لقاء مفتوح مع الاستاذ ياسر علي
الاستاذ ياسر على تعرف اهتمامي بتدوين السير الذاتية للكتاب كافة وكنت منذ اول مشاركات لك في منابر قد دعوتك لمثل هذا اللقاء ارجو ان تكون مستعد الان لنتحاور معك حول حياتك واهتماماتك خاصة الأدبية ولعلنا نستطيع ان نستفز فيك الذكريات وتخرج علينا بمذكراتك ولعلك تدون سيرتك حياتك هنا لنطلع عليها.... راجيا ان تقبل دعوتي الى هذا الحوار المفتوح حيث يمكن لكافة اعضاء وكتاب منابر المشاركة فيه وطرح الأسئلة والحوار معكم حول مختلف القضايا وحسب ما يمكن ان يتطور اليه الحوار .... وشكرا * |
الحياة واجب نعيشه بحلوه و مره ، برتابته القاسية ، بعفوية سلوكنا حينا ، و ما نتصنعه من أفعال و مواقف احتراما للأشخاص ، للوسط ، للثقافة ، كم مرة عدت إلى مكان كان بالأمس محبوبا ، و قريبا إلى قلبي فوجدتني لا أستطيع تحمّله ، أحس دوما أن العودة نوع من التقهقر و نوع من النكوص و نوع من الاستسلام ، أو عدم قدرة على التقدم ، قد يكون الماضي جزءا منّا ولا شكّ، لكن يبقى طيّ النسيان و يبقى أكبر توقير وتكريم له هو غلق منافذ التسلل إليه بإحكام ، ففيه تكمن زوابع و عواصف لو اجّجتَ لهيبها ، لأدميت جراحا عوّدت النفس على مهادنتها و لو تجاهلا ، على يقين أنا أن لو أتيحت الفرصة لشخصي للبداية من جديد فلن أكون إلا ما أنا عليه ، و لو فتح هذا السفر إلى الماضي يوما فما كنت من المسافرين .
الماضي جزء مات وانفنى و أصبح رمادا باهت اللون و الذوق ، لعل هذا التقديم كاف ليعرف القارئ الكريم مدى صعوبة العودة إلى الماضي و عيش تفاصيله في نظري ، سأفشل حقا في ترجمة من أنا و تلك مغامرة وتحدي قد يحمساني لاختباره ، كما أنني على يقين أن كل الذين كتبوا سيرهم و مذكراتهم طغت اللحظة على حياتهم و اسقطوا الحاضر على الماضي فغابت الموضوعية ، موضوعية ما كانت أرواحهم تجترحه لحظة الفعل في لحظة التنزيل للقدر ، رسم الصورة الحية للوجود ، قد لا يستحلي البعض مثل هذا التفلسف و نحن ألفنا تلك الجمل القصيرة المترعة بالانشراح ، الغارقة في الزيف ، المتناهية في تبسيط الكائن الأكثر تعقيدا على وجه البسيطة . لا أخفيك أن هذا السؤال الوجودي كان يؤرقني إلى اليوم ، فمن أنا؟ يا ترى ؟ هل تلك الصورة التي يراها الناس كل يوم ومنهم من يستحسن طلعتها و تطبع في نفسه انطباعا إيجابيا و من يقشعر جلده كمدا و غيظا متمنيا لها التواري، و من لا تثير في نفسه شعورا مريحا ولا سيئا فتكون كتلك الأشياء الزائدة في الوجود الفسيح الشاسع . هل أنا سيرة ذهن يحاول تركيب جملة من الأفكار تترجم الحياة بمصداقية، هل أنا ما صنعه من حولي من قشريات التعارف من اسم و مكان مولد و زمان ولادة و نوع تربية ، هل أنا مواقفي الإيجابية منها والسلبية ، هل أنا ما برمجته من خطط للحياة أو ما قمت به إرضاء للآخر بغرض التعايش . من أنا ؟ هل هناك منبر فعلا قادر على تحمل شغبي ، تحمل من أنا فعلا ، وهل لدي الجرأة لأقول من أنا إن أتيح مثل هذا المكان ، هل وصلنا ثقافيا و إنسانيا إلى درجة التقبل والاحترام اللازم للخصوصية و البوح؟ أكيد كل تلك التساؤلات مشروعة ، والإجابة عنها كافية لتقول لن تنجح في اختبار إنجاز السيرة ، دون الوقوع في تزييف الذات و تلك مغالطة للقارئ و مغالطة للنفس ، إنها نوع من الانفصام حين تكون مضطرا لسلب جزء منك من الوجود ، وجود فعلي ، لا ظني . الأستاذ أيوب صابر شكرا لك على الاستضافة في هذا المنبر و سأكون في انتظار أسئلتك و أسئلة أعضاء منابر ، و سأحاول الإجابة بشكل مباشر أحيانا و سأحوم حول الإجابة حينا . تقديري أيها الرجل الرشيد |
مرحبا استاذ ياسر هذه المقدمة تشي باننا سوف نحظى بصحبتكم في هذا اللقاء المفتوح برحلة ممتعة وجميلة وغنية استمدت غناها حتما من مجموعة تجارب لا بد ان بعضها كان غاية في الصعوبة والقساوة حيث تصفها "تجارب كان يكمن فيها زوابع و عواصف لو اجّجتَ لهيبها ، لأدميت جراحا عوّدت النفس على مهادنتها" ولا بد، لو اخذنا بنظرية ان الطفولة هي الصندوق الاسود الذي يحتوى مجموع التجارب التي تجعلنا ما نحن عليه في وقت لاحق ، فلا بد ان تلك التجارب صنعت من ياسر علي في المحصلة كاتبا، ومفكرا، وفيلسوفا وصاحب تجربة غنية...يسرنا ان نلتقي معه في هذا اللقاء المفتوح لعلنا من خلال ما نطرحه عليه من اسئلة نساهم في دفعه للغوص في الماضي ونبشه ليخرج علينا في المحصلة بسيرة ذاتية تكشف لنا صراع هذه الذات من اجل العيش والبقاء.. صحيح ان حالة الصراع مع المجتمع والمحيط ومن اجل الحياة والبقاء قد يكون صارخا حادا وقاسيا وواضحا وضوح الشمس، وكانه حفر في االصخر او رسم بالالوان، وقد يكون الصراع باهتا ضعيفا رماديا ، لكنه يظل صراعا على كل حال ويترك اثرا مهما على صحفة التاريخ والتجربة الانسانية ولو ظن صاحبه عكس ذلك او قلل من شأنه... فصراع الانسان من اجل الحياة يظل مهما في كافة حالاته واشكاله ومهما قلت حدته ...فحتى نقطة الماء لو تكرر سقوطها على الارض لسنوات طويلة فهي ستترك اثرا بارزا فكيف اذا بحياة انسان والتي غالبا ما تشبه النهر في حدة اندفاعها؟ يسرني ان ابدأ معك في طرح الاسئلة ولعلنا نجد تفاعلا من الزملاء مما يغني هذا اللقاء: س- هل لك ان تصف لنا ظروف النشأة والولادة؟ اين ولدت ؟ وعدد الابناء في العائلة؟ والترتيب بالنسبة للعائلة ؟ وظروف الولادة؟ وهل كان هناك مصاعب صحية؟ وكيف كانت ظروف العائلة المعيشية في سنوات طفولتك المبكرة؟ هل عشت مع الاسرة في تلك السنوات؟ ام كنت لظروف ما تنفصل عن الوالدين؟ ما طبيعة عمل والدك؟ وكيف كانت علاقتك بالوالدة في تلك السنوات المبكرة. |
ذات ليلة شتوية باردة في أواخر شهر دجنر 1972 ازدان منزل الحاج موسى بمولود جديد اختير له من الأسماء نورالدين ، جدّي يومئذ يؤدي مناسك الحج بالديار المقدسة ، جدّتي تستعد رفقة ولديها محمد وعبد الله و زوجتيهما فاطمة و خديجة لإعلان الأفراح عند العودة المكلّلة بالحجّ المبرور والسعي المشكور، كانت الفرحة فرحتان مولود جديد و زيارة لأطهر بقاع الأرض ، كان والدي يومها في الثانية والثلاثين من عمره و أمي في الرابعة والعشرين و قد استكملا عشر سنوات من الزواج لم يغنما فيها غير بنت تكبرني بسنتين و سبعة أشهر بعد أن حصد الموت ثلاثة من إخوتي الذكور تباعا ، على أيّ حال كنت المولود الذكر الثاني من أحفاد جدي الأحياء ، ولده عبد الله له بنت أيضا تكبرني بتسعة أشهر و الموت أخذ منه ولده البكر ، هو الموت كان مصاحبا لهذه العائلة يفترس أفرادها بنهم شديد في تلك الآونة ، عمي عمر الحافظ للقرآن الكريم والذي يغترف علوم الفقه من مدرسة عتيقة وافته المنية في شبابه ، عمتي اختطفها الموت في بيت زوجها في ريعان شبابها بعد أن ولدت صبيا يكبرني و صبية في مثل سني. وجدت قصبة الأجداد التي كانت تسكنها عائلة إدموسى كاملة منذ أيام السيبة في القرن التاسع عشر في آخر أيامها بعد أن غادرها قاطنوها و سكنوا بيوتا متفرقة على أطراف القرية و تمزقت العائلة الكبرى و ذهب كل إلى حال سبيله إيذانا ببدء زمن آخر، زمن تتخلله بذور التشرذم و التقوقع . أبي قروي في طباع مدني أو مدني في طباع قروي ، غادر القرية منذ أن بلغ الرابعة عشر من عمره واستوطن مراكش ، المدينة الحمراء ، الفائحة بعبق التاريخ ، تبتعد عن موطني بمئتي كيلومتر تقريبا جهة الشمال ، لاشك كنت مدلّلا في المنزل كما عمّي الأصغر عبد السلام الذي يكبرني بعشر سنوات و يتابع دراسته في السلك الابتدائي ، ربما كنت قريبا إلى قلوبهم جميعا على ما يبدو، فالذكر الأول في البيت من الأحفاد تكون له حظوة كبيرة ، كما آخر العنقود من الأبناء .عودة إلى أبي الذي استهل سنوات زواجه الأولى بقّالا في مراكش ، والدتي تتنقل بين القرية و مراكش مرة تسكن هناك ومرة تعود عند جدّي في القرية ، مرض والدي ذات مرة فغادر إلى القرية بصفة قطعيّة و اختار أن يكون قرويا ليشتغل بسيارته في النقل السري متنقلا بين الأسواق والمداشر ، لكن الأمور لم تجر وفق المشتهى ، فقرر الاشتغال في الفلاحة . والدتي فاطمة بكر جدّي محمد فقيه إمام ، ما ذكره شخص إلاّ رفع قدره إلى علياء السماء ، لم تتح لي فرصة ملء عينيّ من وقاره و حسن طلعته ، وإن كان هو استبشر بمولدي و رقاني بلسانه الطاهر وحملني بين يديه و أنا أشاغب لحيته . تقول أمي :" عندما أصبت بذلك المرض العضال وبتّ في رحاب الهبل كان جدك يأتيني فيقرأ و يقرأ عسى الله يخفّف مصابي " سألتها : ماالذي جعلك تسقطين في براثين المرض يا أماه؟ ردّت :" الظروف كانت قاسية و كنت برعمة طرية , أولادي يموتون تباعا ". مات جدي وانضم إلى القافلة التي اجتاحها الموت و لم يتسن لي رؤية وجهه الباسم . |
تقول جدتي : "استقبلنا القبائل و الوفود كلها من سوس إلى الجبل ، نحرنا الذبائح و أطعمنا الزّوار و رضي القاصي والداني ، كانت أفراح عظيمة تعمّ البيت حين عاد جدّك من المشرق . رغم أن أمك أرضعتك حولين كاملين إلا أن مرضا كاد يفتك بك ، حملتك عشية بعد أن أصبحت في عداد الأموات وقد علا ضجيج أمك و ثارت ثائرتها ، كان يوما حارا ، ذبلت ملامحك و أستسلمت روحك لبارئها ، كنت أخطو تائهة عندما مررت بجانب الحظيرة و سمعت بقرتي المعطاء تخور ، رفعت عينيّ إلى السماء و قلت خذها ربي و اترك لنا هذا الصبي ، تابعت مسيري إلى وسط القرية حيث قالت لي إحداهن ، لماذا لا تتركينه يرقد بسلام ؟ أنت تعذبينه يا رقية ، لم أعرها اهتماما ، إذ ذاك هبّت نسمة خفيفة منعشة من الغرب و بعد برهة أحسست حركتك بمحاذاة صدري ، رجعت إلى أمك مسرعة ليشرق وجهها حبورا و الدمع لا يزال يبلل خدّيها ، ضمّتك إلي صدرها معاتبة ، ألم يثقل عليك فراقي يا رجل ؟ أهان عليك أن تتركني وحيدة ؟ أتعلم يا بني ماتت البقرة بعد أيام قليلة ، لكن نحمد الله الذي أبقاك لنا . " القصبة غادرناها بعد مولدي بثلاث سنوات ، لم يسجّل في ذاكرتي غير حدثين و ربما ثلاث في رحابها ، أولها كان امرأة في سحنة سمراء ، عربية حسّانية من بلاد الصحراء ، تداوي كل الأمراض ، و تعتني بالنساء والأطفال ، نبتت حبة في مؤخرة رأسي و بدأت في التوسّع ، أمّي تحدثني ، كانت تلك المرأة من اقتلعت تلك الحبة المتضخمة من جذورها مستعملة "المروت" و الملح ماحقة إياها بالزنجار ، ذهبت الحبة من غير رجعة لا أتذكر لا آلامها ولا صراخي ، لكن موضعها لم ينبت شعرة إلى اليوم لتطبع مقدار وطأة أصبع أجرد في رأسي، يفاجئ كل حلاق أقصده للمرة الأولى فيتحايل في القص ليموّه ظهوره كي لا أبدو أقرع في وجه الأقران ، صورة المرأة وهي تقتحم البيت هو الحدث المنقوش في ذاكرتي بلحافها الأسود و رائحة بخورها المميزة المنبعثة من ملابسها . حدث أن سقطت من الطابق الأول إلى صحن القصبة ، كل ما أذكره هو الهبوط الحر ، أمّا جرح على مستوى الجبهة فهو ما حاكاه الآخرون ، لكن ما عضت عليه ذاكرتي بالنواجد هو لحظة ولادة أختي نعيمة بعد ثلاث سنوات من مولدي ، في تلك اللحظة نزلت عبر السلالم ليلا لألتحق بأمي و تركت والدي في غرفته يستمع إلى المذياع ، ساعتها سمعت خالتي خديجة أخت والدتي فاطمة و زوجة عمّي عبدالله تأمر أختي أمينة بقطع حبل السرّة ، حاولت الدخول لكنّني منعت من ذلك فرجعت عند أبي أحدّثه عن أشياء لم أستوعبها بشكل جيّد و لا أتذكر ما جرى بيننا من حديث . |
انا سعيد جدا باستجابتك لهذه الدعوة..وارى بأن سيرتك غنية بالاحداث الدرامية وحتما سنحصل على رواية ذات قمية عالية...واعتبر نفسي في سباق ومنافسة معك لنرى من يكتب ويحصل على منتج اكثر ابداعا وتشويق وسحرية ودرامية سنتابع معك سيرتك ولك ان تعلمنا حينما تنتهي من الحديث عن مرحلة النشأة حتى نستمر في طرح الاسئلة؟ |
استقبلنا بيت أبي يوم لفضتنا القصبة ، قصبة تنتعش برائحة البارود ، حيث كان إدموسى الأوائل أصحاب شكيمة ، لم يكونوا قوّادا ولا شيوخا بل أحرارا و فقط ، يؤكّد جدّي : تمّ اجتثات هذه الأسرة و قضي على رجلها الأول و تمت السيطرة على الأراضي ، لكن القدر شاء أن ينجو اثنان من أبنائه إذ هرّبتهم عجوز مدّعية بأنهم من الرعاة ، و عندما بلغا أشدّهما قادا جيشا جرّارا رابض على طرف الجبل المطلّ على القرية من الغرب ، و أطلقا العنان للرصاص في السماء ، فبُهت أهل القرية و فرّوا إلى بيوتهم و غلّقوا الأبواب و زغردت الأرض هيت لكما . فاوض أهل القرية الولدين و اقترحوا عليهما أن يختارا أنّا شاءا لبناء قصبتهم ، فاقتلعت أشجار الزيتون و التين والرمان، لتنبت القصبة وسط مزارع "الملت" معلنة بداية جيل آخر من أبناء موسى، يحرثون أرضهم و يرعون قطعانهم و يصونون عرضهم بالزناد والنار ." يضيف جدّي: "لم تسلم القصبة من التدمير ، إذ قام الأعداء بتلغيمها لهدمها على أهلها ، لكن القدر شاء لهم البقاء و قاموا بترميمها من جديد ." بيت أبي ليس ببعيد عن القصبة ، بل على مرمى عين منها ، بجانه بئر و حقول ، عصر الآلة في ضخ المياه قد حان ، اشترى أبي محرّكا ومضخة و انطلق الرجل القصير في الأعمال الفلاحية ،عمي عبدالله التحقت به زوجته وابنته وابنه الذي لم يفطم بعد إلى مقر عمله كرصّاص بمدينة " أكادير" تبتعد عن موطننا بمئتي كلومتر أيضا جهة الغرب ، مدينة ساحلية ناعمة رقيقة عصرية . هكذا انطلق الروتين الماحق ، زرع الخضروات و الحبوب ، ولادة الأولاد تباعا ، ففي البيت الجديد ولد أربعة من إخوتي ثلاثة منهم ذكور. |
من أنا ؟ طفل برشّة قبول ، نحيف ، ذو بشرة بيضاء ، طباع هادئة ، راشد منذ الصغر ، إلى المسجد كنت أرسل لتعلّم القراءة و القرآن . في قريتنا ثلاثة مساجد ، في أحدها يقبع فقيه شرس ، يسلخ الأطفال سلخا بل حتى المراهقين منهم ، يستعمل عصيّا مختلفة الأنواع من طويلة إلى قصيرة ، من غليظة إلى رقيقة ، صبحا نتوجه إلى المسجد قبل بزوغ النور ، يجب أن تحفظ وتستظهر ثم تغسل لوحك بالماء و الصّلصال وتعرّضه لأولى خيوط الشمس ثم تكتب قبل العودة إلى المنزل لنتناول طعام الفطور ، نجلس على الأرض القاحلة بأقدامنا الحافية ، من يستطيع التفكير في البرد و سي إبراهيم موجود . أذكر أن أبي قال لي ذات يوم أن أصطحب معي هيضورة " سجاد من جلد و فرو خروف " لاستعماله كبساط يقيني شر البرد ، لكن هيهات هيهات أن أفعل و سي إبراهيم في البال ، تقول أمي ، كنت تصيح في نومك و تردد : " لا ....لا ... لن آخذ الهيضورة ، لن أصطحبها معي أبدا " كلما خفتت همهمة قراءة الطلبة تبوأت عصبية سي إبراهيم قمّتها ، فيهوي بهراوته ذات اليمين والشمال ، لا يهم إن انتفخت الرؤوس أو ازرورقت الوجوه ، كلما يهم أن يعلو الهتاف و إلا علا العويل و الصراخ. حظيت يوما منه بضربة على مستوى ساقي فانتفخت رجلي و بتّ أعرج عند عودتي إلى المنزل ، منذ ذلك اليوم ودّعت سي إبراهيم وبيداغوجيته ، وقد وجّهني أبي إلى مسجد آخر . سي محمد قصير القامة هادئ الطباع ، لا يكاد يلوح بعصاه ، يجمع الأطفال بين الحفظ و اللعب و كثيرا ما نلجأ إلى تعليق ألواحنا دون استظهارها ، يوم الأربعاء نأتيه بالأربعائية ، قد تكون بيضة أو قطعة نقدية ، هدية نهاية الأسبوع ، أيضا نحمل معنا كؤوسنا مع حفنة حبات شاي و قطع سكر ، نشرب الشاي ، نلهو، نشاغب و يذهب كل إلى حال سبيله فالخميس يوم عطلة و كذلك الجمعة . أذكر أنّي رافقت أبي إلى السوق الأسبوعي ذات خميس ، بينما كنا نسير جنبا إلى جنب أوقفه رجل وتبادلا أطراف الحديث ، شدّني المكان و بدأت عيناي تفترسان بنهم ما تقعان عليه ، حين رجعت ببصري إلى جهة أبي وجدت نفسي وحيدا ، ذهبت يمنة و يسرة و ارتجت بي الأرض ، لحسن حظي أن أبي لم يبتعد كثيرا حين أحس بتخلفي عنه . |
نجتمع على مائدة الطعام جدّي و أبي و جدّتي و أمي و أختاي لسنوات عديدة . جدّي يتناول الفلفل المرّ فتراه يتأوه طالبا رشفة ماء تارة ، و متحمّلا مرارته حينا وعينه ترسل قطرات من دمع ، جدّتي تبتسم ابتسامة ماكرة ، ناطقة :" من أكرهك على هذا يا رجل ؟" قبل أن يوضع الطّاجين على المائدة نتحلّق حول صينية الشّاي ، جدّي يحكي لنا إمّا عن بطولات الأجداد أو عن معاناته مع الاستعمار ، أو عن مشاكله مع سكان القرية . أبي غالبا يكون تركيزه متماهيا مع ما ينقله الأثير ويتفوّه به المذياع ، جدّتي قد تجاري جدّي وتذكّره ببعض التفاصيل أو تضيف إلى قوله ماتراه مناسبا من تعليق ، أو تطلق جملة تهكّم وحين يسألها عن مبتغاها تحرّف الكلام في اتجاه آخر . عمّي عبد السلام لا نراه إلا في العطل منذ أن التحق بمدرسة بعيدة عن موطننا ، أمّي عادة تكون صامتة ساهرة على خدمة الجميع . يوم الخميس تزورنا عمتي ربيعة بانتظام ، نشاغب المنزل في غياب والدي وذهابه إلى السوق ، غالبا ما ينتهي اليوم بعقوبة لي ولأختي عندما تغادر عمّتي مع أبنائها الثّلاثة جرّاء ما ألحقناه من أضرار بالمزروعات أو بالبيت . ابنتها الأولى تكبرني بعام وابنها أكبره بعام أيضا . على حمارنا نحمل بعض لوز وخضر و زرع حسب ما جاد به الموسم متوجهين إلى قرية أخوالي ، أمي تحسّ بهجة عارمة و نحن في ضيافة جدّتي ، خالي يعمل بعيدا عن المنزل ، متزوج و أب لطفل رضيع ، أخوه مراهق في الثانية عشر أو يزيد يتابع دروس القرآن في المسجد ، ألعب بمعية أبناء خالة أمي . جدّتي كلثومة امرأة حنونة ، تحس في حضنها أمنا عجيبا ، شريفة النسب ، باسمة الملامح ، لسانها سمح مبتهل ، روح طيبة ، عز نظيرها من امرأة . قبل أن أذهب إلى المدرسة لم أكن أحسّ أنّي متميّز عن أقراني في المسجد ، ربما ما تبقى في ذهني غير بعض ذكريات ، طفل يستظهر سورة الغاشية ، فالتقط ذهني هذه الآية : " و أكواب موضوعة و نمارق مصفوفة ..." كان هذا الطفل يكبرنا سنا و كان مشاغبا بامتياز ، يكبرنا بأكثر من خمس سنوات ، قوي البنية ، مدوّر الرأس بشعره الميال إلى الحمرة و وجهه المنقط ، يخلع قلوبنا خوفا حين يتحدث عن عنزة المسجد و بغلة المقبرة ، حين يطوي جفنيه العلويين نحو الأعلى لتظهر حمرتهما فننخرط في البكاء و قد قوّس أصابعه و كشّر عن أنيابه كجنيّ محقّق . |
اشترى لي أبي درّاجة ثلاثية العجلات ، بها أزهو و ألعب بدون توقف ، كانت دراجة رشيقة قوية، جعلتني في غنى عن صناعة لعبة من لعب الأطفال ، فالغالبية العظمى ، يضطرّون لصناعة لعبهم من علب معدنية بعد أن تفرغ منها زيوت المحركات ، إزالة وجه من وجوهها المستطيلة و قضيبان حديديان ثم ركّب لها ما شئت من العجلات من بقايا الإطارات المطّاطية ، خيط و ربما حبل مفتول لتجرّ عربتك في أمان و يركب من يشاء من رفاقك ، إن لم يرق لك النوع فالقصبة كافية لإرضاء فضولك ، قضيب معدني في طرفها وعجلتان تصنعان من الأسلاك الحديدية واحدة في اليمين وأخرى في اليسار ثم تلفّ الأسلاك بأشرطة من قماش لتبدو سميكة ، في الطرف الآخر تجد مقودا لسيّارة قديمة أو مقودا لدرّاجة متهالكة أو مقودا من أسلاك و إذا بك تفاخر الأقران بآخر صيحات الابتكار ، خذ نفسا عميقا فمازال بجعبتنا الكثير ، حدّث و لا حرج عن أنواع الشاحنات أو الحافلات و الجرّارات ، بإمكانك أن تستغني عن هذا كله ، فطوق دائري مطاطي أو معدني يمكن أن تدخل به إلى مضمار السّباق . درّاجتي أحمل بها أختي الكبيرة ، تقف على القضيب الخلفي حيث ثبتت العجلتان الخلفيتان و تتمسك بثوبي و أنا جالس على السرج ، ضاغط على الدواستين فإذا بنا نعبر الطرقات منتشيين متبخترين متعاليين على الجميع . أختي أمينة ، تلبس عروستها قفطانا و خمارا ، قصبة سميكة في طول شبر و أخرى رقيقة أقصر منها ، في النصف العلوي تربطهما بخيط على شكل صليب صغير ، ترسم العينين و الأنف والفم بالصمغ أو قطرات تنبعث من عرش نبتة مميزة عند قطفها ، شعرها تعدّه أختي من الصوف بعد أن تفتل ضفائرها ، فتشدّ رأسها بحزام ملون ، ثم تكسيها بما لذّ و طاب من الفساتين البهيجة ، تقيم لها عرسا فاخرا و تزفّها إلى عريسها مغنّية مواويل ملحّنة ألحانا جميلة ، تزغرد عند دخولها إلى مخدعها النظيف ، تؤانسها هناك حتى لا تحس بالوحدة والوحشة . |
الساعة الآن 08:55 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.