عرض مشاركة واحدة
قديم 09-02-2010, 03:09 PM
المشاركة 8
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
سِيرَةُ الْمُتَنَبِّي


بقلم


سلمان هادي الطّعمة


كربلاء - الجمهورية العراقية

لا أحسب شاعرا عربيا كان يمكن أن يكون في هذا العصر أبعد صرخة وأكثر حماسة وأورى زندا من هذا الشاعر. وقد لا أعدو الصواب إذا قلت أن المتنبي أغزر الشعراء فضلا وأوسعهم شهرة وأعلاهم منزلة، فقد رفع شأن الشعر العربي وأحله مرتبة لم تكن له من قبل، وحمل الراية عاليا، وفتح للشعراء طرائق الخلد، وسن لهم سنن المجد. وبذلك تبوأ مكانة رفيعة ومنزلة سامية، مما دفعنا إلى الإعجاب بعبقريته والافتتان بشعره.


عاد المتنبي إلى الكوفة ، ورجح بعض الباحثين أن ذلك كان سنة 315هـ، واستقر في الكوفة ، ولا نعلم على وجه التحقيق كيف قضى المتنبي حياته في الكوفة بعد عودته إليها، وكل الذي نعلمه أنه اتصل بشخص يعرف أبو الفضل الكوفي، وأبو الفضل هذا رجل قد ثقف الفلسفة. يقول صاحب الخزانة: إن أبا الطيب وقع في صغره إلى واحد يكنى أبا الفضل بالكوفة من المتفلسفة فهوسه وأضله كما ضل . ولا ندري إذا كان أبو الطيب قد درس عليه الفلسفة حقا! وكل الذي نعلمه أن صاحب الوساطة يذكر لنا شعره الذي تأثر فيه بالفلسفة اليونانية، فهل كان ذلك لأنه درس الفلسفة، أو كان من أثر هذه الآراء العامة التي كانت شائعة بين المثقفين في ذلك العصر‍! ونحن أميل إلى الاعتقاد الثاني، فدراسة الفلسفة لا بد أن تكون قد تركت لها آثارا على شعره. وقد مدح أبو الطيب أبا الفضل بقصيدة غريبة فيها أبيات تلفت النظر أنها في الحقيقة تحوي آراء هي التي حملت بعض الباحثين على القول باعتناق المتنبي لمذهب القرامطة. ولكن ناشر ديوان المتنبي يقول عنها إن المتنبي إنما قالها ليمتحن عقب أبي الفضل، وكلا التفسيرين يجانبان الواقع، فنحن نعتقد أن المتنبي إنما ذكر هذه الصفات وهذه الآراء ليفخم بممدوحه، وأن المتنبي لم ير بأسا في مدح من يعتنق هذه المبادئ فيقول مثلا:

يا أيها الملك المصفى جوهرًا من ذات ذي الملكوت أسمى من سما نور تظافرفيك لاهوتيّه فتكاد تعلم علم ما لم يعلما
ويهم فيك إذا نطقت فصاحة من كل عضو منك أن يتكلما
أنا مبصر وأظن أني نائم من كان يحلم بالإله فأحلما
كبر العيان عليَّ حتى أنه صار اليقين من العيان توهما _


ولكن هذا الكلام، وإن كان صريحا في ذكر الحلول، فلا يدل على أن المتنبي كان قرمطيا، وربما كانت هذه عقيدة ممدوحه أبي الفضل فذكرها تقربا إليه، وهو على كل حال، يدل على عدم اهتمام المتنبي بالتمسك بروح الدين. وبعد رجوعه من البادية إلي الكوفة ، لم يطل مكثه بها، فتركها إلى بغداد ، ولم يبق في بغداد طويلا، فخرج عنها إلى الشام. يقول طه حسين: إن المتنبي إنما ترك الكوفة بسبب عقيدته القرمطية خشية على نفسه من يؤاخذ، وأنه خرج إلى الشام بسبب هذه العقيدة ليتصل بالدعاة هناك ويعمل على نشر الفكرة


وكان محبًا للعلم والعلماء ذا قوةٍ حافظة فقد رأى يومًا رجلاً يعرض كتابًا بستين صفحة فأخذه منه ونظر فيه طويلاً وأعاده لصاحبه وأقبل يتلوه حتى آخره. وإنما لُقّب بالمتنبي لأنه ادَّعى النبوَّة في بادية السماوة وهي أرضٌ بحيال الكوفة مما يلي الشام. وهذا بعض كلامه الذي كان يزعم أنه قرآن أُنزل عليه:
"والنجم السيَّار والفلك الدوَّار والليل والنهار إنَّ الكافر لفي أخطار. امضِ عَلَى سننَك واقف أَثرَ مَن كان قبلك من المرسلين فإن الله قامعٌ بكَ زيغَ مَن ألحدَ في الدين وضلَّ عن السبيل".
ولما فشا أمره خرج إليه لؤلؤ أمير حمص نائب الإخشيد فاعتقله وجعل في رجله وعنقه قرمتين من خشب الصفصاف. فكتب إليه المتنبي من السجن يستعطفه بالقصيدة التي مطلعها:

أيا خدَّدالله وردَ الخدود وقدَّ قدودالحسان القدود


فعفى عنه وأطلقه. ولم يزل بعد خروجه من الاعتقال في خمول وضعف حال حتى اتصل بأبي العشائر الحسنبن الحسين بن حمدان العدوي وكان بأنطاكية فمدحه بعدَّة قصائد. ولما قدم الأمير سيف الدولة أبو الحسن عليَّ بن عبد اللهبن حمدان العدَوي إلى أنطاكية قدَّم أبو العشائر المتنبي إليه وأثنى عنده عليه وعرَّفه منزلته من الشعر والآداب.



من ...مجلة العصبة