عرض مشاركة واحدة
قديم 09-06-2010, 12:49 PM
المشاركة 39
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
علي كامل : المتنبي والنفس:
1- المتنبي والنفس : الإسقاط المنهجي
إن الطريقة التي اتبعها اليوسف في دراسته للمتنبي وشعره تداخلت فيها مجموعة من المفاهيم متعددة الحقول، وقد كان ذلك نتيجة لعدم الاختصاص المنهجي، فاليوسف يمارس العملية النقدية منطلقا من ضرورة تضافر مفاهيم منهجية متنوعة أو بتعبير آخر، يرى أن المنهج ينبغي أن يشمل على أدوات تقارب الذاتي والفردي والمحيط الاجتماعي، لذلك مزج في دراسته بين بعض مقولات التحليل النفسي ومقولات التحليل الاجتماعي، ولم يتربط صرفا بخطوات المنهج النفسي، وقد اتضح ذلك جليا من خلال الوصف التحليلي الذي أنجزناه، حيث إن المصطلحات النفسية المركزية ظلت باهتة في التحليل، وحتى حينما تناول ظاهرتي النرجسية والسادية لم يردهما إلى أصولهما الفرودية المرتبطة بالرغبة الجنسية وهجاس الموت، ولم تستوقفه اللغة كرمزية لعقد الطفولة المكبوتة. بل كان يعدل هذه المفاهيم حتى تتسق مع تصوره القبلي لشاعر العروبة.
أما المحلل " على كامل " في مقالته " المتنبي والنفس " المنشورة بمجلة آفاق عربية العدد 4 ديسمبر 1977 فإنه سينطلق في دراسته للمتنبي من وجهة نفسية بحثة. معولا في ذلك على تخصصه في الأمراض النفسية، مازجا بين الفحص النفسي للشخصية والمزاج للعالم النفساني " ايزانك " والتحليل النفسي الفرويدي والآدلري.
سنحاول في دراستنا لمقالة على كامل أن نبرز أهداف الدراسة والمتن المدروس والوقوف على البعد الاستدلالي والبرهاني الذي اعتمده في التوصل إلى نتائج الدراسة، مركزين على تبيان التوافقات والاختلافات بينه وبين اليوسف.
الإعلان عن أهداف الدراسة :
يعلن " على كامل " في بداية دراسته عن الهدف من اختياره للنظر في حياة المتنبي النفسية، وذلك انه يرغب في " النفاذ إلى نفسية الشاعر من ناحية وإلى فهم شعره من ناحية أخرى 1 ". يبدو أن هذا المطلب في الوهلة الأولى من قبيل المعاد المكرور، وذلك أن كل بحث في أي جانب من حياة المتنبي وشعره لابد أن يعرج من قريب أو من بعيد على بعض مفاهيم البحث النفسي، غير أن الجديد عند على كامل هو أن " هذه أول مرة يكون هدف الدراسة فيها والبحث من المتنبي هدفا نفسيا بشكل أساسي "، إن علي كامل يعي جيدا الفرق بين المضامين النفسية لأي شاعر كيفما كان وبين المقاربة النفسية البحثة التي تعتمد منهجا نفسيا معينا، لأنه لكي نلج في الدراسة العلمية لابد أن " نفرق بين النفسي، وهو الوقوف على ما يتضمنه النص الأدبي مــن العواطف والانفعالات والأخيلة، التي هي عناصر من صميم التكوين الأدبي، ... ولم يكن هذا المنهج جديدا فقد ظهرت آثاره عند الإغريق والعرب وفي عصر النهضة الأوربية أما المنهج النفساني فيقوم على أساس من النظريات النفسية الحديثة، ولاسيما انه يقوم على التحليل النفسي، ويعد منهجا حديثا بدأ مع نظريات فرويد1".
ويبدو أن " علي كامل " من ذوي الاختصاص في القضايا النفسية، مما جعله يعي منذ البداية حدود المنهج النفسي في مقاربته لشاعر من الماضي. هذا الوعي اضطره إلى التصريح بالصعوبات التي اعترضته في دراسته وقد حدد هذه الصعوبات في ثلاث :
1) المسافة الزمنية بين القارئ والنص/الشخص : فإذا كان علماء النفس يجدون الصعوبة في الاتفاق على تشخيص حالة نفسية واحدة تمثل أمامهم اليوم، أدركنا صعوبة الأمر في شخصية وجدت قبل ألف سنة من الزمن، واختلف الناس في أمرها حتى ذلك الحين".
2) الاعتماد مقولة النص كوثيقة وتغيب مصادر الرواية والأخبار :
لم يعتمد " علي كامل " التحليل النفسي السيري وإنما انطلق من النص باعتباره عرضا من الأعراض النفسية، مميزا بين نوعين من القراءة : الذاتية العاشقة والقراءة المتعددة التأويلات.
3) تعذر الفهم الدقيق للنفس الإنسانية بصفة عامة.
تختزل هذه الصعوبات وعي علي كامل بحدود الأدوات الإجرائية والجهاز المفاهيمي الذي يقارب به الشخص والنص. وقد تجلت معالم هذا الوعي في محاورته للمنهج لإعادة النظر في أدواته.
إن هذا الوعي المنهجي سيقود لا محالة إلى الاحتراس من الوثوقية والأحكام المطلقة، وسيفرض على الدارسة أن تحتمي بلغة الاحتمال.
وبالرغم من إدراك هذه الصعوبات الموضوعية فإن المنهج النفسي ونوعية الكشوفات التي حققها في ميدان التحليل الأدبي ستسلط لا محالة بعض الأضواء على الزوايا المعتمة في شعر المتنبي وشخصيته.
وفي إطار تعميق الوعي بحدود المنهج النفسي يحذر على كامل من أن طريقة بحثه ستكون عاجزة عن تفسير عبقرية الشاعر وعملية الخلق الشعري لديه، فلا ضير إذ عزا العجز لمسه فرويد من قبل، واعترف وهو بصدد دراسته للرسام الإيطالي " ليوناردو دافنـتشي " " إن التحليل النفسي (ويعني مذهبه بوجه خاص) لا يستطيع أن يدرس الإنسان من حيث هو فنان، وليس في قدرته أن يطلعنا على طبيعة الإنتاج الفني، وأنه هو في دراسته لدافنتشي لم يدرس الفنان من حيث هو فنان بل درسه من حيث هو إنسان، فدراسته هذه لست سوى عرض للرجل من ناحية الباتوجرافيا .
وقد أشار أيضا إلى ضرورة عدم تفسير العبقرية انطلاقا من الـبـواعـث الـغـامـضـة للـفـعـل الجمالي لان " التقويم الجمالي للعمل الفني وتفسير الموهبة ليسا من مهمات التحليل النفسي ".
وفي هذا السياق يذهب يونغ إلى أن " كل رجع reaction يمكن تفسيره وبيان علته، أما فعل الإبداع وهو نقيض الرجع لما يمتاز به من تلقائية، فسيظل على الدوام يفلت من قبضة الذهن البشري. وهكذا اصدر يونغ حكمه على العلم من الحاضر والمستقبل جميعا، فهو لم يعرف الإبداع ولم يعرفه لان من طبيعة الإبداع إلا يثبت للمعرفة العلمية ".
طرائق البحث النفسي بين المؤلف والقارئ :
يحدد " علي كامل " سبل البحث النفسي للمتنبي في ثلاثة :
منها ما يتعلق بتحليل الشخصية وبيان العناصر المكونة لها، ومنها ما يختص بقدرة الشاعر على فهم النفس الإنسانية وبيان مصادر هذه القدرة وأخيرا التأثير النفسي الذي يحدثه شعر المتنبي في القارئ.
إن هذه التوجهات تعكس التطور الذي عرفه التحليل النفسي بشخصية : التحليل النفسي والمؤلف والتحليل النفسي والقارئ :
أ- التحليل النفسي والمؤلف :
اعتبر التحليل النفسي التطبيقي أن العمل الأدبي شبيه بفانتازيا، فعومل النص كعرض من أعراض المؤلف، مما أفضي بالتحليل إلى الدراسة النفسية للمؤلف، وعوملت الشخصية الأدبية كما لو أنها كائن حي تمتلك عقدها الخاصة. كما أن الرموز اللغوية اعتبرت مدونة محددة وصارمة " فكل الأشياء العمودية ترمز للعضو الجنسي الذكر، وكل الأشياء الأفقية تمثل جسد الأم".
إن هذه الفرضيات تحيل ضمنيا إلى نفسية المؤلف، حيث إنها تتأسس على أن غاية العمل الفني الشبيهة بالحلم هي الإشباع السري لرغبة طفولية مكبوتة تستقر في اللاشعور.
ب- التحليل النفسي والقارئ :
لقد جاء الاهتمام بالقارئ إلى مجال التحليل النفسي ليتدارك القصور الحاصل في هذا الجانب، وقد كان الناقد الأمريكي " نورمان هولاند " من أكبر دعاة هذه النظرية ومطوريها، فقد عالج العلاقة بين القارئ والنص من خلال العلاقة بين تخيلات الايد Id ودفاعات الانا معتبرا أن " مصدر اللذة التي نستمدها من الأدب يكمن في تحويل رغباتنا ومخاوفنا إلى معان مقبولة من الوجهة الثقافية ... ويعتبر النصوص الأدبية تكتمات، أي منظومات مرمزة تؤدي وظيفة التخفي ... إن ما يجذبنا إلى النص كقراء هو التعبير السري عما نريد سماعه ".
إن فعل القراءة هو قبل كل شيء إعادة خلق للهوية ومعنى ذلك انه عندما نقرأ نصا فإننا نمارس معه " عملية توافق مع قيمة الهدية التي تميزنا، ونستخدم العمل على نحو يرمز إلينا ويكرر نفسياتنا في النهاية، ونعيد صياغته لنكشف استراتيجياتنا المميزة الخاصة ونتغلب على المخاوف العميقة والرغبات التي تشكل حياتنا الروحية "، ويبدو أن هذه العملية هي ما يفسر الاهتمام المتزايد قديما وحديثا بشعر المتنبي حيث إن هناك إعادة لاكتشاف الهوية، بالإضافة إلى أن المتنبي يحقق للقارئ من خلال عملية التماهي التغلب على المخاوف النفسية انطلاقا من نشدان القوة والمغامرة في ملكوت المجهول. يقول :

إذا غامرت في شرف مـروم




فلا تقنع بما دون الـنـجــوم ( الوافر )


فطعم الموت في أمر حـقـير




كطعم الموت في أمر عظيـم


إن استكشاف جذور الأثر يتواكب مع استكشاف اللذة التي تنتج عن قراءة متأنية له، إذ هناك تواز بين الصدمة العاطفية التي يثيرها النص في نفس القارئ والصدمة التي يعانيها المؤلف أثناء عملية الإبداع وفي هذه النقطة بالذات قد نجد " تفسيرا لآليات التماهي التي من خلالها نعثر في الفن على لذات تعويضية ".
ج- تحديد معالم الشخصية :
يسلم " على كامل " بأن انطباعات القراء حول شعر المتنبي تتشابه في رسم شخصية المتنبي النفسية رغم التباعد الزمني وتضارب الأخبار حوله ، وإن هذا التشابه مرده إلى أن المتنبي قد كفى القراء عناء البحث عن هذه الشخصية حيث قدم في شعره صورة شخصية portrait ورصد مختلف أحوال نفسه وتحولاتها.
غير أن هذه الانطباعات الأولية غير كافية في سبر أغوار النفس ، لذا فإنه سيعتمد على خطاطة العالم النفسي " إيزانك من فحص الشخصية والمزاج :
1- الخطاطة :
يستنتج علي كامل من خلال تطبيق هذا النموذج أن المتنبي :
1- يتوفر على سبع خصائص واضحة وقوية في الربع اليمن الأعلى وهي :
سرعة التأثر - عدم الاستقرار - العنف - سرعة الهياج والانفعال - التقلب - الاندفاع والنشاط. وهذه الأوصاف تشير إلى أنه ذو مزاج عصبي.
2- أما في الربع الأعلى الأيسر فقد ظهرت خمس خصائص بارزة وهي :
المزاجية (العاطفية) والقلق في الرأي (العناد) والتيقظ والتشاؤم، وهذه الأوصاف تدل على انه ذو مزاج سوداوي مكتسب.
أما حينما نقارن بين غلبة الخصائص نجد أن الغلبة للنصف الأعلى، لذا فان النتيجة هي " أن نفسية المتنبي تعاني من عدم توازن واستقرار طبيعي".
ولقد أسفرت المقارنة بين الجانب الأيمن والأيسر من الدائرتين إلى غلبة خصائص الجانب الأيمن مما يؤكد أن مزاج المتنبي ونفسيته تتجهان نحو الانبساطية والواقعية لكن توفر المتنبي على سبع خصائص من النصف الأيسر يبرز أن لديه نزوعا نحو الانطوائية.
ما يستنتج من هذا الفحص أن المتنبي كان يجمع بين الأضداد، وفي هذه النقطة يلتقي " علي كامل " مع " سامي اليوسف " مبرزين أن هذا التناقض في نفسية الشاعر مكن من التعبير عن عبقريته وحركته الروحية. لكنهما يختلفان في تفسير سبب هذا التناقض ، فسامي اليوسف يرجعه إلى الشرخ الواقعي في حين أن علي كامل يعزيه إلى طبيعة الشخصية كبنية مغلقة.
د- المتنبي : الوجه والقناع :
يذهب " علي كامل " في حديثه عن الخصائص النفسية إلى أن هذه الأخيرة ظلت ثابتة طوال حياته، بالرغم من الأدوار والحالات المختلفة التي عرفتها حياته فقد ظل المتنبي وفيا لنفسه الهائمة التي لم تعرف الاستقرار كأن الريح تحته، وقد صور هذه الحالة بيت شعري نافذ يقول :

على قلق كأن الريح تحتي



أوجهها جنوبا أو شمالا(الوفر)


إن ثبات هذه الصفات المتناقضة يشي بقوة الشخصية، هذه القوة تفتقدها الشخصيات الهادئة المتوازنة، حيث إن التوازن دليلا عن الضعف وفقدان الحيوية.
إن الخاصية المهيمنة في شعر المتنبي هي الحضور الصارخ والمكشوف للأنا، فما هي الدواعي لهذا الحضور المكثف ؟ يستدعي " علي كامل " لمناقشة هذه القضية آراء النقاد حول المدى الذي يجوز فيه للشاعر أن يظهر ذاته في شعره أو أن يبقي عليها مستورة مقنعة. أو أن يتجاوز نفسه كلية بحيث يأتي العمل الإبداعي خاليا من أي إشارة إلى الذات.
فقد أورد آراء القدماء حول أبعاد الفن عن صاحبه، وقد كانت هذه النظرة للفن هي المهيمنة عند اليونان والعرب حيث انهم نظروا إلى " أن الخلق الإبداعي قد حدث بسبب قوة خارقة استوطنت المبدع... وان فعله ليس من صنعه، إنما من صنع الروح الذي تدفعه ولهذا فسر اليونانيون الشعر بأنه من إيماء ربات الشعر وفسر العرب ذلك بعبقر".
لقد اتصل حبل هذه النظرية في عملية الخلق الإبداعي حتى أنصار مبعدي الذات ونفيها عن العمل الأدبي اليوم، معتبرين ذات الفنان قناعا، فإليوت يذهب إلى " أن مسيرة الفنان هي تضحية مستمرة للذات، وإفناء مستمر للشخصية كما أن جيمس جويس يرى " أن شخصية الفنان تسعى إلى أن تصفي نفسها من الوجود، أو بمعنى آخر فإنها تسعى إلى تجريد نفسها".
وبالمقابل فهناك آراء أخرى تؤكد على ضرورة حضور الانا بصورة مكشوفة، " فالشعر الذي تقوم فيه الانا تماما مقام الشاعر يعتبر بالضرورة اكثر علوا من ذلك الشعر الذي ترمز فيه " الانا " ليس للشاعر وإنما لقناعه ".
إن موقف علي كامل من هاتين النظريتين موقف توفيقي، فهو يراوح بين انعكاس ذات المتنبي في شعره وبين أن هذه الذات قد توارت من وراء قناع، وبأن للانا الظاهرة في صوته هي " أنا " أخرى مستترة أو نافية تخالف، أو لعلها تناقض وتنافر كليا وبقوة ما ظهر منها ".
فهذا الاضطراب بين الوجه والقناع تجلى فيه اضطراب التكوين النفسي لدى الشاعر، أمده هذا التناقض العصي عن الحل بحيوية وفعالية شعرية.
إن مبررات حضور الانا، والعناية الفائقة برسم صورة شخصية تتجلى في أن الانا تعكس الاحتراق الداخلي حيث إن المتنبي " وصف شيئا يعرفه في الحياة لا كما هو في الأصل وإنما كما أتفذ في أتون الحياة، ولم يكن من السهل إطفاء هذه الشعلة الملتهبة " ثم إن هناك وفاء كبيرا من طرف المتنبي للتقاليد الشعرية العربية
الأصلية التي تسمح بظهور الشاعر في شعره.
هـ-نرجسية المتنبي :
إن مقدمات التحليل النفسي عند علي كامل أفضت به إلى أن يعالج العقدة النرجسية عند المتنبي، ويكاد جل الباحثين الذين قاربوا المتنبي من وجهة نظر نفسية أن يجمعوا على أن المتنبي كان واقعا تحت سيطرة هذه العقدة، فبدءا من نقد أبى فراس الحمداني للمتنبي مرورا بالعقاد وعبد الرحمان شكري . وصولا إلى سامي اليوسف وعلي كامل، نجدهم يركزون أساس على تضخم الانا حد الجنون.
يميز علي كامل بين مستويين في معالجته للعقدة النرجسية عند المتنبي :
1) النرجسية بالمعنى الضيق، وتتمثل في حب الذات.
2) النرجسية بالمعنى الواسع كما وردت صيغتها الأولى في الأسطورة اليونانية وغي اصطلاحات علم النفس.
وإذا أخذنا المستوى الأول فإننا واجدون أن ديوان الشاعر يفصح بشكل حبي عن هذا الحب المفرط للانا، فقد انبثق هذا النزوع منذ الطفولة أي في المراحل المبكرة المسؤولة عن تكوين الشخصية، وهذه الثلاثية دليل شاهد على توثين الذات وعبادتها :

أي مـــحـل ارتقي



أي عظيم اتقي ( مجزوء الرجز )


وكل ما خلق الله



ومــا لم يـخـلق


محتقر في هـمـتـي



كشعرة في مفرقي


أما إذا أخذنا رمزية الأسطورة اليونانية فإننا سنقف على انه من سوء الحظ أو حتى من المميت أن يشاهد الآنيان انعكاس صورته، وكما أكد ذلك علم النفس الفرويدي حيث تشير النرجسية إلى حالات مرضية بافتتان الفرد بجسده.
إن العقدة النرجسية تتحدد من خلال العلاقة مع الأم، فالطفل يكبت حبه لامه، ويحب نفسه بدلا عنها، أي يقوم بعملية استبدال للصورة المكبوتة بصورة جسده، حيث تصبح ذاته معيارا لاختيار الأشياء التي يحبها.
وتمر هذه العقدة - حسب فرويد - من مرحلتين :
1) المرحلة الأولى : هي المرحلة الطفولية وفيها لا يميز الطفل بينه وبين الأشياء، حيث يتقوى لديها الشعور بالمقدرة العظيمة وأن قوة العالم الهائلة هي قوته.
2) المرحلة الثانية : وهي المرحلة الراشدة وفيها تتضح معالم الفرق بين الذات وغيرها من الأشياء ، ومن هذه المرحلة يتدخل الواقع ليخلق في الفرد شعورا بالفشل والخدلان والرفض ، لذا تتحول الطاقة المتكونة من هذا الشعور إلى الذات.
فكيف سيتم التعامل مع شخصية المتنبي التي لا تعرف عنها الكثير ، أمام هذه التحديدات التي ترد مصدر العقدة النرجيسية إلى الطفولة والعلاقة بالأم والاشتهاء الجسدي ؟
أفصح " على كامل عن وعيه بالعوائق التي تعوق المحلل النفسي لتحليل شخصية المتنبي ، وقد تمثلت في نذرة المعلومات حول طفولته ، وشكله الجسماني وحسن هيأته ، كما أننا لا تعلم شيئا عن طبيعة العلاقة بين المتنبي وأمه. أمام هذا الوضع كان علي كامل يراوح بين نتائج احتمالية.
وقد لجأ إلى تحليل بعض الأبيات الواردة من القصيدة التي يرثى بها الشاعر جدنه. كي يثبت مظاهر وتجليات النرجيسية عند المتنبي.
إن المبرر المنهجي لاختيار هذه القصيدة بالذات هو حضور الجدة التي تقوم من التزكيبة النفسية للمتنبي مقام الأم ، واختياره لأبيات بعينها مرده إلى أنها تتضمن بعض الإشارات النفسية يقول الشاعر :

لك الله من مفجوعة بحبيبها



قتيلة شوق غير ملحقها وصمــا ( الطويل)


أحن إلى الكأس التي شربت بها



وأهوى لمثواها التراب وما ضما


فوا أسفا ألا أكب مقبـلا



لرأسك والصدر ملئا حزما


لو لم تكوني بنت أكرم والد



لكان أباك الضخم كونك لي أما


لين لذ يوم الشامتين بيومها



لقد ولدت منى لأنفهم رغمـا


ركز " علي كامل " تحليله لهذه الأبيات على إبراز الأبعاد النفسية التي تعزز أطروحته حول نرجسية المتنبي، كرابطة الحب والشوق التي تربط بين الشاعر وجدته. وقد توقف المحلل في البيت الأول على قول الشاعر « غير ملحقها وصما " ليستنتج أن احتراز المتنبي من نفي الوصم والعار في موقف لا يمكن أن يتبادر فيه إلى الذهن الوصح فلتة من اللاوعي، وهو تلك الرغبة الجنسية التي يكنها الإنسان تجاه أمه كما يرى فرويد.
أما في البيت الثاني والثالث استوقفه الحنين إلى الموت والاتحاد مع الجدة في القبر وتقيل الصدر، مزكيا بذلك تأويله حول نرجسية المتنبي المؤسسة على نزعة جنسية مكبوتة.
أما في البيت الرابع والخامس، فهناك مؤشرات تدل على أن الجدة تعويض للام عبر الاستبدال المكرر، وان هذا الاستبدال يؤكد حب المتنبي لامه.
إن تعدد القراءات أضحى من بديهيات الدرس الأدبي لكن شريطة أن تتوفر في القراءة عنصر الانسجام، وهذا الشرط يحتم على القارئ أن يرتهن بالنسق الخاص والعام للنص المدروس، فالرؤية التجزيئية للمتن المدروس قد تشرعه على قراءات مبتورة ومغرضة، فهذه الأبيات وردت في قصيدة/مرئية، موضوعها امرأة وصفت بالورع إضافة إلى أنها هي ملهمة الشاعر، فقد ترعرع في أحضانها، فارقها لمدة طويلة، ومنع من رؤيتها، وحينما أتيحت له الفرصة بعث لها برسالة سيتقدمها عنده، لكن المنية حالت دون هذا اللقاء المستحيل، فبعد أن قرأت كتابه قبلته وبكت ثم فارقت الحياة، إن هذا السياق أرغم الشاعر أن يبوح بمقدار حبه لهذه المرأة، وقد بحث عن كلمات وصور قد توهم الدارس النفسي باضطراب نفسي فيما هي صور قد تكون عاجزة عن إيصال الرجة النفسية التي تلبست المتنبي حين سماعه لوفاة أمله الوحيد في الاستمرار في الحياة. هذا من جهة ومن جهة ثانية فقراءة علي كامل تفتقر إلى شرط التعميم، فلكي نستجلي العقدة النفسية فلا مناص من إنشاء شبكة دلالية تشمل المتن الشعري بأكمله مع رصد التكرارات والتوترات الهاجسة، إذ لا يكفي أن نستدل ببيت أو بكلمة ونبني عليها أحكاما قد تسيء للنص والشخص معا.
فأمام هذا التأويل النفسي الذي يستوحي نظرية فرويد الجنسية يبدو " علي كامل " محربا أمام كفاءة النظرية والدلالات التي تبوح بها هذه الأبيات المنتزعة من المرتبة، لذا يقول " ومع أني لا أميل بحماس إلى الأخذ بنظرية فرويد أو إلى تطبيقها بهذه الكيفية على المتنبي غير أن للنفس طرقا عجيبة في الإفصاح عن مكنوناتها قولا أو فعلا، ومن الواضح أن المتنبي في الأبيات التي ذكرتها من رثائه لجدته قد أعطى للمحلل النفسي غذاء للخيال يصعب تركه ".
إن ظهور النرجسة لدى المتنبي - وقف هذا التحليل - نتجت عن كبت الرغبة الجنسية تجاه الأم/الجدة، هذا الكبت تحول إلى طاقة تنمي الذات وإلى قوة دافعة لتقدير النفس.
إن التحليل وفق هذا المنظور يقود ضرورة إلى إثارة مسألة قد تثير من النقاش الكثير، وهي أن النرجسي يميل إلى اشتهاء جسده، لذلك يتجه في حياته الجنسية إلى " المثلية الجنسية "، وإذا تزوج فان زواجه سيكون فاشلا ! فهل كان المتنبي شاذا جنسيا ؟ يذهب علي كامل إلى أن المتنبي لم يذكر زوجته في شعره، كما انه ظل يؤكد في شعره على رجولية ممدوحية. إن هاتين العلتين لا تنهضان حجة لوصم المتنبي بالشذوذ، فعدم ذكر الزوجة يندرج ضمن نسق ثقافي حيث إن اغلب الشعراء لم يذكروا زيجاتهم في الشعر، وحتى أولئك الذين تغزلوا بمعشوقاتهم عوقبوا من طرف القبيلة بمنعهم من الزواج منهن. العذريون على سبيل المثال، إضافة إلى أن المتنبي كان مشغولا عن المرأة بالسلطة، أما حين يمدح بالفحولة والرجولة فانه كان يستعيد زمن الفحولة الذي كاد أن ينسى في عهده. وإلا فالمتنبي كان يثلب أعداءه باللواطية والإحصاء والأبنة ، ولا يعقل أن يهجو بصفات لصيقة به. أورد : أنه ما لاط ولا زمن ولا شرب الخمر ولا صلى ولا صام ولا قرا القرآن ".
ولو أن " علي كامل " عثر على هذا النص الذي أورده البديعي في كتابه " الصبح المنبي عن حيثية المتنبي " لأكد أن المتنبي كان مصابا بهذا الفعل غير الطبيعي : " قال أبو سعيد (خادم المتنبي) : دعاني أبو الطيب ونحن بحلب، ولم اكن : اعرف منه اللهو مع النساء ولا العلمان، فقال لي : أرأبت الغلام ذا الأصداغ الجالس إلى حانوت كذا في السوق ، وكان غلاما وسيما وحالتنا تنافي ما هو سبيله - فقلت نعم، اعرفه، قال فامض إليه وائتني به، واتخذ دعوة فانفق فيها واكثر... وكنت استطلع رأيه في جميع ما انفق - فمضيت، واتخذت له ثلاثة ألوان من الأطعمة وعدة صحاف من الحلوى، واستدعيت الغلام فأجاب، وأنا متعجب من جميع ما اسمع منه، إذ لم تجر له عادة بمثله، فعاد أبو الطيب من دار سيف الدولة آخر النهار وقد حضر الغلام، وفرغت من اتخاذ الطعام فأكلا وأنا ثالثهما، ثم جن الليل فقدمت له شمعة، أمر بوضع دفاتره - وكانت تلك عادته كل ليلة - فقال احضر لضيفك شرابا واقعد إلى جانبه ونادمه، ففعلت ما امرني به كل ذلك وعينه إلى الدفتر يدرس ولا يلتفت إلينا إلا من حين بعد حين، فما شربنا إلا قليلا حتى قال : افرش لضيفك وافرش لنفسك وبت ثالثنا. ولم اكن قبل ذلك أبايته في بيته، ففعلت وهو يدرس حتى مضى من الليل أكثره، ثم أوي إلى فراشه ونام، فلما أصبحنا قلت له ما يصنع ؟ فقال : احبه واصرفه، فقلت له وكم أعطيه ؟ فاطرق ساعة ثم قال : اعطه ثلاث مائة درهم. فتعجبت من ذلك، ثم جسرت نفسي فدنوت منه وقلت له : انه من يجيب بالشيء اليسير وأنت لم تنل منه حظا، فغضب ثم قالها : أتظنني من أولئك الفسقة ؟ اعطه ثلاثمائة درهم ولينصرف راشدا، ففعلت ما امرني به وصرفته ".
إن هذا النص ظني الدلالة ولو أن راويه هو خادم أبو الطيب، فلو أن المتنبي كان معروفا بمجالسة الغلمان لاتخذها أعداؤه وحساده وهم كثر، حجة ضده وثلبوه بها وهذا أمر لم يقع، فما ثبت أن خصما من خصوم المتنبي نسب إليه هذه التهمة. |من تم فان تلقي أخبار المتنبي تحتاج إلى نوع من الجرح والتعديل. ولقد تنبه محمد كمال خيري بيك إلى هذا فعلق على هذا الخبر الذي رواه خادم المتنبي بقول : " فمثل هذا الراوي لا ينبغي أن يؤخذ قوله حجة دامغة مهما قربت صلته بابي الطيب لان مكانته هذه دلت على انه يشتغل بما يأباه شرف النفس، ولا ترضاه الأخلاق الكريمة وذلك مما يسقط عدالته ويجرح شهادته " .
-التعالي كتعويض عن الشعور بالنقص :
يتنبأ - علي كامل - في تحليله لازدواجية شخصية المتنبي نظرية " آدلر " حول مركب النقص والتعويض، منطلقا من مجموعة من الأبيات تدور موضوعاتها حول اصل المتنبي وإخفاقه في المرحلة الكافورية.
إن المتنبي - في نظر علي كامل - كان يخفي شعوره بالنقص من خلال تضخيمه لذاته شعريا، وإسبال صفات العظمة والتعالي من جزء كبير من قصائده، حيث إنه كان يقسم القصيدة المدحية إلى شطرين، يعطي لنفسه الحظ الأوفر من المدح الذاتي وما تبقى يخصصه للمدوح.
فمصدر هذا الشعور يرتبط بعدم اتزان تكوين المتنبي النفسي وبتجربته الحياتية التي استفزت واستنفرت القوى الكامنة والأصلية في نفسه، فهو قد دفع دفعا خفيا إلى هذه النزعة المتعالية.
فالمحلل يحمل نسب المتنبي المسؤولية في الشعور بالنقص فهو يذهب إلى أن والد المتنبي كان سقاء، مستندا في ذلك على كتب الأخبار التي كادت تجمع على هذا الأصل الوضيع اجتماعيا. وقد دفع هذا الوضع المتنبي إلى حدود تعمقت فيها جراحاته النفسية وضاعفت من إحساسه بالضعة والنقص الاجتماعيين فقد كان " المتنبي على تحسس مرهف منذ طفولته بوضاعة اصله، فقد كان ابنا لسقاء، وقد لا يكون في هذا الأصل ما يوهب الشعور بالنقص أو الضعة في فتى آخر، لكن موهبة المتنبي المرتبطة بحساسيته المرهفة لم تكن لتقبل بهذا الأصل الذي لا ينسجم معها وكان لابد له من رفض ذلك في أعماق نفسه أما بالكبت أو بالتعويض أو بالضعف 1 ". لذلك ففي شعر المتنبي منذ صباه اعتداء دائم بفعله لا بنسبه، بنفسه لا بأصله، ألم يقل :

لا بقومي شرفت بل شرفوا بي



وبنفسي فخرت لا بجدودي


ويقول أيضا :

ولست بقانع من كل فضل



بأن أعزى إلى جد همام


فهذه الأبيات يرى فيها علي كامل، أنها تقوم دليلا بعدم قناعة المتنبي بفضل أصله عليه وأنه أفضل من أصله.
ومن مظاهر هذا الشعور بالنقص هو تعرف المتنبي وانتسابه إلى شخصيات مثل شخصية سيف الدولة التي أذاب فيها هذا الشعور ليتساوى مع الممدوح، وقد يكون ذلك وراء استقرار المتنبي في بلاط سيف الدولة تسع حجج، فكل مقومات الشخصية التي يثوق إليها تجسدت في سيف الدولة (العروبة والأصل والنسب الشريف والشجاعة)، لقد حققت هذه المرحلة للمتنبي استقرارا نفسيا حيث تماهت شخصيته مع شخصية سيف الدولة. يقول بهذا الصدد :

ناديت مجدل في شعري وقد صدرا



يا غير منتحل في غير منتحل (البسيط)


أما المرحلة الكافورية وما صاحبها من انكسار وإخفاق فقد ظهرت فيها تباريح المتنبي ومنادبه، فقد أعلن صراحة أنه غير راض على نفسه، متمنيا الموت في وجه الهوان يقول في هجاء كافور :

أريك الرضى لو أخفت النفس خافيا



وما أنا على نفسي ولا عنك راضيا (الطويل)