود" وتارة بالتحضيض الذي يقترب من التلويح بالتهديد :
"أو اختر وقوفا عند ناصية اللظى "
لاشك أن تعدد الأصوات داخل النص الشعري يثريه إلى حد كبير ، وللتعدد شروطه .. والقراءة العجلى توحي بأحادية الصوت ، وهو صوت الشاعر الذي لم يترك فرصة لصوت آخر .. ولكن بالملاحظة الدقيقة يتبين أن ثمة صوتين ، كلاهما للشاعر ، المتكلم والمخاطب ، ألاترون معي أن في توجيه ضمير المخاطب مايوحي بأن الشاعر يناجي نفسه بالخصوص ، والآخرين في العموم ؟
وللماء أخدود يقول لك اقتحم عيون الشتاء الآن ..حركة الماء في الأخدود ، حركة النبض في الإنسان ، حركة الحياة في الكون ، ولذلك كان الأمر : فاقتحم ـ الآن .. وهي صياغة تنقل إلى الإحساس دفق الماء وتوازيه بالطلب (فاقتحم) ثم يعقب ذلك الاستفهام المحفز أو المؤنب (هل أنت واجف) وبعد اقتحام عيون الشتاء والتماهي في الماء سر الحياة تتفتح الورود حتى لتتورد الأقلام، وإلى أي حد تخرجنا هذه اللقطة من قمقم الحزن إلى انفتاح البصيرة على الجمال والفأل الحسن :
"دع القلم الوردي َّ يرسم دربه
زواحف ضوء مالهن حراشف "
وهذا أمر آخر ، وقد كنى عن الإنسان بالقلم ، ولايرسم القلم حرفا ولا صورة وإنما يرسم الدرب .. لن أتمادى في القراءة التأويلية ، فقط أشير إشارات سريعة ، في ثلاث جمل تتشكل صورة جميلة : عيون الشتاء ـ القلم الوردي ـ زواحف ضوء ) ولولا أن زواحف الضوء مالهن حراشف ماكان لها هذا الجمال . وهي بذلك دعوة لتنقية الحياة من القبح والزيف والغثاثة .
ويوضع في مقابل ذلك " أو اختر وقوفا عند ناصية اللظى .. هنالك جسر نازح بك عارف
يكفيني "ناصية اللظى " في مقابل ما إذا رفض المخاطب الدعوة الوردية .. أما كون الجسر النازح عارفا بتكرار معاناة المخاطب فأرى أنه مطروح في سائر النص ، ولاأدري تماما هل من ضرورة ملحة لإيراده ، أم أن ذلك أمرا خاصا بالشاعر مما استأثر به في طويته ، ولكنه واضح الدلالة في معنى الترهيب من التقاعس عن تلبية رغبة المتكلم / الشاعر .
يعينيك فجر أنت تنزف طهره .. فهل شهد الراءون ما أنت نازف
حيثية أخرى من حيثيات الاستنهاض بالترغيب والترهيب ، وهي حيثية من الجمال الموسيقي بمكان ، كما أنها تقدم ورقة جديدة كحجة دامغة ، ونهتز كثيرا إذا قرأنا البيت " أمامك فجر " أو " ودونك فجرا" أو " بوجهك فجر " ثم نقرأ " بعينيك فجر " فذلك أدعى إلى الاهتزاز والانفعال ، وتلك الحالة من النزف المستمر للطهر ، التحذير يعلو وتعلو وتيرته بدرجة متنامية عبر الأبيات ، النص متحرك موقف إلى موقف ، ومن أطروحة إلى أخرى ، ومن حجة إلى حجة ،
تجليت في معنى الحضور وإنما حضورك طيف في القراطيس هاتف ..
التحول من الحلم إلى الواقع ، من التطيف إلى التجسد هو القضية الآن ، يرى الشاعر أن حضور المعاني وحدها ليس كافيا للإقرار بتمام الحضور ، وكأنما هو في سياق المثل القائل " حبر على ورق " البيت يتناص مع هذه المقولة ، ومن أمثال هذه المفاتيح للنصوص الحديثة نتلمس الطريق إلى انفتاح الدلالة إلى ما هو أكثر اتساعا من شخص الشاعر ، فقضايان كلها حبر على ورق ، وفلسفاتنا كلها حبر على ورق ، وابتكاراتنا لم توضع على أرض الواقع كتقنية حديثة ، بل وبكل أسف كثيرا ما تكون مواقفنا العقدية الرائعة والمذهلة مجرد اقتناع عقلي بلا رصيد من العمل ، والإيمان كما هو معروف ما وقر في القلب وصدقه العمل ..
أختم بالفعل "تجليت" والجمع"القراطيس" وهو ملح شديد الدلالة على الشتات ، فالمتجلي مفرد والمتجلى عليه كثير ، إضافة إلى اسم الفاعل (هاتف) الذي يعني الثبوت على حالة الجمود هذه مقدِّما لذلك بأداة الحصر (إنما)وعن الحضور يتكلم عن معناه بما يناسب القراطيس ولم يتكلم عن الحضور المادي الذي هو ضالة المتكلم والمخاطب على السواء . وكلمة الطيف تتمم هلامية كلمة (المعنى) حول قضية الحضور الورقي المرفوض .
الشاعر عبد اللطيف غسري يطرق الذائقة دائما بكهرباء الشعور فيغريني بالكتابة ممسوسا بإبداعه المتميز ..

ايوب صابر 09-14-2014 01:09 PM

قراءة ايوب صابر في قصيدة " إلى البحرِ أطوِي كُلَّ مَوجٍ..." للشاعر عبد اللطيف غسري:

بداية لا يمكن القول أن هذه القصيدة من أجمل قصائد الشاعر الأستاذ عبد اللطيف غسري فكل قصائده جميله إلى حد الإدهاش.
ولا اعرف أن كنت سأستطيع تقديم قراءة معمقة لها فالقراءة الشعرية لمثل هذا الشعر العميق ليس أمرا سهلا.
فهي كالبحر حتما عميقة، وغامضة، والجمال يعبر إلى قلب وعقل المتلقي أمواج فوقها أمواج، لكن البحر يظل غامض وعميق وقد لا نصل إلى كل ما يختزنه من جمال وأسرار في أعماق أعماقه.

طبعا باستخدام هذا العنوان " إلى البحرِأطوي كُلَّ مَوجٍ " يضع الشاعر غسري المتلقي في جو النص المفعم بالحركة والرومانسية والغموض والرهبة والإثارة والخطورة، والخوف، والجمال، والتحدي... وكأن المتلقي انتقل فجأة إلى شاطئ البحر يشاهد الشاعر وهو يطوي الموج ولك أن تتخيل جمال تلك الصورة وأثرها على المتلقي.

فماذا يقصد الأستاذ غسري في البيت الأول؟


يَخُبُّ حِصَانُ الشَّمسِ والظلُّ واقِفُ = وَأنتَ علىتشْذِيبِ حُلْمِكَ عَاكِفُ

تعالوا نستكشف معا أعماق هذه القصيدة الجميلة!!!!


==

قراءة في قصيدة " إلى البحرِ أطوِي كُلَّ مَوجٍ..." للشاعر عبد اللطيف غسري:

يَخُبُّ حِصَانُ الشَّمسِ والظلُّ واقِفُ = وَأنتَ علىتشْذِيبِ حُلْمِكَ عَاكِفُ

تعالوا نستكشف معا أعماق هذه القصيدة الجميلة!!!!

الأغلب أن الشاعر يخاطب ذاته هنا إذ يقول: ألا ترى بأن حصان الشمس، وفي هذا تشخيص للشمس..أي جعلها كائن حي مثل حصان، تعدو باندفاع شديد؟ وفي ذلك كناية عن سرعة حركة الزمان... وكأن الشاعر يقول ألا ترى يا صاحبي بأن الشمس تهرول مسرعة في السماء فيمر الزمن بسرعة فائقة...بينما أنت واقفٌ في مكانك لا تتحرك، وغير مدرك أو منتبه لسرعة مرور الزمن والوقت، ودليل الشاعر على ذلك أن ظله واقف لا يتحرك.

ويضيف الشاعر أيضا محذرا أو معاتبا أو منبها ذاته بقوله... وبدلا من أن تندفع لتستفيد من الوقت وتلحق بحصان الشمس الذي يعدو ويخب مسرعا أنت تقف هناك تداعب حلمك وتعكف على تشذيبه.

وكأن الشاعر يقول لنفسه ايضا تذكر يا صاحبي أن "الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك" لكنه يقولها من خلال صورة شعرية بالغة الجمال والتأثير وبلغة غاية في التأثير وبأسلوب ساحر... حيث يصور الشمس الجامدة، والحارقة، والبعيدة جدا في كبد السماء...بحصان جميل يخب مسرعا باندفاع... بينما أنت تقف مداعبا حلمك ومشذبا له غير مدرك لسرعة مرور الوقت!

وكأن الشاعر يدعو نفسه للانتباه لسرعة مرور الوقت ويحثها على أن تتجاوز مرحلة الأحلام وتنتقل إلى العمل.

ونجد أن الشاعر يُسخر هنا أهم عنصرين من عناصر الجمال والتأثير على ذهن المتلقي وهما:

- الحركة المتمثلة في حركة الحصان الذي يخب مندفعا في كبد السماء...مما يجعل النص ينبض بالحيوية والحركة والحياة.

- التضاد والمتمثلة في حركة الشمس مقابل وقوف ذات الشاعر، إضافة إلى الشمس والظل...والمعروف أن تسخير التضاد هو أكثر العناصر تأثيرا على عقل المتلقي.

ثم هناك عنصر الحوار الذي يخلقه الشاعر من خلال تجريد شخص من ذاته ليخاطبه ويعاتبه وينبهه بأن الزمن يمر بينما هو يقف هناك يداعب حلمه.

وإذا أضفنا إلى كل تلك العناصر صورة الحصان الذهنية وما يرتبط بها تراثيا في ذهن المتلقي...ذلك الحصان الذي يخب مسرعا في كبد السماء، نجد أن تلك الصورة تستحضر في ذهن المتلقي كل ما يرتبط بالحصان من جمال، وقوة، وعنفوان، وخير الخ....فالخيل مقعود بنواصيها الخير إلى يوم ألقيامه....حتى اننا نكاد نرى حصان المتنبي والذي خلده في اشعار كثيره...

وعليه نجد أن هذا البيت من الشعر لوحده يقول الكثير جدا...وهو حتما بالغ التأثير والجمال...حد السِحر.

==
وَأوْراقُكَ العَذْراءُ سِفْرٌ طَوَيْتََهُ = وَمِنْ شَجَرِ الإحْسَاسِ فِيهِ قطائِفُ

في البيت الثاني نجد وكأن الشاعر يستمر في مخاطبة ذاته فيقول ...أي صاحبي ، لماذا تقف هكذا مشغول بتشذيب حلمك؟ وأنت ترى الشمس تخب في كبد السماء مسرعة...والوقت يمر بسرعة.

وكأنه في هذا البيت يلوم نفسه ويحضها ويحثها بأن لا تقف مكتوفة الأيدي، وان تستمر في الحركة والنشاط وبذل الجهد، وربما كتابة القصائد تحديدا.

حيث يشير إلى تلك الأوراق العذراء التي ضمنها سفر طواه، (سِفْرٌ طَوَيْتََهُ )، وفي ذلك كناية على أن تلك الأوراق جديدة، لم يمسسها القلم بعد فهي عذراء...وطواها الشاعر في ذلك السفر الذي يحتوي أصلا على قطوف من ثمار شجر الإحساس، وهي حتما القصائد حيث يشبه الشاعر القدرة على الكتابة الشعرية بشجر الإحساس، والقصائد بثمار هذه الأشجار.


وكأن الشاعر يلوم نفسه على العزوف عن الكتابة الشعرية، والتوقف عن تسجيل وتدوين ما تجود به قريحته، رغم أن تلك الأوراق الجديدة التي أعدها جاهزة لتستقبل مزيد من قصائده الجديدة، التي هي بمثابة ثمار شجر الإحساس لديه والذي سبق له أن دون مثلها وضمنها ذلك السفر....كل ذلك والوقت يمر مسرعا بينما هو مشغول في تشذيب حلمه بدلا من العمل على مزيد من الانجاز.

وما يميز هذا البيت هو استخدام الشاعر لكلمات غنية يرتبط بها تراث ديني قديم، ويوقظ في ذهن المتلقي ذلك التراث العبق. وذلك يتأتى تحديدا من خلال استخدام كلمات (العَذْراءُ ) و (سِفْرٌ).

ولكن الشاعر لا يكتفي باستخدام تلك الكلمات وما تحمله أو يرتبط بها من معنى تراثي عميق يغني النص ويجعله بالغ التأثير، ولكنه يشخصن الأوراق حين يصفها بأنها عذراء...فيجعل النص ينبض بالحياة والحيوية....وكأنها أنثى عذراء.

وتقفز حدة تلك الحيوية بشكل مهول حينما يجسد الشاعر، في الشطر الثاني من البيت، الأحاسيس بأن يجعلها مثل الأشجار التي تثمر قصائد (قطوف).

ولا شك أن لاستخدام وتكرار حرف الهمس (السين أو الشين) ثلاث مرات في هذا البيت له سحر استثنائي...واثر بليغ على نفس المتلقي.

==
وَلِلماءِ أُخْدودٌ يَقولُ لكَ اقْتحِمْ = عُيُونَ الشِّتاءِ الآنَ.. هَلْ أنتَ وَاجِفُ؟

ويستمر الشاعر في معاتبة الذات، مخاطبا نفسه قائلا....كيف تقف مكتوف الأيدي أي هذا، وأنت ترى الأشعار تتدفق مثل ماء يتدفق في أخدود؟ .. .كيف تقف مكتوف الأيدي وهذه الأشعار تتدفق كما هي عيون الشتاء المنهمرة من السماء؟ هي تناديك وتقول لك اقتحم...أي احمل قلمك ودون ما تجود به قريحتك فلماذا تقف هناك خائفا عاجزا؟
هنا يشبه الشاعر ما يدور في خاطره من أشعار تتفلت بأنها مثل ماء يتدفق في أخدود، أو عيون الشتاء المنهمرة من السماء، وفي ذلك كناية عن غزارة قريحته الشعرية.

وكأن الشاعر يعاني من صراع داخلي بين ما يشعر به من قطوف الأحاسيس التي تحاول أن تتفلت وتخرج إلى الوجود ، وعزوف، ووقوف وعدم رغبة في تجسيد اللحظة الشعرية المتأتية، وعدم ميل إلى تدوين ما يدور في خلده من صور شعرية بل نزيف شعري كما يصفه في بيت لاحق.

ويضاف إلى ذلك الصراع الذي يدور في نفس الشاعر والذي يجعل النص اقرب إلى الحياة كونها صراع متعدد الأوجه، نجد في هذا البيت أيضا الكثير من الحركة المتمثلة في جريان الماء في الأخدود، وفي انهمار المطر من عيون الشتاء...هذه الحركة التي تجعل البيت ينبض بالحيوية والحياة، خاصة انه وباستخدام كلمة " الماء" يستحضر في ذهن المتلقي ما يرتبط بهذه الكلمة من تراث ومعنى، وهي حتما كلمة مرتبطة بالحياة..."وجعلنا من الماء كل شيء حيا".

وباستخدام كلمة ( عيون ) استنفار لحاسة البصر لدى المتلقي...هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تأتي استكمالا لرسم صورة بالغة الجمال تتمثل في أخدود من المياه المتدفقة، وعيون من أمطار الشتاء المنهمر من السماء.

وفي استخدام كلمة أخدود استحضار غير مباشر للتراث المرتبط بقصة الأخدود "قتل أصحاب الأخدود" وهي طريقة ذكية لاغناء النص من خلال حشد كلمات يرتبط بها عمق تراثي غني.

أما استخدام كلمة "اقتحم" ففيه تضخيم للصراع القائم في نفس الشاعر.

وفي كلمات "يقول لك" استثارة لحاسة السمع لدى المتلقي وتعزير للحوار بين الشاعر ونفسه.

وفي استخدام كلمة "واجف" تلاعب على مشاعر الخوف عند المتلقي ومحاولة لاستثارتها.
ونجد في محصلة ما حشده الشاعر هنا، في هذا البيت، من عناصر قوة وجمال، وتأثير، وخاصة عنصري الصراع الداخلي، والحركة، ومن ثم صورة المياه المنهمرة من عيون الشتاء، والأخرى المتدفقة من أخدود الماء، وتلك الكلمات التي تحمل في ثناياها الكثير من الإرث الحضاري والديني، والأخرى التي تستثير الحواس والمخاوف...نجد أن الشاعر نجح هنا في نسج بيت شعر اقل ما يقال عنه انه ...رائع بحق وبالغ التأثير والجمال.
===
دَعِ القَلَمَ الوَرْدِيَّيَرْسُمُ دَرْبَهُ = زَوَاحِفَ ضَوْءٍ ما لهُنَّ حَرَاشِفُ

في هذا البيت أيضا يستمر الشاعر في مناجاته لذاته معاتبا لها على وقوفها مكتوفة الأيدي بينما الزمن يمر مسرعا، في ظل ما يتدفق من أحاسيس في داخله وأشعار تتدفق في ذهنه وقلبه مثل المطر المنهمر من السماء أو المتدفق في أخدود الماء.

ويخلص الشاعر من هذه المناجاة والعتاب إلى دعوة نفسه إلى المبادرة بحمل القلم أو تركه ليرسم دربه بما يدونه من أشعار وقصائد.

وفي الشطر الثاني من البيت يشبه الشاعر القصائد والأشعار بزواحف من ضوء ولكن ليس لهن حراشف كالزواحف الحقيقية، وفي ذلك كناية عن غزارة ما يتوارد في ذهن الشاعر من أفكار وأشعار وقصائد هي في تدفقها جميلة وأشبه ما تكون بزواحف لكنها من دون حراشف.

وفي هذا البيت يلمح الشاعر إلى غزارة قريحته الشعرية وتلقائية ما يشعر به من أحاسيس وإشعار، تتدفق بسهولة وانسياب ودون عناء، فبمجرد حمل القلم سيبدأ القلم في خط ورسم دربه في عالم الأشعار والأحاسيس، دون تكلف أو عناء أو جهد يذكر، وستكون النتيجة تدوين الأشعار والقصائد والتي ستكون أشبه ما تكون بزواحف من الضوء لكنها خالية من الحراشف.

وفي البيت تلميح إلى أن الصراع الداخلي في نفس الشاعر ما يزال مستمرا، فمن ناحية هناك نزوع إلى الكسل والوقوف دون بذل جهد لتدوين تلك اللحظات الشعرية، ومن ناحية أخرى حث على ضرورة الاستفادة من ذلك الدفق الشعري وتحويله إلى قصائد.

كما نجد في البيت الكثير من الحركة والتي توحي بها كلمات "دع القلم يرسم" وكلمة "الزواحف"، وفي استخدام كلمة زواحف يرسم الشاعر صورة مهيبة مهولة لتلك الحالة التي ستنهمر فيها القصائد من خيالة وكأنها زواحف، والذي يجعل تلك الصورة شديدة الجمال والتأثير هو أنها زواحف من ضوء وليس لها حراشف.

ونجد أيضا أن الشاعر يشخصن القلم ويجعله كأنه قادر بذاته على رسم دربه وتدوين ما تجود به قريحة الشاعر من قصائد.

وفي البيت أيضا تسخير للألوان ( الوردي ) و (الضوء)، ولكن ربما أن أجمل ما في البيت هي تلك الصورة التي رسمها الشاعر بأن جعل الأشعار والقصائد وكأنها زواحف من الضوء.

كل ذلك يجعل البيت عظيما كتلك التي سبقته من الأبيات وهو أيضا ينبض حيوية وجمال، وله وقع عظيم.

==
وَكُنْ وَتَرًا لايَسْأمُ الليلُ عَزْفَهُ = وَكُنْ خَبَرًا فِي جَوْفِهِ مِنهُ طائِفُ

يكمل الشاعر حديثه مع ذاته مناجيا نفسه ويحثها أولا على أن تبادر إلى فعل الكتابة الشعرية وعدم الوقوف مكتوفة الأيدي بينما الزمن يمر مسرعا كما الحصان يخب خبا.

ويدعو الشاعر في البيت السابق نفسه أن تدع القلم يكتب ما شبهه الشاعر بزواحف من الضوء وهي القصائد الجميلة.

ويضيف الشاعر هنا وفي هذا البيت إلى ذلك دعوة ذاته الشاعرة إلى أن تكون مثل الوتر الذي يعزف موسيقى جميلة فلا يسأم الليل من عزفه لشدة جمال ما يقول.

كما يدعو الشاعر ذاته الشاعرة بأن تبدع وتزيد في العطاء حتى ينتشر خبر عبقريته الشعرية ويكون لشدة ما أنجز من عمل فني جميل ومؤثر مثل خبر تتناقله الألسن في جوف الليل.

ومن عناصر الجمال التي ضمنها الشاعر في هذا البيت تشخيصه للوتر وكأنه لوحده يعزف الحان جميلة وتشخيصه لـ الليل والذي جعله كشخص يُسر لما يسمع من الحان موسيقية هي قصائد الشاعر التي يحث ذاته الشاعرة على تدوينها.

وفي البيت ما يُحفز حاسة السمع، وفيه تسخير للألوان من خلال ما يشير إلى اللون الأسود وهو الليل.

ولا شك أن الموسيقى الداخلية في البيت لها وقع مؤثر على مسامع المتلقي خاصة بتكرار الألفاظ كن وترا ثم كن خبرا.

==
أوِاخْتَرْ وُقوفًا عِندَ ناصِيَة اللظى = هُنالِكَ جِسْرٌ نازحٌ بكَ عَارفُ

وهنا يخير الشاعر ذاته الشاعرة بأن تكون مثل الوتر الذي يعزف عزفا جميلا فلا يَمله الليل ولا الساهرين فيه، وحتى يصبح خبرا على كل لسان لجودة ما يقول من أشعار، أو إن كان لا بد من الوقوف فليكن ذلك الوقوف (عند ناصية اللظى) أي بالقرب من الطريق المشتعل نارا (لظى)، لعل ذلك الوقوف يزيد الشاعر اشتعالا واحتراقا وتألقا، فينتقل الشاعر من حالة ذهنية إلى حالة أكثر سموا وصفاء عبر ذلك الجسر.

وكأن الشاعر في هذا البيت يقول ما قاله نيتشة الفيلسوف الوجودي والذي قال " ليكن شعارك أن تعيش في قلق دائم وان تبني بيتك فوق بركان"، وكأن نيتشه بدوره يقول "أن الألماس يصنع تحت الضغط والنار الحاميةDiamonds are made under pressure"، وكذلك الشعراء والنساك، تصنعهم الآلام والمآسي، وإن لم يصبحوا شعراء فأنهم وبفعل تلك النار المشتعلة في ثنايا قلوبهم يتحولون إلى ما يشبه الملائكة في سموهم وصفاء روحهم، وحينما يقفون عند ناصية اللظى.

أو ربما أن الشاعر هنا يقول لذاته الشاعرة إن لم تُقدمي على فعل الشعر، وإن لم تكوني لحنا جميلا لا يمله الساهرون، فربما عليك احتمال ذلك الاحتراق الداخلي الذي ينتج على اثر امتناع الشاعر من تفريغ تلك الشحنات العاطفية الملتهبة في ثنايا قلبه وذهنه والتي تتشكل على شكل قصائد.

ففي البيت إذا مزيد من الدفع باتجاه كسر حالة الجمود أو العزوف والوقوف عن ممارسة فعل اللحظة الشعرية، من خلال تهديد الشاعر لذاته بأن تفعل ما ينبغي، وان تتحرك وتمارس فعل الشعر وإلا فلتشتعل احتراقا بفعل لهيب تلك القصائد التي تتفلت لتخرج إلى حيز الوجود.

وابرز ما في البيت من عناصر جمالية هو ذلك الحوار الذي نسمعه يدور بين الشاعر وذاته الشاعرة ، و ذلك الصراع الذي نراه يحتد ويتعمق بين الفعل والسكون وبين الشاعر وذاته الشاعره، ثم اللعب على مشاعر المتلقي من خلال استخدام كلمات ملتهبة يكاد المتلقي يصطلي بنارها ( ناصية، اللظى ).

ثم هناك استثمار للتضاد من خلال الحث على الحركة والفعل من ناحية وفي نفس الوقت الدعوة هنا إلى الوقوف عند ناصية اللظى، ومن خلال استخدام كلمة (نازح) وفيها ما يشير إلى الحركة.

وكل ما في البيت يجعله جميلا، حيويا، رائعا ويزيد من حدة التأثير للقصيدة بشكل مهول. ويرسم الشاعر من خلال هذه الكلمات صورة شعرية نادرة في جمالها وتأثيرها... بل قَلَ مثيلها.
===

بِعَيْنَيْكَ فَجْرٌ أنتَ تَنْزِفُ طُهْرَهُ = فَهَلْ شَهِدَ الرَّاءُونَما أنتَ نازفُ؟

في هذا البيت يوضح الشاعر سبب دعوته لذاته الشاعرة الى ضرورة الحركة والإقدام على فعل الشعر. فهو يرى بأن ما يكتبه من قصائد تحمل في ثناياها ولادة فجر طاهر جديد يظهر في عيني الشاعر.

ويطرح الشاعر هنا سؤالا استنكاريا: هل يا ترى يقدر المتلقيين (والراءون ) ما تنزفه من أشعار؟ تلك الأشعار التي ترسم ذلك الفجر الجديد.

وفي هذا البيت صورة شعرية جميلة للغاية حيث يشبه الشاعر فعل الشعر بالنزيف، ويشبه اثر الشعر بالفجر الجديد، ذلك الفجر الذي يكاد يطل من عيني الشاعر.

وكأن الشاعر يخاطب ذاته قائلا: كيف تقف مكتوف الأيدي وأنت بما تقوله من شعر جميل ترسم وتصنع فجرا جديدا.

ولا يخفى أن الشاعر هنا يفتخر بملكة الشعر لديه...إذ يرى بأن ما يقوله من شعر إنما يساهم في صناعة فجر جديد. وهو ليس شعرا ينز نزا، وإنما هو شعر غزير وهو أشبه في ولادته بالنزف.

وفي ذلك أيضا وصف للحظة الشعرية فهي ليست أمرا هينا وإنما عملية صعبة ومؤلمة وأشبه ما تكون بالنزيف النازف من العين.

وفي هذا البيت يستخدم الشاعر صورة شعرية ومحسنات أضافت إلى البيت جمالا وسحرا. فباستخدام كلمات ( عينيك + تشهد ) يوقظ في المتلقي حاسة البصر. وفي النزف ما يوحي بالحركة بل ربما بصورة الدم النازف من الجرح، ولكن النزيف هذه المرة هو نزيف قصائد تصنع فجرا جديدا، يولد من عيني الشاعر، الذي نراه يفتخر بأهمية دوره كشاعر.

ففي البيت إذا تأكيد على دور الشاعر في المجتمع ..فالشاعر ينزف شعرا..ويصنع فجرا.

==
تجَلَّيْتَ فِي مَعْنى الحُضورِ وَإنَّمَا = حُضورُكَ طَيْفٌ فَيالقراطِيسِ هَاتِفُ

وفي هذا البيت نسمع صوت الشاعر من جديد وهو يمجد ذاته ويمدح نفسه واصفا ما حققه في دنيا القصيدة من انجازات فيقول: أي هذا ...لقد كان لك حضورا جليا في عالم الإبداع الشعري، حضورا بارزا واضحا، عميق المعنى واضح الأثر، وكأنك الشمس الساطعة تظهر بعد ليل طويل فيكون ظهورها بارزا واضحا جليا.

وهكذا يصف الشاعر ما قدمه من انجازات شعرية، لكنه لا يكتفي بهذا المديح لذاته من خلال وصف حضوره المميز، بل يضيف إلى ذلك وتأكيد على شعوره بالفخر ومادحا نفسه، بأن ذلك الحضور لم يكن عابرا، ولا هامشيا، ولا يصعب ملاحظته... فهو بالإضافة إلى انه جلي واضح، فهو أيضا (طيف والطيف من الخيال والنور وهو ما يمكن أن يعبر إلى الذهن والقلب دون حواجز أو معيقات ).

وهذا الطيف استوطن دواوين الشعر، يكاد يسمع صوته، وهتافه، من بين أوراق تلك الدواوين، وفي ذلك ما يشير إلى مدى افتخار الشاعر بقدرته الشعرية التي يرى أنها أصبحت مثل الطيف الهاتف من بين الدفاتر ليخترق القلوب والأذهان، وكأنه يعيد إلى الأذهان قول المتنبي:

أنا الـذي نظـَرَ الأعمى إلى أدبــي ... وأسْمَعَـتْ كلماتـي مَـنْ بـه صَمَـمُ

لا بل هو يتفوق على المتنبي فهو لا يكتفي بالقول انه ولبلاغته وحضوره الشعري، كان قادرا على أن جعل الأعمى يرى شعره، وان يجعل الأصم يسمع قوله، بل إن شاعرنا يجعل حضوره (هتاف طيف) ذلك الهتاف الذي يخترق كل الأشياء والأجسام فحتى الجماد يمكنه أن يسمع لحن شعره الهاتف من بين ثنايا الكتب وليس فقط الأعمى والأصم.

ويبدو أن شاعرنا في طريقه لان يتفوق على المتنبي في فخره ومدحه لذاته ووصفه لقدراته على القول الجميل المؤثر.

ولا شك أن في البيت صورة شعرية بالغة الجمال فلك أن تتخيل عزيزي المتلقي صورة هذا الحضور فكلمة ( تجلى – تجليت ) توقظ في ذهن المتلقي معاني القوة، والرهبة، والنور الساطع، الذي لا مثيل له، والذي لا يمكن إلا أن يترك أثرا مزلزلا.

وفي الشطر الثاني يعزز الشاعر تلك الصورة الجميلة فيؤكد على أن ذلك الحضور لا يقتصر على التجلي وإنما هو في الواقع يصبح مثل الطيف الذي يستوطن الكتب ولكن الشاعر يشخصن الطيف هنا فيجعل له هتاف، ولا بد أن هتاف الطيف سيكون قادر على اختراق القلوب والعقول.

وباستخدام كلمة هاتف يوقظ الشاعر حاسة السمع لدى المتلقي مما يجعل لبيت الشعر هذا اثرا عظيما ومزلزلا.

ولا شك ان كاتب مثل هذا البيت من الشعر يستحق ان يفتخر بقدرته على قول الشعر الجميل.

يتبع..

ايوب صابر 09-14-2014 01:18 PM

تابع ...
قراءة ايوب صابر في قصيدة " إلى البحرِ أطوِي كُلَّ مَوجٍ..." للشاعر عبد اللطيف غسري:


ضِفَافُ الصَّدى تنزَاحُ.. أمْسِكْ ذُيُولهَا = إذا الصوتُمَعْنًى لِلصَّدى وَمُرَادِفُ

يعود الشاعر في هذا البيت لاستنهاض الهمة، همة نفسه الشاعرة طبعا، ونسمعه وهو يخاطب ذاته من جديد، حاثا إياها على أن تُقدم دون تردد على الكتابة الشعرية ، ومخاطبا ذاته بقوله "لا تقف هناك جامدا، وأنت تداعب حلمك، غير مدرك لسرعة مرور الزمن".

وفي هذا البيت الجميل والذي يشتمل على صورة شعرية معقدة وجميلة، نجد أن الشاعر يحث نفسه على الإسراع في العمل، والتصرف قبل أن يتلاشى صدى ما حققه من نجاحات في مجال الكتابة الشعرية، حيث شبه الشاعر صدى ما حققه من نجاح بنهر جارف، جاري، لكن الشاعر يرى ضفاف ذلك النهر من المجد والشهرة تنزاح بعيدا عنه، وفي ذلك كناية عن تلاشي صدى ما حققه من نجاح... لذلك فهو يخاطب ذاته حاثا أيها على الإمساك بذيول ما حققه من نجاح، قبل أن تتلاشى تماما كما يتلاشى الصدى.

وفي استخدام كلمة ذيولها ما يشير إلى صفة الاستعجال التي يضمنها الشاعر لهذا الشطر من البيت فهو يرى بأن توقفه عن ألكتابه جعل صدى ما حققه من نجاح يكاد يختفي وفي ذلك حثٌ على الاستعجال في التصرف والعودة إلى الكتابة، وهذا ينسجم مع حالة الاستعجال التي ضمنها الشاعر في البيت الأول من القصيدة.

ونجد أن الشاعر قدم الصدى على الصوت لان التلاشي هي صفة الصدى، الذي يقع كنتيجة للصوت، ويتلاشى تدريجيا.

ومن هنا نفهم الشطر الثاني من البيت على انه مخاطبة للذات من اجل الاستمرار في قول الشعر الجميل، الذي يمثل رفع الصوت والجهر به، مما يؤدي إلى وقوع الصدى.
وعليه فأن مخاطبة الشاعر لذاته بأن يستعجل في الإمساك بذويل الصدى قبل أن تتلاشى هي في الواقع استنهاض للهمة على الاستمرار في قول الشعر، الذي هو الصوت والذي ينتج عنه الصدى الذي يكاد أن يتلاشى.

فخوف الشاعر الذي يدعوه إلى الاستعجال في التصرف نابع في الواقع من خشيته أن يتلاشى صوته الشعري الذي ترك صدى عظيما...وذلك إذا ما استمر في الوقوف جامدا كالظل بينما الوقت يمر مسرعا.

ونجد أن لهذا البيت وقع عظيم على المتلقي، ناتج أولا من تشبيه الشاعر لصدى ما حققه من نجاح بالنهر الجارف العظيم ودليل عظمته تلك الضفاف التي كادت أن تتلاشى لأنه توقف عن الكتابة.

ثم من استخدامه لكلمات توقظ حواس المتلقي، وأهمها حاسة السمع باستخدام كلمات (الصوت و الصدى)، وفي استخدام كلمة ( امسك ) إيقاظ لحاسة اللمس عند المتلقي. وفي الشطر الأول تشخيص لضفاف النهر وكأنه كائن له ذيل. وفي استخدام كلمات ( الصوت والصدى ) استثمار للتضاد الذي له أعظم اثر على ذهن المتلقي.

والصورة الشعرية المتمثلة في ( ضفاف وتنزاح ) ما يوحي بالحركة،وهو ما يجعل البيت ينبض بالحيوية والحياة.

وفي هذا البيت ما يشير بوضوح إلى قدرة الشاعر عبد اللطيف غسري المهولة على تطويع الكلمات ليوصل لنا ما يريد أن يقوله عبر صورة شعرية غاية في الجمال والتأثير رغم ما يشوبها من تعقيد ظاهر هنا، وتقديم للصدى على الصوت.

ولا عجب إذا أن يفتخر بقدرته ويمدح ذاته الشاعرة.
==
على عَجَلٍ أبْحِرْ بِأشْرِعَةِ الأنا = لعَلَّكَفُلْكَ الذكْرَياتِ تُصادِفُ

وفي هذا البيت يستعجل الشاعر ذاته من جديد ( على عجل) طالبا من نفسه الإسراع في القيام برحلة شبه بحرية هذه المرة، ولكن باستخدام أشرعة ( الأنا ) والأشرعة جمع شراع، وهو ما يثبت على السفينة لتتمكن من الإبحار، ولكن البحر هنا هو الذات الشاعرة.
فالشاعر هنا يستعجل نفسه للإبحار في أعماق ذاته الشاعرة لعله يلتقي مصادفة بفلك الذكريات. والفلك هو السفينة وفي هذا البيت ما يشير إلى اعتزاز الشاعر بذاته الشاعرة التي يشبهها بالبحر الواسع، ولذلك فأن الإبحار في هذه الذات يحتاج إلى أشرعة والالتقاء بفلك الذكريات ربما يحدث، وربما لا يحدث وان حدث فسوف يكون ذلك صدفة، وذلك كناية عن ضخامة الذات الشاعرة.
وهذا البيت يشير إلى مدى اعتداد واعتزاز الشاعر بذاته الشاعرة التي يشبهها بالبحر، لكنه واسع بدليل حاجته إلى أشرعه تنقله عبر هذا البحر ولعله يتلقي صدفة بفلك الذكريات.
وأي ذكريات هذه ؟ هذا ما نجد جوابه في البيت التالي.


تركْتَ رَياحِينًا هُناكَ نَدِيَّةً = ـأتذكُرُهَا؟ـ حيثُ الظنونُ عَواصِفُ
وفي هذا البيت يعود الشاعر ليتذكر بداياته في كتابة الشعر، والتي يشبهها الشاعر هنا بالرياحين الندية، وهو يسأل هل ما زلت تذكر تلك القصائد الندية التي كتبتها على الرغم أن الظنون كانت كبيرة وعاصفة؟

وحيثُ لِسَانُ الوقتِ يَجْرَحُ حَرْفَهُ = وحيثُ قُصَاصَاتُ السؤالِ صَحائِفُ
وفي هذا البيت يصف طبيعة ذلك الزمن الذي ترك فيه الذكريات. وهو في هذا البيت يشخصن الزمن ويجعل له لسان.
ولا شك أن هذا الشطر كناية عن الحالة النفسية التي كانت تسيطر على الشاعر في تلك المرحلة الزمنية، وفيه كان الزمن يجرح الشاعر ( ربما لصعوبة الظروف) فينعكس ذلك على حروفه وقصائده.
وربما يريد الشاعر هنا أن يصف لنا شكوكه التي كانت تسيطر عليه أحيانا فتجعله متشكك في الوصول إلى النجومية والشهرة ولكنه وحيث حقق النجاح يستعجل نفسه للامساك بالقلم من جديد.

مَتَى يَشْرَئِبُّ النَّجمُ مِن شُرْفَةِالمدَى؟ = سُؤالٌ لِأسوارِ الإجَابَةِ ناسِفُ
وفي هذا البيت يشبه الشاعر نفسه بالنجم الذي ( يشرئب ) أي الذي يظهر من شرفة المدى وكأنه شخص يمد عنقه، وهو حتما يتساءل متى يظهر نجمكَ ويترفع؟ أيها القادم من المدى البعيد.
لكنه سؤال ليس في مكناه، فهو لا يحتاج إلى أجابه، لان النجم قد وصل ، والمقصود به هنا (الشاعر) وهو موجود أصلا من خلال ما حققه من نجاخات سابقة. وليس هناك حاجة لانتظار ظهوره من المدى البعيد.

وَنادَيْتَ عِشْتارَ القصيدةِ أنْضَعِي = نسِيغَكِ فوقَ الجِذعِ، فالغُصنُ راجِفُ
وفي هذا البيت يقول الشاعر انه خاطب آلهة الشعر (عشتار القصيدة )، وعشتار هي آلهة الخصب ولكن المقصود هنا هو وحي الشعر، وهو منبع الشعر لديه..
مناديا أيها ويطلب منها أن تضع وشمها ( نسيغ ) أي الوشم أو الأثر( القصائد) فوق الجذع، وفي ذلك كناية عن حث الشاعر نفسه على الإقدام على كتابة القصائد التي شبهها بوضع الوشم على الجذع المرتجف. وربما الارتجاف سببه الخشية من فقدان القدرة على الكتابة الجميلة.

ألم تعْلمِي أنِّي عَصِيٌّ بنِينَوَى = وأنِّيَ طَوَّافٌ عَنِ النهرِ عَازفُ؟
وهو في هذا البيت ما يزال يخاطب آلهة القصيدة ( عشتار القصيدة) ويقول لها ألا تدرين بأنني في حالة جعلتني غير قادر على الكتابة ( عصي بنينوى )، وأصبحت عازف عن قول الشعر..الذي سبق ان تدفق مني مثل النهر..
فلا تترددي يا آلهة الشعر أن تطلقي لنفسك العنان لتضعي نسيغك من جديد فوق الجذع المرتجف.

إلى البحرِ أطوِي كُلَّ مَوجٍ وَطِئْتُهُ = أليْسَ لِأسْمَاكِي لديهِ زَعانِفُ
وإنِّي لَمَوْلودٌ بِزاوِيَةِ الرِّضَا = وَلَكِنَّ ظِلَّ الحُلمِ في القلبِ وَارفُ
وَإنِّي لِفَتقِ الأمْنِيَاتِ لَرَاتِقٌ = وإنِّي لِنَعْلِ القافِيَاتِ لَخَاصِفُ


عبد اللطيف السباعي 09-14-2014 08:07 PM

بوركتَ وبورك نبض قلمك الزاخر أخي الكريم الأستاذ أيوب صابر..
إنه لعمل جليل غير مسبوق هذا الذي تقوم به في قسم الدراسات النقدية.. أسأل الله أن يمتعك بالصحة والعافية فيستمر هذا العطاء وارف الظلال..
تقبل تحياتي العطرة.

عبد اللطيف السباعي 09-14-2014 08:08 PM

قراءة أخرى في قصيدة ( الجرس الخفي )
بقلم : د مرتضى الشاوي
تبدو للقاريء عتبة العنوان أنّها مكونة من موصوف وصفة يقع الموصوف خبراً لمبتدأ محذوف قد يفهم من السياق لعلم المتلقي به .
إلا أنّ في دلالتها المجازية رمزاً يعود لذلك الشيء المستور بالرغم من مفردة ( الجرس ) توحي بتنغيم خاص ربما تطرب له الإذن ، وقد يكون ثقيلاً لا تحبذه حتى خوالج النفس المطمئنة ، فليس كلّ جرس مسموع محبوب وليس كلّ جرس مسموع مطروب إلا أنّ وصف الجرس بالخفاء لكونه مستوراً دليل على أنّه مقيد مكبوت لا يسمع إلا في حالة نادرة استثنائية .
هل يمثل الجرس الخفي المرموز له صوت الضمير الحي ؟ أو إنّ نوازع النفس في تداخلها
إنّ قصيدة الجرس الخفي بمضامينها الذاتية تعدّ تنفيساً عن الذات وهي من الشعر التأملي الفلسفي لأنّها بوح خاص فريد عن النفس بهواجسها الشفافة .
والقصيدة في مبناها العمودي تمثل شكلاً غرة القصيدة العمودية إذ ابتنت على بحر البسيط بتقفية موحدة في الشطر الأول مع قافية واحدة سينية الروي وهو التزام فني في مراعاة الصياغة الشعرية .
اشتملت القصيدة على معان ومضامين متنوعة تآزرها وحدة موضوعية ليس هناك شطط ولا تكلف ولا اجترار في الوصف .
والقصيدة كلّها أنغام وترانيم هواجس النفس في خلجاتها وشفافيتها وهذا دليل على هدوء الشاعر وقدرته على ضبط النفس وعدم انفعاله داخل القصيدة مما لا يؤدي به إلى الزلل الفني .
من المضامين والمعاني الإنسانية في أبيات القصيدة :
1- تنطوي على معالم الاعتزاز بالنفس بمكامنها ومشاربها كما في قوله :
بِدَاخِلِي مِنْ كِنايَاتِ الأنَا جَرَسُ = مَعْنَى السُّكونِ بِهِ نَاءٍ وَمُلْتَبِسُ
يُدَقُّ حِينَ يَصُبُّ الغَيْمُ أحْرُفَهُ = رَذاذَ حَشْرَجَةٍ يَهْمِي بهِ الهَوَسُ
2- البحث عن غاية مهمة للوصول إليها عبر وسائل نافعة كما ورد في قوله :
أيْنَ الوَمِيضُ وَهَذا الصَّدْرُ بَوْثَقَةٌ = حَمْرَاءُ مِنْ كُلِّ إحْسَاسٍ بهَا قَبَسُ
أيْنَ السَّبيلُ... مَسِيرُ الذاتِ هَرْوَلَةٌ = فِي مَهْمَهِ الليْلِ لَمْ يَفْطِنْ لَهَا العَسَسُ

3- التحلي بالثبات والتصبر دليل على الاستقرار على حالة واحدة لا تتغير والحنين إلى الماضي والتذكير به بسبب تأنيب الضمير كما في قوله :
وَما بَرِحْتُ مَكانِي قَيْدَ أُنْمُلَةٍ = وَما شَهِدْتُ زَمَانِي وَهْوَ يَنْتَكِسُ
أنا المَشُوقُ إلى ما فاتَ مِنْ زَمَنٍ = أطْلالُ قَلْعَتِهِ تَهْوِي فَتَنْدَرِسُ
هَذِي نسَائِمُهُ حَمَّلْتُهَا كُتُبِي = وكُلُّ حَرْفٍ بِها فِيهِنَّ مُنْطَمِسُ
4- الاستئناس بهذا النداء الخفي القادم من موطن الروح لما يملك من علة الاستيقاظ كلما ابتعدت النفس عن خطها للوصول إلى الهدف لأنّ الإنسان في تحركه الطبيعي يمثل مرايا عاكسة للكون .
لَكِنَّمَا الجَرَسُ المَخْبُوءُ فِي جِهَةٍ = مِنْ مَوْطِنِ الرُّوحِ يُغْرينِي بهِ الأنَسُ
يَهُزُّنِي كُلَّما أغْفَيْتُ عَنْ هَدَفِي = وَالكَوْنُ فَوْقَ مَرَايَا النَّفسِ يَنْعَكِسُ

5- اعتزاز الشاعر بنفسه في ضوء الفخر بشعره .كماورد في قوله:
وَلَسْتُ آنَفُ إنْ أسْرَجْتُ قافِيَتِي = إلى المُنَى، حَوْلَهَا مِنْ أدْمُعِي حَرَسُ
مِنْ أنْ أنامَ على أسْمالِ خاطِرَةٍ = أوْ أنْ يَكونَ طعَامِي التَّمْرُ والعَدَسُ

6- الإشارة إلى التواضع في العيش في الملبس والمأكل وهذا ناتج عن ترويض للنفس في الحياة كما في قوله :
مِنْ أنْ أنامَ على أسْمالِ خاطِرَةٍ = أوْ أنْ يَكونَ طعَامِي التَّمْرُ والعَدَسُ
7- الإطالة في التفكير الصافي للوصول إلى نهاية المطاف برجاء اللقاء وبوساطة اكتشاف مكامن هذا الصوت التأملي المخفي في أعماق الروح ولا يتم ذلك إلا بأشياء :
1- مجالسة الطبيعة وتحقيق الهدوء والطمانينة والنهر يمثل رمزاً للطبيعة بوصفه المادي ويتضمن معالم العطاء وسر الحياة في الوجود .
2- طلب الرحلة في رجاء الوصول ناتج عن إلقاء زورق النجاة بعاطفة الهجر للتغريب النفسي في أعماق الروح رغم التحدي القائم على إنكار استحلال الدنس من الخبائث وعدم الإرتكاس إلا أنّ أشرعة الرجاء والأمل في أعماق الروح تجوب حاملة البلاء بسبب الانغماس في التفكير ورغم كلّ ذلك إنّ دلالات النهر المتنوعة تمرّ في خشوع لإستئناسه إياها لأنّ صوت الفكر قد أطبق عليه بعدم الكلام وهي نتيجة حتمية قد أملاها الشاعر في طمأنينة النفس البشرية التي جبلت على صفاء التفكير وترويضها وابتعادها عن كمائن النفس في رغباتها غير العقلية .
إذا يَضُخُّ المَدى فَوقِي غَمَائِمَهُ = مَاءُ التَّفَكُّرِ مِنْ عَيْنَيَّ يَنْبَجِسُ
أُجَالِسُ النَّهْرَ مَفْتونًا بِجِدَّتِهِ = لا يَسْتَحِلُّ خُدُودَ الضِّفَّةِ الدَّنَسُ
أُلْقِي بهِ زَوْرَقِي المَشْبُوبَ عَاطِفَةً = لعَلَّهُ عَنْ لِقائِي لَيْسَ يَرْتَكِسُ
لعَلَّ أشْرِعةَ الآتِي تَجُوبُ بهِ = أعْمَاقَ رُوحِي فَيَبْلوهَا وَيَنْغَمِسُ
تَمُرُّبِي كَلِماتُ النَّهْرِ صَامِتَةً = صَوْتُ التأمُّلِ مَحْفُوفٌ بِهِ الخَرَسُ
من الملامح الفنية والأسلوبية الطارئة على القصيدة :
فقد وظف الشاعر أدواته الفنية في إنتاج معاني أدبية رائعة تتساوق مع البعد الدلالي لهواجس النفس .
ويبدو ذلك من العنوان الذي أطل بترميز وإشارة إلى ذلك الضمير الحي الذي يختفي تحت جوانح الصدور ومكامن النفس .
وكل ذلك جاء عن وصف مكثف قائم على توليد المعاني بوسائل المجاز الإستعاري من أنسنة وتجسيم وإغراق قي الوصف .
وقد ورد ت الصور المجازية بكثرة نتيجة لتوليد قدراً من المعاني الجديدة مؤطرة بحيوية وموسيقى هادئة
مثل ( هرولة الذات ، تجنيح المسافات ، تلابيب المدى ، جعل النفس مرآة عاكسة ، إسراج القافية ، أسمال الخواطر ، انبجاس ماء العين ، أنسنة النهر بمجالسته للصحبة وتجسيمه برسم ملامح له مثل خدود الضفة ونهر هاديء مثل إنسان صامت إلا أنّ صوت التفكير لا يبان له بصوت فهو يشبه إنساناً اخرس ، أنسنة الزورق وجعله المعشوق في مرتبة الحب ، جعل للأمل أشرعة بوصفه السفينة الناجية في أعماق الروح )
وكذلك ورود الصور الكنائية مثل ( طعامي التمر والعدس = للدلالة على التواضع ) و( ماء التفكر = للدلالة على انسيابية الفكر وصفائه ) و( جيب الوقت = للدلالة على الثبات والاستقرار والاحتواء )
وأيضاً توافر الرموز الهادفة مثل ( الجرس الخفي ، ، الوميض ، البرذون والفرس ، البوصلة ، الجرس المخبوء ، صوت التأمل ) في دلالتها على التفاعل الحيوي الكامن في خبايا النفس البشرية .
2- من الملامح الأسلوبية الصوتية :
حقق الشاعر ملمحاً أسلوبياً في الانتقاء على مستوى ( المفردات ) من أجل إضفاء الحس الإيقاعي الذي ينسجم مع النفس البشرية بصفائها وهدوئها .
لهذا السبب قد اختار المفردات الإيحائية ربما جاءت عن قصد أو عفوية بسبب الخبرة والممارسة وقوة الحافظة في جلب المعاني باستعمال مفردات تتناغم دلالياً وحسياً على مستوى الصوت مع الإيقاع الخارجي ولهذا نجد شيوع المفردات المتضمنة على حرف ( السين ) بكثرة على مستوى القصيدة وعلى مستوى البيت الواحد لتشكل منعطفاً بارزاً في الانزياح الأسلوبي على مستوى الصوت مثل مفردات القافية كلّها وغير ذلك .
كما نجد ذلك بارزاً على تواجد صوت داخل القصيدة يتجاذب في الإيقاع الداخلي في قوله :
بداخلي من كنيات الأنا جرس = معنى السكون به ناء وملتبس
أين السبيل ، مسير الذات هرولة = في مهمه الليل لم يفطن لها العسس
ولست آنف أن أسرجت قافيتي = إلى المنى ، حولها من ادمعي حرس
أجالس النهر مفتوناً بجدته = لا يستحل خدود الضفة الدنس
فوجود صوت السين وتكراره في القصيدة على مستوى القافية ومستوى المفردات في داخل القصيدة قد شحن القصيدة بجو من التنغيم الهاديء كأنّه همس في الإذن وتطريب للمشاعر والأحاسيس فضلاً عن ذلك أنّ صوت السين من الأصوات الذي يتناغم مع مثيله أو ما يناضره كصوت الصاد فوجود الصاد بالأقرب من السين يفاجأ المتلقي بهمس خفي دون أن يشعر به مثل ( يصب ، الصدر ، بوصلتي، صامتة ، صوت ) كما في قوله :
يُدَقُّ حِينَ يَصُبُّ الغَيْمُ أحْرُفَهُ = رَذاذَ حَشْرَجَةٍ يَهْمِي بهِ الهَوَسُ
أين الوميض وهذا الصدر بودقة = حمراء من كلّ إحساس بها قبس
فَهَلْ أضَعْتُ بِجَيْبِ الوَقْتِ بَوْصَلَتِي = إنِّي لَأطلُبُ آثَارِي وألْتَمِسُ
تمر بي كلمات النهر صامتة = صوت التأمل محفوف به الخرس
وكلّ ذلك جاء عن طريق التراكم الصوتي الذي يسجل للشاعر ميزة في تداعي الأصوات داخل القصيدة وأبعادها النفسية ؛ لأنّ صوتي السين الليّن والصاد المفخم من الأصوات المهموسة والرخوة جاءا في تناسق خاص قائم على الانسجام والملاءمة.

عبد اللطيف السباعي 09-28-2014 05:25 PM

رؤية الأديب عبد الإله الزاكي لهذه القصيدة..


سؤالُ النهرِ: ما مُنْتهاهُ إذا جرَى؟ ما المُبْتدَا؟
عبد اللطيف السباعي


بُعدانِ يَسْتَعِرانِ في قيظِ المَدَى = حينَ الوجودُ يذوبُ فيهِ مُجَرَّدَا
هذا التوَجُّسُ مِن سُعار الوقتِ إذْ = شَقَّ الكلامُ به سَرابيلَ الصدى
وهَوَى الكتابةِ إذْ يَشِفُّ كأنَّهُ = مطرُ الجَوَى ينثالُ مِنِّيَ أسْوَدَا
يا سَاقِيَ الأحلامِ ويْحَكَ هاتِها = منْ غُرْفةٍ بُنِيتْ على سُقُفِ الرَّدى
آمَنتُ أنَّكَ قادِمٌ مُتعَجِّلٌ = مِن وَشْوشاتِ الليلِ تشْرُد مُفْردَا
أوْ منْ جنوبِ الريحِ تحملُ دَوْرقًا = منْ ذكرياتٍ هُنَّ نغْمةُ مَنْ شدَا
آمَنتُ أنَّ حدودَ خَطِّ الوشمِ في = جَسَدِ الرتابة أن تشِطَّ بلا هُدى
أن تكسِرَ الوثَنَ الذي يَمتدُّ في = صدْرِ المساءِ.. يَمُدُّ للأفُقِ اليدَا
أوْ في سؤالِ النهرِ حينَ يطِنُّ في = وعْيِ الترابِ وَمَسْمَعَيْهِ مُرَدَّدَا
الماءُ ذاتي.. لستُ أدْري كُنْهَهُ = ما مُنْتهاهُ إذا جرَى؟ ما المُبْتدَا؟
يا أيُّها المتجَهِّمونَ بلا رُؤًى = شاهتْ وجوهُ القاعدِينَ على المُدَى
صُلِبَ الزمانُ على مشارفِ يوْمِكُمْ = لا تذكُرُونَ الأمْسَ منْهُ ولا الغدَا
النهرُ فيكمْ لوْ أضاعَ ضفافَهُ = أنَّى لِمَجْرَى مائِهِ أنْ يُفْتدَى
هُنْتُمْ بمْشكاةِ التجَلّيِ مِشْعلا = خِبْتُمْ بمرآةِ التصَوُّرِ مَشْهدَا
أوَ حيْثُما وَلـَّيْتُ وَجهيَ لا أرى = إلا عُيُونًا مُقْفِراتٍ مِنْ نَدى
أوْ ألْسُنًا قدْ يَغْتسِلْنَ بوابلٍ = مِن أحْرُفٍ يَذهَبْنَ مِنْ ضَجَرٍ سُدى
أوْ أوْجُهًا كمُنَغِّصاتِ البحْرِ مِنْ = عرَقِ الهموم جَبينُهُنَّ تفَصَّدَا
الحِسُّ أجْمَدُ منْ مَلامِحِ صَخْرةٍ = تحْتلُّ حقلا مُسْتطيلا أجْرَدَا
لا نوْرسُ الغاياتِ يُسْكِرُهُ إذا = غنَّى ولا بَجعُ المسافةِ إنْ بَدَا
والقلبُ يَسْرقُ بعضَ خُبزِ نهارهِ = مِن سَلَّة الوَجَعِ الكَنُودِ إذا اغْتدَى
في كلِّ يوْمٍ يرْتدِي أحْزانَهُ = ويَظلُّ يسْعى غافلا عمَّا ارْتدَى

آيت اورير _ المغرب
03/09/2014

خريدة رائعة بصور شعرية مبتكرة تنتمي لروح العصر وثقافته.
قرأتها أكثر من مرة، وحاولتُ التعقيب فأعجز لفك رموزها وتبقى مستعصية بإيحاءاتها وشامخة ببلاغتها.

بُعدانِ يَسْتَعِرانِ في قيظِ المَدَى = حينَ الوجودُ يذوبُ فيهِ مُجَرَّدَا

لعلّ الشاعر هنا يتسائل عن معنى الوجود. البعدان في نظري قد يكون الموت والحياة، أو الدنيا والآخرة.

هذا التوَجُّسُ مِن سُعار الوقتِ إذْ = شَقَّ الكلامُ به سَرابيلَ الصدى

لعلّ الشاعر ساءه الزمان ويتعجب من أحوال النّاس.

وهَوَى الكتابةِ إذْ يَشِفُّ كأنَّهُ = مطرُ الجَوَى ينثالُ مِنِّيَ أسْوَدَا

هذه الهموم وهذا الواقع المرّ تحرّك أحاسيس الشاعر فينزل الشعر دمعا أسودا. كأن الشاعر يبكي لما آلت إليه الأمور في البلاد.

يا سَاقِيَ الأحلامِ ويْحَكَ هاتِها = منْ غُرْفةٍ بُنِيتْ على سُقُفِ الرَّدى

يبدو الشاعر محتضرا بهذا الواقع الذي يخنقه ويستغيث بساقي الأحلام. فإمّا إلى حياة كريمة أو موت مريح.

آمَنتُ أنَّكَ قادِمٌ مُتعَجِّلٌ = مِن وَشْوشاتِ الليلِ تشْرُد مُفْردَا

كأن الشاعر يعترف في قرارة نفسه أنّه لا ملجأ ولا منجى من تغيير الواقع إلا أن يشرب من كأس الحلم! والحلم سلاح العاجزين.

أوْ منْ جنوبِ الريحِ تحملُ دَوْرقًا = منْ ذكرياتٍ هُنَّ نغْمةُ مَنْ شدَا

البيت هنا في معنى سابقه، وفيه بعض الحنين إلى زمن عزّة الأمة.
رغم أن البيت جميل في بناءه ورمزيته، لكنّني لم أصل إلى معنى لجنوب الريح. فكأن للريح جهات أربع؟!

آمَنتُ أنَّ حدودَ خَطِّ الوشمِ في = جَسَدِ الرتابة أن تشِطَّ بلا هُدى

إذا صدق حدسي، فالفعل ( شط ) يعود على الشاعر وليس على ساقي الأحلام، وبذلك يفقد كلّ أمل في التغيير.

أن تكسِرَ الوثَنَ الذي يَمتدُّ في = صدْرِ المساءِ.. يَمُدُّ للأفُقِ اليدَا

هذا البيت بليغ في التشبيه، جزيل اللفظ وعميق الدلالة ولايحتاج إلى شرح.
حسُن الحامل والمحمول .

أوْ في سؤالِ النهرِ حينَ يطِنُّ في = وعْيِ الترابِ وَمَسْمَعَيْهِ مُرَدَّدَا
الماءُ ذاتي.. لستُ أدْري كُنْهَهُ = ما مُنْتهاهُ إذا جرَى؟ ما المُبْتدَا؟

لا شك أن النهر و الماء هنا رمزي الدلالة.
فهل يقصد الشاعر هنا الوجود فيعيدنا إلى مطلع البيت الأول وتكتمل بذلك حلقة الجزء الأول من القصيدة؟ أم أنّ الشاعر يتساءل عن جوهر النفس البشرية ؟
سواءا أكان المقصود الوجود أو الجوهر، فالقصيدة تخوض في المواضيع الفلسفية الكبرى بإيحاءات سياسية.

يا أيُّها المتجَهِّمونَ بلا رُؤًى = شاهتْ وجوهُ القاعدِينَ على المُدَى
صُلِبَ الزمانُ على مشارفِ يوْمِكُمْ = لا تذكُرُونَ الأمْسَ منْهُ ولا الغدَا
النهرُ فيكمْ لوْ أضاعَ ضفافَهُ = أنَّى لِمَجْرَى مائِهِ أنْ يُفْتدَى
هُنْتُمْ بمْشكاةِ التجَلّيِ مِشْعلا = خِبْتُمْ بمرآةِ التصَوُّرِ مَشْهدَا
أوَ حيْثُما وَلـَّيْتُ وَجهيَ لا أرى = إلا عُيُونًا مُقْفِراتٍ مِنْ نَدى
أوْ ألْسُنًا قدْ يَغْتسِلْنَ بوابلٍ = مِن أحْرُفٍ يَذهَبْنَ مِنْ ضَجَرٍ سُدى
أوْ أوْجُهًا كمُنَغِّصاتِ البحْرِ مِنْ = عرَقِ الهموم جَبينُهُنَّ تفَصَّدَا
الحِسُّ أجْمَدُ منْ مَلامِحِ صَخْرةٍ = تحْتلُّ حقلا مُسْتطيلا أجْرَدَا
لا نوْرسُ الغاياتِ يُسْكِرُهُ إذا = غنَّى ولا بَجعُ المسافةِ إنْ بَدَا
والقلبُ يَسْرقُ بعضَ خُبزِ نهارهِ = مِن سَلَّة الوَجَعِ الكَنُودِ إذا اغْتدَى
في كلِّ يوْمٍ يرْتدِي أحْزانَهُ = ويَظلُّ يسْعى غافلا عمَّا ارْتدَى

هنا تتكّشف رؤية الشاعر وكأنّه يستحضر الآية: ((إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ))[الرعد:11]
أو قول الشاعر أبو القاسم الشابي : إذا الشـــعبُ يومًــا أراد الحيــاة فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدرْ

يفنّد الشاعر ما قد يتبادر إلى ذهن القارئ من أنّه (الشاعر) طوبويا وإنّما هو يعزف لحن الحياة لمن كان عالي الهمّة وقويّ الإرادة.

لا أدّعي أني سبرت أغوار النص، ولا توصلتُ إلى كنه مراد الشاعر. لكن قصيدة بهذا العمق، والرمز، واللفظ لتستوجب توقف عقارب الساعة معلنة عن ميلاد عصر جديد....

عبد اللطيف السباعي 11-09-2014 03:04 PM

استفاضة الأستاذ عبد الإله الزاكي في تحليل قصيدة "سؤال النهر"..


هذه أول قصيدة شعرية عمودية- حسب علمي- تحمل فكرا عميقا تعكس اتجاها فلسفيا كاملا حول الوجود. والفلسفة الوجودية تؤمن بأن الإنسان قادرعلى أن يصنع ذاته وكيانه بإرادته، وأن يختار القيم التي تنظم حياته. وهذه النزعة الفكرية تهتمّ بالوجود والواقع بعيدا عن الماهيات او جوهر الاشياء.
يبقى أن نشير إلى أنّ الفكر الوجودي يحمل توجهين: أحدهما إيماني ( من رواده كيركيجارد ) والآخر إلحادي ( من رواده سارتر)، ولسنا هنا لمحاكمة النوايا ولكن لنبرز هذا السبق الأدبي في طرح فكر فلسفي شامل بكلام موزون ولفظ متقون، وإيحاء يستجيب لروح العصر وثقافته.

1- بُعدانِ يَسْتَعِرانِ في قيظِ المَدَى = حينَ الوجودُ يذوبُ فيهِ مُجَرَّدَا
جاء إسقاط الموت والحياة في مطلع القصيدة من دون مقدّمات، يصوّر الشاعر هنا هاذين البعدين كأنهما ندّان يتنازاعن هذا الوجود الإنساني، ويبدو الشاعر كأنه لايهتمّ لأمرهما ( الموت والحياة) لأنهما من الميثافيزيقيات، وإنّما يهمّه هذا الوجود الواقعي الذي يأتي مجردا وهو حقيقة يقينية.
الصورة الشعرية مبتكرة، واللفظ جزيل، والرؤية فلسفية محضة. مجمل القول أنه بيت شعري رائع البناء اهتمّ بعنصري التعبير والتفكير معا وهذا ينطبق على كلّ أبيات القصيدة.

2- هذا التوَجُّسُ مِن سُعار الوقتِ إذْ = شَقَّ الكلامُ به سَرابيلَ الصدى
يعكس هذا البيت القلق الوجودي عند الشاعر نتيجة الفوضى والعبثية التي تتجسّد على أرض الواقع. فالشاعر ساءه الزمان ويتذمر مما آلت إليه أحوال العباد والبلاد.

3- وهَوَى الكتابةِ إذْ يَشِفُّ كأنَّهُ = مطرُ الجَوَى ينثالُ مِنِّيَ أسْوَدَا
الهوى معناه ميل النفس إلى الشهوة، والقلق هو من يحرّك ملكة الكتابة. والقلق والشهوة لايتجمعان، فكأنّ الشاعر يسخر من نفسه ومن هذه الهموم التي تؤرقه فينزل الشِّعر دمعا أسودا حُرقة لاهوى. وهذه البلاغة كناية عن هذا الواقع المرّ والمحبط.

4- يا سَاقِيَ الأحلامِ ويْحَكَ هاتِها = منْ غُرْفةٍ بُنِيتْ على سُقُفِ الرَّدى
يدعو الشاعر ساقي الأحلام لنتشله من هذا الواقع البائس الذي يبدو مستعصيا! فإمّا إلى حياة كريمة أو موت مريح. فهذا الحاضر يخنق الشاعر ويدفعه إلى تغيير قناعاته الراسخة وهذه قمّة اليأس في تحقيق التقدّم المؤمّل.
البيت رائع السبك ويجمع متضادين هما الأحلام والموت وساقيهما واحد.

5- آمَنتُ أنَّكَ قادِمٌ مُتعَجِّلٌ = مِن وَشْوشاتِ الليلِ تشْرُد مُفْردَا
الشاعر هنا يعترف في قرارة نفسه أنّه لا ملجأ ولا منجى من تغيير الحاضر إلا أن يشرب من كأس الحلم! والحلم سلاح العاجزين.

6- أوْ منْ جنوبِ الريحِ تحملُ دَوْرقًا = منْ ذكرياتٍ هُنَّ نغْمةُ مَنْ شدَا
البيت هنا في معنى سابقه، وفيه بعض السخرية أو التشكيك في إشارة إلى زمن عزّة الأمة الغابر. لم أًصل في البداية إلى معنى لجنوب الريح، ولكن قد يعني بها الشاعر العدم! والعدم ضد الوجود.
البيت جميل جدا ورائع.

7- آمَنتُ أنَّ حدودَ خَطِّ الوشمِ في = جَسَدِ الرتابة أن تشِطَّ بلا هُدى
سواءا عاد الفعل ( شط ) على الشاعر أو على ساقي الأحلام فإن الشاعر فقد كلّ أمل في التغيير.
هذا البيت مدهش تصويرا وبلاغة ولفظا.

8- أن تكسِرَ الوثَنَ الذي يَمتدُّ في = صدْرِ المساءِ.. يَمُدُّ للأفُقِ اليدَا
قد يرمز الوثن إلى معتقد أو شخص ويشكّل هذا البيت ثورة ( رغم أنّه يبدو في نفس سياق البيت السابق) مُفاجِئة في نسق القصيدة الذي يتحول من النبرة الانطوائية والانهزامية في مواجهة المشكلات التي تفرضها التحدّيات الحالية إلى النبرة الانتصارية التي تدعو إلى الانعتاق من الجهل والتخلف وحقّ تقرير المصير وعدم الركون إلى الوضع الراهن.

9- أوْ في سؤالِ النهرِ حينَ يطِنُّ في = وعْيِ الترابِ وَمَسْمَعَيْهِ مُرَدَّدَا
الماءُ ذاتي.. لستُ أدْري كُنْهَهُ = ما مُنْتهاهُ إذا جرَى؟ ما المُبْتدَا؟

النهر و الماء هنا رمزي الدلالة. فقد يرمز النهر إلى الوجود والماء إلى الماهية فيكون بذلك التساؤل عن الواقع والحقيقة. فالجسد واقع والروح حقيقة لا نعرفها إلا من خلال أثرها على المادة (الجسد ). والوجود واقع، لكن الكُنه حقيقة. ولعلّ الشاعر هنا يعيد طرح سؤال كانط : هل هناك معيار كوني ومادي للحقيقة؟ وهل هناك معيار كوني وصوري للحقيقة؟ ويذهب الشاعر إلى تبني موقف كانط نفسه حيث يرى أنه يمكن الحديث عن وجود معيار كوني وصوري للحقيقة، ويتمثل هذا المعيار في الفلسفة الوجودية التي تبني المعرفة على العقل وقواعد المنطق.


10- يــــــــا أيُّــــهــــا الـمـتـجَـهِّــمــونَ بـــــــــلا رُؤًى
شاهتْ وجوهُ القاعدِينَ علـى المُـدَى
صُلِبَ الزمانُ علـى مشـارفِ يوْمِكُـمْ
لا تــذكُــرُونَ الأمْــــسَ مــنْــهُ ولا الــغــدَا
...........................
.................................

يوجه الشاعر اللوم والتقريع إلى الانهزاميين الذين يرضون بالواقع البائس بل ويكرسونه بسبب اليأس الذى تملكهم ودفعهم إلى التنازل عن حقوقهم بحجة أنه لا يمكن استرجاعها فهم ليسوا قادرين على ذلك و بالتالى فعليهم الرضا بما هو مقسّم لهم فهو أفضل من اللا شئ وكأن حال لسانهم يقول لا طاقة لنا اليوم بهذا " الوثن الممتدّ " الذي يقف الشاعر وحيدا في مقارعته.

تتكّشف هنا نفس الشاعر الثورية التي تأبى الذل والخنوع مستنهضا الهمم ومفنّدا ما قد يعلق بذهن القارئ جراء مطلع القصيدة من أنّه (الشاعر) طوبويا أو انهزاميا مثل العامية بل هو يعزف لحن الحياة لمن كان حرّا وقويّ الإرادة، وكأنّه يستحضر الآية: ((إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ))[الرعد:11]
أو قول الشاعر أبو القاسم الشابي : إذا الشـــعبُ يومًــا أراد الحيــاة فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدرْ.

طبعا يمكن الغوص أكثر في أعماق القصيدة واستخلاص الخلفية الفلسفية والفكرية للشاعر الكبير عبداللطيف السباعي لكن ليس هذا هدفنا ( محاكمة النوايا ) كما قلنا سابقا بل نقف عند حدود النصّ( للأمانة العلمية والأدبية ) لما تمثله من قيمة فنّية وسبق في المزج بين الأشكال الجديدة في التعبير( من خلال الرمز، الإيحاء، العمق الفلسفي...) والإبقاء على قيود القافية والأوزان الموسيقية للشعر العربي الأصيل ( البحور، العروض، الإيقاع، القافية، ...). ففي قصيدته الرائعة هذه نقلة نوعية تشكل مدرسة جديدة في الشعر العمودي تخرجه من دائرة الجمود والرتابة والسطحية.


عبد اللطيف السباعي 11-17-2014 04:36 PM

قراءة نقدية لقصيدة ( قراءة جديدة في أيام العرب) للشاعر عبد اللطيف السباعي
بقلم: الأستاذ محمد ثلجي

قراءة جديدة في أيام العرب
عبد اللطيف السباعي

ذِلَّةُ الحالِ واقعٌ ملموسُ = عِبَرٌ مُستَـجِدًَّةٌ وَدروسُ
أسْبَلَ الحُزْنَ منْ أساهُ يراعِي = في ندى الحِبْرِ حَرُّهُ مَحسوسُ
كلَّما رُمْتُ صَدَّهُ بالقوافي = خانني الحَرْفُ.. خاصَمتْني الطرُوسُ
كيفَ يشْدو بفَرْحَةٍ كرَوانٌ = بينَ أقفاصِ عِلَّةٍ محْبوسُ؟
نحنُ قومٌ بالنائباتِ عُرِفْنا = في الترَدِّي تاريخُنا مدْروسُ
حظُّنا منْ وجودِنا ثوبُ خِزْيٍ = ورغيفٌ في علْقمٍ مغْموسُ
ألنا في القتالِ مجْدٌ تليدٌ؟ = "داحسٌ" بعْضُ مجْدِنا و"البَسوسُ"!
إخْوةٌ دبَّتِ العداوةُ فيهمْ = بأسُهمْ بينهمْ شديدٌ ضَروسُ
غَزواتٌ تخَبَّطَ العقْلُ فيها = منْ زمانٍ كأنَّهُ ممْسوسُ
فإذا عَنَّ في دُجانا غريبٌ = في إهابِ العَداءِ جاءَ يَجوسُ
خرَّ في الصمتِ عَزْمُنا المُتداعي = ضَجَّ في الليلِ خوْفنا المهْموسُ
وأوَيْنا إلى مكانٍ قصِيٍّ = ضَمَّنا فيهِ مَخْدَعٌ وعَروسُ
كالنعاماتِ أوْضَعَ الرعْبُ فيها = فاخْتفتْ في الرمالِ منها الرؤوسُ
أمَّةٌ تحْسبُ الوهادَ جبالاً = في المهاناتِ أنْفُها مدْسوسُ
قائدٌ يُغْمِدُ السلاحَ انْقِيادًا = ورئيسٌ في حُكْمِهِ مرْؤوسُ
وشعوبٌ تثاءَبَ العزْمُ فيها = هَدَّها العيشُ.. أثْقلَتْها المُكوسُ
دَجَّنَ القهْرُ وعْيَها ليسَ تدْري = أبَشوشٌ مصيرُها أم عَبوسُ؟
وهَلِ الحُكْمُ بينهمْ مَحْضُ شورى = وهَلِ الشعبُ سائسٌ أم مَسُوسُ؟
كمْ زعيمٍ تقلَّدَ الأمْرَ فرْدًا = قمَرٌ حولهُ تدورُ الشموسُ
حدَّثَ النفْسَ قائلاً: أتُراني = أحْكمُ الشعْبَ أمْ عليهِ أدوسُ؟
مَرْجِعُ الأمْرِ لي وإنِّي لمُبْدٍ = منْ قِوَى الحزْمِ ما تهابُ النفوسُ
يُرْسِلُ الخُطْوةَ اخْتيالاً كما قدْ = تاهَ عُجْبًا بريشِهِ الطاووسُ
سِمةُ اليعرُبيِّ همٌّ قديمٌ = سَمْتُهُ فيهِ بائسٌ منْحوسُ
واقعٌ لا يُعيذنا - لو عَلِمْنا- = منهُ إلا المُهَيْمِنُ القُدُّوسُ

آيت اورير _ المغرب
15/11/2014

1- الفكرة والبنية العامة للنص

تعتبر قصيدة الشاعر عبد اللطيف السباعي المعنونة بــ ( قراءة جديدة في أيام العرب) من القصائد البارزة في مسيرة الشاعر الإبداعية. فهي فضلا عن كونها تؤكد سطوة الذاكرة المشبعة - على النص الشعري - بموروث أخلاقي مضطرب لأمه سقطت لعقود في دهاليز التردي والظلمة فضلا عن نعرات ونزاعات قبلية أهرقت خلالها أرواح وسكبت دماء وأشيعت الفرقة والانحلال الأخلاقي والديني حتى وصل ذروته قبل أن تجتاحها العناية الإلهية برسالة الإسلام السمحة والتي قدمها نبينا الأمين محمد عليه الصلاة والسلام على طبق من نور وهدى. ناهيك عن قدرة هذه الذاكرة على تشكيل النص بقالب أبداعي يجسد المحسوس باعثا الحياة مجددا في أماكن قديمة ومهجورة عسى أن يؤخذ ويستفاد منها العبر والدروس. كما أشار الشاعر في مطلع النص:
ذِلَّةُ الحالِ واقعٌ ملموسُ \ عِبَرٌ مُستَـجِدًَّةٌ وَدروسُ

من جهة أخرى ينقد النص واقع الحال العربي بلا نكران أو تحيز نقدا لاذعا وعنيفا بربطه مباشرة بتلك الأيام الغابرة متخطيا المساحة المضيئة كونها بعيدة عن مخيلة الشاعر حين الكتابة وهي أشبه ما تكون بقعة نور وضاءة داخل نفق مظلم مكفهر. وقد نجح الشاعر - تماما - بعملية الربط حيث أتم توظيف المفردة اللغوية الدالة والقادرة على استنطاق واستحضار تاريخ وفكر أمه في نص معاصر وحديث مصورا - إذ ذاك - تلك المأساة بإشارات ودلالات تضرب في العمق . بل في أعماق الأعماق.
يقول الشاعر معلنا عن ذلك الحال:
نحنُ قومٌ بالنائباتِ عُرِفْنا \ في الترَدِّي تاريخُنا مدْروسُ
حظُّنا منْ وجودِنا ثوبُ خِزْيٍ \ ورغيفٌ في علْقمٍ مغْموسُ
ألنا في القتالِ مجْدٌ تليدٌ؟ \ "داحسٌ" بعْضُ مجْدِنا و"البَسوسُ"!

الشاعر هنا حاله كحال غيره ممن ينذر بخطورة ما آلت إليه الأمور حيث أبصر ببصيرة الشاعر وفكره سوء الحال وترديه فجاء صوته عاليا رافضا للواقع معلنا انسحابه الكامل منه ونأيه بعيدا عنه رغم ما يعتصر قلبه من الم وحرقة.
فيقول :
كلَّما رُمْتُ صَدَّهُ بالقوافي \ خانني الحَرْفُ.. خاصَمتْني الطرُوسُ
كيفَ يشْدو بفَرْحَةٍ كرَوانٌ \ بينَ أقفاصِ عِلَّةٍ محْبوسُ؟

بما أن الشاعر شاهد على الواقع - كما ذكرت - وحاله من حال غيره ممن يستظلون في ظلاله وتحت أفيائه رغم رفضهم له كان لا بد أن يعمل على نقده ومجاراته ما أمكن ذلك. ليبرئ بنفسه - لاحقا - عن المسائلة التاريخية, وهذا أمر طبيعي قد تسرّ أو تعلن أي ذات رافضة عنه بما تستطيعه أو تراه مناسبا ومتفقا معها .. والشاعر هنا جزء من الكل تماما كأن يبتدع الرسام لوحة تتضارب فيها الألوان وتتزاحم بأشكال ورسوم تعبر عن رفضه ونقده .. أو كأن يطرق - المؤرخ أو الروائي أو الكاتب أو أي صاحب موهبة - أبوابا ثمة من يضع خلفها الحواجز والعوائق لتظل مغلقة ومظلمة لا يعبر منها ولو بصيص ضئيل من أمل وحياة. يقول الشاعر معلقا:
وأوَيْنا إلى مكانٍ قصِيٍّ \ ضَمَّنا فيهِ مَخْدَعٌ وعَروسُ
كالنعاماتِ أوْضَعَ الرعْبُ فيها \ فاخْتفتْ في الرمالِ منها الرؤوسُ
أمَّةٌ تحْسبُ الوهادَ جبالاً \ في المهاناتِ أنْفُها مدْسوسُ


2 - البلاغة والإحالات التعبيرية في النص

يستمد النص بلاغته من لغة جزلة عميقة تتكئ على دراية ومعرفة تامة بأدق التفصيل فضلا عن كونها مشبعة حتى العظام بالحداثة والصور المبتكرة بعناية شديدة ورماية سديدة. فالشاعر كما يبدو جليا لنا.. بأنه يقسو كثيرا على نصه قبل موعد إطلاقه بل ويعمل على تشذيبه وتتميمه ليظهر - لاحقا - بأبهى وأتم صورة وهذا بالطبع من المهم والضروري بما أن البلاغة في اللغة وظيفتها " استدراج القارئ إلى الإذعان والتسليم لأنه لا انتفاع بإيراد الأفكار المليحة الرائقة ولا المعاني اللطيفة الدقيقة دون أن تكون مستجلبة لبلوغ غرض المخاطب بها " كما أشار ابن الأثير .. والنص الذي نحن بصدد الحديث عنه لا يكاد يخلو بيت واحد فيه من حسن تدبير وطلاوة تعبير . فاللغة حاضرة بكامل أناقتها وجزالتها .. والدلالات في أعلى مراحل النضج والنمو. يقول الشاعر:
كيفَ يشْدو بفَرْحَةٍ كرَوانٌ \ بينَ أقفاصِ عِلَّةٍ محْبوسُ؟
دلالة الكروان وشدوه بفرح يتناقض تماما مع كونه محبوس داخل علته أي مصابه .. ولو أحلنا ذلك إلى واقع الحال لوجدنا أن الشاعر أثار قضية الكروان في سجنه ليأخذنا مباشرة للشاعر أو من هو على شاكلته ممن يصبون للغناء والإنشاد رغم كونهم محرومون من كامل حريتهم فثمة عائق يقف بينهم وبين المزيد من إبداعهم وانطلاقهم على نحو مكتمل.


3- البنية الموسيقية في النص

جاءت القصيدة على بحر الخفيف على الرغم من ثقل مضمونها وعبئ ما كان يشغل بال الشاعر ساعة كتابتها.. وهذه المفارقة الجميلة أسبغت على النص مزيدا من الأهمية والأحقية.. للبحر الخفيف ميزة ينفرد فيها عن باقي البحور الخليلية .. ويبدو أن هذا البحر كما أراه - دون أن ألزم فيه غيري - بأنه قادر على إراحة بل وترويض الذاكرة المتخمة بالصور والأخيلة والرؤى لسهولة جريان المفردات على لسانه وذوبانها داخل تفعيلاته وانسجامها أكثر مما يحتمله بحر آخر .. كما أنني أرى أن هذا البحر بتفعيلاته السلسة والطيعة يملك موهبة ربط الصور والابتكارات على نحو بديع وملفت ولنا في قصيدة المعري خير دليل وبرهان وهو ينشد:
غير مجد في ملتي واعتقادي \ نوح باك ولا ترنم شادي
أبكت تلك الحمامة أم غنت \ على فرع غصنها المياد
وشبيه صوت النعي إذا قيس \ بصوت البشير في كل وادي

هذا الربط الآسر بين المفردات والجمل الشعرية كان في غاية الأناقة والبلاغة ناهيك عن الحزم والقوة .. وهذا ما تضمنته قصيدة الشاعر عبد اللطيف السباعي .. حيث عجنت القوة والجزالة مع الحزم والإحاطة وامتزجت الصورة المكثفة مع الإيقاع الهادئ السلس الطيع. يقول الشاعر:
وأوَيْنا إلى مكانٍ قصِيٍّ \ ضَمَّنا فيهِ مَخْدَعٌ وعَروسُ
كالنعاماتِ أوْضَعَ الرعْبُ فيها \ فاخْتفتْ في الرمالِ منها الرؤوسُ

4- الاستحضار والتقمص الفني داخل النص

تعتبر التجربة الشعرية الطويلة والحصانة المتمثلة بالخبرة والجزالة والرشاقة فضلا عن الموهبة عوامل مهمة وفاعلة في عملية الاستحضار والتقمص في اللحظات الأولى للكتابة ويمكن اعتبارها مجازا الآلام الدقيقة التي تصاحب المخاض قبل الولادة الفعلية للنص. تختمر الصور والمدخرات الرؤيوية بأشكال مموهة وغير مفهومة على الأغلب قبل انتقالها لمرحلة البناء والإثراء والتي تكتمل مراحلها لحظة الكتابة الفعلية على الورق قبل تشذيبها وتنقيحها على النحو الذي يضمن لها موضعا ومتكئا مريحا في الجملة الشعرية. ولمزيد من التوضيح والإحاطة بهذه الثيمة يقول الشاعر:
ألنا في القتالِ مجْدٌ تليدٌ؟ \ "داحسٌ" بعْضُ مجْدِنا و"البَسوسُ"!
أيضا قال:
كالنعاماتِ أوْضَعَ الرعْبُ فيها \ فاخْتفتْ في الرمالِ منها الرؤوسُ
ويقول كذلك:
يُرْسِلُ الخُطْوةَ اخْتيالاً كما قدْ \ تاهَ عُجْبًا بريشِهِ الطاووسُ
داحس \ البسوس \ النعامات \ الطاووس .. ليست مجرد مفردات أو مسميات عابرة لوقائع تاريخية أو أسماء طيور.. لكنه استحضار عميق وتقمص أنيق لحدث ما لتكثيف المعنى وصبغه بتلك الميزة لتحقيق الدهشة والإفاضة لمزيد من وضوح الصورة إزاء فكر خاص أو عام أو حالة نفسية تجاه موقف أو حالة أو واقع. لذلك أمكن القول أن هذا الاستحضار - المكاني والزماني لموروث ديني كان أو تاريخي أو أسطورة أو فعل غريب كدفن النعام لرؤؤسها في الرمل لحظة شعورها بالخطر- يعتب محاولة جادة لدى الشاعر الفذ لتأصيل مفهوم القراءة الواعية للأحداث وبالتالي وصولها للذائقة المتطلعة للبيان المختلف والأنيق والآسر.

5- الانزياح الدلالي في النص

بديهيا يمكن القول أن أهم ما يميز لغة الشعر هو انزياحها عن الاستخدام النثري للسياقات الأدبية السائدة.. وهذا يعمق من أصالة الشعر وتفرده وانجذاب الذائقة إليه على نحو أعمق واشمل. لكن يظل ثمة ما يمنع من شمولية تلك الثيمة الأساسية في بعض من المناسبات الشعرية مثل الشعر الخطابي الموجه أو الشعر المغنى أو شعر المقاومة أو الشعر المؤرخ للأحداث والوقائع .. وذلك أن الانزياح بطبيعة يتقمص جانبا من الغموض في سياقه الدلالي بعيدا عن الإبهام في الشعر والذي يعتبر مثلبة يعمد إليها كثير من الكتاب بحجة أن المعنى في بطن الشاعر مع التأكيد أن ليس هنالك من شاعر حقيقي سيعمل على دفن وإغلاق نوافذ إبداعه عن القارئ بشقيه العادي والمثقف. من هنا اوجب القول أن عدم تطبيق مبدأ الانزياح على بعض المناسبات الشعرية لا يتعارض كما ولا نوعا مع قوة النص ورغبته في قول ما يتحتم على الشاعر قوله وإيصاله بلغة شعرية سلسة أنيقة وصورة فنية ملفتة جديرة بالاهتمام والإشادة.


محمد ثلجي
17\11\2014

عبد اللطيف السباعي 12-05-2015 03:27 PM

فيما يلي قراءة انطباعية للشاعر والناقد الأستاذ ماجد وشاحي لقصيدتي "مأساة الياسمين"..

مأساةُ الياسمين..
عبد اللطيف السباعي

كنتُ في عتْمةِ الحنينِ سَجينا = لا أناجي غَيرَ الفراغِ خَدينا
في قطارٍ ينْسَلُّ منْ ذكْرياتي = أتمَلَّى شمْعاتِيَ الأرْبَعينا
أرْقُبُ الأفْقَ منْ زجاجِ شُجوني = وهْوَ يَعْدو إلى الوراءِ حزينا
فُتِحَ البابُ عنْ مُحَيًّا تجَلَّى = بيتَ شعرٍ لا يَقْبلُ التضْمينا
بدْعةُ الحُسْنِ فيهِ فتْحٌ جديدٌ = نُبْصِرُ الضوءَ إثْرَهُ إنْ عَمِينا
كلُّ لفظٍ يُرامُ في وصْفِهِ في = رَحِمِ العقْلِ ما يزالُ جَنينا
غادةٌ غَضَّةُ الملامِحِ وَسْنى = قدْ تَخَطَّتْ سِنونَها العشْرينا
أتْلفَتْني بنظرةٍ رَشَقَتْها = في تلافيفِ مهْجتي سِكِّينا
لمْ تذرْ لي بِساحةِ النبضِ إلا = شَرَيانًا مُضَرَّجًا ووَتينا
أتْبعَتْها بضَحْكةٍ مُشْتهاةٍ = أنْبتتْ في حُشاشتي يَقْطِينا
أخْرَجَتْ بَغْتةً لُفافَةَ تِبْغٍ = لَفَّ منْ طيبِ شَكْلِها الوعْيُ حينا
ثارَ ظنِّي ورُحْتُ أسْألُني هلْ = كانَ شكًّا ما عَنَّ لي أمْ يَقينا
حينَ مُدَّتْ يدي بعودِ ثِقابٍ = شَعَّ نورُ العِرْفانِ منها مُبينا
خِلْتُ أنِّي سَمِعْتُ للقُرْطِ جَرْسًا = كشَهِيقِي وللسوارِ رَنينا
أوْمَأتْ لي ببَسْمةِ الثغْرِ جذلى = ثمَّ أحْنتْ بالاِمْتِنانِ الجَبينا
أشْعَلتْها فأضْرمَتْ فِيَّ نارًا = قدْ خبَتْ من جِمارِ قلبي سِنينا
وتعَجَّبتُ.. إنَّ أعْجَبَ شيءٍ = ربَّةُ الحُسْنِ تعْشَقُ التدْخينا!
شَرِقتْ عَيْنُها بدَمْعِ كلامٍ = يحملُ الحرفُ فيهِ حُزْنًا دفينا
فتحَتْ شُرْفةَ الحديثِ فقالتْ = أوْشَكَ الهَمُّ فيكَ أنْ يسْتبينا
إنَّ في مُقْلتيْكَ موْجَ ادِّكارٍ = هاجَ في لُجَّةٍ تُقِلُّ سَفينا
أصْغِ لي.. إنَّ لي حكايةَ جرحٍ = سوفَ تُنسيكَ بالتأسِّي الحنينا
أنا يا شاردَ العيونِ سِراجٌ = أفَلَ الضوءُ منهُ حينَ أُهينا
في انْتصافٍ منَ الزمانِ قريبٍ = لمْ أجِدْ لي على البلاءِ مُعينا
عَضَّني فيهِ هِجْرِسٌ آدَمِيٌّ = يعْتلي في العَواءِ رُكْنًا رَكينا
نَطَّ في مِزْهَريَّتي غِبَّ يوْمٍ = مُكْفَهِرٍّ فمَزَّقَ الياسمينا
بعْدَها قدَّتِ الخطيئةُ ثوبي = نَصَبَتْ لي بكلِّ فجٍّ كَمينا
ليْتني في الهوى رَبَأْتُ بحظي = فيهِ منْ أنْ أُدانَ أو أنْ أُدينا
شَجَّني صَوْتُها الشَّجيُّ ابْتداءً = ثمَّ فاضتْ منهُ الحنايا أنينا
فتواثبْتُ للكلامِ عَجولاً = بعدَ أن كنتُ بالكلامِ ضَنينا
قلتُ إنَّ الحياةَ قدْ عَلَّمَتْني = في دُنا الرأيِ أنْ أكونَ أمينا
نحنُ في قبْضةِ القضاءِ، سَواءٌ = أأبَيْناهُ أمْ بهِ قدْ رَضينا
بُرْعُمُ الوردِ فيكِ مَوًَّالُ طُهْرٍ = كيفَ يرضى بذا الغثاءِ مَعينا؟
لمْلمي الجُرْحَ ما أصابكِ ولَّى = فعْلُ ماضٍ لا يقبَلُ التسْكينا
واظْعَني فوق هَوْدَجِ التوْبِ حتى = يسْكُنَ الروْعُ منْكِ أو يسْتكينا

آيت اورير - المغرب
02/11/2014

كنتُ في عتْمةِ الحنينِ سَجينا = لا أناجي غَيرَ الفراغِ خَدينا
في قطارٍ ينْسَلُّ منْ ذكْرياتي = أتمَلَّى شمْعاتِيَ الأرْبَعينا
أرْقُبُ الأفْقَ منْ زجاجِ شُجوني = وهْوَ يَعْدو إلى الوراءِ حزينا

يصور لنا الشاعر هنا رحلته في قطار وجلوسه وحيدا في مكان مظلم ...فخطر بباله أن يجلس قرب النافذة الزجاجية لعله يرى من خلالها ما يبهج النفس ويريح البصر أو يتسلى بالنظر إليه ليهون عليه مشقة السفر ويختصر الزمن......ولكنه لا يرى في الخارج سوى الظلمة والفراغ الذي يلف المكان .......وهذا ما يشير إلى أن السفر كان ليلا...فاجتمعت على الشاعر ظلمة المكان الذي يجلس فيه والظلمة في الأفق الخارجي ...وكذلك الفراغ في الأفق الذي لا يرى منه شيئا والفراغ الذي هو فيه حيث لا شيء لديه ليعمله أو يتسلى به...حيث لا يوجد سوى الفراغ والظلمة وأصوات عجلات القطار على سكة الحديد والتي تأتي متناغمة كأنها موسيقى (...هذا ما عهدته في قطارات الفحم ...أو الديزل القديمة التي سافرت بها كثيرا في سبعينيات هذا القرن ....) ولا شك أن مثل هذه الأجواء تكون مدعاة للفكر والذاكرة كي تسرح كيف تشاء حيث لا يوجد ما يشغلها عن ذلك...وهنا ينطلق الشاعر بخياله الخصب فيتخيل القطار وكأنه قطار العمر فأخذ يعيد شريط الذكريات التي مرت به والمحطات التي توقف بها فترة من الوقت ثم يتابع المسير من جديد حتى وصل المحطة التي تقول له أنك بلغت من العمر سن الأربعين...وهنا تبدأ شجونه وأحزانه لما مر من ماض جميل وذكريات الشباب .....

فُتِحَ البابُ عنْ مُحَيًّا تجَلَّى = بيتَ شعرٍ لا يَقْبلُ التضْمينا
بدْعةُ الحُسْنِ فيهِ فتْحٌ جديدٌ = نُبْصِرُ الضوءَ إثْرَهُ إنْ عَمِينا
كلُّ لفظٍ يُرامُ في وصْفِهِ في = رَحِمِ العقْلِ ما يزالُ جَنينا
غادةٌ غَضَّةُ الملامِحِ وَسْنى = قدْ تَخَطَّتْ سِنونَها العشْرينا
أتْلفَتْني بنظرةٍ رَشَقَتْها = في تلافيفِ مهْجتي سِكِّينا
لمْ تذرْ لي بِساحةِ النبضِ إلا = شَرَيانًا مُضَرَّجًا ووَتينا
أتْبعَتْها بضَحْكةٍ مُشْتهاةٍ = أنْبتتْ في حُشاشتي يَقْطِينا

وفجأة... وهو في أوج أحزانه يُفتح الباب وتدخل منه صبية لتشاركه المكان ويخبرنا أن هذه الصبية في العشرينيات من عمرها وأنها أثارت إعجابه بما تمتلكه من مقومات الفتنة والجمال ....وما تلاها من نظرات وابتسامات ...ولكن كيف رأى هذا الجمال الذي يصف وهو في غرفة مظلمة....وهنا سأقول نيابة عن الشاعر لأنني سافرت كثيرا في القطارات أيام دراستي الجامعية في الهند .......أن الغرف المغلقة في القطارات ال ( chambers ) لا تكون مظلمة جدا ولكنها قليلة الإنارة ...ثم أنه عندما فُتح الباب لتدخل تلك الفتاة أضاء المكان .......



أخْرَجَتْ بَغْتةً لُفافَةَ تِبْغٍ = لَفَّ منْ طيبِ شَكْلِها الوعْيُ حينا
ثارَ ظنِّي ورُحْتُ أسْألُني هلْ = كانَ شكًّا ما عَنَّ لي أمْ يَقينا
حينَ مُدَّتْ يدي بعودِ ثِقابٍ = شَعَّ نورُ العِرْفانِ منها مُبينا
خِلْتُ أنِّي سَمِعْتُ للقُرْطِ جَرْسًا = كشَهِيقِي وللسوارِ رَنينا
أوْمَأتْ لي ببَسْمةِ الثغْرِ جذلى = ثمَّ أحْنتْ بالاِمْتِنانِ الجَبينا
أشْعَلتْها فأضْرمَتْ فِيَّ نارًا = قدْ خبَتْ من جِمارِ قلبي سِنينا
وتعَجَّبتُ.. إنَّ أعْجَبَ شيءٍ = ربَّةُ الحُسْنِ تعْشَقُ التدْخينا!

ولكن افتتانه بتلك الجميلة تحول إلى عَجبٍ واستهجان عندما رآها تخرج لفافة تبغ وتضعها بين شفتيها ...ومع ذلك فقد تعامل معها بكل لطف واحترام وأشعل السيجارة لها ...وهو يتساءل في نفسه ...ما الذي دفع هذه الجميلة للتدخين...فهل مثلها من يحمل من الهموم ما يجعلها تلجأ للتدخين.....!!


شَرِقتْ عَيْنُها بدَمْعِ كلامٍ = يحملُ الحرفُ فيهِ حُزْنًا دفينا
فتحَتْ شُرْفةَ الحديثِ فقالتْ = أوْشَكَ الهَمُّ فيكَ أنْ يسْتبينا
إنَّ في مُقْلتيْكَ موْجَ ادِّكارٍ = هاجَ في لُجَّةٍ تُقِلُّ سَفينا

وهنا ابتدأت بالحديث معه قائلة ...أراك مهموما جدا ...وهذا واضح من تعابير وجهك...ومهما حاولت لن تستطيع كتمان ما تحمل من هموم..........ومع ذلك لن أتطفل عليك وأسألك عن ماهية همومك ...ولكن أريدك فقط أن تسمع قصتي ومبعث حزني وهمي ...لعلك تتأسى بها وتنسى همومك...وبدأت تقص عليه حكايتها.......

أصْغِ لي.. إنَّ لي حكايةَ جرحٍ = سوفَ تُنسيكَ بالتأسِّي الحنينا
أنا يا شاردَ العيونِ سِراجٌ = أفَلَ الضوءُ منهُ حينَ أُهينا
في انْتصافٍ منَ الزمانِ قريبٍ = لمْ أجِدْ لي على البلاءِ مُعينا
عَضَّني فيهِ هِجْرِسٌ آدَمِيٌّ = يعْتلي في العَواءِ رُكْنًا رَكينا
نَطَّ في مِزْهَريَّتي غِبَّ يوْمٍ = مُكْفَهِرٍّ فمَزَّقَ الياسمينا
بعْدَها قدَّتِ الخطيئةُ ثوبي = نَصَبَتْ لي بكلِّ فجٍّ كَمينا
ليْتني في الهوى رَبَأْتُ بحظي = فيهِ منْ أنْ أُدانَ أو أنْ أُدينا

وهنا تبدأ الفتاة برواية قصتها المحزنة المبكية والتي ملخصها أن ثعلبا بشريا اعتدى على عفتها وهتك عرضها ...وهنا لا بد من الإشارة والإشادة بجماليات التعبير والتصوير والتشبيه والمحسنات اللفظية من استعارة وتمثيل...الخ ومن ضمنها ...أنه وصف المعتدي بالثعلب لما عُرف عن الثعلب من مكر ودهاء وخديعة....// نط في مزهريتي //....فالفعل نط ...يعني أن الفعل لم يكن بإرادتها ...وإلا لما احتاج للنط ...وكلمة مزهريتي... تعني مواطن الجمال والعفة التي تحافظ عليها كما يحافَظ على الورود في المزرية.....// وصف ذلك اليوم أنه يوم مكفهر...// ...تمزيق الياسمين ....يعني تمزيق الشرف والعفة...// قدَّتِ الخطيئةُ ثوبي...يعني افتضاح أمرها وانكشاف سرها وسترها...فالثوب يعني الستر ..وقدّه أو تمزيقه يعني إزالة الستر.......

شَجَّني صَوْتُها الشَّجيُّ ابْتداءً = ثمَّ فاضتْ منهُ الحنايا أنينا
فتواثبْتُ للكلامِ عَجولاً = بعدَ أن كنتُ بالكلامِ ضَنينا
قلتُ إنَّ الحياةَ قدْ عَلَّمَتْني = في دُنا الرأيِ أنْ أكونَ أمينا
نحنُ في قبْضةِ القضاءِ، سَواءٌ = أأبَيْناهُ أمْ بهِ قدْ رَضينا
بُرْعُمُ الوردِ فيكِ مَوًالُ طُهْرٍ = كيفَ يرضى بذا الغثاءِ مَعينا؟
لمْلمي الجُرْحَ ما أصابكِ ولَّى = فعْلُ ماضٍ لا يقبَلُ التسْكينا
واظْعَني فوق هَوْدَجِ التوْبِ حتى = يسْكُنَ الروْعُ منْكِ أو يسْتكينا

وهنا ينسى الشاعر همومه كلها ويتفاعل مع قصة تلك الفتاة موقنا أنه ما من حزن ولا هم إلا وهناك ما هو أعظم وأشد إيلاما منه...وأن علينا أن نوقن بحتمية وقوع ما كتبه الله علينا من أقدار مقدرة حيث لا رادّ لقضاء الله ....فما علينا إلا أن نلملم جراحنا وننسى الماضي ونلتفت للمستقبل وأن لا ندع تلك الأحداث والأحزان تقودنا إلى اليأس ..........وأن نتوب لله من أي ذنب اقترفتاه في ساعة غفلة ...........

وفي الختام أقول سواء كانت القصة حقيقية أم لا...فإنها تبقى واقعية وقد استطاع الشاعر بحنكته المعهودة وامتلاكه لأدوات الشعر واللغة أن يوصلها للقارئ بكل شفافية وإتقان مما جعلنا نتفاعل معها وكأنها تقع أمامنا ونشاهد كل تفاصيلها........

عبد اللطيف السباعي 12-11-2015 06:00 PM

فيما يلي فصل عن الشاعر عبد اللطيف السباعي (غسري) جاء ضمن بحث الناقد المصري الأستاذ عبد الله جمعة بعنوان (الطريق إلى الشعر)

نتناول في هذا الفاصل مجموعة من زوايا الرؤية التي يتخذ منها الشاعر وجهة نظر في مواجهة واقعه الشعري محاولين تطبيق كل فلسفة من خلال نص شعري من شعراء القناديل قدر الإمكان حتى يكون الأمر قريبا من تفاعلنا ...
1 – فلسفة الشكوى :
وهي واحدة من دوائر النضج الفكري الشعري تتولد من الصراع النفسفكري بين الشاعر وواقعه الشعري وفيها يتبنى الشاعر قيم الشكوى وعدم الرضا والسخط المستمر على كل ما يواجهه من مثيرات في هذا الواقع وفي هذه الدائرة يقوم الشاعر بتركيز تصويره على أدق تفاصيل الواقع القبيحة من خلال شكواه المستمرة متهما الواقع المحيط بفعل كل منتقص مفندا نواقص هذا الواقع وهذه الطبيعة الشعرية ترتكز على تضخيم المشكلة التي يتناولها في تجربته وتعد هذه الفلسفة خيطا يمتد عبر أغلب تجاربه على تنوعها وتقلبها ومن ثم يمكن وصف هذا الشاعر بالشاعر الشكّاء ومن هؤلاء الشعراء الذين دخلوا تلك التجربة بقوة وقاموا بملئها الشاعر الكبير ( عبد اللطيف غسري ) وسوف نتحقق من معالم تلك الفلسفة من خلال تعرضنا لبعض من نصوصه محاولين تحقيق معالم تلك الفلسفة من خلال نصوصه .
من قصيدته ( قدر القصيدة ) :


أنينُ الحَرفِ في السَّحَرِ انْشِغالُ
بِـآلامِ القصِـيـدَةِ وَابْتِـهَـالُ
ولِلكلمَاتِ في وَصـفِ اللآلـي
جنوحٌ بالبَيَـانِ لـهُ اشْتغـالُ
فإن صَدَحتْ قرَائحُنا ببَعـضٍ
منَ الأشجانِ يرسُمُهُ الجَمَـالُ
فما كنَّـا علـى وَتـرٍ وقوفًـا
ولا أغرى جوانِحنَـا الـدلالُ
ولكنْ بَهجة ُ الشعراءِ فـي أن
يقولوا ما يَضيقُ بـه المَقـالُ
فكيفَ نُلامُ مِمَّنْ ليسَ تُرْعَـى
لهُ في الشِّعر نُـوقٌ أو جِمـالُ
وكيف يُقالُ ليـسَ لنـا ذِمـامٌ
وكيفَ يُقالُ فُـكَّ لنـا العِقَـالُ
وإنَّـا لا نبَـالـي باعْتـقـادٍ
ولا مَا تستقيـمُ بـه الخِـلالُ
إذا عَنَّتْ لنا بيـضُ القوافـي
على كثبٍ أوِ انْفتَـحَ المَجـالُ
لزرْعِ غيَاهبِ الأوقاتِ بِشْـرًا
فيُصبِحَ للوجـودِ بـهِ اكتمـالُ
وتلـكَ مقالـة ٌ لِلجَهـل فيهَـا
نـزُوعٌ واحتِبَـاءٌ واتِّـصـالُ
قديمًا أبْـرَقَ الجُعْفِـيُّ قـولاً
إلى مَن في مَدَاركِهِ عُضـالُ:
"ومن يكُ ذا فمٍ مُـرٍّ مريـضٍ"
فلا يَحلو لهُ المـاءُ الـزلالُ*
بِزندَقـةٍ قـدِ اتُّهِـمَ المعَـرِّي
ولمْ يكُ فِي الضمير لها احتمالُ
أدِينَ بمِثْلِِها الحَسَنُ بْنُ هانِـي
وقِيلَ لَبِئسَ قَوْلُـكَ والخِصـالُ
وبَعضُ النَّاسِ ليسَ لهُمْ عقـولٌ
فتُدركَ ما يَقولُ بـه الرجـالُ
فكيفَ إذا أتى الشعـراءُ يومًـا
بقولٍ لا يُحيـط بـهِ الخيـالُ
ترَاهمْ يَنظرونَ إلـى قُشـورٍ
لهَا عَن زُبْدَةِ المَعنى انْفصـالُ
ويَنتبذونَ عَـن عَمْـدٍ مكانًـا
قَصِيًّا في الجَهالـة لا يُطـالُ
فَذا قدَرُ القصِيدَةِ ليتَ شعـري:
عروسٌ لا يَطيبُ لهَا الوصالُ


الشاعر في هذه القصيدة يحاول أن يرسم لنا ما آل إليه قدر القصيدة من هوان على يد من لا يرعون للشعر حرمة ولا يقيمون لرحم الشعر وزنا حيث يسيطر بعض من لا يملكون حسا نقديا أو دعما معرفيا على دائرة الشعر فيطلقون أحكاما لا علاقة لها بالإبداع بل تنم عن جهلهم في تحويل مسار القصيدة بعيدا عما خلقت له وهذا هو الواقع الذي يتصادم معه الشاعر ومن ثم فقد أعد عدته وجهز أسلحة الشكوى التي يمتلكها ودخل دائرته الفلسفية التي تمثل وجهة نظره وبدأ في عرض تفاصيل تلك الشكوى الممثلة في :
أولا : مدى المعاناة التي يعيشها الشاعر في إنتاج الحرف الشعري وآلام المخاض الشعري العسر حيث يبدأ الأمر بالانشغال بأنين الحرف وتوجعه وكأن آلام الطلق الشعري قد بدأت تعلن عن ميلاد تجربة ولكي يعد تمهيدا منطقيا للشكوى القادمة في الأبيات التالية جعل ذلك الأنين في أكثر الأوقات التي يكون فيها الناس العاديون في حالات الاسترخاء ورفاهية النوم ولكن الشاعر في ذلك الوقت يكون قد بدأ مرحلة المعاناة الشعرية فهو يعيش نقيض ما يعيشه الناس ففي وقت راحتهم هو ساهر على تجربته يعاني من آلامها ووجعها وحين تتحرك دوافعه النفسية راغبة في التفجر باحثة عن ممرات تعبيرية مناسبة يبدأ الانشغال في البحث عن تلك الممرات الممثلة في المركبات البيانية والتي هي تمثل جنوحا من قبل الشاعر عن الواقع ومحاولة منه للالتفاف حول هذه الواقع لإعادة تصويره وبنائه في الحيز الشعري فيتحول الأنين والألم لدى الشاعر إلى جمال تتقبله ذائقة المتلقي فيستمتع هو على الرغم من أن من أنتج هذا الجمال كان يعاني تماما كالأم التي تتألم في المخاض وتعاني أشد المعاناة لتخرج وليدها بهي الطلعة كل من يراه يتعجب من جماله ؛ " أمن الألم تولد هذه الجمال ؟" ولكن من يراهن على جمال الوليد لم ير ولم يستشعر ضراوة الآلام التي مرت بها تلك الأم ( الشاعر ) في ولادة هذا المخلوق الجميل الممتع ... ثم يبدأ الشاعر في تبرير رغبة الشاعر في ممارسة هذا العذاب بكامل إرادته فهو لا يبغي من ورائها ثمنا اللهم إلا رؤية وليده في صورة صحيحة جميلة يعجب الناظرون لرؤيتها ...
ثانيا البدء في عرض تفاصيل الشكوى : حتى الآن الشاعر يمهد لعرض خيوطه النفسية التي ستمثل زاوية رؤيته وهي ( فلسفة الشكوى ) فيبدأ الانطلاق نحو تلك الصبغة التي يصطبغ بها ( عبد اللطيف غسري ) في الكثير من قصائده وهي الرغبة في الشكوى المستمرة من هذا الواقع وتكون إشارة البدء لعرض تلك الفلسفة من أول البيت السادس , حيث يعلن عن تعجبه ممن لا يمتلكون حسا شعريا أو نقديا ويتعرضون باللوم لذلك المنتج وهم لا يدركون مدى معاناة الشاعر في تخريج ذلك الوليد المرهق وقد مرت شكواه في هذا البيت من خلال ثقافة عربية ضاربة بجذورها في التاريخ ممثلة في مثل عربي - تناص معه الشاعر بمهارة وإتقان - حين قال ( فكيف نلام ممن ليس ترعى - - - له في الشعر نوق أو جمال ) فأحال المعنى على الحكمة العربية حيث لا يحق لمن ليس له ناقة ولا جمل في الأمر أن يدلي بدلوه في مضمار ليس له فيه شيء .. [ وهذا ماكنت أعنيه في المحاضرة السابقة من (((الامتلاء الفكري))) ... وهي قدرة الشاعر على استدعاء ما يشاء من رافده المعرفي وقتما يشاء بأي حيثية يشاء ] ثم ينتقل الشاعر بين تفاصيل شكواه ممررا خيطه الفلسفي الشاكي في الأبيات التالية للبيت السادس من خلال الاستفهام التعجبي الذي جعل منه الشاعر صابغا لفلسفة الشكوى التي اصطبغ بها سائلا : فكيف نتهم بأننا ليس لنا ذمام من هذا الأخرق الذي لا يعرف قيمة العمل الشعري وكيف يتهمنا بالعشوائية الفكرية وأننا لسنا من أصحاب الاعتقاد ونحن الذين نكمل النواقص ولا تصبح للدوائر معان إلا بنا لأننا المتممون لتلك الدوائر فنحن بسمة اللذة في الوجود ونحن أمل التائه في صحراء النفس القاحلة , إن من يدعي ذلك علينا إنما هو جاهل موغل في الجهل ثم استدل من خلال ظاهرة التناص مع تراث شعري حيث اتهم من يقول هذا بمرض الفم وخبثه وعدم قدرته على صياغة الجمال أو التلفظ به ... ثم بدأ في استحضار الشعراء الذين يثبتون أن الشعر كائن مقدس ومحراب للزاهدين فجاء بالمعري وأبي نواس " الحسن بن هانئ " ذلك المتهم بالزندقة أليس قد ختم حياته زاهدا من أتقى الزاهدين والعبرة بخواتيم الأعمال وقد سُبِق بتلك التهمة من قبله المعري ... ( إن هذا ما عبرت عنه سالفا من الحديث عن الامتلاء الفكري عند الشاعر فلولا وجود هذا الجانب المعرفي بحياة المعري وأبي نواس في مخزون الشاعر ما استطاع جلب هذا المعنى الخالد الرقيق الشفاف )
وتتجلى هنا فلسفة الشكوى الظاهرة في شعر عبد اللطيف غسري وكأنها عرق رخامي يمر في حائط البناء الشعري للقصيدة واضحا جليا حين يبدأ في إلقاء اللوم على بعض الناس ممن ليست لهم عقول فيستقبلون قول ذلك الناقد المريض على علاته ويصدقونه فيكون هذا الناقد المريض قد شوه صورة الشعر دون أن يدري وبجهل مقيت ..
ومن عيب هؤلا النقاد أنهم غير قادرين على الغوص في أعماق المعنى وإدراك ما وراء الكلمات فيشغلون أنفسهم بالقشور دون الغوص وراء الدرر الكامنة في قاع القصيدة الشعرية
ثم يختتم بتلك الحكمة الرائعة الهائلة التي جسدت وكثفت هدف التجربة كلها إن القصيدة بين أيدي هؤلاء الأغبياء مثل العروس التي تزوجت ولكنها لم تنل من متعة الزواج شيئا وكأنها ( كالبيت الوقف ) كما يقول المصريون
لم أكن من خلال العرض السابق أعني شرح الفكرة العامة للقصيدة فهي واضحة وضوح الشمس ولكنني مررت من بين افكارها لأبين كيف أن هذا الشاعر قد اتخذ من ( فلسفة الشكوى ) زاوية رؤية فكرية يرى من خلالها الواقع
وسوف أستعرض جزءً أخر من تجارب للشاعر ( عبد اللطيف غسري ) محاولا تحقيق معالم تلك الفلسفة أو زاوية الرؤية أو وجهة النظر في مواجهة واقعه الشعري ومنها قصيدته ( إلى البحر أطوي كل موج ) وهي واحدة من الروائع التي نستدل منها وبها على معالم تلك الفلسفة التي تقوم على الشكوى يقول في مطلعها :


يَخُبُّ حِصَانُ الشَّمسِ والظلُّ واقِـفُ
وَأنتَ على تشْذِيبِ حُلْمِـكَ عَاكِـفُ
وَأوْراقُـكَ العَـذْراءُ سِفْـرٌ طَوَيْتََـهُ
وَمِنْ شَجَرِ الإحْسَاسِ فِيـهِ قطائِـفُ
وَلِلماءِ أُخْـدودٌ يَقـولُ لـكَ اقْتحِـمْ
عُيُونَ الشِّتاءِ الآنَ.. هَلْ أنتَ وَاجِفُ؟



إنه يبدأ بالشكوى إذ يقول ( يخب حصان الشمس والظل واقف ) لقد أحسست أمام هذه الجملة بأن الشاعر يصرخ إلى الداخل تاركا صدى الصوت هو الذي يخرج لنا مرتدا من داخله فإن ترك صراخه منطلقا إلى الخارج لأصبنا بالصمم من شدة صراخ الشكوى ... إن ( الخبب ) هو السير السريع فإذا خب الفرس نقل أيامنه وأياسره جميعا في العدوة الواحدة من سرعة العدو فصور الشمس جوادا ينطلق بسرعة مخيفة ثم مرر خيط الشكوى واللوم في قوله ( والظل واقف ) ويستمر في تفريغ شحنة الشكوى اللاحقة ( وأنت على تشذيب حلمك عاكف ) إن انفجار الشكوى كان مكمنه ( إنك تقوم بتهذيب حلمك الذي لم يعدُ كونه حلما والشمس التي هي رمز للحياة تتحرك بسرعة والظل الذي هو رمز لك مازال واقفا ... والمفارقة الرهيبة في أننا حين نرى الشمس تتحرك يكون المتوقع أن الظل يتحرك معها ولكن الشاعر أبى إلا أن يحقق التناقض في مفارقة غاية في الروعة والابتكار فجعل الظل تاركا الشمس واقفا لا يتحرك فالحياة تسير وأنت واقف ما زلت تسعى بحلمك إلى غاية الاكتمال لم تصل به إلى حيز الوجود بعد ...) إن الشاعر هنا يشكو ولكن ما قضية الشكوى المتفجرة في ذلك المطلع الذي هو بوابة الولوج إلى مضمون وهدف القصيدة ... ؟ إنها الشكوى من سرعة الحياة التي لم يعد المتقن المتأني قادرا على ملاحقتها ولم يعد له دور فيها ومن ثم فمن أراد ملاحقة الحياة عليه أن يخرج أحلامه منقوصة غير تامة أي يقتل ضميره ويسير على مبدأ الغش وتزييف بضاعته حتى يستطيع أن يواكب سرعة تلك الحياة ...
إن الشاعر عبد اللطيف غسري تضج قصائده بالشكوى ولا يكاد يمر بيت علينا من قصيده إلا ولاحظنا تلك المسحة من الشكوى العارمة من كل شيء , كل شيء ...

ايوب صابر 02-21-2016 02:46 PM

مقطع من قصيدتة الاستاذ غسري الذي نفتقد جديده ونتمنى ان يظل هناك اهتمام في شرح ديوانه الشعري:

تعالي وحطي على كلكلي
...

وَيغْتسِلُ الجَمْرُ مِن ماءِ حَرْفِي
وَمِن وَدْقِ قافِيَتِـي المُنْـزَلِ

غَزَلْتُ رداءَ الحِكاياتِ حتَّـى
تَوَعَّدَنِـي ضَجَـرُ المِـغْـزَلِ

وهـذَا الفـؤادُ فـلاةٌ بَـرَاحٌ
بهَا غَيرُ خيْلِكِ لـمْ تصْهَـلِ

ألمْ يَخْتبِرْ فِيكِ غَيْظَ المَرَايَـا
وَمَوْجِدَةَ الكأسِ والمِشْعَـلِ؟

ألمْ يَغْفُ فِيكِ؟ ألـمْ يَلْتَحَـفْ
بِثَـوْبِ نَضَارَتِـكِ المُخْمَـلِ؟

ولولا شُموعٌ بِكَفَّـيَّ يَقْظَـى
أفَـاقَ قليـلاً ولـمْ يَعْجَـلِ

فإنْ تسْألِي كَيفَ يَذوِي الرَّبيعُ
يُنَبِّئْكِ صَيْـفٌ، وَإنْ تسْألِـي

لِماذا هَوَتْ لَبِنَـاتُ الأمانِـي
تُخَبِّـرْكِ ذاكِـرِةُ المِـعْـوَلِ

وها أنتِ في نَزَقِ الياسَمِيـن
تعودِيـنَ بالعَبَـقِ الأكْـمَـلِ

إلَـيَّ فَعُـودِي وَأَلْقِـي إلَـيَّ
بأجْنِحَـةِ الخَبَـرِ المُهْـمَـلِ

ألـمْ تعْلمِـي أنَّ يَوْمِـي إذا
توَارَيْتِ فِي لَهَبٍ يَصْطلِـي؟

إليكِـ أَقُبَّـرَةَ القلبِـ أهـفُـو
تعالَيْ وَحُطِّي على كَلْكَلِـي!


الساعة الآن 04:45 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team