عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
27

المشاهدات
6601
 
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي


ياسر علي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
1,595

+التقييم
0.38

تاريخ التسجيل
Dec 2012

الاقامة

رقم العضوية
11770
06-07-2014, 08:02 PM
المشاركة 1
06-07-2014, 08:02 PM
المشاركة 1
افتراضي مخبول... و مخبولة ...
صباحا توجهت صالحة نحو محطة الحافلة التي تقلها بمعية المستخدمين ، مرت بجانب السوق الشعبي الذي دبت حركة الباعة فيه قبل وصول الزبناء ، فهمّت بالمرور لولا أن جذبتها إليه قوة خارقة وشوق جارف دام لأسبوعين ، كل مساء تخترق باحاته و هي تقتني بعض حاجاتها ، كلما مرت برحبة السمك علا صياح بائع الأعشاب الستيني ، بلهجته الغريبة المزعجة " كزبرة ، ليمون يا محبي الأسماك " .

عيناها تتفرسان الرحبة لعل صورته تظهر، تكاد ترى بقلبها العاشق عينيه البراقتين و وجهه الباسم المتخفي وراء لحيته غير المهذبة و صلابة عضلاته و ملابسه الخشنة و هو يوزع الصناديق على الباعة من محل التبريد ، مالت خطواتها جهة المخزن مطلة بوجهها المشرق من باب حديدي عتيد فاتح لدفتيه ، عيناها لم تتوجعا من رؤية السمك و سبابتها لم تتسلل لفرك أرنبة أنفها ، أطالت النظر فكاد يصدمها حامل الصندوق مطلقا صيحة تنبيه أن أفسحي الطريق يا فتاة ! استيقظت على صرخته الحادة فوجدت نفسها واقفة متسمرة أمام المخزن ، طافت ببصرها لتجد بائع الأعشاب يحدق نحوها بعينيه الغائرتين ، وقد تعودت على غمزه الخفيف كلما قطع عليها ناصر الطريق ، كان يطلق صوته عاليا " ليمون ... بقدنوس... كزبرة ... "
انتشلت جأشها المبعثر و حركت قدميها المتثاقلتين ، عاودت النظر إلى المحدق نحوها فأرعبها وجه سطرت الحاجة معالمه ، و تلذذ نحل السنين بامتصاص رحيق ملاحته . فكرت بالرد على تجسسه وتعقبه لحركاتها ومحاصرته لعفوتها و لعنفوان رغبتها ، قطبت جبينها وهمت برشق فضوله بلعنات تضخمت على طرف لسانها لولا دين على عاتقها لجم سخطها . احست بيد غادرة تمتد نحو محارمها و الحرارة تجتاح جسمها والعرق يندي جسدها الملتهب و هي بين دهشة و فتور، رمشة عين على استدارتها كانت كافية ليستل الصعلوك من يدها محفظتها مبرزا في وجهها مدية من وراء سترته كبحت فيها طلب النجدة ، لكن صوتا نشازا تلألأت نبراته المميزة مستصرخة ، فإذا بصندوق ناصر يهوي على رأس السارق فتناثرت أسماكه فوق جثته قبل أن يتنفض هاربا ، ويد قوية تمد المحفظة لها و لم تنتظر تمتة شكر من شفتيها المتراقصتين المثقلتين بجفاف ريقها .
تحركت صوبه بخطوات حازمة و لسانها يفصح عن غضبها : " وقوفك بجانبي يومها لا يمنحك وصاية علي ، فرغم طيبوبتي فأنا أنتقم لشرفي ." رد عليها ببرودة: " ربما افتقدك هو أيضا ، إن أباه مصاب بوعكة صحية .. " ما إن أتى ذكره على لسانه حتى تفتحت شهية مسامعها و طارت ظلمة انتقامها ، و رأت الوجه المرعب فانوس نور تشع من خلاله صورة من لم تتصور أنها أضحت معلقة بأهداب عيونه ، وطالبة لإشراقة طلعته ، أربكتها اللهفة فسألته : " متى سيعود ؟" تبسم بخبث فأحست بتسرعها في إفشاء مشاعرها لرجل غريب ، بل لشخص بشع وقح ، علت حمرة وجهها بعد سماع جوابه المقيت بسخرية : " هائمة إذن يا عصفورة!" تتابعت خطواتها تاركة السوق و في حلقها غصة تخنق أنفاسها ، لعام كامل استطاعت أن تكتم سرها و تحكم كبح اندفاعها ، ربما تراخت حبال ألجمتها و أصبحت نزوتها تقودها ، تذكرت الحافلة و خطفت نظرة إلى ساعتها ، آه هذا وقت الحافلة ، بدأت توسع خطواتها و تزيد من سرعتها ، عند المنعطف رأت الناقلة تغادر المحطة فازداد حنقها وغضبها ، يجب أن تدفع لسيارة الأجرة . ضربت كفا بكف و هي تتأفف من تعثر حظها ، فالعربات لا تكثرت لإشاراتها و الدقائق تتابع مهرولة ، تهيأت لها صورته أمامها فبصقت في وجهه المنكوث ببقع رمادية و كاد صوته المزعج يصعق كبرياء ثباتها ، حوقلت و تعوذت من شر رؤيته صبحا ، و أقسمت أن لا تعود إلى ما فعلته اليوم ، كان عليها أن تستقبل الحديقة بدل السوق الشعبي ، فلربما منحتها زهورها حظا موفقا .
توقف المصعد و فسح الباب فتحة أمامها و عقب حذائها يحدث صوتا مزعجا تمنت لو يصمت قليلا فتتسلل إلى مكتبها دون لفت الانتباه ، فالتفاتة الموظفين تزعج مشيتها ، و تضطرها إلى افتعال بسمة وقاية من تأثرها بنظراتهم الحاملة لعلامات تعجب و استفهام ، أخيرا وصلت إلى كرسيها و ضغطت على زر الحاسوب لكنه تأخر في الاستجابة لتمد يدها إلى الهاتف فور تراقص رناته ، صوت من مكتب الضبط يأمرها بالتوجه إلى الإدارة ، قامت و مزاجها ملتهب ، تحاول ترتيب الأعذار عن تاخرها ، تحاول اختراع كذبة بيضاء تنجيها من شطط القانون المذل ، خمسة عشر شهرا وهي تناضل من أجل قطف شهادة الأهلية و الترسيم كمحاسبة ، نقرت نقرة خجولة على باب الإدارة فسمعت همس المدير : " تفضلي.. " وقبل أن ينطلق لسانها بالسلام ، قال في حزم : " ما سبب تأخرك لساعة ونصف الساعة ؟" ردت وهي تكابر قشعريرة دبت في أوصالها : " من فضلكم سيدي ، أمي مصابة بالزكام . و..." ازداد منسوب النبرة الجافة من المدير : "هذا ليس عذرا يا صبية ، لماذا لم تهاتفي الشركة لتتخذ الإجراءات الضرورية ؟ أتعلمين أن دقائق من الإهمال كافية لتصيب الشركة بالإفلاس ؟ أنت لست أهلا لهذا المنصب ." ردت و الدموع تسيل من منابعها و تتجمع على أطراف جفونها . " سيدي لن أكرر ما فعلت ، ولكم الفضل في قبول طلبي للترسيم أنتم و رئيس مجلس الإدارة ، كما أنني لم أخطئ طيلة المدة التدريبية و أنتم يا سيدي أدرى بكفاءتي في عملي .." فقاطع لسانها الذي بدأ يتحرر من عقده : " انظري هذا قرار الاستغناء عن خدماتك ، لا مجال للتساهل ، قانون السوق ربح أو خسارة ...." صاحت في وجهه شاكية من الظلم الذي لحقها ، والتعسف الذي بخس مجهوداتها ، و القسوة التي قوبل بها تفانيها ، و التجاهل الذي أبدته الإدارة لمطالبها منذ وطئت أرض الشركة . فرد عليها المدير : " أتعلمين أن رئيس مجلس الإدارة يوجد في حالة عجز ، و قد كلف ابنه بشغل منصبه لأنه المساهم الأول في الشركة ، أتعلمين أنه عقد اجتماعا مع كل الموظفين والمستخدمين و أنت لا تزالين تغطين في فراشك ، أتعلمين أولى تعليماته أن لا تساهل إلا بعذر مقبول ناتج عن سبب قاهر . " علا صياحهما فاقتحم عليهما ناصر المكتب ، نظر نحوها و العجب يرتسم على ملامحه ، إنها صالحة بلحمها ودمها وجمالها الفتان ؟ كيف تصرفت هكذا مع المدير ؟ كيف امتدت يداها إلى الأوراق تمزقها ، أصابتها الدهشة و هي تنظر إلى ناصر في حلة جديدة و وجه حليق و المدير يتملقه و بين الكلمة و أختها يفخم سيدي الرئيس ، كادت ركبتاها تفشلان في دعم وقوفها ، غطت وجهها الملطخ بالدموع بكفيها مطأطئة رأسها ، توجهت منحنية نحو الباب ، والمدير لا يزال يذكر مساوئها لرئيسه الجديد الممسك عن الكلام ، في الشارع بالكاد تتبين ملامح العالم و صوت بائع الكزبرة يتردد في أذنيها و هو ينطق آخر كلماته : " مخبول و مخبولة ."