عرض مشاركة واحدة
قديم 02-01-2011, 04:43 PM
المشاركة 20
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
من ديوان حوارية الحزن الواحد
الطبعة الاولى 1985

في الذكرى الأربعين لميلاد الخوف
عبد اللطيف عقل

خفت في صغري من الظلام، فقد كان يطول وخفت في صغري من النهار فقد كان يقصر، وأخاف في كبري من الظلام لأنه ما زال يطول وأخاف في كبري من النهار لأنه ما زال يقصر هذا إن جاء.

خفت في صغري من الشتاء بسبب البرد وخفت من الصيف بسبب الشر، وما أزال أخاف من الشتاء بسبب البرد ومن الصيف بسبب الشرد.

خفت من الجنة أن احرم منها، ومن النار أن أكون من نصيبها، وخفت من الجبل أن أقع عنه، ومن الوادي أن أقع فيه. خفت من الأفاعي والعقارب أن تلدغني وخفت منها أن اقتلها.
خفت من المطر أن ينحبس وأجف مع الزرع والضرع، وخفت أن يجيء فتغرق السيول القرى ويهلك الحرث والنسل.
خفت من أمي أن اتركها وخفت من أمي أن تتركني، وخفت من أبي آن يسافر ولا يعود وخفت منه أن أسافر ولا أعود.

خفت من عمي لأنه أكبر مني وخفت من عمي لأنني أصغر منه، وخفت من العصافير والفراشات لأنها ملونة ومن الغربان والحمائم لأنها ذات لون واحد.
خفت من النوم لأنه قد يطول ومن اليقظة لأنها قد تكون مزيفه، وما زلت في كبري أخاف من الليل لأنه يطول ومن اليقظة لأنها مزيفة.

قالت أمي أنني أتيت في ليلة شتاء ليلاء وكنت أرتجف مثل عود اللوز الناشف وكانت هي ترتجف مثل عود اللوز الناشف كذلك.
وقالت أمي أيضا، إن السيل ارتفع في الوادي تلك الليلة إلى حلوق الغنم فنفق أكثرها. وفسر معلم المدرسة الوحيد قول أمي ودعمه بقصة الفلاحين الثلاثة الذين ماتوا تلك الليلة خوفا، وقالت الشائعة السريعة الخطى ، إنهم ماتوا برصاص جنود سلاح الجو الملكي البريطاني.


ومنذ تلك الليلة وأنا أخاف ، أخاف من الأشياء وأخاف عليها، أخاف من الناس وأخاف عليهم، أخاف من الأطفال أن يضربوني . وأخاف عليهم أن أشتهي ما بأيديهم من أشياء كانت تبدو لي جميلة لأنني لا أمتلكها. وتكونت لدي عادات منذ تلك الليلة يعتقد علماء سيكلوجية اللزمات أنها شاذة:
اعتدت أن أعض أصابعي تأكيدا
أنها لم تهرب من كف رسغي .
اعتدت أن احك أذني مخافة أن
تكون قد هربت عن صدغي.
واعتدت أن أمحط بكم ثوبي مخافة أن يتهمني الآخرون بتوسيخ ثيابهم.
واعتدت أن أتعلق بأمي مخافة
أن أقع على الأرض.
واعتدت أن أخاف الوقوع على
الأرض لئلا تكون الأرض قد سرقت.
اعتدت أن أغيب عن عيني أخي الأكبر، مخافة أن يَسِملَ عيني.

وما زلت في كبري، أتشبث بالقلم أكتب به، لأنه الدليل الوحيد الباقي على أن أصابعي لم تهرب من كفي، وان رسغي ما تزال ملتصقة بساعدي.
وما زلت في كبري أوسع من صيوان أذني، فأستوعب الأخبار والتحليل السياسي، وأغاني عبد الحليم وأم كلثوم...لان هذه هي الطريقة الوحيدة للتثبت من التصاق أذني بصدغي، وتواجد صدغي في رأسي الذي يحمي قدرتي على التفكير، وما زال كم ثوبي ناشفا بنتاج زكامي، فأنا أكثر احتمالا لرعب سيلان أفكاري. وما زلت أتعثر بين الخطوة والخطوة فأقع على الأرض المسروقة وأتعثر في أرض الربع الخراب: سقطت في أرض الكافر، وأرض الهنود الحمر، وأخيرا أثرت السقوط مع ما تبقى من التراب ، على ما تبقى من الحبيبة إلى الأبد.

وكبرت بالعافية وفيها، وصرت في سن المدرسة، فأذهبوني إليها قسرا وعن غير عند، فقابلت مخاوف جديدة، عمقت مخاوفي حتى تاريخه:

صرت أخاف من الأسئلة التي يطرحها
المعلم، بسبب الأجوبة التي تضربها عصاه.
صرت أخاف من درس النشيد بسبب النسيان،
ومن درس الدين بسبب الخطأ في القراءة.
وصرت أخاف الخروج من الصف بسبب
الدخول إليه ثانية، ومن البنات لئلا أحبهن أو يكرهنني.

وراهقت مع الخوف في ليلة واحدة كان القمر قد اكتمل فيها، وفي صبيحتها أعلن المرحوم جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس، فارتفع برميل النفط من ثلاث سنتات إلى خمس ، وغادر أخي الأكبر مهنته الرعاية رأسا وبدون مقدمات إلى الحرب في الحرس الوطني، فخفت أن يعود، وخفت أن يعود سالما.
وبدأت في هذه السن المبكرة خوفا نمطيا من التهم، إذ كثرت الفتن، واختلط حابل الفكر بنابل الايدولوجيا:
بدأت أخاف الحديث عن العدل
والمساواة فأتهم بالمثالية.
بدأت أخاف الحديث عن هنا وألان فأتهم بالواقعية.
بدأت أخاف الحديث عن الوطن العربي الواحد فأتهم بالقومية. وعن الأمة الإسلامية الواحدة فأتهم بالعبثية، أو عن أبي ذر الغفاري فأتهم بالماركسية، وعن حق النساء في الاقتراع فأتهم بالإباحية.
وأصبت بالخرس.

يتبع،،،،