موفق خوري يرحل ويبقي لنا ثروة ثقافية وفنية لا تموت
موفق خوري يرحل ويبقي لنا ثروة ثقافية وفنية لا تموت
نبيل عودة فارس آخر من فرسان ثقافتنا العربية يترجل، موفق رفيق خوري، مدير دائرة الثقافة العربية سابقا، نائب مدير عام سابق لوزارة الثقافة. بكلّ ألم أجد نفسي مرة أخرى أقف راثياً صديقاً كاتباً وصاحب أيادٍ نفتقدها اليوم في تنشيط حياتنا الثقافية والفنية ودعمها ورعايتها وتوفير الشروط المادية والفنية والمعنوية لتطويرها واستمرارها. منذ غاب موفق عن رئاسة دائرة الثقافة العربية غابت الدائرة عن الثقافة والمثقفين وغاب نشاطها وغاب المحرك الذي لم يكن يكلّ من العمل والدعم والحثّ على الإبداع الفني والثقافي. مع غياب موفق، بعد استقالته، التي لم يكن منها بدّ، لم يعد لدائرة الثقافة من قيمة الا المكاتب، ولا أسمع عن أي نشاط جديد، ولا أعرف هل يتواصل دعم المؤسسات التي ساهم الراحل موفق خوري في تأسيسها ورعايتها؟ واجه في مسيرته صعوبات ومحاولات إذلال وتجاهل لا تسرُّ البال مصرّاً على نهجه ومفشلاً كل ما أحيك حوله من نوايا لا تفكر الا بما يخصّ ذاتها ومكانتها. كان مؤمناً بما يقوم به، ومصرّاً على صحة طريقه، فصمد، وتواصل حبك الخطط لإسقاطه. ولو كنت مكانه لقدمت استقالتي مبكرا ولكنه كان يصر ان يواصل ما بدأه، وكنت أرى عبث ما يقوم به ومخاطره على مكانته وصحته. وأعتقد اليوم اني كنت مصيباً ورأيت ما لم يستطع موفق ان يراه. كان عنواناً لكل الأدباء العرب داخل اسرائيل. لم يقل كلمة "لا" لأي أديب او متأدب. استقبل الجميع بترحاب وحبّ وقدّم أقصى ما يستطيع تقديمه. لم يميز بين أديب له اسمه ومكانته، وأديب مبتدئ. حتى حين انتقدتُ أمامه بقسوة تفاهة بعض الإصدارات التي تبنّاها وأصدرها ابتسم ودافع عن إعطاء الحق نفسه للجميع، وان ما ينفع الناس يبقى في الأرض وأما الزبد فيذهب جفاء. كان يتصرف بالتساوي بين الجميع، لم أقتنع بموقفه ولكني فهمت دوافعه، بأنها منعاً لادّعاءاتٍ قد يطرحها البعض بان موفق خوري لا يتصرف بمصداقية، ومع ذلك فوجئت من كثرة الطامعين لاحتلال وظيفته، وهو لم يكن غافلاً عما يدور حوله، ولكنه واثقٌ بصحة طريقه وحسن تعامله مع الجميع، وهذا يبدو انه أفشل نوايا غير نظيفة حاولت ان تطيل استقامته ثم تسقطه. ترى هل ما جرى معه في السنتين الأخيرتين، كان نتاج حبكة أُسقط فيها من منطلقات ثقته وتعامله الصريح والأخوي مع الجميع؟ لا أستبعد ذلك!! حزنت جداً، حين اضطر للاستقالة لوقف عملية تشهير أسقطت في المحكمة. فهمت ان المشروع الحضاري الذي أطلقه وحلم ان يرعاه حتى يصلب عوده، قد أصبح سبباً للإيقاع به. وفرحت له بنفس الوقت لأنه تحرّر من ضغوطات قاسية جداً كان يواجهها بصمت وتحمّل أثناء تحمّله مسؤولياته. ولكن ظلت في الحلق غصة. في العقد الأخير كتب مجموعة قصص للأطفال،ثم انتقل للكتابة الروائية. لا أريد التعامل النقدي الآن في تقييم ما كتب، ولكنه لم يكن بأي حال دون المستوى العام الذي صدر في ثقافتنا لكتّاب آخرين. كان يحلم ان يرى حوله الكثير من الأحفاد، كان يتحدّث عن أول أحفاده بفرح كبير ويروي نوادرهم. ويؤلمني انه لم يحظ بفرصة أن يرى حلمه الإنساني هذا يتحقق. من المؤسف هذا الرحيل المبكر، وهو لم يكمل بعد عقده السادس. موفق قدّم لثقافتنا دعماً لا يمكن تجاهله وتجاهل دوره في فتح آفاق واسعة أمام انطلاقة إبداعية في جميع مجالات الثقافة والفنون، ما كان لها ان تصبح حقيقة واقعة دون دوره المميز وقدراته على تلبية الضروريات الأساسية. نحن لا نجهل ظروف واقعنا السياسي والتمييز ضدنا في الميزانيات الحكومية. ولكنه نجح نسبياً حيث فشل الآخرون. في مسيرته تعرض لضغوطات شرسة، كان يخرج منها دائماً أقوى وأشد تصميماً. قلت له مرة: "أنجزتَ الكثير، وحولك عواصف كثيرة، ألا تفكّر في التقاعد وإخلاء الميدان لحميدان؟". كان خوفه على مشاريعه. على مستقبلها. كانت تتملكه فكرة ان انسحابه يعني اندثار ما أنجز. وهذا حقه لأن ما أنجزه لم يكن سهلاً ولم يكن فقاعات صابون، بل حقائق راسخة في حياتنا وثقافتنا. في السنوات الأخيرة عاد طالبا جامعياً في "جامعة ليبتسك" في روسيا لنيل شهادة الدكتوراة، وللأسف لم يتمكن بسبب ما أحاط به في الفترة الأخيرة من ادعاءات مؤلمة، ان يواصل دراسته، واعرف ان ما تبقى له هو مناقشة اطروحته. وليت أبناء عائلته يصدرون اطروحته في كتاب وانا على ثقة انها مليئة بتجربة ثقافية ثرية. حدثني أيضا في الفترة الأخيرة انه يكتب رواية جديدة. هل انتهى من إنجازها؟ بكل ألم نودع هذا الأخ الكبير الذي كان ملاذاً لجميع الأدباء في نشر أعمالهم ومنحهم جوائز أدبية تسهل عليهم التفرغ لسنة كاملة من أجل الإبداع الثقافي. وأقول أمراً هاماً، انه لم يضع أية شروط سياسية او ثقافية على إصدار الأعمال، بل نهج بطريقة ليبرالية مطلقة، وهذا ما جعل دائرة الثقافة العربية تحظى باحترام جميع الاتجاهات السياسية. موفق خوري يرحل من بيننا، ولكنه باق بنا أنجزه لأبناء شعبه خلال مسيرة حياته الطافحة بالنشاط والعطاء. nabiloudeh@gmail.com |
الساعة الآن 02:17 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.