عرض مشاركة واحدة
قديم 08-14-2010, 09:23 PM
المشاركة 16
أحمد صالح
ابن منابر الـبــار

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي تابع
لم يكن بحاجة إلى فتح النافذة ليتأكد من أن كانون الأول 'ديسمبر' قد حل. فقد اكتشف ذلك في عظامه ذاتها عندما كان يقطع الفواكه من أجل إفطار الديك في المطبخ. بعد ذلك فتح الباب ورأي البهو فتأكد إحساسه. كان البهو بديعا، تغطيه الإعشاب والأشجار، أما المرحاض فكان يطفو في الضوء، على ارتفاع ميليمتر عن الأرض.
بقيت زوجته في الفراش حتى الساعة التاسعة. وعندما ظهرت في المطبخ كان زوجها قد انتهي من ترتيب البيت، ووقف يتحدث مع الصبيان عن الديك. واضطرت هي أن تقوم بالالتفاف من حولهم لتصل إلى الموقد. فصرخت بهم:
ـ ابتعدوا من طريقي ثم وجهت نظرة عابسة إلى الديك وقالت:
ـ لا أصدق تلك اللحظة التي سيخرج بها طير الشؤم هذا من البيت.
تفحص الكولونيل، من خلال الديك، مزاج زوجته. فلم يجد في الحيوان شيئا يدعو إلى التهجم. بل رآه مستعدا لبدء التدريب. كان عنق الحيوان وقوائمه وعرفه المخطط قد اتخذت صورة تامة، وزهوا لا يقاوم.
قال لها الكولونيل بعد ذهاب الصبيان:
ـ أطلي من النافذة وانسي الديك. فالمرء يشعر في صباح كهذا برغبة لأخذ صورة.
أطلت هي من النافذة، ولكن وجهها لم يعكس أي تعبير.
ـ 'أرغب بزرع الأزهار' قالت وهي تعود إلى جانب الموقد. علق الكولونيل المرآة على الدعامة ليحلق ذقنه، وقال:
ـ إذا كنت ترغبين بزراعة الأزهار، فازرعها.
ـ حاول أن يتذكر حركاته من خلال حركات صورته المنطبعة في المرآة.
قالت:
ـ ولكن الخنازير ستأكلها!
فقال الكولونيل:
ـ هذا أفضل. إذ لابد أن الخنازير المعلوفة بالأزهار ستكون لذيذة جدا.
تطلع من خلال المرآة إلى المرأة ولاحظ أنها مازالت تحمل نفس التعابير. وعلى بريق النار كان وجهها يبدو وكأنه مصاغ من مادة الموقد. ودون أن ينتبه إلى نفسه، وبينما عيناه معلقتان بزوجته، تابع الكولونيل حلاقة ذقنه باللمس كما فعل طوال سنوات كثيرة. فكرت المرأة خلال صمتها الطويل، ثم قالت:
ـ ولكني لا أريد أن ازرع أزهارا.
فقال الكولونيل:
ـ حسنا إذن لا تزرعيها.
شعر بأنه قد تحسٌن. فقد أذبل كانون الأول 'ديسمبر' مملكة النباتات التي في أحشائه. لقد لاقي صعوبة وهو يحاول لبس الحذاء الجديد هذا الصباح، وبعد أن حاول ذلك عدة مرات تأكد بأن جهده يذهب سدي، فعاد يلبس الجزمة ذات الكعب العالي. ولاحظت زوجته التغيير، فقالت:
ـ إذا أنت لم تلبس الحذاء الجديد فانه لن يتروض على قدميك أبدا.
فقال الكولونيل معترضا:
ـ إنه كأحذية المشلولين. واعتقد بأن على بائعي الأحذية أن يبيعوها بعد شهر من استخدامها.
خرج إلى الشارع يدفعه هاجس بأن الرسالة ستصله هذا المساء. وبما أن موعد المراكب لم يكن قد حان، فانه ذهب لينتظر دون ساباس في مكتبه. ولكنهم أكدوا له بأنه لن يأتي حتى يوم الاثنين. لم ييأس على الرغم من أنه لم يكن يتوقع هذا التغيير في موعد عودته. 'يجب أن يأتي عاجلا أم آجلا' قال لنفسه، ثم اتجه إلى الميناء.
دمدم الكولونيل وهو يجلس في متجر موسي السوري:
ـ السنة بكاملها يجب أن تكون ديسمبر 'كانون الأول'. فالمرء يشعر في هذا الشهر وكأنه مصاغ من بلور.
ولابد أن موسي السوري قد قام بمجهود ذهني كبير ليترجم الفكرة إلى عربيته التي نسيها تقريبا. كان رجلا شرقيا هادئا، مغطي حتى جمجمته ببشرة ناعمة وكأنه ناج من الماء فعلا.
قال:
ـ لقد كانت الأمور هكذا فيما مضي. ولو أن الأمر ما يزال كذلك الآن فان عمري سيكون ثمانمائة وسبعة وتسعون عاما.
ـ وأنت؟
ـ 'سبعة وخمسون' قال الكولونيل، وهو يلاحق موظف البريد بنظره. وعندها فقط اكتشف وجود السيرك. إذ رأي الخيمة المرقطة على سطح مركب البريد بين أكوام من الأغراض الملونة.
وضاعف موظف البريد من مجال رؤيته للحظة وهو يبحث بعينيه عن الوحوش ما بين الصناديق المتراكمة في مركب آخر. ولكنه لم يعثر عليها..
قال:
ـ ثمة سيرك. أنه أول سيرك يأتي منذ عشر سنوات.
تحقق موسي السوري من الخبر. ثم تحدث إلى زوجته بخليط من العربية والأسبانية. وأجابته هي من الغرفة المجاورة للمتجر. وبعدها قال شيئا لنفسه ثم ترجم للكولونيل ما يدور بذهنه:
ـ لابد من إخفاء القط أيها الكولونيل. فقد يسرقه الصبيان ويبيعونه للسيرك.
قال الكولونيل وهو يتهيأ ليلحق بالموظف:
ـ ولكنه ليس سيركا لحيوانات مفترسة.
فرد السوري:
ـ ليس مهما. فالبهلوانات يأكلون القطط كي لا تتحطم عظامهم.
لحق بالموظف بين متاجر الميناء حتى الساحة. وهناك فاجأته الضجة القادمة من ملعب مصارعة الديوك. وقال له أحدهم. وهو يمر. شيئا ما عن الديك. وعندها فقط تذكر بأن اليوم هو اليوم المحدد لبدء التدريب.
مر من أمام مكتب البريد دون اكتراث. وبعد هنيهة كان ينتصب وسط ملعب المصارعة المضطرب. رأي ديكه في حلبة الصراع وحيدا. بلا دفاع، ومخالب أطرافه مربوطة بخرق من القماش ويبدو عليه شيء من الخوف الواضح وسط صخب الساحة. وكان الخصم أمامه ديكا حزينا رمادي اللون..
لم يظهر على الكولونيل أي تأثير. فقد كان السجال بين الديكين بهجمات متكافئة. مرت لحظة سريعة متواصلة اشتبكت فيها القوائم والريش والأعناق وسط الهتاف الصاخب. ثم طار الديك الخصم مصطدما بالحاجز الخشبي وقام بالدوران حول نفسه وعاد للهجوم. أما ديكه فلم يهاجم، وإنما كان يدفع كل هجوم ويعود ليسقط في نفس المكان تماما. ولكن قوائمه لم تعد ترتجف الآن.
قفز خيرمان عن الحاجز الخشبي، ورفع الديك بيديه الاثنتين وعرضه للجمهور الذي على المدرجات. فحدث انفجار مجنون من التصفيق والصراخ. ولاحظ الكولونيل عدم التناسب ما بين حماسة الهتاف وزخم المشهد. وبدا له كل ذلك مجرد مهزلة تشارك بها الديكة بمشيئتها ووعيها.
تفحص الرواق الدائري الذي ينبض، بفضول يخالطه بعض الاحتقار. ثم نزلت مجموعة من الحشد الهائج عن المدرجات نحو الحلبة. ولاحظ الكولونيل. فوضي الوجوه الحارة، والجشعة، والحيوية بشكل رهيب. كانوا أناسا جديدين، جميع أهل القرية الجدد. وعادت لتحيا في مخيلته فجأة كما في نبوءة لحظة ضائعة في أفق ذكرياته. عندها قفز عن الحاجز الخشبي، وشق طريقه بين الحشد المتركز في ميدان المصارعة واصطدم بعيني خيرمان الهادئتين. اللتين تطلعتا إليه دون أن ترمشا.
ـ مساء الخير أيها الكولونيل.
أخذ الكولونيل الديك منه، ودمدم: 'مساء الخير' ولم يقل شيئا آخر، فقد هزه نبض الحيوان العميق والدافىء. وفكر بأنه لم يلمس أبدا في حياته شيئا بهذه الحيوية بين يديه.
قال خيرمان متلعثما:
ـ لم تكن موجودا في البيت.
وقاطعته موجة جديدة من الهتاف. فشعر الكولونيل بالفزع. وعاد يشق طريقه، دون أن ينظر إلى أحد، ذاهلا بتأثير التصفيق والصراخ، وخرج إلى الشارع والديك تحت ذراعه.
القرية كلها الناس الذين تحت خرجوا ليروه، وتبعه أطفال المدرسة. كان ثمة زنجي عملاق يقف فوق طاولة وقد أحاط عنقه بأفعى، يبيع أدوية بلا ترخيص في أحد أركان الساحة. وكانت تلتف حوله ثلة كبيرة ممن كانوا عائدين من المينا. يستمعون إلى مناداته الرتيبة، ولكن عند مرور الكولونيل حاملا الديك اتجه إليه. لم يشعر أبدا بأن طريق البيت كان أطول مما هو عليه اليوم.
كانت القرية ترقد منذ زمن طويل في نوع من السبات، الذي عاشت به عشر سنوات من التاريخ، وفي هذا المساء مساء يوم جمعة آخر دون وصول الرسالة المنتظرة استيقظ الناس. وتذكر الكولونيل حقبة أخرى، فقد رأي نفسه مع زوجته وابنه وهم يجلسون تحت المظلة يشاهدون عرضا لم يتوقف برغم المطر الغزير. وتذكر زعماء حزبه ذوي الشعور المسرحة بدقة، وهم يجلسون في بهو بيته يهوون وجوههم على أنغام الموسيقي.
عبر من خلال الشارع الموازي للنهر، وهناك التقي أيضا بجلبة الحشود كما في أيام الأحد الانتخابية الصاخبة. رأي عملية إنزال السيرك ومعدٌاته إلى البر. ومن داخل أحد المتاجر صرخت امرأة بشيء له علاقة بالديك. استمر في ذهوله حتى البيت، وهو ما يزال يسمع أصوانا متفرقة، وكأن بقايا هتافات ملعب الصراع تلاحقه.
عندما وصل أمام باب البيت، التفت إلى الأطفال قائلا:
ـ ليذهب كل إلى بيته. وإذا ما دخل أحدكم فسأخرجه بالحزام.
أغلق الباب بالرتاج ومضي مباشرة إلى المطبخ. خرجت امرأته من غرفة النوم وهي تشهق، وصرخت:
ـ 'لقد أخذوه بالقوة، قلت لهم أن الديك لن يخرج من هذا البيت مادمت على قيد الحياة'. ربط الكولونيل الديك إلى دعامة الموقد. وأبدل الماء الذي في العلبة، بينما كان لصوت زوجته المحتدم يلاحقه:
ـ قالوا بأنهم سيأخذونه من فوق جثتينا، وقالوا أن الديك ليس لنا وحدنا وإنما هو للقرية كلها.
وعندما انتهي من الديك، التفت الكولونيل ليلتقي بوجه زوجته القلق. واكتشف، دون دهشة، أنها لم تثر فيه أي تأنيب أو شفقة.
ـ 'حسنا فعلوا' قال بهدوء، ثم أضاف، وهو يفتش جيوبه، بلهجة عميقة عذبة:
ـ لن يباع الديك.
تبعته حتى غرفة النوم. وأحست بأنه إنساني تماما، ولكنه لا يمس، وكأنها تراه على شاشة سينما. أخرج الكولونيل من الخزانة رزمة من الأوراق النقدية وجمعها مع تلك التي كانت في جيوبه، ثم عدٌها جميعا وأعادها إلى الخزانة قائلا:
ـ ها هنا تسعة وعشرون بيزو سنعيدها إلى صديقي ساباس. والباقي سأدفعه له عندما يصل الراتب التقاعدي.
ـ وإذا لم يصل الراتب التقاعدي؟. سألته المرأة.
ـ سيصل
ـ ولكن، إذا لم يصل.
ـ عندها لن أدفع له.
عثر على الحذاء الجديد تحت السرير. فرجع إلى الخزانة بحثا عن علبة الحذاء، ثم نعليه بخرقة قماش ووضعه في العلبة، كما كان عندما أحضرته زوجته يوم الأحد ليلا. لم تتحرك من مكانها.
قال الكولونيل:
ـ وسنعيد الحذاء. وهكذا يصبح لدينا ثلاثة عشر بيزو آخر.
ـ لن يقبلوا إعادته.
فرد الكولونيل:
ـ يجب أن يقبلوا. لقد لبسته لمرتين فقط.
ـ ولكن الأتراك لا يفهمون هذه الأمور.
ـ يجب أن يفهموها.
ـ وإذا لم يفهموها؟
ـ عندئذ دعيهم لا يفهمون.
استلقيا للنوم دون طعام. وانتظر الكولونيل ريثما تنتهي زوجته من صلاتها ليطفىء المصباح. سمع أجراس الرقابة السينمائية، وبعدها على الفور بعد ثلاث ساعات سمع إشارة منع التجول.
أصبح تنفس المرأة المتحشرجة محزنا مع هواء الفجر البارد.
كانت عينا الكولونيل ما تزالان مفتوحتين عندما تكلمت هي بصوت استرضائي رصين:
ـ هل أنت مستيقظ؟
ـ أجل
فقالت المرأة:
ـ حاول أن تفكر بالعقل. وتحدث غدا مع الصديق ساباس.
ـ لن يأتي حتى يوم الاثنين.
ـ هذا أفضل. سيكون أمامك ثلاثة أيام للتفكير.
ـ ليس ثمة ما يستدعي التفكير.
كان هواء أكتوبر قد مضي وحلت محله برودة معتدلة. وعاد الكولونيل يشعر بكانون الأول 'ديسمبر' من خلال دقات الساعة التي تطلقها طيور الكروان. وعندما دقت الساعة الثانية. لم يكن قد نام بعد، ولكنه كان يعرف أيضا أن زوجته مازالت مستيقظة أيضا. حاول تغيير وضعيته في السرير.
ـ هل أنت مستيقظ، قالت المرأة:
ـ نعم.
فكرت للحظة، وقالت:
ـ لسنا في وضع يمكننا من فعل هذا. فكر جيدا بما تعنيه أربعمائة بيزو مجتمعة.
ـ بعد وقت قصير سيصلنا الراتب التقاعدي قال الكولونيل.
ـ انك تقول هذا الكلام منذ خمس عشرة سنة.
فقال الكولونيل:
ـ لهذا لا يمكن أن يتأخر الراتب كثيرا.
صمتت. ولكن عندما عادت للحديث، بدا للكولونيل وكأن الزمن لم يمر.
ـ إني أشعر وكأن هذه النقود لن تصل مطلقا قالت المرأة.
ـ ستصل.
ـ وإذا لم تصل.

ما أعظم أن تكون غائبًا حاضر ... على أن تكون حاضرًا غائب