عرض مشاركة واحدة
قديم 03-08-2016, 12:45 PM
المشاركة 51
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:



قد يكون الرصد الذي أرعبني واظنه أرعب كل من نزل بئر حارس من قبلي ومن بعدي للشرب او السباحة، في الليل او النهار، وسواء كان راكدا هابطا ام كان جاريا متفجرا...وما يزال ذلك البئر مصدر للرعب والخوف حتى هذه اللحظة...قد يكون ذلك الرصد مجرد خرافة، وقصة اسطورية لا أكثر ولا اقل، فتلك البيئة الريفية كانت تنغل بالخرافات، لكن الصحيح لا أحد يستطيع ان يجزم بأن ذلك البئر لا يحتوي رصدا مخيفا، بشعا، كاسرا، مفترسا، كما تقول الحكايات وتردد الذاكرة الشعبية، وبالصورة التي ارتسمت في العقول والقلوب، ولو ان أحدا لم يره رؤيا العين ابدا ولم يصوره أيضا، بعد انتشار أدوات التصوير الفوري والي يومنا هذا...

فان كان السمك الصغير الحجم يخرج الي السطح مع ماء النبع حينما يتفجر، وكنا نشاهده بأم اعيننا يسبح جيئة وذهابا، وننصب له شباكنا البدائية في مجرى النبع، قاصدين اصطياده، والامساك به، وان لم يكن من ذلك فائدة سوى اللهو...والشعور بلذة الانتصار التي تمثلها لحظة الإمساك بواحدة على ضآلتها...فما الغريب ان يخرج أيضا الي السطح كائنات أخرى ضخمة، بشعة، ومخيفة، ومفترسة؟ فربما تكون هذه الكائنات تسكن البحار الباطنية أيضا؟!...تلك البحار التي يكون انفجار النبع نقطة تنفيس لها عندما تمتلئ بماء المطر المنهمر في أشهر الشتاء، فتتفجر قاذفة ما يزيد عن طاقتها، وقدرتها على الاستيعاب والتحمل، فتحمل المياه الصاعدة الى السطح معها ما تحمل من تلك الكائنات الأسطورية التي تسكن في أعماق تلك البحار حتما؟

ثم ما الغريب في ان يكون ذلك الكائن على شكل خاروف، او نعجة، او كلب او حتى وحش اسطوري لا يوجد له مثيل الا في مخيلة الناس الذين ربما شاهدوه في كوابيسهم؟ الا تمتلئ البحار الأرضية السبعة المعروفة للناس بمثل تلك الكائنات؟ ومنها ما هو أضخم، وأبشع، واشد فتكا، من ذلك الرصد اللعين؟! ملقي الرعب في قلوب الأطفال؟ بل وربما يسكن في اعماقها السحيقة المعتمة كائنات أخرى مشوهة، وبشعة ما تزال محجوبة عنا لا يمكن لمخيلتنا ان تتصور شكلها وحجمها وبشاعتها؟ الا تشاركنا مثل تلك الكائنات البشعة سكننا وان كانت بأحجام صغيرة جدا لا تكاد ترى بالعين المجردة؟ اليس الماء مصدر لكل حياة؟ فهل يمكن لاحد ان يجزم إذا بعدم وجود مثل ذلك الكائن الأسطوري حتى وان كان الماء مختزن في باطن الأرض منذ ملايين السنين حيث العتمة المطبقة، والظلام الدامس، ولا شمس ولا نور يبدد الظلمة؟ ومن يدري فلعل الكائنات التي تعيش في ظلام دامس ولا ترى عين الشمس تكون أكثر بشاعة من ان يتخيلها عقلنا؟؟!!

لكن الذين شاهدوا عين النبع في قعر البئر يشككون في رواية الرصد تلك، ويؤكدون بأنه لا مجال لخروج كائنات بأحجام كبيرة من مكان ضيق بحجم عين النبع الضئيلة تلك، خاصة عندما يكون الحديث عن كائن بحجم ذلك الرصد اللعين الذي ارتسم في خيال الناس مع مرور السنين بان له حجم وشكل الخاروف...
بل ويجزم البعض ان الرصد ما هو في الواقع الا صنيعة خيال من كان يصاب بمصيبة فقد طفل صغير له او اخ حبيب في ذلك البئر...وذلك لتبرير تقصيرهم في حماية أطفالهم واحبتهم من الموت غرقا...قصص صنعوها ليواسوا أنفسهم في سردها ويجابروا بعضهم بعضا من الم الفقد ومصيبة الموت...ويبررون فشلهم وعجزهم امام ذلك الكائن الأسطوري مفترس احبتهم...

واظن شخصيا انه لا بد ان ذلك الرصد مجرد خرافة صنعها عقل مزارع، او راعي ماشية او عابر سبيل كان يوما يؤم البئر لوحده...فالمكان الذي يوجد فيه البئر ناء، وبعيد عن الناس، ولا تكاد حين تقف في محيطه في ذلك الزمن، ان تسمع صوتا سوى خرير المياه الجارية، ونقيق الضفادع، وربما أصوات بعض العصافير التي تصدح في المكان وقد وردت الماء لتشرب...وهو حتما مكان موحش، وانت تشعر بتلك الوحشة القاتلة حتى وانت على السطح، فما بالك ان كنت مضطرا للنزول الي اعماق البئر عدد اثنين واربعون درجة لتصل الى حوض ضيق معتم، وكأنك أصبحت في باطن الارض؟ وتصبح هناك وحيدا وكأنك بين دفتي قبر عميق، عميق...الا يشعرك ذلك وكأنك في احشاء وحش ضخم؟ واظن ان الرصد لا بد ان يكون وليد مثل تلك اللحظة الموحشة المرعبة...مجرد مخاوف انسان عبر عنها في لحظة صدق وهو يصف احاسيسه في لحظة مرعبة موحشة من تلك اللحظات...ولكنها كبرت مثل كرة الثلج...تبدأ بحجم صغير، لكنها تكبر كلما تدحرجت وتحولت مع الزمن الى خرافة اسطورية، تناقلتها الذاكرة الشعبية جيلا بعد جيل...وسوف اروي لكم قصة لحظة خوف كان والدي قد مر فيها ورواها لنا...وكان يمكن ان تتحول هي ايضا الي خرافة أخرى وربما اشد رعبا لان بطلها كائن ما ورائي...

لكن حتى وان كان ذلك البئر النبع خالي من ذلك الرصد الأسطوري المخيف، وهو فعلا خرافة ومن صنيعة خيال الناس، ولا يوجد الا في الحكايات الشعبية المتوارثة جيلا بعد جيل، فلا شك ابدا ان ذلك البئر كان يحتوي على رصد مرعب من نوع آخر...

وعلى عكس ذلك الرصد الذي لم يشاهده أحد... شاهد الناس هذا الرصد الاخر المرعب واصابهم اذاه وآلمهم بل وامتص دمائهم...وعلى الرغم من صغر حجمه حتى لا يكاد يرى بالعين المجردة في مرحلة التكوين والولادة، ما يلبث هذا الكائن ان يزداد حجمه ويكبر، ويتضخم، ليصبح بحجم إصبع اليد، ذلك إذا ما تمكن من إيجاد ضحية له يلتصق بها، يمتص دمائها، ويسمن عليها...فهو أيضا من مصاصي الدماء...الذين يفضلون امتصاص دم البشر...

وهذا الكائن ما هو الا دودة مجهرية صغيرة الحجم لا يتجاوز طولها الميليمتر الواحد عند ولادتها، لونها اسود، ولها أرجل عديدة، وربما هي خراطيم امتصاص، ولها قدرة هائلة على الالتصاق، والاستحكام، وهي من الصغر بحيث لا تكاد ترى بالعين المجردة في مراحل حياتها الاولى، وهي تسكن مياه بئر حارس، ولا بد انها تأتي الى الحوض بنفس الطريقة التي تأتي بها تلك الأسمال الصغيرة...

وتسمى هذه الدودة المرعبة بدودة العلق، وربما انهم منحوها ذلك الاسم لأنها تعلق في حلق الانسان إذا ما شرب الماء دون تصفية، وهناك تبدأ بافتراس ضحيتها بامتصاص دمه الذي يسمنها، ويجعل حجمها اضعاف مضاعفة...ويبدو ان هذه الدودة اللعينة تفضل دم البشر الاحمر القاني ليكون على رأس قائمة وجباتها هي أيضا ولو انها اعجز ان تسابق الناموس في ذلك...وما الماء عندها الا وسيلة نقل تصل بها الى جوف الانسان...حيث تستقر الى ما شاء الله اذا لم يتمكن من نزعها...ولذلك كان الناس يحرصون عند شرب الماء على تصفيته باستخدام خرقة قماش تكون عادة شفافة وبمسامات دقيقة جدا، وافضلها كان قماش اليانس الأبيض، الذي كانت ترديده النساء على روسهن، او أي قطعة قماش أخرى متوفرة وباي لون كانت، فاللون هنا ليس مهما انما المهم هو ان تكون قطعة القماش قادرة على احتجاز الشوائب...ومنها تلك الدودة اللعينة مصاصة الدماء...

وأحيانا كثيرة كانت تلك الدودة اللعينة تتمكن من الوصول الى حلق من يغترف غرفة بيده من مجرى النبع، متجاهلا وجودها في الماء او غاضا البصر، او ظانا ان الماء نقي خالي من الشوائب، وهو يراه كذلك في يده وبين اصابعه...وربما تمكنت في أحيان أخرى من تجاوز كل وسائل التصفية، وتسلسلت بمهارتها الغريزية، وبحثها المستديم عن البقاء، والتكاثر، وحفظ النوع الى حلق انسان...ولا بد انها كانت في أحيان كثيرة تتمكن من الولوج الى حلق العديد من السبيحة الذي ينزلون ماء الحوض، وذلك حينما يفرغون افواههم في الماء وهو يسبحون...وذلك امر يستحيل تجنبه...

هذا الانسان يصبح ضحية تلك الدودة الشرسة مصاصة الدماء في لحظة، وفي غفلة من الزمن...وما تلبث ان تظهر على وجهه ملامح الهزال، والضعف، وفقر الدم...فتبدأ رحلة البحث عن السر، ومحاولة كشف السبب...ولا يطول البحث كثيرا حيث يتم العثور على إحداها، وقد علقت في حلقه، وكمنت هناك بهدوء مطبق...ولولا لونها الأسود، وحجمها الذي يصبح ملموسا في الحلق، ومظاهر الضعف والهزال الأخرى، لربما ظلت هناك كامنة دون ملاحظة...وظني ان الناس طورت مهاراتها في ذلك الزمن للتعامل مع المخاطر، ومعالجتها، ولو بطرق بدائية لكنها كثيرا ما كانت ناجعة...

وما ان يتم العثور عليها حتى يسارع الشخص الضحية الى الطبيب الشعبي الذي كان يستخدم أدوات بدائية في نزعها...وكان هذا الطبيب الشعبي في قريتنا اسمه أبو هارون رشيد جبر، وهو رجل ضخم الجثة، نبيه، ويتقن عدة مهارات، وكان يشاع عنه انه يستطيع التعامل مع أي قضية ميكانيكية او حتى طبية...واظنه كان كذلك فقد كنت ارقبه وهو يعمل امام مطحنته المجاورة لبيت جدي صالح، وفي مرة شاهدته وهو ينزع علقه من فم ضحية من ضحايا دودة العلق...

وكان الى جانب تخليص الناس من مصائب العلق يقوم بعمل طبيب الاسنان...حيث يستخدم كماشته في خلع الضرس الذي نخره السوس او ذلك الذي يبدو متآكلا ومسببا للألم...وأحيانا أخرى كان يربط الضرس بخيط يشده بعزم فينخلع الضرس...وللمفارقة أصبح ابنه البكر هارون اول طبيب اسنان من أبناء القرية يتخرج من الجامعات ويمارس مهنة طب الاسنان لاحقا...

اما وسيلته لنزع العلق من الحلوق، تلك الدودة البغيضة، فكانت شوكة طويلة، يأخذها من نبته اسمها نبتة العليق...واظن انها اخذت اسمها من دودة العلق ونسبة لها، لأنها كانت أداة ناجعة لإزالتها...ان لم تكن الوحيدة في غياب الأدوات الطبية الحديثة...حيث يقوم الطبيب الشعبي على غرز الشوكة في جسد العلقة العالقة هناك في حلق الضحية، ومن ثم سحبها، ربما بعد ان يفرغ ما امتصته من دماء حتى يتمكن من الإمساك بها وربما ان وسيلته الوحيدة لدفعها التخلي عن ضحيتها هو قتلها ...ولكم ان تتخيلوا فظاعة ذلك المشهد ومخاطره...

واذكر ان أكثر الادوية شعبية في تلك الأيام كان شربة الخروع التي يقال انها شديدة المرارة ولها مذاق سيئ، واظن ان السبب لذلك كان حرص الناس على تخليص الجهاز الهضمي من الدود الذي يعلق فيه...سواء كان مصدر ذلك الدود بئر حارس، او البرك المفتوحة في الجبال والوديان، وما يعرف (بالمقر) وهو عبارة عن حفرة صغيرة في الصخر تمتلئ بماء المطر، وكانت هذه المقور منتشرة بكثرة في البراري، واذكر انني شربت منها وانا صغير اكثر من مرة، وكان اشهرها في براري قريتنا مقر اسمه مقر الشقرمين، ولا اعرف اصل التسمية هذا من اين جاء، لكن هذا المقر كان مصدرا مهما للماء خاصة للرعاة او من تنقطع فيهم السبل ويضطر للشرب... وكان هذا المقر في قمة جبل الكرك في الجهة القبلية من القرية....وقد ازله الجراد لاحقا عن الخريطة وشيد مكانة مسبحا واسعا...

ولم يكن أحد يتحرج من الشرب من تلك الاحواض المائية الصغيرة، رغم علمه انه يتشارك في ذلك مع بعض الحيوانات البرية غير الاليفة والاخرى المدجنة الاليفة، وكثيرا من الكائنات الأخرى الدقيقة التي كان بعضها يظهر في الماء على شكل دود احمر واسود...وقد اعتاد الناس على غرف أيديهم في الماء الاحواض تلك بعد إزاحة الدود الظاهر امام اعينهم ثم شرب ما يتيسر لهم وما تحمله راحة ايديهم...

حتى الابار الحلقية التي كان الناس يحفرنها في المنازل والبراري المجاورة، وكانوا يغطوها ويحاولون تصفية ماء المطر المتجهة نحوها باستخدام عشبة النتش، وهي نبتة شوكية او اغصان اشجار أخرى يضعونها في المصرف وهي فتحة جانبية يعبر ماء المطر من خلالها، ويحاولون قد الإمكان المحافظة على نظافة الماء فيها، بتنظيفها من الترسبات...كثيرا ما كانت هذه مرتعا لأصناف عديدة من الدود أشهرها دودة بلون احمر كان والدي يحاربها بصب كمية من الكاز في البئر...حيث يصبح مذاق الماء سيئا لمدة أيام قد تطويل ويعتمد ذلك على كمية الكاز المصبوب في البئر...

وانا لا اعرف حقيقة كيف ان الناس لم يموتوا جميعا من شرب مثل ذلك الماء...وكيف كانت أجسادهم قادرة على احتمال ومقاومة كل تلك الحشرات والكائنات المرئية منها وغير المرئية...واذكر ان دكتور علوم الاحياء قام واثناء دراستي الجامعية في جامعة بيت لحم بعرض ما يوجد في ماء الابار الحلقية تحت المجهر الميكروسكوبي، بعد ان انتشل شيئا منها من بئر كان محفورا في ارض مجاورة لمبنى المختبر، وكان ذلك في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي، وقد زلزلني ما شاهدته بأم عيني من كائنات حية تعيش في الماء لا يمكن ملاحظتها بالعين المجردة...

يتبع...