عرض مشاركة واحدة
قديم 01-15-2013, 04:01 PM
المشاركة 265
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
زمن الرواية الصعب .. شبكة السرد المعقد

"
بيدرو بارامو " (*) للكاتب المكسيكي خوان رولفو

زيد الشهيد

من طواف الباصرة النقدية / القرائية ؛ خلل ماتبثّه دور النشر المتوزعة أصقاعاً متناثرة تتجلّى المقدرة على الفرز وجس ما هو رسيخ وآيل إلى التموضع في منعطفات الذاكرة – تلك المقدرة الحسيّة المكينة على خرق حُجب الخطاب وتأجيج دواخل قطبي الانتاج ( المبدع / المتلقي) من حيث أنَّ الرواية تحفر باصابع ذاكرتها متوناً لتاريخ وتفاصيل لمتابعين ادهشهم الكلم الابداعي ، وصار القارىء المتابع الدَّهِش يتطلّع بعين الرغبة ، ويتلمَّس بأنامل المكتشفين رُقم التأجج الابداعي والإحتراق اللحظوي / الدائمي العذب . وظنّي أنَّ مطالعة التجارب الروائية التي عُمتُ في خضيب غمارها هي ما رستني عند مرفأ هذا الاستنتاج .
تسوقني هذه الرؤية وأنا أتنقل شغيفاً من مرفأ نثري ارهاصي لمرفأ آخر قادم أو ماضٍ تحتشد ماوراء سوره بوادرُ وبواكيرُ نهوضٍ رؤيوي يؤرِّخ هموماً انسانية تقدّم جزئياتها مشهداً بانورامياً مؤثثةً له هدفاً ، وحافرةً تاريخاً على صفحات المسار الصاعد لتخوماللاانتهاء الانساني .
"
بيدرو بارامو " : هذا المُنتَج الروائي الذي أشعل ضوءً وهّاجاً في عتمةِ وهدة الأدب المكسيكي ، وسلَّط الانظار على حياة مُهملة لشريحة اجتماعية منسيَة .
"
خوان رولفو " : الكاتب المغمور ، القابع خلف منضدة دائرة ( مكاتب شؤون الهجرة ) المكسيكية يرمي على قارعة ذوق وتذوّق الانسانية هذا الاصبع من الديناميت الابداعي الذي نظر إليه المتابعون للحركة الادبية ببرودٍ أول الأمر، ما لبث أن فجّر في دواخلهم فضول التتبّع والملاحقة والسبر غور ؛ ثم الخروج باعتبارٍ يُقر أنَّ " بيدرو بارامو" اشتغالٌ روائي يُعَد من أهم روايات أدب امريكا اللاتينية حتى اليوم ( صدرت الرواية عام 1955 ) .
تتوخى " بيدرو بارامو " كخطاب روائي تنشيط الذاكرةِ السرديةِ عبر تهشيم البُنى التقليدية : بداية / وسط / نهايةوخلق توتر يستدعي التتبّع الحذِر والمعالجة الآنية تمتزج فيها ذاتُ القارىء وتُستَفزُّ مجسّاتُ فضوله والنزوع ، وصولاً لجمع الشَّتات وادراك اكتمالية الوحدة الموضوعية حيث التهشيم الماثل في الخطاب المقروء يجسّد قصدية صانع الخطاب في اظهار تشرذم الواقع المعاش لا واقع الشخوص الروائية فحسب ... انها قصدية كشف كاملِ العفن الآيل إلى الرفض والعُري المستور بشدة العسَف والتجنّي وقسوة الاضطهاد .
إنَّ التفكيك السردي والصوري الغريب وغير المألوف للعمل آنذاك( زمن كتابة الرواية ونشرها ) والبنائية الاسلوبية الصادمة عبر البرازخ الزمنية التي تنقلنا من حدثٍ لآخر ومن صوتٍ لأصوات خروجاً من عالم الاحياء ، ولوجاً إلى عالم الأموات وبالعكس هو ما أعطى سحراً مدهشاً وأضفى نوعاً من التحفّز والتحرك والدخول في عوالم زمكانية وسلوكيات شخوص ثم حواراتهم الموشاة بالغرابة والغيمية وبالتصدق تارة وعدم التصديق تارات .
والحساسيّة المكثفة / الضاجّة لدى الروائي منحته دفعاً قدرةَ عرضٍ سردي لحقبةٍ من تاريخٍ شكّلت تخلخلاً جاء بمثابة ارهاص لحركة تمرّد أو ثورة تحمل بذرةَ وأدِها . ثورةٌ لا يرقى مستوى وعي رجالاتها لاستشراف نجاحِها الناجز . وحقَّ للروائي أن يذكرها لأنَّ نتاجَ وطأتِها كان مأساوياً على البناء التركيبي القادم لحياته . فمن رَحِم مقاطعة ( خاليسكو ) المكسيكية ومنعطفاتها المعبّاة بالحرارة الفائرة قُدِّر لخوان رولفو – في ساعاته الأولى - أن يسمع تأوهات الصدور لجموعِ الفلاحين القاطنين قرى متناثرة وهم يرزحون تحت وطأة احتلال اسباني متعجرف عملَ على ابادة السكان الأصليين ، وأحلَّ مكانهم آخرين نظروا لأنفسهم على أنهم أسياد المكان . واستلَّ رولفو شخصية " بيدرو بارامو " نموذجاً في عمله الروائي هذا من هاتيك الشريحة المتجبّرة . ولا بدَّ لوضعٍ كذي أنْ يشهد عدم الاستقرار . ولا بدَّ للانسان المظلوم أن يصرخ يوماً بوجه مضطهديه مهما طال زمنُ العسف وشسعِت مقدرة التحمّل ( وهذا ما شهده رولفو في طفولته ، يوم تمرّد الفلاحون عندما أجبروا على ايقاف شعائرهم الدينية عام 1926 . وقد ولدت حساسية مكثَّفة ضاجّة لديه منحته قدرة عرض سردي سنراه يُنتج قصصاً تتحدّث عن كل هذا ؛ يصاحبه وفاء وحنين لماضيه أرضاً وبشراً رغم قسوة الماضي وتراجيديته ) . وبسبب ذلك فقدَ رولفو والده وجدّه ثم لحقتهما الأم ، ما دفعته إلى العزلة ودخول ملجأ الايتام حتى عمر الخامسة عشرة عندما قرر السفر إلى العاصمة لاكمال دراسته الجامعية التي لم يقدر على بلوغها فصارت العاصمة سكنه الدائم بينما تراكمت صور وأحداث أيامه السالفة في خانة متأججة من الذاكرة . ومن هذا التعقيد المُربك لحياة الكاتب ولدت روايته المُربكة ألتي لا تُفهم بسهولة ولا تمنح متعة قراءتها من أول مطالعة . إنها شبكة معقدةومتشظية من الصور والتراكيب والأصوات . ويشير مترجمها إلى أنّه واجه صعوبات جمّة في مضمار ترجمتهابعدما ظنَّ بادي الأمر أنها رواية يمكن أن ينال حظوة تقديمها بجهدٍ يسير " الحق أني وقعتُ في ما يشبه المصيدة ؛ إذ أنَّ المقاطع الأولى من الرواية أغرتني بترجمة الكتاب ، وكنتُ أتوقَّع أن تسير المقاطع الأخرى على المنوال نفسه من ذلك الاسلوب السهل الممتنع للمقاطع الأولى . إلا أني وجدتُ نفسي قد دخلتُ في رمال الرواية المتحركة التي كانت تشدني إلى الأسفل ، وتضعني أمام سلسلة لا تنتهي من المفردات والأسماء والمصطلحات . ". ومن يلج استهلال الرواية ويدخل في غمارسيرها يعذر المترجم ويمجِّد حذقه وجهده الاستثنائي في ترجمتها . فهي اشتغال صعب وعسير ما أن تدخل مع سردٍ وتوصيف لموقعٍ وحركة شخوص وحوار لمّا ترتسم ملامحهم وتلتم في الذاكرة حتى يصدمك سردٌ وشخوص وأماكن أخرىتهشّم لديك ما جمعت . وهي صفّة تدوينية كانت غير مألوفة زمن كتابتها واطّلاع قرائها . ولولا جهد المترجمومثابرته لكنّا نحن القراء العرب فقدنا متعة قراءة رواية هائلة كـ " بيدرو بارامو " إذ يشير في مقدمة كتابه المترجم أنّ " مشروع الترجمة كاد يقف عند هذا الحد لأني لم أكن مقتنعاً بما ترجمته ، ولأنَّ هناك ثغرات في النص المترجم لم استسغها ؛ إلا أنني استطعت الحصول على نسخة أخرى من الرواية نفسها صادرة عن دار نشر اسبانية فكَّت رموز هذه الرواية وجاءت حافلة بالملاحظات والشروح وقدّمت تفصيلاً شاملاً لكل المفردات الغريبة والمحلية التي وردت في الرواية . وهنا وجدتُ نفسي أقوم بترجمة الكتاب مرّةً أخرى في ضوء المعلومات الجديدة . بل اضطررتُ إلى ترجمة مقدمة الكتاب الطويلة ليستطيع القارىء فك رموز الرواية " .
تبدو عنونة الرواية بهذا الاسم اشارة مقصودة من الكاتب حيث :
( 1 ) "
بيدرو بارامو " الاقطاعي المهيمن على ( كومالا ) . له أتباعه ورجالاته . وهنا يُقر الروائي قصدياً بسطوة القوى المُضطهِدة وتقهقر ذوي المطالب الحقّة .
( 2 )
بيدرو بارامو : العاشق غير السوي ؛ الذي أحبّ " سوزانا " نصف المعتوهة والتي قرّر بعد موتها أن يحيل ( كومالا ) القرية التي تحت سطوته خراباً أبدياً ، ومدفناً جماعياً لذاكرةِ ساكنيها الذين تبعثروا فتركوا القرية جغرافيةَ أشباح ، وصفيراً دائماً .