عرض مشاركة واحدة
قديم 06-16-2014, 12:12 AM
المشاركة 15
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
عادت صالحة من البرصة وروحها مكسورة ، ياله من عالم صاخب ، أحست أنها تعرضت لابتزاز كبير ، دفعت من خالص مالها دفعة سوداء لوكيلها إنها كل ما تملك ، رغم ذلك حرر عقدا بنسبة مرتفعة جدا لم يترك لها مجالا للتفاوض ، إنه ضغط عامل الزمن ، بدأ إحساسها يمل من هذه اللعبة الخطيرة ، أموال بائع الكزبرة في يد مقامر ، و مقاولتها الفتية تبخر مخزونها ، إنها عودة إلى الصفر ، يرهبها الحضيض، لم تستطع انتظار ما ستسفر عنه بداية التداول ، حركة الأسهم لا تزال عادية ، لكن وكيلها يؤكد أن حربا ضروسا ستبدأ قريبا ، دماغها يغلي وهي تنتظر ، ماذا سيفعل هذا الوكيل ، فناصر لم يطرح بعد حصصه في السوق ، هل يراهن وكيلها على الأسهم المتداولة لتغطية نقص المبلغ الذي حظيت به من بائع الكزبرة . يشرح لها رغم محدودية وقته ، يشرح وهو يقدم التعليمات ، هاتفاه لا يتوقفان عن الرنين ، و أصابعه تنتقلان عبر لوح حاسوبه بسرعة جنونيية ، إنه في قمة الجنون ، كيف سيكون عند بداية التداول ، ربما يمزق ملابسة و يسير ويجيء عبر الأروقة ، سينتف شعره و ينطلق سانه بالسب والشتم ، سيقفز ملوحا بقبضة النصر حينا و ينحني حينا آخر ، أية أعصاب يملك هؤلاء . تبحث لنفسها عن مكان آمن تحسست محفظتها ، فتحتها بضعة أوراق لا تزال هنا ، أما بطائقها فما عادت صالحة للاستعمال . تطوف عبر لطرقات في المدينة ، لم تقف على مكان ترمي فيه أحزانها ومخاوفها .
لطفي يتوجس شرا من هذا المقال الذي تم نشره ، يحس أنه ليس الوحيد الذي سيلعب هذه اللعبة ، يتساءل هل اهتدى ناصر إلى خطة تخلصه من بيع حصصه ؟ هل قام بصفقة مع من يحرره من قبضته ؟ أما هذا الضئيل الذي رفض التعامل معي في البرصة مع أنني كنت أمنحه أكبر النسب ، لماذا تدرع أنه مشغول ؟ هل مثله ينشغل عن كعكة كهذه ؟ بدأت الأمور تختلط في ذهنه عندما أعلمه وكيله أن الأسهم بدأت حركتها في ازدياد ببرصة باريز فقال له بصوت قوي : تصرف وإلا فقدنا حضورنا ؟
هناك في باريز كانت خطة سامية خلخلة حسابات هؤلاء المضاربين فنشرت ذاك المقال لقياس ردة الفعل ، كانت خطة غبية بعض الشيء ، وكلاء الشركة يعملون برأيها ولا يستشيرون ناصرا الذي ما عاد يفرق بين رأسه و رجليه ، بل أغلق على نفسه في المكتب طوال اليوم ، لكأنه ينتظر أن يتحرك العالم لنصرته ، إنها قلة حيلة النعامة ، دفن نفسه هناك والشركة بقرة تمتد نحوها الخناجر . هاتفته أخته في تلك اللحظة لم يجبها إلا بعد رنات عديدة ، سألته عن حال أمها و حال أبيها ، كان رده أنه لا يملك من الوقت ما يحك فيه جلده ، كانت تعرف كل حركاته وسكناته بفضل عيونها المنتشرة في كل الأرجاء ، كانت تراجع عرضها لنيل الشهادة التي أخذت من عمرها زهرته ، وحاسوبها المتطور تتغير جداوله مركزا على التجمعات المالية وتلاحظ تغير حركة الأسهم .
بائع الكزبرة يرى السوق مسودا ، حمل أعشابه إلى الجمعية الخيرية ، دخل الى بيته وزوجته تقصفه بنظرة استغراب و فتحت فمها أخيرا : " ما بك أرى وجهك شاحبا " رجع ببصره إلى الأرض قائلا : " أنا تعبان يا خديجة ، و رأسي سينفجر ، أسرع نحو البالوعة يقذف ما في بطنه من الآلام ، تقدمت نحوه تشد أزره ، تبا لهذا اليوم العسير، يقول بائع الكزبرة ، استوى على سريره البسيط و أخذت زوجته المحفظة لتفرغها فقال لها : " ما بها إلا بعض درهيمات عليك أن تستعيني بالصندوق " فردت :" يا للهول ، باكرا دفعت الفائض إلى البنك " هب من مرقده رغم تهالكه ، لكنه تمالك نفسه ، وقال لها:" سأجد حلا يا حبيبة العمر ." فواصلت بصوت بهي : " لا تشغل بالك حبيبي غدا سأسحب ما يكفي من البنك و ستذهب عند الطبيب ." فرد عليها بعنف : " لا أطباء ولا أبناك ، سأتدبر أمري الآن." وقف مرتعشا فسقط ، عاود النهوض فلم تقو ركبتاه على الصمود . فقال بصوت فيه ضعف دفين : بدأ الكبر ينال مني ياخديجة ، آه لهذا الزمن المر ." واسته زوجته : " لا تبتئس يا حبيبي ، ستستعيد عافيك و قوتك ، لدينا من المال مايكفي لألف عام ، وعقاراتنا تكفي أحفاد أحفادنا ..." فرد عليها بعد جهد جهيد : " لا أحب ذكر المال يا خديجة ، هلا بدلت هذا الموضوع ، لو كنا نستفيد من مالنا لما رضينا بهذه العيشة المذلة ، نحن دمرنا أنفسنا من أجل المال ، كلما انتفخت جيوبنا تضاءلت أجسادنا ، استسلمنا لحب المال واكتنازه ، وفقدنا لذة العيش ." لما رأت عصبيته ازدادت قامت حاملة الدراهم المعدودات و بها اشترت قرصا فوارا عند البقال و بعضا من دقيق و رجعت إليه ، أعدت له حساء الشعير وبعض تمر و أكرهته على شرب القرص الفوار ، رقد على سريره وهو يهذي . خديجة تعيش تقلبات زوجها على مدى الشهور الماضية ، أحست أن شيئا يشغل باله ، فعصبية مزاجه لم تعد خافية ، تظهر من فلتات لسانه و حركات يديه ، يخونه هدوؤه المعهود ، إنه كذاك العاشق المتيم الذي لا يستطيع البوح ، تتساءل إن كانت لحكاية العشيقين صلة بما يعانيه ، أم حرك عشقهما في نفسه نزوة ما ، فبدأ يبهر بالفتيات اللائي يجبن السوق طولا وعرضا في السوق كل يوم ، مرضه جعله يفصح أنه ليس راضيا على عيشه و حياته . هي أيضا أحيانا تحس بهذه النزوة و تتساءل حين ترى تلك النساء اللائي يتباهين بقلائدهن و فساتينهن الجميلة رغم تواضع مركزهن الاجتماعي ، هي المليونيرة لا ترداد الأسواق العصرية ولا البوتيكات ، و لم تقصد يوما صالة الحلاق و لا صالون التجميل . لم تحظ يوما بالمشي إلى جانب زوجها يدا في يد قصد التجوال و الفسحة ، لم تسجل ذاكرتها سفرا و لا رحلة إلى الشلالات والشواطئ ، في الحقيقة لم تستمتع في حياتها يوما بملذات كانت كلها في المتناول .
كانت تبتعد عن المدينة بمسافة بعيدة عندما رن هاتفها و وكيلها يخبرها أنها حققت فوزا يفوق الخيال في آخر نصف ساعة قبل إغلاق البرصة ، هنأها أنها الآن تستطيع أن تدخل صراع الأسهم التي ستطرح بهناء وصفاء ، تسأل وتكرر السؤال ، كم كان مقدار فوزها ، يجيبها أن الملايين أصبحت في جعبتها و باستطاعتها أن تقارع أعتى كبار المستثمرين . تريد أن تسأله عن المزيد لكنه مضطر لقطع الاتصال فهو سيدرس خيارات السوق و ينتظر بيان الشركات و يقرأ مؤشرات البرصات الغربية .
أوقفت سيارتها على جانب البحر ، ركضت وهي تقفز كطفلة تفوقت في لعبة ، وحين ذهب عنها التأثر رجعت إلى نفسها تسألها أسئلة صعبة :" ماذا تريدين يا صالحة ؟ " هل الحب أم الانتقام ، هل التحرر من المكائد والرجوع إلى السلمية أم مواصلة الحرب ، الحرب تستنزف الروح يا صالحة ! الحرب تقتل فينا الإنسان ، عودي إلى رشدك يا صالحة ، لكنها تعود من جديد ، ألم يكن بائع الكزبرة يسخر منها ، لو لم يكن يملك الملايين ما اعتبرها مجرد مخبولة بل لأحس بكفاحها المستميت ، ألا يستحق أن تجرده من ريشه ليحس بلوعة الحرمان ، حتى ناصر هذا ألا يعتبر مجرما ، ألم يجدها تنزف دموعا وروحها في ألم عميق فما كان منه إلا أن تجاهلها ، ألم يعتبر الملايين و منصب الفخامة أفضل منها ومن مسح دموعها الجارية ؟ كلا يا صالحة يجب عليك أن تكملي المشوار !
سامية عقدت يدها وكسرت حاسوبها و نزف الدم من يدها هطولا ، ما هكذا يكون التداول ، من هذا الذي يزحف للسيطرة على الشركة ، فقام بحركات غريبة لا تمت للاقتصاد بصلة ، هذه ليست فعال لطفي مهما بلغ به التهور لن يقدم على هذه المجازفات التي أفقدت التداول كل قوانينه ، هذا ضرب من إقتصاد الجنون كالذي حدث في أسواق أسيا المالية ذات شجع . ماذا يحدث لك يا أخي ناصر وأنت في غفلتك لا تريد حتى الرد على مكالماتي ، فكرت أن تقلع مع أول طائرة ، لكنها مصرة على نيل شهادتها ، غدا فقط ألا تصبرون يوما واحدا ، والله لأبيعن السماء والأرض و أدك كل الذين زعزعوا استقرار بنيان والدي ، أليس المجد رهين أسرتها ، كيف يتطاول عليها من لا يملك من قيم الزعامة شيئا .
ناصر في كوخه الذي هجره منذ شهور مستسلم تمام الإستسلام بعد معرفته بحركية أسهم شركته و صعودها الصاروخي وهبوطها المفاجئ أكثر من سبع مرات خلال ساعتين من التداول ، عرف أن أسهمه التي سيعرضها غدا لسد العجز سيلعب بها مناوؤوه كي لا يجني منها ما يسد عثرات الشركة و بذلك سيفقد رئاستها مع أي انعقاد لمجلس الإدارة للبحث عن الحلول . فكر في رمي نفسه في البحر و التخلص من عجزه الفاضح ، تذكر حبيبته التي لم يستطع حتى مصارحتها بما يكابده ، آه عندما تعرف أنه فقد رئاسته فتعتبره فاقدا لرجولته ، لام نفسه و ندم على تجاهلها كل هذه المدة ، فإن كان يعيش ففقط ليحظى برفقتها ، لكن ربما الأقدار هي من تباعد بينهما .