عرض مشاركة واحدة
قديم 02-22-2016, 11:13 PM
المشاركة 42
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
رسالة في الروح

يحكى أن شابّا تفطّن بعد دهر لعطب في روحه ، فغادر الدّيار بحثا عن نفسه التائهة ، فوصل إلى عين دافقة في مرج أخضر ، شرب منها حتى ارتوى ، و مد رجليه فاستعذب الانتعاش السّاري في بدنه ، فاستحمّ خالعا بؤسه، سرت قشعريرة جسده المبلّل فدبّت الحياة في عروقه ، شعر بنفخة تزيح عن نفسه وحشتها ، و ببسمة تداعب قلبه البارد .
آوى إلى ظل شجرة مورقة ، مدّ بصره مستكشفا المكان ، أرهف سمعه مستمتعا ببهجة الطيور ، فاجأه شيخ بهي الطلعة ، تعلو سحنته مهابة ، و يشع من عينيه وقار ، أقرأ الصبيّ السلام سائلا إيّاه عن بغيته ، و سرّ مجيئه إلى الروضة ، فقال الصبي شارحا : أيها الشيخ الحكيم ، بحثت عنها في المدارس فما وجدتها ، و في الأسواق فما عاينتها ، وفي كل مجمع فما آنستها . روحي أيها الوقور عليلة و نفسي عن ذاتي غريبة و فسحة الودّ في قلبي زهيدة ، يا من علّمته الأيام سر النجاة و شرب من حقول العرفان أقداح المعاني ، و خلا بذاته أعواما حتى خبرها ، خذ بيدي عساني أصل روحي فأمسح عن خدّها دموع الضياع ، أضمّها كضمّ الأمّ لرضيعها في الليالي القارسة مانحة إياه دفء صدرها الفيّاض ، مالئة جوفه حياة و أمنا. أيها المعلم الودود كم اشتقت إلى بسمة من شفتيها ، و نغمة من لسانها تذهبان عنّي هذا السّأم الذي صحّر حدائقي ، و صخّر مشاعري ، فغدوت ضريرا يمشي بغيرهدى .
قال الشيخ : أرأيت هذا الطائر المزركش ريشه ، العذب لحنه ، و الرشيقة حركته ، أينما حل كان للبهجة رمزا ، و للأمل إماما ، و للتحرر عنوانا ، انظر نحوه ، اسرح مع حركاته الخالية من كل أصناف الكدر ، ما أفقدته جماعته رونقا ، و ما ثقلت عليه نفسه في وحدته ، الجمال عينه يزرعه في المقل و البشر نفسه يهديه للنّفوس .
قال الصبيّ : سيدي ما أظنك فهمت قصدي ، و ما وصلت إلى يقين مصيبتي ، شكوت إليك شحّا في دخيرتي ، وجفافا اعترى نبع آمالي ، وخريفا أسقط زينة ربيعي ، و ظلمة عطلت كل مصابيحي ، أيها المعلم ، أتظن نظرة إلى طائر غرّيد يطرب حالي و نطّا من غصن لغصن يفتح شهيّة أحلامي ، تلك قشور خفيفة ضئيلة ، وما أصابني أعظم و أعظم ، إن كان هذا كل ما تملك فسأواصل سيري بحثا عن روحي التي فقدتها .

تبسم الهرم قائلا : قبل أن تغادر دياري ،خذ تذكارا من هذه الروضة ، لعلك به تتذكرني .
أقفل الفتى راجعا و الهمّ يثقل مشيته ، يا لغباء الحكماء ، يا لبساطة أفكارهم ، ما هذه الباقة الزهرية التي أحملها ؟ ألقلة الزهور في موطني ؟ لكن الشيخ لا يملك شيئا غير وجه باسم و لحية بيضاء مرصّفة ، غارق هو في متعة زائفة و هلوسة ناعمة ، وجنون خفي . ضحك الفتى مقهقها مردّدا تغريدة طائر و باقة زهور يا لسوء حظي يا لسوء مآلي .......
قبل أن تستقبله أول قرية في طريق عودته و الشمس مائلة للمغيب ، وجد فتاة تركض وراء غنيماتها الطائشة في محاولة لتهدئتها و إعادتها إلى القرية ، سعى في مساعدتها حتى اجتمعت و مشيا صوب القرية فقالت الفتاة : " من سعيدة الحظ تلك التي أحضرت لها زهورا ؟ " تبسم الفتى وقال : " لن تكون إلا أنت ما دامت الباقة نالت رضاك ." احمر وجهها خجلا و استعصى عليها الردّ و كذلك ثقل عليه لسانه و سار في كل السبل باحثا عن كلمة يوصل بها خيط الكلام ، تعجب من ضياع ثروته اللغوية ، نظرت إليه و نظر إليها و سرعان ما فرّت بعينيها منه ، أطرق رأسه وخيبة العجز تطارده ، ما بال لسانه انعقد و ما بال هذه الحيرة التي اقتحمت أسواره ، تنهد و حنحن وقال : " خذي الباقة " فقالت : "لا آخذ إلا ما كان من نصيبي فأخلص لتلك التي تعلقت بها " صمت ولم يعقّب حتى دنوا من أول مسكن من مساكن القرية إذ ذاك قالت : "حان وقت الفراق " حرك رأسه بالإيجاب و ركن إلى جانب الطريق جالسا ، خفيفة هي رشيقة ، صوتها عذب ناعم و وجهها بدر مليح ، وعندما ابتعدت قليلا قال : " هذه الباقة سأحتفظ بها لتذكرني بك ، و لأخلّد بها هذه الذكرى الغالية ، هذا اليوم السعيد ، أتعلمين ، ما أشرقت شمس في حياتي كما اليوم ، ما سمعت أذني تغريدة بلبل كما أنت ، ما رفرف طائر أبدا كما ترفرف روحي اللحظة . "
رجعت على استحياء و قالت ، لمست الصّدق في عينيك منذ أول نظرة ، أما وقد انطلق لسانك و تحرّرت روحك و عمّ الدّفء فؤادك فالآن الآن أقبل الباقة . لأننا لا نسمع في تغريدة البلابل إلاّ شدو أرواحنا و لا نهدي في الزهور غير مشاعرنا .