عرض مشاركة واحدة
قديم 01-15-2013, 04:03 PM
المشاركة 267
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
ان الخطاب الروائي الذي يتعالق وذهنية المتلقي ويتفاعل معه بدافع الوصول إلى مرحلة الإدراك هو الخطاب الذي يمتلك الجرأة في الطرح والإيهام في التأويل . والشخصية التي يُرسَم لها على أن تكون مؤثرة ينبغي وجودها فاعلة لها قدرة التغيير وتحويل المسار المألوف؛ و( كومالا ) التي كانت قرية خضراء يانعة استحالت بقدرة بيدرو إلى يباب يغمرهاالهجر ويدميها الفقد . فقد استحوذ بيدرو على كل المقدرات ؛ وكان مصير القرية بيده ، فهو الذي يتحكم بجهد الفلاحين ومستقبلهم ، وهو الذي يؤثِّر على القس الأب " رونتيريا " ويدفعه إلى قبول آراءهحتى وأن كان فيها تجديف ، حتى وإن كانت تتعارض وتعاليم المسيح؛ وهو الذي كانت استباحة نساء القرية تتم لديه بمقدرة لا تستدعي الجهد ، اعتماداً على وسائل الترغيب بالخديعة تارةوالترهيب بالتهديد تاراتينفذها " فولغور سيدانو " ذراعه اليمنى التي يستخدمه لتحقيق المآرب والوصول إلى المآل . فمرة حدث إن رغب بيدرو في مضاجعة " دولوريس " فتم له إقناعها عن طريق سيدانو بقبولها زوجةً له وتحقيق مراسيم عرس سريعة وبوقت لا يتعدى امتداد التهيئة له لا يزيد على اليومين . وأمام هذه الخديعة تسقط " دولوريس " بشباك الغواية :
_
اعذر خجلي يا دون فولغور . لم أكن أعتقد أن دون بيدرو معجب بي .
_
إنّه لا ينام من كثرة التفكير بكِ .
_
لكنه يستطيع أن يختار أي واحدة ، فالجميلات مثيرات في كومالا . ماذا سيقلنَ عندما يعرفنَ ؟
_
إنّه يفكر فيك حسب ، يا دولوريس . لن يفكر بعد الآن في غيرك ." ص103
وكانت دولوريس صاغرة .. وكان الجميع أمام بيدرو صاغرين ، منفذين .
ولم يتعلق الأمر بقسوة بيدرو بارامو وامتهانه للناس بل تعدّت هذه القسوة والامتهان إلى سلوكية ولده " ميغيل بارامو " فسامَ هذا الابن الناس سوء العذاب والقتل واعتدى على الشرف ؛ إذ قتل شقيق الأب " رينتيريا " واغتصب ابنة القتيل كواحدة من ممارسات الاستحواذ والتعبير عن الهيمنة . ويوم قُتل هو رفض الأب " رينتيريا " قراءة الصلاة عليه وطلب الغفران له . ولأن لبيدرو بارامو سطوةقوية فقد أجبر الأب القس على أداء الصلاة بعدما تبرع للكنيسة كدلالة على اعترافه بهابمال وفير في محاولة لإرضائه . ولكن هل أعلن القس رضاءه عن قاتل أخيه ومغتصب ابنة أخيه بالعفو : " جمع القس رينتيريا قطع النقود الواحدة بعد الأخرى واقترب من مذبح الكنيسة ، وقال : _ إنها لكَ فهو يستطيع أن يشتري الخلاص . أنت وحدك تعرف إذا كان هذا هو الثمن . أما أنا يا ربّي فسأجلس عند قدميك لألتمس منك كل ما هو عادل أو غير عادلٍ . وهو كل ما ينبغي أن نطلبه ... عاقبه من أجلي يا رب ." ص88
ولقد قسم النقاد الرواية إلى قسمين وجعلوها ذات مستويينحيث القسم الأول بضم حضور خوان بريثيادو إلى كومالا واستحالته شبحاً عبر الرعب ثم الموت في أجواء من الفنتازيا والخيالات والتنصل عن الواقع ، في حين جعلوا القسم الثاني قسم الواقع المعاش عودةً إلى الماضي ، وقت كانت كومالاتعيش التفاصيل اليومية تحت سطوة بيدرو وأمام أنظار الفقر والخطايا والثورات الفاشلة .. وفي هذا القسم نشهد أحداث الثورات الفاشلة . وفي هذا القسم أيضاً نتعرف على بيدرو مسيطراً وقد امتلك كل شيء مثلما نتعرف على " سوزانا " وقد غدت امرأة تعيش تحت طائلة مرضٍ يجعلها لا تعير وزنا لأيامها ولا تلتفت توجهاً إلى الرب ليسعفها ؛ وإذ ماتت كان موتها بغيبوبة لا تعرف من حولها ولم تطلب غفراناً كما نشهد موت بيدرو وهو يرى نعش " سوزانا " ينقل إلى المقبرة فتتفاعل التداعيات داخله :" نظر إلى ذلك الموكب
إنَّ خوان رولفو صنع لنا رواية خالية من الفرح ، ولا توجد ثمّة منبت للضياء . زرع في فضاء مخيلتنا عالم الأموات والأحياء أو الأحياء الأموات لا فرق ، ودعانا إلى اقتفاء خطى قرية هي ذاتها قبل الفناء وبعده . ففي الوجود الذي يجسد جغرافيتهايعرض تضاريس بؤس وشقاء واستحواذ وقتل ودماء واغتصاب وغواية وأشباح وأحلام موؤدة ، وأمانٍ منتهكة ، ووجوه فاقدة الملامح ، وصدور خاوية القلوب ، وذاكرات منخورة كالغرابيل .
إنّ قراءتنا لهكذا خطاب روائي هائل تظل محفورة على صوان الذاكرة . ودائماً تنهض لتكون تدويناً يساجل التدوينات اللاحقة بصيغة مقارنة أو بأسلوب استقراء . وإذا كان " غوستاف باشلار " اعتبرَ متعةَ القراءةِ انعكاساً لمتعة الكتابةفقد رافق الصواب . وما استمتاعنا كقرّاء مطالعين وقراء ناقدين إلاّ صدى لجمالية الرواية المبثوثة على نواصي الصفحات والمنثورة صوراً في فضاء المخيلة .
وتبقى " بيدرو بارامو " رواية عصيةً على الملل ، مناهضة للإشباع، مثيرة للَّذاذات الرغوية ، ساعية للتأجج والانشطار