عرض مشاركة واحدة
قديم 02-27-2015, 03:17 PM
المشاركة 3
رضا الهجرسى
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
[tabletext="width:70%;background-color:silver;border:5px solid firebrick;"]

الفصل الثالث
_________

تنبة عبد الباسط، عندما طلب منه أحد المشيعين ألا يدخل القبر.
نظر إلى أمه، فأشارت له بيدها أن ينزل مع أبيه.
ساعده نفر من المحيطين على نزول سلالم المقبرة، وهو إذ ذاك في انهيار تام، وقد بدأت قدماه تخوران وترتعشان من رهبة القبر..
لم تستطع قدماه أن تحملاه، فأجلسوه في ركن ممدا ساقيه، وراح يبكي بكاءا مرا يمزق القلوب.. وكاد أن يغيب عن الوعي..
نزل، وفي قلبه وجل، وأغرورقت عيناه بالدموع، وهو ينظر للجثمان وهو يُحمل من النعش إلى أرضية قبره ببصر مائع، وقد قهره كم بدا أباه في كفنه هزيلا خفيفا..
فجأة، وقف على قدميه متهلل الوجه، يمسح دموعه بكلتي يديه وهو يحدق أمامه..ويحدث نفسه..فكر جميع من بالمقبرة أن عبد الباسط قد جُن حزنا على أبيه، وحاولوا أن يقتربوا منه ليهدئوا من روعه، لكنه أمرهم بصرامة أن يغادروا المقبرة جميعهم، فاستجابوا على الفور وتركوه ينفرد بأبيه، ظنا منهم أنه يريد أن يَختلي به قبل أن يُغلق عليه قبره..
ما لم يَخطر علي بال أحد منهم، أنه أراد أن يَختلي بروح أبيه.. استرد عبد الباسط كامل عافيته، ووقف مبهورا، مذهولا، سعيدا وهو يرى أباه واقفا أمامه في كفنه، في كامل عافيته، متورد الوجه، مبتسما له في بشاشة. همَّ ناحيته في لهفة، فاتحا ذراعيه ليحتضنه، فأوقفته إشارة من يد أبيه..
سمع صوت أبيه يتردد بداخله بوضوح، دون أن يحرك شفتيه..
- استمع لي يا بني، ولا تقاطعني، فوقتي قليل.. بموتي بدأت مهمتك..
وجد عبد الباسط نفسه يرد على أبيه دون أن يحرك شفتيه هو الآخر..
- أي مهمة تلك يا أبي؟..
- مواجهة الملعون ابن الملعون..والقضاء عليه وعلى شره، وإفساد مهمته اللعينة على الأرض..
- ومن هذا الملعون ابن الملعون، وما مهمته علي الأرض..
- الابن الأكبر لإبليس الملعون.. وهو أشر وأشرس أبنائه.. أرسله أبوه في مهمة نشر الفساد والفسق والفجور، وسفك الدماء وتحليل الحرمات.. وقتل الابن لأبيه وأمه، حتي ينتهوا وتذهب ريحهم..
وحباك الله بهذه المنحة الآلهية، لمواجهته وإفساد مهمته على الأرض..
- وكيف؟ وأين أجده؟
- سيدلك دليلك..
- ومن دليلي هذا، وكيف أعرفه، وأين أعثر عليه؟!
- سيعثر عليك هو، فاستمع له وأطعه.
بدأت روح الأب تختفي تدريجيا هاتفة:
- لا تنسى كلماتي الأخيرة تلك.. احفظها عن ظهر قلب.. سيجدك دليلك؛ وهذه آخر مرة تراني فيها.
سيجدك دليلك..وهذه آخر مرة تراني فيها..
وقف الفتى مذهولا، وهو يحدق في المكان حيث كانت روح
أبيه، وكلمات أبيه ترن في أذنيه، وتخترق روحه وكيانه..
نادى عليه من الخارج حارس القبر، طالبا منه الصعود والمغادرة، ليغلقه، فقد تململ كل المشيعين في ضيق، في انتظار خروجه.
وأخيرا، خرج عبد الباسط، وسط ذهول الجميع، وهم يرونه منبسط الأسارير، يبحث عن أمه وسط النساء، فيحتضنها في سعادة وحنان.
إبتسمت له الأم وأشارت له ألا يتكلم.
حين تفرق الناس عنهما، اقتربت من أذنه وسألته..
- هل قابلت أباك؟
- نعم يا أم.. قابلته، وتكلمت معه..
- هل حدثك عن مهمتك؟
- نعم.. نعم يا أمي.. حدثني عن مهمتي الجليلة..
- إذًا هيا بنا إلي المنزل، لتتسلم ميراث هالتك، فأولئك المشيعون سيضربون كفا بكف، استياء من ابتسامتك وتهللي لك.
بالفعل، فالناس آنذاك قد أجمعوا على أن الابن وأمه قد فقدا عقليهما وجُنا، وهم يرونهما يتركان رجلهما الذي لم تبرد جثته بعد في قبره،
ويهرولان مغادرين، وعلامات السعادة تغمر وجوهيهما، بمجرد إغلاق القبر على فقيدهما..



[/tabletext]