منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر القصص والروايات والمسرح . (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=8)
-   -   رحلة (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=7719)

منتظر السوادي 01-04-2012 01:09 PM

رحلة
 
[justify]
رحلة

بهدوء , تسمّره على أنامل قدميه النظرةُ إِليها , تفتحُ الصرة ، أعطته كل ما فيها سوى ورقة سقطت من يدها ، أخذ المجوهرات لكنّه ظلَّ شريد العين إلى الورقة الغريبة ، التي سمع عنها مرة همساً من أُمه وقتها كان شبه مستيقظ ، ".... ينبغي أن لا يراها !! "
دخل إلى غرفته تُجرجرُه أَجيالٌ من الأفكار ، النوم تلاشى من لياليه ، والسكينة قطرةٌ وألقاها مجنون في صحراء معتمة ، أنفاسه تُهمهمُ ، ما فيها يا ترى !
يستلقي على بساط الاحتمالات ، وتقلبه الظَّنون ، قصد العراء مهاجراً ، يبغي حُلمه ؛ هبة الرحمن جوهرة الزمان ، علّها تؤنسه وتطردُ غُربانَ غربته ، التي ترعى فلوات نفسه .
نظر إلى رُوحه الغارقة في الماء المتماوج ، بفعل زورقٍ يخطُّ على وجهِهَا رسومات حزينة متحركة ، كَأَنَّ الدمع يغمرها ، يتمزق صمتُ الليل بهدير الأَملِ الناعسِ مع التجديفات المتناوبة ، بدت له صفحة مكتوب فيها : " أَيُّهَا الحزينُ لا تبكِ " ، أخذ حفنةً من الأمل وراحَ يَغسلُ عينيه ، ويسقي أفكاره من قطرات التفاؤل الندية التي تتساقطُ بصمتٍ هادئ ، راح يخلع بعض ثيابه المتيبسة التي تغطي نظرته ، نزل من قارب الحزن لِيُبحرَ إِلى عين الحياة ، تجلبب بزي التفاؤل عَلَّ الفرحَ يَهلُّ على ثغره وعلى صفحاتِ وجهه البريئة يوماً .
تأمل صفحة الماء لم يرَ سوى حورية الياسمين ذاتَ جمالٍ خَلابٍ تَتلألأ ، أبهى من البدر فراح يستبشر الخير في الأفق ، حاورها ، غطت وجهها , حياءً برجفات المياه المتراقصة التي تلاعب جدائلَها ، وتبللَ خصلات شعرِها بالحياة ، وَكَأَنَّهَا من خيال الأحلام ، عادت أحلامه غضة كزهرةٍ في أول إطلالة لها على ضفاف النور ، فبدت له بسمة الحياة أَخيراً .
قبل أن يبحر بجسده إليها ، قرر أن يودع العجوز عسى أن يرى ما في اللون الوردي من أخبار ، والأشواق تعانق أفكاره ، هل سأجدها !!
يردد الصدى : أَينَ ..... ؟
يصل إلى ( صريفة ) العجوز
- أيتها الطيبة :-
- نعم من هذا ؟
- أنا من أعطيته الصرة ، عفوا ما في الصرة .
- يا " مراحب " بصوت متكسر ، ممتزج بحشرجة خفيفة
- " يا ولدي افتح له الباب، فهذا الفتى عزيز ، وأمانة لدينا " .
شاهد في يد الصغير شيئاً وردياً ، وهو يعكره ويضغطه ، ويجرب قوة أسنانه عَلَى أطرافه ... تَمَزقَ قلبَه .. صارَ إرباً ، أسرعَ نحوه ليوقفه ؛ " تــــــــــــــــــــــــــــوقف " ، فلت ضاحكاً إلى جدته وجلس بحضنها ، يصك أسنانه فتظهر تماويج على خديه وهو يدعك الورقة .
ببسمة هوائية نظر إلى العجوز ، قائلاً :
جئت أبلغك التحية ، موفياً كلمات أُمي ، فالسفر دقَّتْ نواقيسه ، لو أحببت أطلعتني على الورقة الوردية ، لأَذهبَ قرير العين .
تمتمت بهدوء كأَنَّ على شفتيها سلاسل جبلية : " اليوم أصابني غمٌّ وألمٌ ، اذهب رافقك حظ آبَائك الكرام " .
أخذت العجوز رجفة ، فأصابه قلق وغيض ، ... " لِمَ تؤجلُ ... !!! " .
ينظر بقلبه إلى يد الطفل ، وقدماه تتأرجحان في مكانهما ، العجوز وهي تسمع اختلاجاته ، " ستعود ... إن شاء الله وأخبرك بما تركوه لك من حروف "
لم يستطع التفوه ، لوح لها بيديه .... وعيناه تلوحان للورقة بــــمتى أراك ؟
خرجت رجلاه ونبضه باقٍ في الورقة لدى العجوز ، لم ينتبه إلى أعماله وتصرفاته .
استأجر دليلاً متضلعاً ومتبحراً في خفايا الدروب ، ملك آثار الفيافي ، يحفظ من الشعر لليالي السفر جمّاً غفيراً ، فاكهة للرحلة والمسير ، لِيوصله بلا مللٍ إلى قلادة الربيع ، المتشحة بأجملِ وأرقى فنون الإبداع ، ذات خمارٍ أبيض ، منسوج من غمام الصيف الرقراق ، سارا لياليَ ، لم يرَ أي حلم في لياليه ، رغم سوء الغذاء ، وكثرة جياد الأحلام على مسارح الخيال في ساعات الأمنيات ، يدندنُ بما يخبئ له القدر من عجائب .
- من هذانِ !؟
- أين متجهان !؟
بصوت أجش ، صدى الصوت يملأُ الآفاق ، ويزلزلُ الأعماق .
أَنهكهمها تكراره ، بين الفينة والأخرى ، والأسوار ممتدة على طول الصحراء ، تعانق السماء ، تقف شاخصة بوجه رشقات الرمل المستمرة ، وعليها غلاظٌ من الحراسِ .
همس إلى رفيقه : " ما هذه العقبات ؟ "
- حراسة لأميرة الخيال ، فلا يصل إليها إلا يعسوبْ .
هكذا نفذ زادُ الصبر ، لم يبقَ سوى القليل في كأس الأمل ، كاد الدليل يتيه ، فبالرغم من كثرة أسفاره في بطون الصحراء ، والعيش في الفيافي الجوفاء ، أَلا أَنَّ هذه المرة مختلفة تماما ، فما يطلبانه بعيد المنال حتى عن عالم الخيال ، وصاحبه شريد ، مفتوح العينين ، تائه الأذنين ، يصغي بقلبه إلى صوتٍ مضت عليه أَزمانٌ ، لم يستسغ شعراً ، بل يجالس الحصى في العتمة ويحكي معها حكاية الصمت والتأمل و وفاء البدر للفلاح .
لولا أنه استنشق عطرها ، وسطع نور وجهها ، متلألئاً من فوق الأهرامات , كأنَّه الشمس تغازل الفجرَ بضيائها ، و يغوصُ في قشرة الليل منها سَهمٌ نورانيّ هادئ ، وتزف الندى إلى ثغر الزهرة المتفرعة بالعبادة لربِّ الأَرضِ و السماء ، لتاه في دروب البيداء ، ثم غمزته بطرفٍ ساحرٍ ، وخبّأت وجهها بالغمام ، لم يتحملها الدليل خرَّ مغشيا عليه .
اتخذ من لَحنِها دليلاً ، انعكست خيوط البهاء المشعة من ثغرها على وردة تستحمُ بأريجها فراشة ، بهية الألوان تعانق اللون الوردي ، قطفها ، وضمها إليه ، خطرت له تلك الورقة ، التي بيد الطفل .
جاءه صوت رخيم يطرب الصخر لا العاشق المستهام ، فلم يستطع البقاء ، تراقصت فرائصه ، ارتعشت أقدامه ، أسرع إلى الأهرامات ليعتلي إلى كوكبة الحياة ، ليحصل على هبة الرحمن .
حار كيف يصل إلى قلادة في عنق الجمال ، والجمال ، فوق الشمس يرتقي ، يعلو تراثا ملأ القلوب سحره ، وأغدق الكون علمه .
دلف إلى الداخل ليجد كاهنا يرشده الوصول ، كاهن من بقايا عهد آمون ، ضخم ذو هيبة وقوة ، ما تريد ؟ بصوتٍ هزّ أحجار الأهرام .
- دمعت عيناه
- " ما لك تبكي ! "
- " .. .. .. " فعرف ما حكته عيناه
- ".... وهل عندك مهر يا ابن الفرات ؟ "
تكسرت عبرته في دمعته ، كادت تودعه روحه ، ثم أهوى يده إلى صدره ، وأومأ إلى الكاهن بأَنَّ المهر مدفوع .
هزَّ الكاهنُ رأسه بقبول المهر ، ثم حرك حجرة كتب عليها بحروف سحرية ، الحب والتضحية توأمان ، لا بد يوماً أن يلتقيا ، ثم أمسكَ قنينة فيها شراب قانٍ ، أخذ يردد كلمات لا تفهم ، قال له : هاك ، أغسل وجهك و...
شرب ( مجعة ) فلم يرَ الكاهن ، خرج وإذا بحمامة ذهبية ، مطوقة بالمرجان ، وخلفها غمامة ، لونها بين الثلج والورد ، امتطاها ، وقاد زمامها نحو أميرته المستوطنة في عرائش أفكاره ، هي نبض أحلامه ، ورعشة فؤاده .
غازلها، بخجل ابتسمت ، أنشد لها مجنونيات قيس ، وشيئا من روميات أبي فراس .
لَفَّت نفسها بالغمامة وقالت : كل هذا الجهد ، والمشقة من أجلي ، كم أنت بريء ، لا أنت طفل صغير ، ثم ضمته ، واختفيا في الغمام .
بعد مرور أيامٍ قصيرة كالثواني ، غُشيَ عليه ، نثرت على وجهه ، قطرات من الضياء ، استفاق ، عارياً كأنه يولد من جديد .
ألقته على شاطئ اليم , وحيداً لا شجرة ، ولا رفيق ...
عاد يجره البؤس ، واليأس ... وصل قريته ، بوجهه إلى العجوز .
يجدها تتناول أخر جرعة من الهواء ، رمقته ، هَمَّ بالسؤال .. قالت : اللون أنت فتى عطوف ، كالوردة ، لم يفهمك أحد ، تعيش غريباً .
- وما هذه السطور ؟
قرأت له رحلته إلى بلاد الكنانة ، وقبل أن تغص بالحبة الأخيرة ، ارتمى بين يديها جثة يابسة متكسرة كثيرة الأوجاع ، توقفت كلُّ أنفاسه ليسمعَ وصيتها الأَخيرة ، همست في أُذنه : " الحزن قلادتك ، والدمعة أنيستك في ظلمات الهجر ، صبراً أَيُّها المنتظر الأميرة لن تتركك ، واعلم أَنَّه لا بد للحبيبين يوما من عناق " .

منتظر السوَّادي 19/9/2011
[/justify]

ريما ريماوي 01-04-2012 01:31 PM

اهلا ومرحبا بك الأستاذ منتظر في منابر..

يسرني الترحيب بموهبة فذة عندنا..

سأعود فيما بعد للقراءة.. في هدوء ..

كي أستمتع بقصك الجميل.

مع تحياتي, وتقديري.

أحمد فؤاد صوفي 01-08-2012 11:06 PM

الأديب الكريم منتظر السوادي المحترم

في البدء تقبل مني ومن أسرة منابر الخير ترحاباً قلبياً عسى أن تجد بيننا كل متعة وجمال . .

أما عن قصتك هنا أو لنقل أنها مشاركة وجدانية فيها فلسفة حياتية . . فنحن هنا نتكلم عن مشاركة
جميلة جداً وراقية جداً . . هذا الأدب قد حملنا بجناحه إلى عالم متأرجح مابين الخيال والحقيقة . .
تداعيات جميلة من نفس . . ملئت عاطفة وشوقاً . .

كان الله معك . .
تقبل تحيتي وتقديري . .
دمت بصحة وخير . .

** أحمد فؤاد صوفي **


الساعة الآن 01:37 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team