عرض مشاركة واحدة
قديم 07-20-2011, 12:29 AM
المشاركة 6
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
ومن هنا ينبغي أن ندرك أن الرمز فى أى مجتمع له شروط وأولها أن يكون من أهل العلم والرأى مع التطبيق ,
لا من أهل الرأى والسياسة مع التصفيق ! , كما يجب أن يكون من قيادات الفكر التى يُـناط بها توجيه الرأى العام , والمفكرين الذين يقدمون للناس خلاصة الرؤي فى القضايا المختلفة , وأصحاب المواقف الثابتة القيادية المعبرة عن نبض المجتمع أو حتى عن بعضه والهادفين لإصلاح المجتمع لا لتحقيق مصالحهم
وبهذا الحصر يخرج كافة الأشكال التى اعتاد الإعلام السابق تقديمها لنا لمناقشة القضايا الجوهرية ممن لا يصلحون أساسا كأفراد عاديين يساهمون فى المجتمع فضلا على أن يتم تقديمهم كرموز فكرية !

والآن ..
فى ظل الثورة الفكرية التى نحتاجها تبعا للثورة السياسية , ينبغي لنا إعادة ضبط الموازين أولا قبل أن نكيل الكيل ..
نحتاج أن نطبق عمليا ـ ولو لمرة واحدة ـ أن نعرف الحق أولا ثم نعرف رجاله , لا أن نعرف الحق بالرجال ..
وما يهمنا فى قضية الرموز هو إدراك المعادلة التى يتعين علينا أن نُسقط الرمز عن مكانته فى المجتمع على أساسها , ولا نأخذ منه علما أو فكرا باعتباره غير مأمون الجانب ..
وهذا لا يتحقق إلا بالثقة التامة فى أن هذا الرمز خان مجتمعه الذى رفعه , ولم يؤد أمانته الواجبة فى القول الفصل وإرشاد الناس عن طريق الهوى أو النفاق أو التلون لتحقيق مكاسب شخصية ..
وقد ظهرت عشرات النماذج لهذا الأمر خلال فترة الثورة , وكلها تستحق الإسقاط للأسف الشديد لأنه ثبت بالدليل القاطع أنهم يتبعون الجواد الرابح ولا يدينون إلا لمصالحهم سواء كانوا من العلماء أو الدعاة أو المفكرين
وما يثير الإستغراب أن هؤلاء الرموز لم يكتفوا بالوقوف السلبي المهين من الثورة وأحداثها , بل انقلبوا وتحولوا بعد نجاحها تماما وأظهروا أنفسهم كما لو أنهم كانوا من مفجرى الثورة وقادتها , ومن المدافعين عن الحق وأصحابه !!
ووجه الإستغراب أن التلون جاء فادحا والإنقلاب كان شاملا ! , وفى ظل أدوات إعلامية تتيح للعامة من الناس أن تقارن ببساطة ويسر فائقين بين مواقف هؤلاء الزمرة فى البداية ومواقفهم فى النهاية ..
وقد حاول بعضهم الإفلات من الفخ عن طريق الإعتذار للمجتمع الثائر بأنهم لم يكونوا يدركون الحقيقة , وأن الإعلام الرسمى والنظام ساهم فى تضليلهم !!
وهذا عذر أقبح من ذنب ..
فإذا كان العامة من الناس لم تقع رهن الخداع من النظام الذى انكشفت عورته أمام الكافة , فكيف بالعالم والمفكر والداعية أن يقع رهن الخداع من أجهزة إعلام ونظام احترف الكذب والتضليل ؟!
والأهم من ذلك ..
هل كان فساد النظام طيلة ثلاثين عاما فى حاجة إلى من يوضحه , أو من يظهره بعد أن كشف النظام عن وجه سافر فى تحدى كافة الإرادة الشعبية سواء فى السياسة الداخلية أو الخارجية !! ؟
وأخيرا ..
لو تتبعنا هذه الزمرة من المتحولين سنكتشف أنهم جميعا كانوا من سدنة النظام وحراسه طيلة الفترة السابقة ولن تجد لأحدهم كلمة واحدة فى الإعتراض على بشاعة سياسة القهر والإرغام التى يمارسها النظام فى الداخل أو سياسة الخيانة والعمالة التى يمارسها فى الخارج ,
هذا بالرغم من أنهم كانوا يرفعون عقيرتهم بالإعتراض على أهون الأمور وأتفه القضايا , أما الحكام وسياسة الحكام فهؤلاء محصنون من نقد هذه الزمرة

ولا شك أن محاولة اعتذار هؤلاء العلماء والمفكرين غير مقبولة للمجتمع ولا تنم إلا عن نفاق متجذر الطباع للطرف الرابح , لأنهم يدركون تماما أنهم كانوا ينافقون النظام الحاكم على حساب أمانة الكلمة , وجعلوا من أنفسهم أدوات تضليل مضاعفة مع الإعلام الرسمى لثقة الناس فيهم ,
وأكبر دليل على ذلك ..
أن كل من اعتذر بالوقوع فى الخداع بسبب موقفه السلبي من الثورة , لا زال حتى اليوم ينافق ويسكت عن باقي أنظمة الحكم العربي التى ثارت وتثور شعوبها بسبب فساد حكامها ,
والأهم ..
أنهم انقلبوا إلى منافقين لمن بيدهم السلطة اليوم , وهم أعضاء المجلس العسكري ! , مما يؤكد أن هذا الأمر طبع يغلب التطبع ..
ولو كان هؤلاء الناس يعتذرون عن صدق نية حقا , لسمعنا منهم كلمة حق واحدة تجاه أى حاكم لا زال فى السلطة , أو تجاه أى موقف خاطئ للمجلس العسكري أو الحكومة الحالية ,
وهو ما لم يحدث ولن يحدث على الإطلاق !
ذلك أن النية نفسها اتضح فيها الخلل , والإخلاص كان غائبا بالهوى الشخصي ,
وهؤلاء جزاؤهم السقوط الحتمى , ولا يمكن قبول اعتذارهم بأى حال , ذلك أنهم لم يعتذروا عن خطأ , بل قدموا الاعتذار الشكلى لتغيير البوصلة لا أكثر ولا أقل , بهدف استمرار الشعبية أو استمرار التواجد على الساحة !

وطالما اهتز الإخلاص وتمركز الهوى فى نفس العالم أو المفكر , فقد سقطت قيمته حتى لو كان أكثر أهل الأرض علما وفكرا , طالما أنه خان أمنته وضميره وساهم متعمدا فى تضليل الناس عن الحق , وهو أولى الناس بهدايتهم إليه ,
ذلك أن علمه سيكون رهنا لهواه , وفكره سيصبح أداة من أدوات خدمة ذاته , لا خدمة التوعية وخدمة الجمهور ,

ولكى يستطيع المرء أن يكرس لنفسه المبادئ الواضحة للحكم على مواقف الرجال والعلماء , عليه أولا أن يربي نفسه على المبدأ الأصيل ( اعرف الحق .. ثم اعرف رجاله )
فيحدد الحق الأبلج الواضح الذى لا يحتاج إرشادا , ثم ينظر بعد ذلك إلى القائل به فيتبعه ,
وأما الحكم على الرموز بالإسقاط فيكون فقط حال التيقن من سوء النية وغياب الإخلاص فى هذا الرمز أو ذاك , مع مراعاة الفارق الضخم بين المواقف التى يتخذها بعض العلماء أو المفكرين عن خطأ رؤية حقيقي ـ والخطأ مغفور مهما بلغ ـ
وبين المواقف التى يتم اتخاذها عمدا .. بقصد تحقيق مآرب شخصية أو أهواء متأصلة ـ مهما كانت درجة الخطأ هنا بسيطة وهينة ـ لأنها تكون فى هذه الحالة عنوانا لطامة أعظم بكثير وهى طامة فساد النية فى العلم والعمل

وهذا يمكن شرحه فيما يلي
فى البداية ينبغي لنا أن نؤصل لقاعدة كبيرة ومهمة وهى أنه لا أحد معصوم لا من الخطأ ولا من الهوى ,
أما الخطأ فهذا أمره يسير إذا لحق بالعالم او المفكر أو السياسي لأن الإجتهاد صاحبه مأجور حتى فى الخطأ ـ طبقا للقاعدة الفقهية الشهيرة ـ لأن المجتهد يلتمس الحق دوما بنية مخلصة
ومن المستحيل أن نُسقط عالما لأجل أنه غفل عن قاعدة أو حديث أو أخطأ القياس والتفسير , أو أن نسقط مفكرا لأنه غفل عن معلومة أو قدم رؤية خاطئة لأى سبب من الأسباب الطبيعية المقبولة , أو نسقط كاتبا دافع أو اتخذ موقفا خاطئا تبعا لرؤية ملتبسة خدعت كثيرين مثله وعندما عرف بخطئه تراجع عنه
فالخطأ مهما بلغ فهو مردود ومكانة صاحبه محفوظة طالما أن الفعل كان فى محتوى الخطأ
وتعريف الخطأ هو الزلل الذى يقع فيه الإنسان عن غير عمد قاصد بذلك الصواب ,
نكرر ..
الخطأ هنا هو الفعل الناجم عن غير عمد , وداعى التكرار والتركيز أن هذه النقطة بالذات ـ نقطة العمد ـ هى المقياس الوحيد الذى يتم وصف الفعل الخاطئ على أساسه , فيكون بوجود العمد جريمة غير قابلة للغفران , وبغياب العمد خطأ مغفورا
مثل خطأ أبي حنيفة فى قوله أن الإيمان قول باللسان وإقرار بالقلب فقط دون العمل مستدلا بالآية الكريمة :
( الذين آمنوا وعملوا الصالحات )
فافترض أن الواو هنا فاصلة بين الإيمان والعمل واستنبط منها اجتهاده السابق , وهو بخلاف الإجماع أنه قول وعمل
وجاء الشافعى فأبطل هذا الإستدلال باحتجاجه بالآية الكريمة
( رب المشرقين و رب المغربين )
فالواو لو كانت هنا فاصلة لكانت كارثة إذ أنه معنى ذلك وجود إلهين واحد للمشرق والآخر للمغرب !
وبالتالى فالواو الأولى ليست فاصلة بل واو للبيان وحسب
ورغم أن قول أبي حنيفة فى الإيمان مخالف ويعتبر أحد أقوال المرجئة " [1] "ــ إحدى الفرق الشاذة ـــ إلا أن أحدا لم يأخذها عليه كذلك لأنها جاءت بخطأ فى الإستدلال فحسب
أما الهوى ..
فهو المعضلة الحقيقية , ذلك أن الخطأ بهوى يختلف عن الخطأ المجرد حيث يصبح الفعل شبه عمدى , بحيث يستجيب فيه العالم لهواه ضاربا الأدلة جانبا ,
والهوى هو الذى يسقط العلماء لكن بشروط ..
فالهوى ليس نوعا واحدا كما أنه ليس مقدارا واحدا
لأنه موجود فى الفطرة البشرية بطبيعتها ولا يوجد إنسان خال من الهوى مطلقا إلا المعصومين
ولهذا فإنه ينقسم إلى نوعين , لكل منهما حكم مختلف ..

أولا : هوى فطرى تقليدى لا يؤثر فى صاحبه
وهذا النوع من الهوى لو توفر الإدراك له لوفر الكثيرون من ذنوب الطعن بالعلماء وأعراضهم ..
لا سيما وأن الطعن فى أى شخص بالأصل هو جناية عظمى كما ورد فى الحديث الذى صححه الألبانى فيما معناه
( إنه من أربي الربا أن يخوض المرء فى عرض أخيه )
فكيف إذا كان الخائضون فى الأعراض يخوضون فى أعراض العلماء الذين هم ورثة الأنبياء ولحومهم مسمومة من تتبع عوراتهم بغرض فضحها تتبعه الله حتى جوف بيته
والسبب فى نزوع بعض طلبة العلم والشباب المتسرع إلى الطعن هو تحمسهم الشديد لما ينتسبون إليه من توجهات وآراء فلا يتحملون عليها أدنى مخالفة ومن ثم إن وجدوا أحد كبار العلماء وله هفوات من الهوى الطبيعي الغير المعيب أساسا ..
تجدهم سراعا إلى رفضهم وإسقاطهم وحتى دون مستند
( مع ملحوظة شديدة الأهمية , وهى أن هذا النهى المغلظ مقصود به مجال الطعن الشخصي , أما الرد على العلماء فى الآراء والمواقف , ومهما بلغ الرد من العنف , فهو خارج إطار التعدى على العلماء بالقطع , ولا يعتبر إطلاقا خوضا فى أعراضهم , فالمقصود هنا هو نزوع البعض إلى إسقاط حشمة وقيمة بعض العلماء بناء على آرائهم الفقهية أو الفكرية أو مواقفهم التى قد تكون خاطئة لكنها مبررة .. )

و التصيد للأهواء فى العلماء وإسقاطهم يخالف إجماع السلف بل وإجماع المفكرين والمحققين العقلاء ـ حتى من خارج مجال الشريعة ـ على أن الهوى المحتمل هو الذى يدور حوله المثل المعروف
( الإختلاف لا يفسد للود قضيا )
والإنسان مهما بلغ من القدرة على الحياد سيعجز أن ينأى بنفسه عن الهوى التقليدى الكامن فى طبيعة ذاته .. مثال هذا الهوى المحتمل الشدة التى عرف بها بن حزم فى مناظراته ومحاوراته وثقته المتينة بعلمه وفضله ..
لا شك أن هذا نوع من الهوى .. لكنه مقبول لأنه بالفعل عالم محقق مدقق وفضله لا ينكره أحد
وشدته التى ألبت عليه علماء عصره كانت إحدى مميزاته فى جانب آخر
وهو جانب دفاعه عن عقيدة أهل السنة فى مواجهة الفرق المختلفة والملل الزائغة كاليهود والنصاري
وتراثه العلمى مشهود ـ ليس عندنا فقط ـ بل حتى فى أوربا التى نقلت علمه عبر الأندلس وأبحرت فى مجالاته الفكرية حيث لم يكتف بن حزم بعلوم الشريعة بل صنف فى الفكر العام والأدب كما فى كتابه طوق الحمامة :


الهوامش :
[1] ـ راجع كتاب ( الفرق بين الفرق ) ـ الخطيب البغدادى