عرض مشاركة واحدة
قديم 03-15-2015, 10:33 AM
المشاركة 25
رضا الهجرسى
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
الفصل الخامس عشر
______________

تقدمهم عبد الباسط بخطوات ثابتة، يتبعونه بخطوات مرتعشة ووجوه مصفرة.. تنافر من حول جسده الضباب الأسود، عندما لامس جسده وهالته، وفتح ممرا ممتدا حتى باب الدار.. دخل إلى صحن الدار، يتبعه الشيخ والبنهاوي، ووقف يقلب بصره في أرجاء المكان الصامت صمت القبور ..
رأى أمامه ثلاثة أبواب، فالتفت إليهم متسائلا عن أي الأبواب يكمن خلفه الملعون.. أشار البنهاوي إلى الغرفة المكبلة بها الفتاة في سريرها.. هنا، واجههم في حزم، وصوت لا يقبل الرفض..
- هنا انتهت مهمتكم..
توجه عبد الباسط إلى الغرفة بخطوات ثابتة.. فتح باب الغرفة، وأغلقه وراءه.. أخذ يقلب بصره في الغرفة، باحثا عن الفتاة المكبلة بسريرها..
بُهِتَ عندما لم يجد الفتاة على سريرها، بل وجد بدلا عنها أباه.. تهلل وجهه في فرحة غامرة، حين رأى أباه جالسا على السرير، مرتديا عباءته، ماسكا سبحته العاجية يسبح عليها، كما كان يراه في غرفته ببيتهم.. جري عليه فرحا، فأوقفته إشارة من يده قائلا..
- قف مكانك واسمعني جيدا، وأطعني دون جدال.. وقتي قليل معك..
في حبور وسرور رد:
- كلى آذان صاغية..السمع والطاعة لك يا أبي..
- لقد أعفاك الله من مهمتك وهو راضٍ عنك، وجعلني أقوم أنا بها بدلا منك، وبعون الله وأمره طردت الملعون ابن الملعون من هذه الأرض، فعد من فورك إلى أمك وأبلغها سلامي.. الآن دون تباطؤ..
- سمعا وطاعة يا أبي..شكرا لله على أن جعلني أراك، وأتم المهمة على يديك..
تراجع عبد الباسط بظهره ليغادر الغرفة، وهو يحدق في أبيه في حب، والفرحة تغمر وجهه بإتمام المهمة علي يد أبيه، وهو على قناعة أن أباه فعل ذلك حبا له وخوفا على حياته.. اقتحم البنهاوي الغرفة صارخا..
- اهزمهم وانصرنا عليهم يا الله.. اهزمهم وانصرنا عليهم يا مالك يوم الدين.. لا يخدعنك هذا الملعون.. تذكر كلام أبيك لك بالمقبرة، سيدلك دليلك.. وهذه آخرمرة تراني فيها. هذا ليس بأبيك، بل هذا من كيد الملعون ابن الملعون، وإن كيد الشيطان كان ضعيفا..
انغلق باب الغرفة بقوة، محدثا دويا هائلا، واختفى الأب، وظهرت الفتاة المكبله بالسلاسل، وهي تزوم بأصوات مخيفة، والزبد الأخضر يخرج من فمها بغزارة. نظرت إلى البنهاوي بعينين يتطاير منهما الشرر الأحمر الناري، وحركت أصبعها إلى أعلى، فطار البنهاوي في فضاء الغرفة، ثم حركتها بسرعة في اتجاه الحائط، فأرتطم جسده بشدة في الجدار، ثم حركتها في اتجاه الحائط المقابل، فطار جسده وارتطم به.. تهشم رأس البنهاوي تماما، وانفجر الدم من رأسه، وتناثر في أرجاء الغرفة، وسقط جسده على الأرض مفارقا الحياة..
تنبة عبدالباسط، واستعاد رباطة جأشه التي فقدها للحظات.. ركع علي ركبتيه صارخا في قوة وإيمان..
- اهزمهم وانصرنا عليهم يا الله..اهزمهم وانصرنا عليهم يا مالك يوم الدين..
صرخت الفتاة صرخة مدوية، اهتزت لها أركان المكان.. سرت صرختها في جميع أرجاء القرية، تحطم على أثرها زجاج نوافذ الغرفة وتطاير في أرجائها.. كان الزجاج يتساقط أمامه دون أن يمسه.. رفعت الفتاة أصابع يدها لأعلى، فطار أثاث الغرفة في الهواء، وأخذ يحوم حوله دون أن يمسه.. أشار بيده إلى الفتاة، وفي صوت قوي:
- أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.. بسم الله والحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله.. بسم الله توكلت على الله واستعنت بالله واعتصمت بالله واستدفعت الشر بلا حول ولا قوة إلا بالله.. وحسبنا الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير..
حسبنا الخالق من المخلوق.. حسبنا الرازق من المرزوق.. حسبنا الرب من العباد..
ثابت هو، دون توقف، في عزم وأصرار، والفتاة تصرخ عاليا لتغطي على صوته. مواصلا في إصرار:
- حسبنا الله وكفى.. سمع الله لمن وعى.. يا ودود يا ودود.. يا ذا العرش المديد.. يا فعال لما تريد.. نسألك بعزك الذي لا يرام..وملكك الذي لا يضام..وبنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك..
هنا ارتفع صوته وهز أركان المكان..
- أن ترد أذى الشياطين.. اهزمهم وانصرنا عليهم..اهزمهم وانصرنا عليهم.. شاهت الوجوه فانصرنا عليهم..
ارتفع السرير في فراغ الغرفة، واعتدل على حده، مقتربا منه..
رفعت الفتاة رأسها إلى أعلى..
بدأت رقبتها تطول وتطول، ثم تلف في نصف دائرة، مقتربة من وجه عبد الباسط، وهو علي حاله، و قد بدأ صوته يعلو على صوتها..
عندما تقابل وجه الفتاة ووجهه، صرخ فيها:
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ
شاهت الوجوة فاهزمهم وانصرنا عليهم..
فتح عينيه، وأخذ يحدق في عينيها في قوة و ثبات، فوجد في كل جفن من جفنيها عينين،عين عسلية اللون، والأخرى حمراء بلون النار..
بدأ الضعف والوهن يسري في جسد عبد الباسط، ودقات قلبه تتسارع.
شعربجدران الغرفة تدور من حوله من التعب والإرهاق والضغط العصبي الذي تعرض له.. هنا سمع صوت الملعون في عقله يخاطبه..
- ألا تعرف أنك بمواصلة تلاوتك للقرآن تحرقني، وتخالف بهذا عهد الله لأبي إبليس بإمهاله ليوم النفخة العظمى ويوم تبعثون، وهذا العهد له ولذريته؟..
استجمع قواه رادا عليه..
- بل أنت وأبوك من خالفتم العهد بوجودك المادي على أرض الله، فمهمتك أن توسوس لضعاف النفوس وقليلي الإيمان.. تزين لهم سبيل الشر بالوسوسة إليهم وتدعهم هم من يخربون ويعيثون فسادا في الأرض، وحسابهم عند الله في يوم البعث العظيم، والذي سيكون نهاية شر إبليس وشرك ومن اتبعوك من العاصين، و قد كان هذا عهد الله مع الملعون أبيك إبليس.. ولكن بمخالفتك للعهد، حق عليك الحرق، ومهمتي إخراجك وطردك من أرض الله، وليس حرقك، فأخرج من فورك وإلا أحرقتك..
- إذًا دعني أخرج من رأسها..
- لا تخرج من رأسها..
- سأخرج من عينيها..
- لا تخرج من عينيها..
- سأخرج من رحمها..
- لا تخرج من رحمها، فتنجسها بنجاستك..
- من أين إذًا تريدني أن أخرج..
- اخرج من إصبع قدمها الأصغر لقدمها اليسرى، وغادر الأرض ولا تعد مرة أخرى، وألا ستُحرق..
وانفجر إصبع الفتاة الأصغر لقدمها اليسرى..
بعد أن عادت رقبتها لمكانها، عاد أثاث الغرفة كل في مكانه..
وعندما طرق أذنه صوت بكاء الفتاة. نظر إليها، ورأى توقف خروج الزبد الأخضر من فمها..
عندها شعر بالغرفة تدور به، واستسلم جسده، وسقط مغشيا عليه..


الفصل الأخير
_________

كَبر أهل القرية جميعا من مؤمنين وعصاة..
الله أكبر..الله أكبر..
ومن شغاف قلوبهم المكلومة، بعد أن انزاح من على صدورهم هذا الشر الأسود، انقشع الضباب الأسود، واختفت السحابة السوداء من فوق الدار المنكوبة.. تبدل الهواء الذي كان يحرق الأنوف والصدور إلى هواء ريفي عليل، واقتحموا البيت مُكبرين مهللين..
كان أول من اقتحم البيت هو زوج الفتاة وأبوها، فحطما باب الغرفة، وحررا الفتاة من قيودها ..
جلس الشيخ إلي جانب عبد الباسط الفاقد للوعي، واضعا رأسه على حجره، وبكى بحرارة محتضنا إياه، وهو يمر بيده على شعره، الذي ابيضت خصلاته.
دخل بعض عجائز القرية، وستروا جثة البنهاوي برداء أبيض ، وقرر أهالي القرية بناء ضريح للبنهاوي، جعلوه مقاما ومزارا ليتباركوا به..

وسيظل الصراع بين جند الله وإبليس وذريته إلى أن يرث الله الأرض
وما عليها..

تمت بحمد الله