عرض مشاركة واحدة
قديم 05-29-2012, 09:42 PM
المشاركة 9
سلمى الغانمي
~~ الشــذى ~~
  • غير موجود
افتراضي


سحر الرمال






السحابة الباردة التي كانت تمطر في ذلك الريف رحلت , مطرها الأخير وأنا بعيدة كان صامتاً , وسكراتها الهادئة لم تعلن أكثر من ذلك , ما إن وصلت حتى امتصتها التربة , لأجد جسداً بارداً بلا روح أقبُّله في شيء كبير لا يوصف , شيء أكبر من أنني أبكي أو أتنفس , شيء تلعثم لديه لساني حتى عن قول الوداع أو .. أو أن أقبّلها بحرارة
العجيب في الأمر أنني عندما غادرت عائدة لمدينتي , كان الرمل المُمتد على طول الطريق يمتص مني بعض الحزن , وكأنه يقول لي وأنا أسمِّر نظراتي به وهرباً إليه : أنا الرحيل , كأنه يقول لي: الجسد الذي تبكيه مضموم لدي وروحه لازالت تحبك , لكنها سلمت أمرها وصعدت , كما عاشت في غربة وماتت في غربة وهي في مسقطها , كان يحسسني بشيء يخفض الحزن قليلاً ويمنحني بعضاً من الاطمئنان ,
ما كُنت أدري أنَّ للرمال سحراً , لكنني عندما التفت إليه , قصر التنهيدات ووسع مساحة ما بالجوف , كان ينسيني لحظات أستحضرها حين فوات الأوان , أبوح بها للجدار الذي نحت كل الملامح , وتعانق نظراتي الزوايا , تجتمع في داخلي أشياء كثيرة , أنا لا أتقن وصفها , لكنها كانت تمارس ضغطاً قاسياً , كانت الطاولة حينها تتكلم، والسرير يتكلم والباب , الصوت الخافت المبحوح الذي يودعني شيئاً فشيئاً كان ولم أحسَّ به ارتفع صوته , كان أكثر وضوحاً من كل مرة , كان يشكل الصورة المتعبة وهي في ضحكة تلاشت في الأيام الأخيرة لكنها كانت على ذات السرير فلا يكون بوسعي إلا الحُزن .
تنتقل نظرتي لسرير مجاور , تتوسدها ذكرى أخرى , عندما كُنت أحضر لديه وأوقظ صاحبته النائمة تمطر فرحاً , فأرى ما سمعت عن دموع الفرح , كان أصدق تعبيراً من صوتها المُتعب الذي لا أستطيع سماعه , من صوتها الذي أعطته للفقد الكبير حتى تآكل في غربة أحباب , من صوتها الذي لم يبُح بحاجته للحنان عندما رأى أن صوت الرياح أعلى منه , عندما تكبد من أسماء عشق مناداتها السفر الطويل والمجيء القصير الذي لا تكفي ساعاته المعدودة ليتمرن الصوت , وعندما يبدأ النطق يجد الحقائب قد حُزمت ..
في الرمال حنان , وفي تشكل خيوطه وارتفاعها وانخفاضها وامتداده , يجدد الذكرى بلطف وهو قريب من السماء الصافية في بُعد النظر , يعمق رائحة الراحلين , فأتذكر شال رأسها وتجاعيد وجهها وقميصها الخفيف وجلستها العجوز دون أن تسمع حواسي الحشرجة ..
فإذا أردت تخفيف وطأة الفراق صاحب السفر في طرق أرصفتها الرمال طولاً وعرضاً , فالرمل الذي جلب الخوف مرات , كان بالأمس لي كعشب يسر الناظرين لكن بلون التراب , فلقد نفضت ما بي وودعتها قبل دخول تعتيم المساء .

30-9-2011


نحن من نجعل الأشياء الجميلة تموت , نحن من نأتي للصباح نجرّ خيوط منسلة من الليل لنخنق بها عصافير, ونحن من نقف على نهر ونتحدث عن الملوحة.

twitter : salma alghanmi