عرض مشاركة واحدة
قديم 09-03-2010, 07:59 PM
المشاركة 85
أمل محمد
مشرفة سابقة من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
والحكيم العليم ـ سبحانه وتعالى ـ يسن تشريعًا للأبناء يكشف العلم بالمخلوقات يراعي فيه حالة الضعف البدني والعقلي عند الآباء عند بلوغهم الكِبَر، قال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوآ إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرً ) الإسراء 23و24، ولك أن تلحظ في التعبير غاية العناية والرأفة والرحمة بكبار السن حتى إن القرآن قد قَرَنَ الإحسان بالوالدين عند الكِبَر بوحدانية الله وهي قضيته الكبرى.

قال المفسرون: ( الأرذل من كل شيء الرديء منه)( 29) ( ولا يرجى له بعده عود من النقصان إلى الزيادة ومن الجهل إلى العلم كما يرجى مصير الصبي من الضعف إلى القوة ومن الجهل إلى العلم)( 30) ( وإيثار ( فعل) الرد ( نَرُدُّهُ) على الوصول والبلوغ ونحوهما للإيذان بأن بلوغه والوصول إليه رجوع في الحقيقة إلى الضعف بعد القوة، ( لِكَيْلا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا).. من المعلومات)( 31) أي: ( لينسى ما يعلم، أو: لئلا يعلم زيادة علم على علمه)( 32) ( وهذه عبارة عن قلة علمه لا أنه لا يعلم شيئًا البتة)( 33) ( فالمراد المبالغة، وفائدة ذلك الإيذان بأن بلوغ الأشد أفضل الأحوال)( 34)

وفي قوله تعالى ـ حكاية عن امرأة إبراهيم ـ عليه السلام: (قَالَتْ يَاوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِى شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَىْءٌ عَجِيب ) هود 72، أضاف القرآن إلى عجزها عن الإنجاب سببًا آخر لاستعجابها بقولها: ( وَهَذَا بَعْلِى شَيْخًا) ، و( البعولة) من الذكورة والفحولة ولا يوصف بها سوى الذكر( 35) فكأنه أخبر ضِمْنًا عن تحول نشاطه إلى الضعف عندما أصبح شيخًا، وأما لفظ ( عجوز) المشتق من ( العجز) فقد قصره على وصف الأنثى المقطوع بعجزها عن الإنجاب بتجاوزها سن الحيض كما قال تعالى( إلا عَجُوزًا فِى الْغَابِرِين) الشعراء 171، والصافات 135، ولذا رافق اللفظ ( عجوز) الوصف ( عقيم) لانقطاع الأمل في الإنجاب بانقطاع الحيض في قوله: (فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيم ) الذاريات 29، والشيخ غير مقطوع الأمل ووصفه هنا يتعلق ببيان ضعف النشاط لا زوال الخصوبة، والعجيب أن القرآن لم يصف الذكر أبدًا باللفظ ( عجوز) بينما لغة التخاطب منذ التنزيل إلى اليوم تجيز لك القول: ( هذا رجل عجوز)، فانظر إلى أي مدى قد بلغت في القرآن الدقة في التعبير.

ويمكن في وقتنا الحالي تقديم الأدلة على أن الشيخوخة مقدرة Predetermined وفق برنامج يعكس العلم والحكمة في الخلق، ومن تلك الأدلة اكتشاف حد لعدد انقسامات الخلية ( حد هايفليك Hayflick's limit)، وتؤيد الأبحاث العلمية الحديثة أن الشيخوخة ليست إلا وجهًا من الموت المبرمج للجسم، وأما اكتشاف الموت المبرمج للأعضاء الخلوية الدقيقة والموت المبرمج للميتوكوندريا فقد أضافا مزيدًا من الأدلة على أن الأحداث الحيوية مقدرة لتسلك سلوكًا حكيمًا لا عن مصادفة، حيث تذوي الأعضاء الخلوية الدقيقة أو الميتوكوندريا عندما تصبح ضارة أو غير ذات فائدة، ومثله اكتشاف ظاهرة الموت المبرمج للخلية؛ فبعض الخلايا تسلك مسلكًا اجتماعيٌّا عجيبًا للدفاع عن الجسم عندما يغزوها فيروس فتستدعي عمليات مقدرة موجودة آلياتها بداخلها ـ الأليق أن نسميها تضحية وإيثار لا انتحار ـ تجعلها تموت ومعها الفيروس مدفون في أحضانها، وقد تبين أن ذلك الأسلوب المقدر الفريد يتبعه الجسم للتخلص من الخلايا أو حتى الأنسجة التي أصبحت ضارّة به أو على الأقل غير ذات فائدة، وبالمثل أمكن لأبي ذنيبة التخلص من ذيله ليصبح ضفدعًا خفيف الحركة قادرًا على القفز، وأمكن للشجر أن يسقط أوراقه مبكرًا في الخريف لأنها ستكون غير ذات فائدة في الشتاء ويوفر ما ستستهلكه من الغذاء، فهل يمكن أن ينسب ذلك السلوك الواعي إلى الخلايا، أم إلى الكائنات نفسها، أم إلى المصادفة، أم هو أحد مظاهر التقدير المبثوث على كافة المستويات من حكيم عليم بكل المخلوقات؟، إن المصادفة لا يمكن أن تقيم نظامًا ثابتًا ذا أحداث تتكرر بانتظام، ولا سبيل سوى الإقرار بحكمة الله وعنايته المتجليتين في كل حين ومكان في أنفسنا وما حولنا، وأما وحدة أصول الموجودات واختصاص كل نوع بتقدير موحد رغم التمايز فشاهد عيان على قدرة الله ووحدانيته.

إن أول من تنبه لظاهرة الشيخوخة كعلم مستقل هو الطبيب الفرنسي شاركوت Charcot عام 1881م، ولم يتبعه أغلب الباحثين إلا في القرن العشرين، ولذا نعجب أن يولي القرآن الكريم موضوع الشيخوخة عنايته قبل ذلك بأكثر من عشرة قرون، ولا تجد لهذا نظيرًا في أي كتاب آخر ينسب اليوم للوحي غير القرآن الكريم، وإن إدراك خفايا الشيخوخة في عصرنا حيث توفرت التقنيات إنما هو شهادة للقرآن
(أَنَّهُ الْحَقُّ)؛ يقول العلي القدير: (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ * لِكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُون) الأنعام 66و67.

الهوامش


( 1) لسان العرب ج6 ص243.

( 2) فتح القدير للشوكاني ج3ص414.

( 3) روح المعاني ج23ص46.

( 4) لسان العرب ج6ص242.

( 5) أبي السعود ج7ص177.

( 6) البغوي ج4ص18.

( 7) ابن كثير ج2ص 577.

( 8) الروح ج1ص151.

( 9) دقائق التفسير 1 325.

( 10) العين ج8 ص83.

( 11) ابن كثير ج3 ص112.

( 12) ابن كثير ج3 ص440.

( 13) روح المعاني ج23ص46.

( 14) أحكام القرآن ج5 ص219.

( 15) ابن كثير ج3 ص440.

( 16) القرطبي ج14 ص46.

( 17) زاد المسير ج5 ص207.

( 18) النسفي ج3 ص30.

( 19) أبي السعود ج5 ص253.

( 20) البيضاوي ج4 ص4.

( 21) ابن كثير ج3 ص112.

( 22) روح المعاني ج20ص51.

( 23) لسان العرب ج3ص236،

( 24) روح المعاني ج20ص51.

( 25) الدر المنثور ج6ص397.

( 26) الثعالبي ج4ص79.

( 27) الطبري ج24ص82.

( 28) البغوي ج4ص104.

( 29) لسان العرب ج11 ص281.

( 30) أحكام القرآن ج5 ص250.

( 31) أبي السعود ج5ص127.

( 32) النسفي ج2ص263.

( 33) الثعالبي ج2ص317.

( 34) روح المعاني ج17ص118.

( 35) ابن عاشور ج2ص393.

المراجع العلمية:


Encyclopedia Britannica, 2001.

Encarta, 2001.

Scientific American presents

June, 2000.

Compton's Encyclopedia, 1998.



//

انتهى ..

د. محمد دودح
الباحث بهيئة الإعجاز العلمي