هذيان الأنا والقلم جَنى !
هذيان الأنا والقلم جَنى !
ويأتي المساء ، وتفترش النجوم بساط السماء ، ويُطِلُّ القمرُ من عليائه ، يعلو ويخبو نورُهُ ، ويشتدُّ كُحْلُ السّماءْ . وأنا أجلسُ على شرفتي ، على يميني كتُبي والأقلام ، وعلى يساري أوراقي وعلبة الألوان ، وأمامي حديقةٌ غنّاءُ تزهو بالألوان ، إلّا أنّ الّليلَ صبَغَها بِلَون أهدابهِ ، حتى فراشاتها والأطيارُ والحَمام . وأُمِسكُ بقلمي ، فَيفِرُّ من بين أصابعي ، وريشتهُ صمّاءُ ولسانُ حاله يقولُ دَعكِ عنّي ، دعيني في حيرتي أتَبَعثَرُ وأُبحِرُ في المَجهول ، فلَكَم دَقَّتْ فَوقَ رأسي طبول ، وما زِلتُ أجهَلُ عن حيرتي وإسرافي في أمري مَن المسؤول . وأحارُ في أمره ، وقد سكَنَ مِنّي قَلبَ أفكاري وجَبهَتي ، وكُلُّ ما أقولُ كانَ في قاموسه مَسموع . فلطالَما أبكَيتُهُ وغاضَ بين الدموع ، وتراقَصَ مِدادُهُ على لَحنِ آهاتي ، وعزَفَتْ قِيانُ الضّلوع . واليومَ ما بالُهُ إذا ما أسمَعتُهُ لَحنَ أفكاري ، يَشيحُ بِوَجهِه عَنّي ، ويفِرُّ من بين أصابعي ، ويسكُنُ صَدْرَ أوراقي ؟ فماذا عساه يترجِم القلم وقد أثقلَته الهمومُ وتياراتُ الأفكار ، وما نضَب منه المداد ، إنّما ألَحّت عليه أوجاعُه ، ونزَفَ مِدادُه ، وحينها غصّ به القلمُ وتبعثرت حروفه . وأنظر إلى القمر وقد تحلّقت حوله النجوم ، يُسامرها وتُسامرُه ، ويشاكسها وتشاكسه ، فيضيع الهم والضجر والمشاعر الأُخَر ، ورقّ لهم المدار ، فلا عواصف ولا أنواء . وأنظر وقلمي ينظر معي ، ولا يقوى على الحراك ولا حتى بإيماءة من رأسه القاسي كالفولاذ ، وعيناه جاحظتان كما لو أنْ مسّه دُوار ، أو لعَلّ به جِنَّةٌ ، أو أصابه شعورٌ باغتراب . وأتساءلُ : القمر ما كُنهُه ، ما لونُه ، ما شكلهُ ؟ هل فيه أنهارٌ من عسل ، أو ماءٌ أو لبن ؟ وهل يعيش فيه الطيرُ و يتنفس الشّجرُ ، والفراشاتُ والنحلُ والحورُ والمَها والغادات الأُخَر ؟ وأتساءلُ و يُصغي لصَوت التساؤلات ، لكن كما العودُ حين يَرِقّ فيه الوتَر . واعتكف القلمُ بعد أن أغطَشَ اللسان ، فلم يعُد لديه مَيلٌ للجِدال ونظرتُ إلى الأفق البعيد ، وتساءلتُ هل يعرف أهل القمر العيد ؟ وهل ساكنيه سعيدةٌ وسعيد ؟ أم حالُهم كحالنا ننسى الشقاء بشَقاءٍ جديد ، ونُداوي كُل جَرح بِجَرحٍ جَديد ؟! وأرنو إلى القمر وقد أضاء شرفات السهر ، وروحي تُسِرُّ له النّجوى وتتساءلُ : يا ساكن السماء ، في بيتك في العلياء يصلك الخبر ، ففي جعبتك أخبار وصور .. وحكايا عن البشر .. وهمس النسيم للنخيل .. وأعراس العنادل فوق الشجر .. ما كُنهك ؟ ما لونك ؟ ووجهك ما شكله؟ أضاحِكٌ أم عابِسٌ ؟ أم بدرٌ مُصوّر ؟ سُبحان مَن صَوَّر ! وبدأت الرسم بريشة الخيال وإبداع الفنان ، ليكون بالإمكان أفضل مما كان ، فالقمر معشوقٌ والعاشق فنان .. وشراعي الوحي والإلهام والجمال هو القبطان . وأخذت أرسم القمر وفي خيالي له صور ، بيت وحِجارةٌ حمراء ، وأبوابه مشرّعَةٌ للشمس والهواء .. وزقزقة عصافير .. وخرير ماء .. وموقد .. ونار ودلّة قهوة ترحب بالزوار . ويُحَدِّقُ في الرّسم القلم ، ويقول يا للعجب ! أرض جرداء .. حجارة صمّاء .. زَرعُ مَوتٍ .. وحصادُ صَمتٍ .. وخيبةُ آمال .. وفي عيونكِ حدائق غنّاء ! فعالمك يعُجُّ بالألوان . ولا أرى الألوان إلّا دواءً و صَبرًا على مُر الزمان . ولكن لم يكُن بالحسبان ، وأنت أميرتي وملهمتي ، تتساوى في قاموسكِ أُطُر الحقيقة والخيال ، بل وينصهران في لوحة تَجريدية مُكتملة الأركان . فأمسكت بالقلم ، وهَدهَدتُهُ وقلتُ : يا صديقي القلمُ ، حتى الشهد في أوانيه يُخالِط حُلوَه المَرارُ .. فكل نفسٍ تأبى الإنكسار ، وتبني حولها شرنقةً من وَحي الخيال ، وهواجس الأماني وحجم الأحلام حتى لا يضيع العقل ، ويقذف بنا إلى غياهبِ الذهولِ الزمانُ .. فصعبٌ لِمنْ وقع في الجُبِّ أن يُغادِره دون أن يمُر عليه الرّكبان وتأخذه معها حيث الأمان . فما الخيال إلا صمام الأمان حين تحاصرنا الأهواء والأفكار ، ويستعصي علينا القرار ، حتى الكلام . وما بين الحقيقة والخيال ، يمضي بنا الترحال ، وتُزهر فينا آمال ، وتموت آمال .. وهكذا دواليك إلى أن تلفظ أنفاسها شعلة الحياة . وقاطعني القلم وقال : إذا ما انقشع عن سمائي الضباب والعُقاب ، وما عادت الشمس يحجبها سحُبٌ ولا أمطار ، فلا تحلَمي أن أكُفَّ عن الجلجَلَة والهذيان . فكيف يُمسي الحاضر والماضي سيان ، وبَقايا سطور في كتاب الزمان لِمَن يُعمِل ذِهنَه ويُميّز الألوان ؟! . فقلت وفي عيوني تتراقص عرائس الليل والأقمار .. و ما أجمل الليل إذا كان القلم والريشة والأفكار والأوراقُ والألوان والأوتارُ له عيونٌ وسُمّار . ويأتي المساء .. وكما بدأْنا نعودُ .. ولمْ تَزَلْ النجومُ تفترش بساطَ السّماء .. وعيوني تُناظرُها .. وتُناظرُني السّماء .. والقلمُ ما بيننا في حالةِ ترقُّبٍ وهَذَيان . |
رد: هذيان الأنا والقلم جَنى !
لوحةٌ شعريةٌ شاعريةٌ
رُسِمَت بريشة الوجدان تنسابُ الى الصدرِ كالنسماتِ العِذاب شكرًا.. لبنى لهذا الألق شكرًا للذوقِ والابداع وأناقة الحروف وجمال السطور تحياتي ترفعُ للتثبيت |
رد: هذيان الأنا والقلم جَنى !
اقتباس:
طبتَ أيها النبيل مازن وطاب بكَ رُقيّ البيان وطيبِهِ والذّوق الرّفيع |
الساعة الآن 03:18 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.