عرض مشاركة واحدة
قديم 09-28-2014, 05:01 PM
المشاركة 2
عبد اللطيف السباعي
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
تحليل الأديب عبد الإله الزاكي لهذه القصيدة..


خريدة رائعة بصور شعرية مبتكرة تنتمي لروح العصر وثقافته.
قرأتها أكثر من مرة، وحاولتُ التعقيب فأعجز لفك رموزها وتبقى مستعصية بإيحاءاتها وشامخة ببلاغتها.
لا حرمك الله البهاء.

بُعدانِ يَسْتَعِرانِ في قيظِ المَدَى = حينَ الوجودُ يذوبُ فيهِ مُجَرَّدَا

لعلّ الشاعر هنا يتسائل عن معنى الوجود. البعدان في نظري قد يكون الموت والحياة، أو الدنيا والآخرة.

هذا التوَجُّسُ مِن سُعار الوقتِ إذْ = شَقَّ الكلامُ به سَرابيلَ الصدى

لعلّ الشاعر ساءه الزمان ويتعجب من أحوال النّاس.

وهَوَى الكتابةِ إذْ يَشِفُّ كأنَّهُ = مطرُ الجَوَى ينثالُ مِنِّيَ أسْوَدَا

هذه الهموم وهذا الواقع المرّ تحرّك أحاسيس الشاعر فينزل الشعر دمعا أسودا. كأن الشاعر يبكي لما آلت إليه الأمور في البلاد.

يا سَاقِيَ الأحلامِ ويْحَكَ هاتِها = منْ غُرْفةٍ بُنِيتْ على سُقُفِ الرَّدى

يبدو الشاعر محتضرا بهذا الواقع الذي يخنقه ويستغيث بساقي الأحلام. فإمّا إلى حياة كريمة أو موت مريح.

آمَنتُ أنَّكَ قادِمٌ مُتعَجِّلٌ = مِن وَشْوشاتِ الليلِ تشْرُد مُفْردَا

كأن الشاعر يعترف في قرارة نفسه أنّه لا ملجأ ولا منجى من تغيير الواقع إلا أن يشرب من كأس الحلم! والحلم سلاح العاجزين.

أوْ منْ جنوبِ الريحِ تحملُ دَوْرقًا = منْ ذكرياتٍ هُنَّ نغْمةُ مَنْ شدَا

البيت هنا في معنى سابقه، وفيه بعض الحنين إلى زمن عزّة الأمة.
رغم أن البيت جميل في بناءه ورمزيته، لكنّني لم أصل إلى معنى لجنوب الريح. فكأن للريح جهات أربع؟!

آمَنتُ أنَّ حدودَ خَطِّ الوشمِ في = جَسَدِ الرتابة أن تشِطَّ بلا هُدى

إذا صدق حدسي، فالفعل ( شط ) يعود على الشاعر وليس على ساقي الأحلام، وبذلك يفقد كلّ أمل في التغيير.

أن تكسِرَ الوثَنَ الذي يَمتدُّ في = صدْرِ المساءِ.. يَمُدُّ للأفُقِ اليدَا

هذا البيت بليغ في التشبيه، جزيل اللفظ وعميق الدلالة ولايحتاج إلى شرح.
حسُن الحامل والمحمول لا فض فوك.

أوْ في سؤالِ النهرِ حينَ يطِنُّ في = وعْيِ الترابِ وَمَسْمَعَيْهِ مُرَدَّدَا
الماءُ ذاتي.. لستُ أدْري كُنْهَهُ = ما مُنْتهاهُ إذا جرَى؟ ما المُبْتدَا؟

لا شك أن النهر و الماء هنا رمزي الدلالة.
فهل يقصد الشاعر هنا الوجود فيعيدنا إلى مطلع البيت الأول وتكتمل بذلك حلقة الجزء الأول من القصيدة؟ أم أنّ الشاعر يتساءل عن جوهر النفس البشرية ؟
سواءا أكان المقصود الوجود أو الجوهر، فالقصيدة تخوض في المواضيع الفلسفية الكبرى بإيحاءات سياسية.

يا أيُّها المتجَهِّمونَ بلا رُؤًى = شاهتْ وجوهُ القاعدِينَ على المُدَى
صُلِبَ الزمانُ على مشارفِ يوْمِكُمْ = لا تذكُرُونَ الأمْسَ منْهُ ولا الغدَا
النهرُ فيكمْ لوْ أضاعَ ضفافَهُ = أنَّى لِمَجْرَى مائِهِ أنْ يُفْتدَى
هُنْتُمْ بمْشكاةِ التجَلّيِ مِشْعلا = خِبْتُمْ بمرآةِ التصَوُّرِ مَشْهدَا
أوَ حيْثُما وَلـَّيْتُ وَجهيَ لا أرى = إلا عُيُونًا مُقْفِراتٍ مِنْ نَدى
أوْ ألْسُنًا قدْ يَغْتسِلْنَ بوابلٍ = مِن أحْرُفٍ يَذهَبْنَ مِنْ ضَجَرٍ سُدى
أوْ أوْجُهًا كمُنَغِّصاتِ البحْرِ مِنْ = عرَقِ الهموم جَبينُهُنَّ تفَصَّدَا
الحِسُّ أجْمَدُ منْ مَلامِحِ صَخْرةٍ = تحْتلُّ حقلا مُسْتطيلا أجْرَدَا
لا نوْرسُ الغاياتِ يُسْكِرُهُ إذا = غنَّى ولا بَجعُ المسافةِ إنْ بَدَا
والقلبُ يَسْرقُ بعضَ خُبزِ نهارهِ = مِن سَلَّة الوَجَعِ الكَنُودِ إذا اغْتدَى
في كلِّ يوْمٍ يرْتدِي أحْزانَهُ = ويَظلُّ يسْعى غافلا عمَّا ارْتدَى

هنا تتكّشف رؤية الشاعر وكأنّه يستحضر الآية: ((إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ))[الرعد:11]
أو قول الشاعر أبو القاسم الشابي : إذا الشـــعبُ يومًــا أراد الحيــاة فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدرْ

يفنّد الشاعر ما قد يتبادر إلى ذهن القارئ من أنّه (الشاعر) طوبويا وإنّما هو يعزف لحن الحياة لمن كان عالي الهمّة وقويّ الإرادة.

لا أدّعي أني سبرت أغوار النص، ولا توصلتُ إلى كنه مراد الشاعر. لكن قصيدة بهذا العمق، والرمز، واللفظ لتستوجب توقف عقارب الساعة معلنة عن ميلاد عصر جديد....