عرض مشاركة واحدة
قديم 08-06-2010, 02:29 PM
المشاركة 3
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: تعلم كيف تـُربي .. وتعلم كيف تـُنشئ
التربية الاسلامية ومبادئها ومراحلها


التربية الاسلامية هى التربية التى تنشئ الفرد المسلم مؤهلا لأن يكون عنصرا صالحا بمجتمعه بغض النظر عن حالة هذا المجتمع .. ولكى يخرج الناشئ وفق أسس تربوية ومعايير سليمة يجب أن يدرك الأب المربي عدة مبادئ يتم تطبيقها بمنتهى الدقة إذا أراد لولده أو ابنته شخصية متزنة فاعلة فى المجتمع

أول هذه المبادئ وأهمها على الاطلاق هو توافر رغبة الأب فى تربية أبنائه .. !!

وقبل أن ينالك سهم الدهشة من تلك العبارة تأمل مقاييس الأبوة وكيف هانت فى هذا العصر لتدرك كيف تغيرت الطبيعة الفطرية لتلك العاطفة الأجَل فى العلاقات الانسانية .. فتوافر إرادة المنح والعطاء بلا حدود للأبناء وإرادة التربية ليست مسلما بها كما هو مألوف بعد دخول عوامل انتظار المقابل من الأباء أو من بعضهم ..

والتركيز على دور الأب فى تلك الدراسة ليس إهمالا لدور الأم بل لأن دورها عاطفي فى أكثريته متوافر بطبيعته والاستثناء فيه ـ وإن كان واقعا ـ إلا أنه لا يمثل النسبة الكاثرة المتوافرة فى تراجع دور الأب لأن دوره ينقسم مناصفة بين العقل والعاطفة

ولهذا يظل الأب والأم كليهما ضروريا فى أداء دوره .. فمهما بلغت الأم حد الكمال والعطاء لن تتمكن من تغطية دور الأب والعكس صحيح .. فالأم تحت تأثير العاطفة لا يعنيها إلا وجود الابناء إلى جوارها بغض النظر عن أى سوء ينالها منهم أو أية معايير من الممكن أن تباعد بينها وبينهم فقابليتها للغفران بلا حدود وقلبها لا يغير اتجاه الحب الفطرى للأبناء مهما كانت الأسباب ولهذا لا تتمكن الأم مهما أرادت من اتخاذ مواقف صارمة كالذى يتخذها الأب عند الحاجة إليها وتتطلب قلبا متماسكا وتلك من حكمة الله تعالى فى خلقه

ولهذا نرى الأم تجزع من إصابة بنيها بأى سوء مهما كان هذا مبعثا للفخر والاعتزاز .. فأم الشهيد أو العالم المهاجر لو شققت قلبها لتمنت وجوده الى جوارها حتى لو فقد كل ما هو مثير للفخر بينما الأب يتدخل العقل فيحكمه الرضا مهما نازعته عاطفته

وهذا الاختلاف هو الذى يبرر تراجع دور الأب ورغبه أو إرادة التربية والقدرة على تحمل مشاقها لعدة عوامل قد تكون خارجية كالظروف الاجتماعية وقد تكون خاصة كالطموح الشخصي الذى قد يحكم الأب فيجعله غير قادر على إعطاء جل وقته واهتمامه لتربية أبنائه وهذا هو المعيار الحقيقي لإخراج النوابغ ولذلك رأينا العديد من العباقرة فى جميع المجالات لا يورثون أبناء فى درجة مماثلة أو حتى مقاربة من العبقرية بالرغم من تفوق الملكات الشخصية لهؤلاء الأبناء بينما الأباء العباقرة لو فتشنا خلف عبقرياتهم نكتشف ببساطة من هو الجندى المجهول الواقف خلف نبوغ هذا التميز وظهوره كاملا .. فنجد محمد الشعراوى الفلاح البسيط الذى أخرج الشعراوى ونجد محمد السباعى الأديب العملاق الذى أخرج يوسف السباعى وهكذا ..
وهذا أيضا هو السبب الرئيسي الواقف خلف تفسير ظاهرة بيع مكتبات العباقرة من المفكرين والعلماء بمجرد وفاتهم .. والبائع هنا هم الأبناء لأنهم لم يتشربوا ما ورثوه أو يدركوا أهميته لانشغال آبائهم عن تعميق هذا بنفوسهم ..

فهؤلاء العباقرة ولدوا لأباء تفوقوا فى إدراك ملكات بنيهم التى ظهرت بواكيرها فاشتعلت قدراتهم لأجل رعايتها .. ولا يوجد تضاد فى الواقع بين إدراك الأب لصحيح دوره وبين طموحه الشخصي ومشاغله المختلفة .. فالأمر يرجع فى البداية إلى حسن التدبير بين الأب والأم وإدراكهما لطبيعة رسالة الأبوة والأمومة باعتبارها الواجب الأقوى لأى انسان ..

لا سيما وأن دور الأب يبدأ خلال مرحلتين عمريتين للأبناء من سن السابعة حتى الرابعة عشرة وهى السن التى تؤسس لمستقبل الطفل فيما بعد وهو الأمر الذى لا يدركه الآباء المهاجرون مثلا للسعى خلف الرزق ـ وليس فى ذلك عيب إلا التوقيت ـ ولكن التفكير الأمثل هنا يدفعنا لسؤال بسيط عن الهدف الرئيسي لغربة الآباء عن الأبناء فى سن احتياجهم والمبرر هنا معروف أن يكفل لهم حسن المعيشة فى ظل الظروف الاجتماعية القاسية أو يحقق لهم مزيدا من الرفاهية فى ظل عالم ثري بمغرياته ..

هذا هو ما نجده من مبررات مباشرة لمسألة السفر للعمل بدول أخرى .. والذى غالبا ما يكون متزامنا مع سن التربية للأبناء .. ولكن لو توافرت النظرة الأكثر عمقا للأمور سنجد أن تلك المبررات تقف فى صف عدم الاغتراب عن الأبناء فى تلك السن .. هذا لو كان الهدف الفعلى للسفر هو ضمان حسن التربية لأن غياب الأب لضمان توافر الجانب المادى يهدم بكل تأكيد البناء المعنوى والذى لا يقل خطورة إن لم يزد عن الجانب المادى ..

لا سيما وأن الحياة فى ظل ظروف اقتصادية صعبة مع وجود الأب إلى جوار أبنائه فى سن الإعداد لا يؤثر تقريبا على شخصياتهم سلبا وهو ما رأيناه فى معظم الفلتات العبقرية الذين خرجوا فى حضن الشقاء المادى والثراء المعنوى .. بينما توافر المادة للأبناء فى ظل غياب الآباء يجزم بنقصان البناء حتميا لدى الأبناء الذين يشبون عن الطوق وهم يتعاملون مع الأب ـ رغما عنهم ـ باعتباره مصدرا لرغد العيش ..


مصدرا غائبا حتى لو تواجد بينهم بين فترة وأخرى .. لأنهم اعتادوا على هذا الغياب وألفوه وهو ما يسبب فيما بعد انزعاجا شديدا فى محيط الأسرة حال وجوده المفاجئ بعد طول غيبة ..
وعليه ليس من حق الأب المغترب هنا الاعتراض على ما يجده من نكران أو عدم ألفة من الأبناء فضلا على ما سيلقاه من رفض كبير لأى ممارسة لدور فاعل فى التربية والتأديب .. هذا الدور الذى تنازل الأب عنه طواعية
أما بالنسبة للأم .. فغيابها قد لا يكون متصورا فى العادة .. إلا أنه فى ظل ظروف العصر الحالى نستطيع الجزم بحدوثه .. وغياب الأم يختلف عن غياب الأب فى عنصرين ..


أولهما ..

كون هذا الغياب كمشكلة سهل الحل نظرا لأن الأب أكثر عرضة لهذا الغياب سواء كان مستمرا كالغربة أو متقطعا كفترات العمل الطويلة أو المبالغ فيها


وثانيهما ..

أن هذا الغياب أشد وأكثر خطورة من غياب الأب ألف مرة .. لأن غياب الأخير يسبب فقدان البناء السليم لشخصية الطفل وهو أمر من الممكن تدارك بعض جوانبه المفقوده بمزيد من الجهد .. أما غياب الأم خاصة فى مرحلة السبع سنوات الأولى فهو كفيل بنسف شخصية وبناء الطفل نسفا لا يفيد معه العلاج .. وهذا لطبيعة دور الأم التى تمثل الحضن الدافئ للطفل منذ مولده وحتى سن الادراك والفضول .. ولذا ففترة السبع سنوات الأولى هى فترة الأم بمعنى الكلمة يلتصق فيها الطفل بأمه باعتبار حضنها البديل الطبيعى للرحم الذى تعود على احتوائه بغير منغصات ويزداد التعلق الفطرى بالأم مع اكتشاف الطفل لعالم آخر خرج إليه ويبدو له مزعجا وغريبا وغير مأمون

وفى تلك الفترة تتكون عاطفة الحب الغريزى بين الطفل وأمه وهى أيضا فترة التلقين الأولى التى يعتمد عليها بروز قدرات الطفل فيما بعد على الكلام والتعبير والمشي وهو ما كشفته الدراسات العلمية لتلك الفترة .. فما تمارسه الأم مع طفلها ويبدو عملا فطريا بسيطا لا فائدة منه كالتدليل والحديث الدائم إليه وتحريكه بالدعابات المألوفة هو ما يعجل بنمو الطفل وتفوقه بشرط الالتصاق التام بين الطفل وأمه فى تلك الفترة ..

وتأتى كارثة الغياب مع لجوء الأم لترك طفلها لأسباب ومبررات مختلفة منها الخروج للعمل أو الانشغال بأمور خاصة فتقوم بأحد ثلاثة أشياء إما أن تترك الطفل لمربية وإما أن تتركه لأخرى فى محيط الأسرة أو تودعه إحدى دور رياض الأطفال المنتشرة فى فترة الانشغال ..
والثلاثة عناصر كارثتها واحدة وتتمثل فى تدمير وتشويه العلاقة الطبيعية بين الطفل والأم وهو ما يفسد الغريزة الطبيعية ويكون له أبلغ الأثر السيئ فى نفسية الطفل الذى ينجذب إلى أم أخرى وعالم آخر لن يعطيه العاطفة اللازمة لإشباعه فيفقد أولى معانى الانتماء فى أعماقه والتى تتطور فيما بعد مع مراحل عمره لتصل إلى فقدان الانتماء بالنسبة للعقيدة والوطن ومن قبلهما الأسرة والمجتمع القريب

وهذا الاختراع المسمى دور الحضانة هو أخطر أسلوب اجتماعى فى تاريخ البشرية وهذا لا يحتاج توضيحا أو تبريرا لأن من يقوم بالرعاية فى تلك الدور يقوم بدور وظيفي بحت مهما كانت براعته لن يساوى مقدار خردلة فى الرعاية الفطرية المتوافرة تلقائيا فى حنايا عاطفة كل أم ..
وقبل أن نترك تلك النقطة الخاصة بخطورة غياب الأبوين .. لا يفوتنا التنويه عن إشكالية بسيطة لا تلفت النظر لكنها تمثل ركنا أساسيا فى التربية ألا وهى تجمع العائلة على مائدة طعام واحدة مرة فى اليوم على أقل تقدير ..

فتلك العادة المفقودة ـ بالذات فى المدن ـ كفيلة بتحقيق غياب الأبوين حتى مع وجودهما الفعلى مع الأبناء فى محيط المنزل .. لأن انفراد كل عضو فى الأسرة سواء من الأبناء أو من أولياء أمورهم بأموره الخاصة فى المأكل والنوم يحيل المنزل من بيت أسري إلى فندق لا تجمع بين ساكنيه علاقة إلا اللقاء العابر ذهابا وإيابا ..

فاللقاء الدورى على مائدة الطعام يكفل حرارة العاطفة بين أفراد الأسرة وعدم ذوبانها ويكفل للأسرة التماسك الحقيقي بالسؤال عن غياب كل فرد بدلا من أن يصبح الغياب أمرا طبيعيا لا يستدعى تساؤلا من أحد

إضافة إلى أن مائدة الطعام تمثل ما يشبه الاجتماع الدائم الانعقاد بين رب الأسرة وأسرته على نحو يكفل له متابعة كل صغيرة وكبيرة ومراقبة كل تغير يطرأ على أحد الأبناء نتيجة لاعتياده الدائم على لقائهم مما ييسر له كشف أى تغيير وذلك من خلال الكلمات المتبادلة على المائدة أو حول طبق الفاكهة وما يتبع ذلك من مسامرات هى الطريق الأمثل لدفع عروق الالتزام والانتماء بين أفراد الأسرة ..


وفى النصف الأول من القرن العشرين كانت الاسرة بالمفهوم الأوسع " الجد والأبناء والأحفاد والزوجات " تجتمع كلها على مائدة الطعام فى تلاصق حميم كان من نتائجه الطبيعية توثيق الروابط الأسرية التى تفككت فيما بعد عقب تفكك مفهوم الأسرة لينحصر على الأب والزوجة والأبناء وفى خلال هذا العهد نبتت لأول مرة الخلافات العصبية بين أبناء العمومة كنتيجة طبيعية لانحسار مفهوم القرابة أو الالتصاق .. ثم جاء العصر الحالى حاملا رياح استقلال كل فرد بحاله لنشهد اعتداء الأبناء على الآباء أو على بعضهم البعض وهو الأمر الذى أصبح طبيعيا لكثرة حدوثه واعتياد الناس عليه ..


والتماسك المتواتر الذى كان متوافرا بين الأبناء والآباء وباقي أفراد العائلة ثم بقية أهل البلدة أو القرية .. كان هذا التماسك هو الخالق لدور المجتمع ككل فى تربية النشئ .. وهو ما ضاع تماما فى عصرنا الحالى فلم يعد المجتمع يمثل دورا أو رهبة أو رقابة أو حماية كما كان معهودا منذ نصف قرن فقط من الزمان .

ولنتابع سويًا ..
.