عرض مشاركة واحدة
قديم 06-11-2014, 01:02 AM
المشاركة 5
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
بائع الكزبرة أطلق العنان مسافرا عبر تأملاته لما غادرت صالحة سوق السمك : " تراهما يتغلبان على أنانيتيهما ويترجلان من برجيهما العاجيين ليشيدا مجد الحب ، أم أنهما لن يختلفا عن الكثيرين الذين يتوقفون عند أول عثرة ، ناصر طفل في هيئة رجل ، مشاعر خفيفة و صوت هامس ، انسحب مبكرا من الحلبة ، أتكون هذه المدارس هي من تقلم شوكة العزم في الصبيان ؟ أتكون الأجيال مختلفة ؟ جيلنا لا يستسلم أبدا ، قهر الفقر المذقع و المذل ، بنينا الوطن و قد تركه المستعمر خرابا ، أتكون المصائب من تصنع الرجال وتشحذ الهمم ؟ هل أكثرنا من الدلال لأولادنا حتى أضحت طبائعهم مهذبة ، ينسحبون من المعارك بلا محاولة ، أتكون الحرية من فعلت بهم الأفاعيل ؟ و هل هناك حرية ؟ ( ألم تكن الحياة ناجمة عن واجب ، و نعيشها بالإكراه و نموت بحادث وصدفة ) فأين الحرية التي عنها يتحدثون ؟ جيل لا يستحق أكثر من الشفقة . " غادر بائع الكزبرة قريته مطلع الاستقلال و هو لا يزال صبيا ، نام في الشوارع و امتهن كل الحرف ، فاستقر على النشل حتى سجن ، في الزنزانة تعلم أن الحياة تتموضع في الوسط ، و لاتحتاج إلى كثرة مجهودات ، بل ذكاء وحيل و تصرف يضمن السلامة من الأذى ، هناك تعلم أساليب المعاملة ، لو بقي على عفويته لارتكب الكثير من الجرائم داخل السجن و لبقي هناك أبد الدهر ، قدم حزمة بقدنوس و ليمونتين للزبونة و رجع إلى رياضته العقلية و فسحته " الحياة مسرح كبير تتغير فيه الأدوار كل لحظة ، و الكيس من يتقن تقمص الدور الذي يقتضيه الموقف ، لن يتأتى ذلك إلا لقارئ الأحداث و العارف بمنطق الكون . رغم ذلك فهذان الطفلان نقرا نقرة الليونة في فؤادي ، أرى فيهما رمزا للبراءة ، رمزا للبدايات الأولى ، وقتها كانت حتى الطبيعة تكلم وترشد الإنسان يوم كان جزءا منها يسير وفق نواميسها ، يتأبط سذاجته فتجعل له مخرجا من كل الآفات ، أما اليوم حيث يعتبر الإنسان نفسه أهلا و قوة بيدها مفاتيح المستقبل ، فالطبيعة هجرته بل بين الفينة والفينة تغضب منه وتتركه فريسة لنزواته ، هذان الولدان يعشقان الحياة هما ذاكرة الإنسان التي فقدها ، هما مشكاتان قد لا يكفي نورهما لإضاءة الكون لكنهما يملكان ترك بصمة إن استطاعا الصمود ، وخبرا ما يجعلهما يتحملان المنعطفات ؟ أليست الحياة تضطرب بأخطاء بسيطة ، فكم شمسا خسفت في مهدها و كم نبيلا نالت منه المنعرجات ! "
تعكر مزاجه فأحس بلغة الكون تخز فسحته ، لاشك أن صدمة هزت قلعة حصينة ، لكنه متمرس على كبح نزوات نفسه التي تحاول بين الفينة والفينة الزج به إلى مقارعة الحزن ، إنه يقظ ، العاصفة زمنها قصير إلا على الذين يكابرونها و يعاندونها ، فكل ما انتصب أمامها شقى و تكسر قوامه ، ومن انحنى تركته سالما آمنا ، إنه ناموس الطبيعة ، لا يجابه الحزن إن زاره كي لا يترك في نفسه كسورا لن تجبر يوما . أخبره عقله أنهما في لجة فوضى يعتصرهما الألم ، فقلبه مربوط بتلابيب قلبيهما ، عاش معهما عاما كاملا ، رآهما منذ اليوم الأول في السوق ، حين جاء ناصر ، وقفت وقفة عجيبة تسجل كل حركاته و ملامحه ، مد إليها الكزبرة لكنها لا تبالي ، قام ثم جلس و لا حياة لمن ينادي ، إنها وجدت من تبحث عنه ، التفت نحوها مرتين في الأولى مستغربا و الثانية مبتسما ، إنها لغة القلوب . عند ذاك فقط استرجعت نفسها و قالت : " أين حزمي ؟ " نظر إليها ولم يجب و اكتفى بالإشارة نحو قفتها و رفع صوته عاليا : " كزبرة...ليمون... يا محبي الأسماك " نظرت نحوه باشمئزاز و ابتلعها السوق .

أخيرا جاءها الرد بشغور مقعد في طائرة ستقلع بعد ساعتين ، دفعت ثمن التذكرة عبر الأثير ، و وضبت حقيبتها ، جرتها خلفها مطلقة العنان لشعرها تهزه نسمات قادمة من المحيط ، تودع نخلات كانت تزين الشارع ، وضعت نظارات شمسية كي لا تتأذي عيناها من تفاصيل وجوه لفحها القحط ، وجردتها الخيبات من نضارتها ، تذكر خطاب أمها كما تلك المواويل التي يكررها السياسيون ، انتهى عصر التوجيه أيها العالم القاحل ، مات عصر الدروشة و القبول بأشباه الحلول ، إنه عصر التخلص من كل المعطوبات ، مات عصر الإصلاح ، تلفاز معطوب إلى الكسارة ، صنبور يقطر إلى المزبلة ، حاسوب معطل إلى المطرح ، كلام هزيل إلى مهب الريح ، إنه عصر الكينونة بالفعل والقوة معا ( أكون أو لا أكون ) تراخت خطواتها فكلما اقتربت منها سيارة زادت من سرعتها ، حظها مع المواصلات غير موفق اليوم ، طوال مدة خدمتها الرتيبة في الشركة ، اكتسبت ثقافة لم تكن يوما بها عليمة ، تأثير البعيد في الفعل ، دورة النجوم والأيام المشؤومة ،ماورائيات تكبح الفعل و الفوز، طرق يائسة في التعامل مع الصعاب ، وضع تميمة ، ارتداء خميسة وغيرها من الأوهام ، إنها نظرية المؤامرة تحيط بالفعل ، تبريرات للفشل ، وتهدئة للعقد و الإحباطات إلى حين . تأففت من هذه اللعنة المقيتة التي تلبست تفكيرها ، تريد أن تتحرر ، أن تعود إلى سابق عقلها الناضج المؤمن بالقدرة على الفعل عندها استجابت سيارة أجرة لطلبها الملح ، نطقت بكلمة المطار فعاود السائق المسير بدون إجابة ، يا لها من طريقة في التعامل مع الزباء ، كلنا تافهون ونصر على تفاهتنا ، أف تقترب ساعة الرحيل ، لوعلمت بأنها ستواجه هذه المعضلة ما استحمت و ما وقفت تلك الدقائق أمام المرآة ، يزداد غبضها ، إنها ذات العجلات الثلاثة تقف لها أخيرا دون أن تسألها الوقوف ، إلى أين يا كتكوتة ؟، كادت تصفع وجه السائق جراء هذا التحرش الظاهر، لولا أنها بحاجة لهذه الخدمة اللعينة لأوقفته عند حده ، دراجة بهئية أسيوية كانت تستعمل فقط لنقل البضائع ، الآن تحمل البشر بلا ترخيص ، إن وقعت حادثة فلا تأمين ولا تعويض ، وقف عند الميكانيكي قائلا : "لا تبتئسي يا غزالة سيصلح الدراجة بسرعة " ما هذا الحظ الموفق ؟ دفنت وجهها بين ركبتيها و طفقت تتأمل المشهد ، "هل أصحاب المكان يرغبون في بقائي ، تبا لهذه الترهات التي تأتيتي رغما عن أنفي ، وهذا الزنديق الذي يتغزل بي كل حين ، هل لم يبق من المصائب غيره " تذكرت أنه عندما يكون الفرد في حالة عصبية رهيبة فأحكامه لا تكون موفقة ، بل يؤول دماغه كل شيء بسلبية .
أخيرا وصلت إلى بوابة المهجر ، فكرت أن تمسح زوج حذائها قبل دخولها لكنها فضلت أن تمسحهما عندما تكون في المدرج ، بدأت إجراءات الدخول ، مع كل ولوج يطن الصفير في أذنيها ، فتعاود الكرة وهي تتخلص من حليها و ملابسها ، لم يتوقف الطنين فصحبها الحراس إلى غرفة خاصة و أمروها بالانتظار ، تتنتظر وتنتظر حتى أقلعت الطائرة ، فجاءها ضابط معتذرا عن الإزعاج و مفسرا سبب التأخر بعطل في شبكة الاتصال بمصالح الأمن لمراقبة البطاقة الوطنية و جواز السفر ، مكررا أسفه قائلا : " يمكنك الدخول فسجلك نظيف خال من المخالفات ". أخذت أوراق هويتها ثم عادت أدراجها وهي تقول : " سأبقى هنا لأحارب ..."