عرض مشاركة واحدة
قديم 05-18-2024, 11:29 AM
المشاركة 14
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)

وعلى صعيد المقاومة العسكرية.
كانت الأحداث قد اشتعلت بشكل منتظم منذ عام 1920م، في القدس والخليل واندلعت الاشتباكات التي أسفرت عن مقتل 200 يهوديا تقريبا، فقامت القوات البريطانية بقتل 116 فلسطينيا أثناء محاولتها إخماد أعمال المقاومة.
غير أن مواجهة البريطانيين لأعمال المقاومة بالقوة تسببت بتصاعد وتيرة العمليات وزيادتها عنفا، فحاولت بريطانيا –بأسلوبها المعهود-امتصاص المقاومة من خلال التفاوض أو التنازل فأصدرت حكومة الاحتلال قرارا بتحديد وتنظيم هجرة اليهود المستمرة على قدم وساق إلى فلسطين.
وكان قرارا سياسيا مخادعا حاولت به بريطانيا أن تظهر وكأنها طرف محايد بين الجانبين المتصارعين، العرب واليهود، وهي نفس اللعبة المفضلة للبريطانيين والغرب عموما حيث يخترعون هم بأنفسهم التيارات المضادة للشعوب ثم يعلنون أنهم يهدفون إلى الوساطة بين المتصارعين باعتبار أن كل طرف منهما له حق فيما يدعيه!
غير أن تلك المحاولات لم تجد نفعا، وذهلت بريطانيا والحركة الصهيونية عندما أدركت أن الشعب الفلسطيني لم يكن تائها عما جرى، وأنه كان يراقب الأحداث تماما كما توقع مفكرهم اليهودي (آثر زئيفي) الذي تعرضنا لتصريحاته سابقا، وكان فيها يحذر من أن تعامل الحركة الصهيونية مع العرب باعتبارهم مجرد بدو لا يدركون شيئا هو أمر مجافي للحقيقة وأن العرب يعلمون ويدركون وينتظرون تطور الأحداث

وبالفعل.
ظهرت على الساحة أول تنظيمات الكفاح المسلح باسم (الكف الأسود) والتي تزعمها الشيخ (عز الدين القسام)
وقد كان الشيخ القسام أقام فترة من حياته بمصر عام 1982م أثناء دخول الاحتلال الإنجليزي لمصر، وشهد أجواء الغليان الوطني ضد الاحتلال البريطاني، عقب فشل الثورة العرابية.
ومن خلال الانتفاضات الشعبية المستمرة ضد الاحتلال وحكومة الخديوي، أدرك القسام أن مقاومة الاحتلال الفعلية تكمن في استمرار الضغط بالكفاح المسلح، حيث أنه الطريقة الحقيقية التي تؤدي إلى نتائج فعلية على الأرض
فمارس القسام نشاطه الدعوي أولا ضد الاحتلال الغربي بعموم، حيث دعا بعد هجوم إيطاليا على ليبيا سنة 1911 إلى نصرة الشعب العربي الليبي عن طريق التظاهر والتطوع للقتال إلى جانبه
ثم كان من أوائل من انضم إلى الثورة ضد الاحتلال الفرنسي في الساحل السوري ما بين سنة 1919-1920، وأبلى في قتالهم أحسن البلاء في الجبال المحيطة بقلعة (صلاح الدين) فوق اللاذقية، فأدرك الفرنسيون خطورته وحكموا عليه بالإعدام.

فالتجأ القسّام مع أسرته وبعض إخوانه إلى مدينة حيفا في أواخر سنة 1920م
وشارك القسّام في تأسيس فرع (جمعية الشبان المسلمين) في مدينة حيفا، وتم انتخابه رئيساً لها، فكانت هذه الجمعية وسيلة فعّالة لنشر الوعي الوطني بين صفوف الشباب والرجال واستقطابهم.
ثم عُيّن القسّام سنة 1930 مأذوناً شرعياً من قبل المحكمة الشرعية في حيفا، فصار يخرج إلى قرى الجليل ويتصل بالناس ويتعرّف إليهم، الأمر الذي زاد من شيوع صيته.
وعندما انكشفت خطة الصهيونية وموقفها من فلسطين بعد قرار الانتداب ووعد بلفور
وصل إلى قناعة بأن بريطانيا هي الشيطان الأكبر المسئول عن كل ما يجري، وأن لا سبيل إلى ردعها سوى بالكفاح المسلح المباشر ضدها وتهديد مصالحها.
ونجح في رعاية واستقطاب الأهالي والفقراء الذين تمت مصادرة أراضيهم ومزارعهم بقرار سلطة الانتداب وحل محلهم المستوطنون اليهود.
ورغم أن الشيخ القسام كان يدرك تماما أن المقاومة المسلحة تتطلب تنظيما ووقتا وجهدا كبيرا حتى تنجح بالشكل المطلوب
إلا أن تسارع الأحداث في الثلاثينيات، وزيادة طوفان الهجرة إلى فلسطين، بالإضافة إلى المراقبة والتتبع الذي تعرض له من سلطة الاحتلال جعلته يخشى تأجيل قرار المقاومة، خوفا من أن يقوم الاحتلال بخطوة استباقية لاعتقاله.
كل هذه الأمور جعلته يندفع إلى إعلان الجهاد في نوفمبر 1935م، ولم ينتظر انضمام المتطوعين له بل بادر في نفس اليوم ليلاً إلى حيفا واتجه مع أحد عشر فردا فقط من إخوانه إلى قرية (يعبد) التابعة لمنطقة (جنين) فخاض معركة غير متكافئة-دامت ست ساعات-مع القوات البريطانية، حيث استشهد الشيخ فيها مع أربعة من رجاله وجُرح وأُسر الآخرون.
ولم تكن مبادرة الشيخ بهذه التضحية مجرد رغبة في الاستشهاد أو عملية محدودة، فقد قام بها مع هذا العدد القليل وهو يدرك تماما أهدافه منها.
فلو تمكن من النجاح في الهجوم والنجاة بعد ذلك فسيكون هذا الحدث إيذانا بحماسة الشعب كله وانضمام الآلاف منهم للمقاومة، وإثبات ضعف العدو وإمكانية تركيعه.

ولو انتهى الهجوم باستشهاده، فسيكون هذا الحدث أيضا أيقونة للشعب ودافعا له على بداية الكفاح المسلح والشعبي
ويشاء الله أن تتحقق توقعاته بالفعل.
فقد كانت سمعة الشيخ القسام قد انتشرت بشكل كثيف في الشام والوطن العربي، ورأى فيه الناس زعيما مُعَبرا عنهم بحق، بعد أن جمع الشيخ بين العلم والجهاد، لهذا فَجّر استشهاده غضبا عارما بين الناس
وشهدت مدينة حيفا إضراباً شاملاً في 21 تشرين الثاني 1935، بعد وصول خبر استشهاده، فأُغلقت الحوانيت والمتاجر والمطاعم، وودع الآلاف من سكانها الشهيد عز الدين القسّام ومن استشهد معه من أنصاره في أضخم جنازة عرفتها المدينة.

وبعد جنازة الشيخ بدأت إرهاصات أعظم ثورة شعبية عمالية في التاريخ، وهي ثورة الشعب الفلسطيني عام 1936م
والتي وصفها مؤرخون إسرائيليون معاصرون، أنهم عندما يطالعون أحداث تلك الثورة يتعجبون كيف أنها لم تقض على المشروع الصهيوني بأكمله؟!
لأنها كانت أكبر إضراب عمالي شهده العالم باستمراره لثلاث سنوات عانت فيها سلطة الاحتلال أشد المعاناة سواء من الأثر الاقتصادي أو الأثر العسكري عندما تزامنت المقاومة المسلحة مع فعاليات الإضراب.
وقد شهدت الثورة ظهور المجاهد الكبير (عبد القادر الحسيني) الذي برز كخليفة للشيخ عز الدين القسام.

وقد تميزت ثورة عام 1936م، عن الثورات التي قامت ما بين 1920 و1933، إذ أن الثورات الفلسطينية قبل ثورة 1936م، كانت هَبّات أو انتفاضات، أما ثورة 1936 فقد توافرت لها شروط الثورة هدفاً وأداة وأسلوبا، وهي تمثل محطة بارزة في حركة النضال الوطني الفلسطيني ضد الصهيونية والاستعمار البريطاني منذ أواخر القرن التاسع عشر، فهي نقلة نوعية في توجهات هذا النضال بعد حالة الوهن العام التي اعترت الحركة الوطنية الفلسطينية في أعقاب ثورة البراق عام م.1929
وقد بدأت ثورة 1936 بطريقة شبه عفوية ما لبث أن استقطبت الشعب على نحو غير مسبوق، على أهداف وقف الهجرة اليهودية، ومنع بيع الأراضي واغتيال باعة الأرض والسماسرة والجواسيس والتصدي لمشروع التقسيم الذي كانت بريطانيا تمهد لتنفيذه، وصيانة عروبة فلسطين والحفاظ على أراضيها ومنع تهويدها، وإعلان استقلالها في وحدة عربية شاملة
ولجأت الثورة إلى الكفاح المسلح أسلوبا، لانتزاع حقوقها من الاستعمار البريطاني، وبهذا جمعت الثورة بين عاملين من أهم عوامل التأثير.
وهما الإضراب الموجه للنشاط الاقتصادي الذي هدد مصالح الاحتلال، والمقاومة العسكرية النوعية وغير التقليدية والتي أدت إلى نجاحهم في عمليات عسكرية صرفه رغم افتقادها أدوات القتال.
فشهدت الثورة معركة (بلعا) التي تعتبر أضخم معارك ثورة 1936 التي استطاع الثوار خلالها تحقيق نتائج عسكرية مذهلة ضد البريطانيين
وذلك عندما تجمع 50 رجلا فقط من المقاومة الفلسطينية والمتطوعين العرب بقيادة (فوزي القاوقجي) في قرية (بلعا) لاستهداف الطريق الاستراتيجي المطل على القرية والذي تستخدمه قوات الاحتلال في تغذية قوافل الاستيطان اليهودي.
وقاموا بزرع الألغام بطول الطريق، وانقسموا إلى أربع مجموعات تمركزت على الطريق الرئيسي وعلى طريق الانسحاب المتوقع للقوات البريطانية واليهودية.
وبالفعل دخلت الطريق عشرين مركبة عسكرية للاحتلال ووقعت في فخ محكم وتمت إبادتها، وحاول بعضها الانسحاب لتتلقاهم المجموعات الاحتياطية ففتكوا بهم جميعا.
فأرسلت بريطانيا خمسة آلاف جندي دفعة واحدة مدعمين بعشر طائرات، بالإضافة إلى مدافع الميدان، دون أن يتخيل البريطانيون أنهم يواجهون مقاومة شعبية مكونة من عدد محدود من الرجال، واستمرت المعركة يوما كاملا أسقطت فيه المقاومة أربع طائرات ببنادقهم العادية!
لتأمر قيادة المقاومة رجالها بالانسحاب إلى المرتفعات، والذي تبعه أيضا انسحاب القوات البريطانية وهي تجهل طبيعة القوة التي تحاربها، لتنتهي واحدة من أعجب الاشتباكات العسكرية في التاريخ، والتي تعتبر فضيحة للجيش البريطاني بكل إمكانياته أمام عدد محدود بأسلحة خفيفة تقتصر على البنادق!

واستمرت الأحداث تتوالى.
فعقدت اللجان القومية مؤتمراً عاماً لها في القدس، وقرر هذا المؤتمر تشكيل قيادة مركزية للحركة الوطنية مقرها القدس
فتألفت "اللجنة العربية العليا لفلسطين" برئاسة (أمين الحسيني) وعضوية ممثلي الأحزاب الفلسطينية جميعها، وممثلين عن المستقلين، واتخذت "اللجنة العربية العليا" القرار التالي وأعلنته على الشعب:
(دعوة الشعب العربي الفلسطيني إلى مواصلة الإضراب العام حتى تبدل الحكومة البريطانية سياستها وتغير مواقفها، وأن تكون البادرة الأولى لهذا التبديل وقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين)
ولقد كان الثوار متفقين على أن يتأخر إعلان الثورة المسلحة بعض الوقت وأن تركز الجهود على الإضراب واستمراره.
فرفضت بريطانيا طلب العرب بوقف الهجرة اليهودية كما أعلنته اللجنة العربية العليا لفلسطين، وقامت بتحديهم بإصدار شهادة هجرة جديدة قدمتها للوكالة اليهودية لإحضار أعداد كبيرة من المهاجرين إلى فلسطين.
ورداً على هذا التحدي قرر القادة الفلسطينيون عدم الانتظار وتأجيل إعلان الثورة المسلحة، وتنفيذاً لهذا القرار أعلن "جيش الجهاد المقدس" الثورة المسلحة على الأعداء (مكون من جميع التشكيلات والمنظمات العسكرية السرية ومن انضم إليها فيما بعد، وقد اختير لقيادته عبد القادر الحسيني)
وشرع المجاهدون يهاجمون ثكنات الجيش والشرطة والمستعمرات اليهودية، ويدمرون طرق المواصلات ويهاجمون قوافل الأعداء وتجمعاتهم، واقتصرت أعمال الثورة في أيامها الأربعة الأولى على لواء القدس وحده لكنها ما لبثت في اليوم الخامس أن عمت أنحاء فلسطين في المدن والقرى والبادية.

وبدأت العمليات في البداية في المدن وانتشرت فيها، حيث انتشرت في يافا، ونابلس، والقدس، وطبريا وحيفا وصفد، فاستفزت قوات الاحتلال في المدن التي أصبحت في اشتباك دائم مع الخلايا المقاتلة وركزت نشاطها في نابلس والقدس ويافا حيث كانت الخلايا الثورية نشطة فحشدت لهم قوات كبيرة من الجيش نتيجة لذلك تحول الثوار إلى الريف وانضموا إلى الجماعات الثورية التي كانت تعمل هناك، ولم تكن هذه المجموعات موحدة بل كانت متعددة القيادة.
حيث بادر المواطنون للتطوع وشراء السلاح والاشتراك في المعارك فتعددت نقاط المقاومة العسكرية في كل قرية وظهرت منها نماذج أيقونية.
منهم الشيخ (فرحان السعدي) أحد أبناء منطقة (جنين)، وكان شيخا كبيرا في السن ناهز الثمانين عاما، ومع ذلك كان أول من حمل السلاح فعليا في أحداث الثورة عام 1936م، وبادر بمهاجمة المراكز اليهودية والبريطانية
وألقي القبض عليه في قرية (نورس) بعد عام كامل من ممارسته لنشاطه هو ومجموعته، وحكموا عليه بالإعدام ونفذوا الحكم بالفعل.
فتشكلت عشرات من المجموعات الأخرى المحلية على غرار ما فعله الشيخ (السعدي)، في كل قرية ومدينة ومنهم مجموعة الشهيد (على العبويني) في قرية (السلط) والذي باع مطحنه الذي يعتبر رأسماله التجاري، وجمع ما يحتكم عليه من مال ليشتري السلاح لمجموعات الثوار ولمجموعته، وبالفعل اشترك في المقاومة واستشهد في أحداث الثورة
وكان اللافت للنظر اشتراك النساء في المعارك، حيث حملوا السلاح وحاربوا فعليا في الخنادق مع المجاهدين مما تسبب في صدمة لقوات الاحتلال والعصابات الصهيونية

وسقطت إلى الأبد تلك النظرية التي كان يروجها (تيودور هيرتزل)، والتي كانت تصف فلسطين بأنها أرض بلا شعب لشعب بلا أرض.
فقد انتفضت الأرض نفسها برجالها ونسائها وأطفالها وحتى صخور جبالها للدفاع والمقاومة وبشراسة منقطعة النظير وفدائية أذاقت الجيش البريطاني الأقوى في العالم أَمّر الهزائم.
ثم طرأ تطور نوعي في الميدان بدخول (فوزي القاوقجي) – بطل معركة بلعا السابق الإشارة إليها-وقواته إلى منطقة (المثلث) وتدفق المتطوعون من الأردن وسوريا ولبنان وانضموا إلى الجهاد المقدس ونتيجة لذلك تحولت الثورة في شهرها الثالث إلى معارك مكشوفة مع القوات البريطانية في شتى أنحاء فلسطين.

وهكذا نثبت للقارئ ما سبق أن قررناه، أن الرهان على الشعوب دوما كان هو الخيار الصحيح، فمنذ أن أعلن الشعب الفلسطيني عن نفسه بالمقاومة وانتخب قياداته خارج الإطار الرسمي الخانع حتى تغيرت أحداث المنطقة وواجه البريطانيون واليهود موقفا عصيبا.
وبمجرد إعلان الجهاد تدفق المتطوعون من سائر الدول العربية بقرار شعبي لم ينتظر أي تحركات رسمية كان يعلم أنها لن تأت أبدا.
وتصاعدت وتيرة العمليات مع زيادة أعداد المتقدمين للجهاد
فاستهدفت المقاومة حركة النقل العامة والمواصلات السلكية وسدت الطرق ونسفت الجسور وخطوط السكك الحديدية، وكذلك خط النفط الواصل بين العراق وحيفا
وأخذت المجموعات السرية داخل المدن تغتال الموظفين البريطانيين وضباط الجيش والشرطة والجواسيس وباعة الأراضي والسماسرة وَتُلقي المتفجرات على الدوائر الحكومية وحقق الثوار انتصارات في العديد من المعارك وأصبحت هذه الهجمات ظاهرة مألوفة في (مثلث الرعب) كما سماه الجنود البريطانيون إشارة إلى المنطقة الواقعة بين نابلس وجنين وطولكرم.
كما وقعت معارك كبيرة في مرج (ابن عامر) و(وادي عزون) و(بابا الواد)، سقط فيها العديد من شهداء المقاومة لكن سقط معهم أكثر من الجنود البريطانيين.
وأثبتت الثورة أنها عصيه على السحق العسكري وأظهرت القدرة على القتال وكانت أعمال العنف والقمع تعزز روح المقاومة وتزيد في أعداد المنتسبين إليها
في المقابل اتخذت حكومة الانتداب تدابير عسكرية لقمع الثورة وفرضت الغرامات المادية الثقيلة والعقوبات الجماعية وعقوبات الإعدام واعتقلت الكثيرين وقامت بتخريب الممتلكات ونسف البيوت وهدم الحي القديم في مدينة يافا على رءوس سكانه...الخ.
ومع كل ذلك لم تستطع أن تخمد الثورة الشعبية.

وشعرت بريطانيا بعجزها عن وقف الثورة وإنهاء الإضراب بالطرق العسكرية فلجأت إلى الاستراتيجية التي تميزت بها وهي التراجع خطوة إلى الوراء والتفاوض السياسي.
فأعلنت أنها قررت إيفاد لجنة ملكية للتحقيق في قضية فلسطين وشكاوى الناس، ووضع التوصيات لحل القضية حلاً عادلاً كما زعمت
فما الحل الذي رأته بريطانيا حلا ناجحا لإيقاف الثورة أو على الأقل تهدئة الأجواء.
كان الحل –الذي لا زال الغرب يستخدمه إلى اليوم – هو توسيط بريطانيا لبعض الحكام العرب لإقناع الفلسطينيين بوقف الثورة، وقد حضر بعضهم إلى فلسطين ليجدوا إصراراً عظيما على الاستمرار في الثورة حتى تتحقق مطالبهم.
وتجددت الاتصالات بين القيادات العربية والقيادات العليا للثورة ولكن دون جدوى لأن قيادات الثورة الفلسطينية لم تجد فارقا بين مفاوضات البريطانيين وبين مفاوضات الحكام العرب الذين كانوا وكلاء عن بريطانيا في كافة أعمالها، وكان هذا الأمر معروفا لدى جموع الشعوب العربية منذ قصة الثورة العربية وما حدث فيها!

ولم تجد بريطانيا إلا العودة لسياسة حرق الأرض فاستحضرت بريطانيا قوات إضافية لسحق المقاومة حيث بلغ عدد القوات البريطانية في النصف الأول من أغسطس 1936 في فلسطين 70 ألف جندي
بالإضافة إلى نحو أربعين ألفا من قوات الشرطة النظامية والإضافية وقوة حرس الحدود في شرق الأردن وحرس المستعمرات اليهودية وقوات العصابات الصهيونية الشهيرة (الهاجاناه) ومعها بقية المنظمات المماثلة التي كانت تعمل كمنظمات إرهاب محترفة ومرتزقة
أي أن البريطانيين واليهود حشدوا للمقاومة ما يقارب من 140 ألف جندي وإرهابي، وهو حشد مذهل إذا عرفنا أن بريطانيا قد احتلت أقطارا كاملة، وواجهت جيوشا في شرق آسيا وإفريقيا بمعشار هذا الرقم.

وعلى الرغم من ذلك فشلت هذه الجهود وذهبت أدراج الرياح وظلت الثورة مشتعلة دون مهادنة أو ضعف.
ولكن التغير النوعي الحادث كان يكمن في نفاذ السلاح والمؤن، حيث كانت المقاومة تحارب فعليا بالجهود الذاتية ضد إمكانيات لا محدودة للعدو وسلاح لا ينفذ
فتدخل الملوك العرب مرة أخرى بطلب من بريطانيا التي كانت تهدف لإنهاء الإضراب – ولو مؤقتا-بأي ثمن.
فقام الحكام العرب بتوجيه رسالة إلى رئيس اللجنة العربية العليا لفلسطين لفك الإضراب وإنهاء المقاومة ولو مؤقتا فاستجابت القيادة خاصة بعد نفاذ القدرات الاقتصادية للشعب الفلسطيني وعدم وجود تعويض للفاقد أو دعم من أي نوع
ولم يكن هناك بد من التوقف خاصة بعد أن اشتعلت الأحداث العالمية بإرهاصات الحرب العالمية الثانية عام 1939م.
وكانت المقاومة الفلسطينية بعد ثلاث سنوات من القتال المستمر، واستمرار الإضراب طيلة هذه السنوات بلا ملل أو كلل، قد ضعفت قوتها كثيرا خاصة بعد أن فقدت رموز المجاهدين وعددا من قادتها الذين استشهدوا في الحرب ومنهم القائد العام (عبد الرحيم الحاج محمد)، وإصابة القائد (عبد القادر الحسيني) بإصابة فادحة استدعت رحيله مؤقتا لخارج البلاد عام 1938م.
فهبط معدل المعارك الفلسطينية ضد الاحتلال وأفلت زمام المبادرة من الثوار وانتقل إلى أيدي القوات البريطانية التي تحولت مع المنظمات الصهيونية إلى موقع الهجوم.
لكنهم لجئوا إلى نزع سلاح الثوار والمقاومة دون استخدام القوة الباطشة حتى يُغْروا الشعب بإيقاف فعاليات الثورة.
خاصة بعد أن أدرك البريطانيون أن الضرب العشوائي وسياسة حرق الأرض كان تزيد المقاومة لا العكس.

وكان من نتائج الثورة المهمة أنها كشفت القيادات المحلية والعربية التي تدخلت في قضية فلسطين بشكل أسهم في إجهاض الثورة وتعطيلها فضلا على سكوتهم عن دعم المقاومة سواء بالسلاح أو حتى بالدعم الاقتصادي المحض، ولذلك فالفلسطينيون قد اعتادوا فعليا على موقف الحكومات العربية منذ ذلك الحين
وهكذا انتهت أول الجولات الكبرى للمقاومة العربية الفلسطينية التي وقف خلفها الشعب الفلسطيني مع المتطوعين من الشعوب العربية.
وكانت دائرة الحوادث تؤدي حتما إلى النجاح المطلق للثورة وانهيار الحلف الغربي – الصهيوني وفشل مشروع الدولة اليهودية تماما، وذلك باعتراف عدد من أساتذة التاريخ الإسرائيليين المعاصرين
لولا أن وقفت الثورة عزلاء وقد نفذ سلاحها في مواجهة قوة عسكرية عظمى، وفي مواجهة تواطؤ حكومي عربي لم يكتف بالوقوف المحايد بل وقف ليكون خير عون للأهداف الغربية ولتثبيط همم المجاهدين، وتخويفهم من العواقب إذا استمرت الثورة مشتعلة!
وإذا شعرت عزيزي القارئ أن أحداث ثورة 1936م، مشابهة تماما لأحداثنا المعاصرة، فاعلم أن شعورك صحيح.
لأن الفيلم الحادث ليس فيلما جديدا بل هو فيلم متعدد الأجزاء بنفس السيناريو ونفس المخرج، لكن الاختلاف فقط في أشخاص الممثلين
وهكذا نرى أنه بنهاية هذا الفصل نستطيع أن نقول بأنه من بداية عام 1914م, وقت اشتعال الحرب العالمية الأولى, واجه المشروع الصهيوني أكبر خطر وجودي في تأسيسه عندما اشتعل الصراع الأوربي بين الجبهة الغربية (راعية المشروع) والجبهة الشرقية (المعادية للمشروع), ولكن سارت الأحداث القدرية لينتصر الحلفاء وتخرج بريطانيا من الحرب وهي القوة الأعظم في العالم, وهو ما يساهم في تسريع الخطى بالنسبة للمشروع الصهيوني للدرجة التي أعلنت فيها بريطانيا تبنيها للمشروع الصهيوني عبر وعد بلفور, فضلا على احتلالها للقدس وفلسطين كراعية رسمية له على الأرض.

ثم تعرض المشروع الصهيوني لمفاجأة عاصفة وصدمة غير متوقعة هددت وجوده واستمراره بالفعل، وهي اشتعال المقاومة المسلحة من السكان الأصليين العرب وإعلان الجهاد ضد الاستيطان اليهودي.
وهو الأمر الذي تبعه إعلان الثورة الشاملة ضد بريطانيا والعصابات الصهيونية عام 1936م، والتي حملت للغرب مفاجأة تلو مفاجأة
كان أول المفاجآت أن العرب في فلسطين أثبتوا أنهم موجودون على خط الأحداث، وأن السيطرة على الحكم والحكومات العربية من الاحتلال البريطاني لن يمثل شيئا لشعوب المنطقة التي تتحرك منفردة دفاعا عن قضاياها القومية، وتنتخب قياداتها الشعبية المعبرة عنها من واقع الأرض لا من كراسي الحكم أو عروش السلطة.
وعندما حاولت بريطانيا استخدام الملوك والحكام العرب الذين تملك ولاءهم، اكتشف البريطانيون أن الثورة الشعبية لا تأبه بهم، وأن هؤلاء الحكام لا يمثلون قيمة شرعية لدى عموم الناس.
وكان ثاني المفاجآت.
هو قدرة عرب فلسطين على تنفيذ الإضراب العمالي الأقوى في التاريخ، مع أن التقارير البريطانية والغربية جزمت باستحالة قدرة الشعوب العربية على اتخاذ موقف جماعي وثوري بهذه الثورية وهذا التنظيم.
وكان ثالث المفاجآت.
هي قدرة الشعب الفلسطيني والمتطوعين العرب على إعلان الحرب ضد بريطانيا واليهود بهذه القوة والجسارة ودون أي إمكانيات على الإطلاق اللهم إلا مدخراتهم وأموالهم التي بذلوها في سبيل شراء السلاح لينجحوا –دون أدنى خبرة عسكرية-في تركيع الجيش الإمبراطوري البريطاني بحرب عصابات دفعته دفعا لاستدعاء الآلاف من جنوده لجبهة القتال دون فائدة حتى اضطر لطلب المفاوضات عدة مرات.
ولولا نفاذ المؤن والسلاح من الثورة لاستمرت المقاومة حتى إجلاء القوات البريطانية وعصابات المستوطنين
وكانت هذه المفاجآت التي نجا منها المشروع الصهيوني بعامل القدر وحده، تثبت للبريطانيين ودعاة الصهيونية أن تخطيطهم الاستراتيجي ينقصه رقم مهم وخطير في المعادلة ألا وهو وجود الشعوب العربية التي حسبوها مجموعة من البدو لا تهتم إلا بمراعيها وحياتها اليومية، وكانت هذه الحقائق صدمة توقفوا عندها طويلا قبل أن تدهمهم أحداث الحرب العالمية الثانية التي كانت أخطر حدث يتعرض له المشروع الصهيوني وكاد أن يتسبب في فشله فعلا.
لولا أيضا أن تدخل القدر وتغيرت نتيجة الحرب بفوز الحلفاء.
وهو سنعرض له في الفصل القادم
يتبع إن شاء الله