عرض مشاركة واحدة
قديم 03-08-2014, 03:52 AM
المشاركة 2
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

وكانت مواجهة الإسلام لتلك العداوات على وجهين , وجه القوة المسلحة والذى نجح فى إسقاط سائر الدول المناهضة ورد سائر الغزوات التى استهدفت الإسلام حتى اكتملت الإمبراطورية الإسلامية على رقعة هائلة من الأرض أيام الدولة الأموية الباذخة فحكم الوليد بن عبد الملك دولة تمتد من الصين شرقا حتى الأندلس غربا , وكان موسي بن نصير على وشك أن يواصل إتمام ما فتحه طارق بن زياد فيفتح سائر بلاد أوربا حتى بلاد الترك ثم يعود لمقر عاصمة الخلافة الأموية دمشق من الناحية الأخرى ليصبح البحر المتوسط بحرا عربيا خالصا ,
لولا عدة أسباب سياسية جعلت الوليد بن عبد الملك ثم خليفته سليمان يعدلان عن ذلك " 5 "

وعندما اتضح لمختلف أصحاب العدوات محاربة الإسلام بالقوة المسلحة , حتى بعد الضعف الذى اعتري الخلافة العباسية فى العصر العباسي الثانى , لجئوا إلى ابتكار هدم الدين ذاته من داخله لأن العقيدة السليمة هى التى وقفت خلف هذه الإنجازات التى ما تحققت لدولة على مدار التاريخ الإنسانى قط إلا للدولة الإسلامية "6"
وبدأت حرب هدم الدين من داخله مبكرا جدا ولم يكن مضي على وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام إلا أقل من أربعين عاما عندما تدخلت اليهود برجلهم عبد الله بن سبأ لابتكار فتنة التشيع والقول بالرجعة والبداء " 7 " وما إلى ذلك من العقائد الباطلة التى لم ينتبه إليها المسلمون إلا بعد أن أتت ثمرتها بالفعل
وكان أخطر ما لجأت إليه مختلف الفرق التى تبطن الكفر وتظهر الإيمان هو وضع وتلفيق أحاديث منسوبة للرسول عليه الصلاة والسلام بعد أن عجزوا تماما عن التشكيك بالقرآن الكريم المروى بالتواتر والثابت بمصحف واحد اجتمع عليه المسلمون فى عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه
فكان الطريق مفتوحا أمامهم لرواية الأحاديث المكذوبة المنسوبة للنبي عليه الصلاة والسلام لتحقيق ذات الغرض وهدم أركان الشريعة الصحيحة ,
ويكفي لإدراك مدى خطورة هذا الأمر أن نعرف وضع السنة فى التشريع , وهو وضع مؤسس للشريعة يأتى بعد القرآن الكريم مباشرة كمصدر مفسر له بالإضافة إلى كون السنة مصدرا مستقلا مشرعا فى الأحكام التى لم يتناولها القرآن مفصلة
ولم تكن كارثة تزييف الأحاديث فى بدايتها مؤامرة منسوجة ومنتظمة وإما بدأت بشكل محدود انتبه إليه التابعون فى حياة بعض الصحابة عقب تفجر الفتن فقرر الأئمة ضرورة التيقن من رواة الأحاديث جميعا قبل اعتمادها صحيحة , وجاء فى مقدمة صحيح مسلم " 8 " أن الإمام بن سيرين قال { لم يكونوا يسألون عن الإسناد , فلما ظهرت الفتن قالوا سموا لنا رجالكم }
وكانت هذه الخطوة هى الخطوة الأولى للتيقن من صحة الحديث " 9 "

ثم تعددت الجهات التى تزيف الأحاديث وانتشرت كالنار فى الهشيم وتنوعت بين دس خارجى من اليهود والفرس وبين دس داخلى من أصحاب المصالح والحكم , وكل منهم يضع الحديث يؤيد به فرقته أو طائفته , ولأن الصحابة رضوان الله عليهم انتقلوا بين مختلف الأقطار فقد تعددت منقولات الحديث فى شتى أنحاء البلاد الإسلامية من اليمن للشام ومن خراسان للشمال الإفريقي , فاختلط الصحيح بالزائف وأصبح الأمر كجبل يجثم على صدور العلماء والفقهاء إزاء مناخ شاسع الإتساع يبدو مجرد التفكير فى تنقيته ضربٌ من ضروب الوهم والمستحيل , لا سيما مع ظروف العصر التى تجعل العالم المحقق ربما يقضي بضع سنوات راحلا بين أنحاء الخلافة ليتيقن من صحة حديث واحد !
لكن من قال إن هذا الطراز من الرجال فى ذلك العصر الذهبي كان يعرف المستحيل , ففور ظهور أبعاد الأزمة اجتمعت كلمة الأمة حكاما ومحكومين مع المحدثين فى سائر الأقطار ووضع كل منهم لبنة فى علم جديد مبتكر غير مسبوق إسمه علم الحديث وأخذوا فى وضع تصانيفه وأسسه وقواعده التى ساروا عليها فتحولت مع الوقت وجهد العلماء طبقة وراء طبقة إلى علوم متعددة للعلم الأم وهو علم الحديث واختص كل جماعة منهم بفرع أشبه بالأقسام الحديثة لأجهزة المخابرات ,

فقسم يختص بالتحرى الشديد عن صفات وترجمة كل راوى أو ناقل للحديث ويضع آراء معاصريه فيه وهل هو ثقة يؤخذ حديثه أم لا وفق قواعد علم الجرح والتعديل الذى برز فيه وتألق يحيي بن معين والذهبي والرازى وبن عساكر والحافظ المزى والبخارى ,

وقسم ثان اهتم بمصطلح الحديث حيث تناول فيه المحدثون شرح مدلولات الألفاظ فى رواية الحديث بمنتهى الدقة تحريا لعدم الخلط وأول من صنف فى هذا المجال القاضي أبو محمد الرامهرمزى فى كتابه { المحدث الفاصل بين الراوى والواعى }

وقسم آخر اهتم بتصنيف الحديث نفسه وأفرد لذلك كتبا مستقلة تحوى الصحيح الثابت فقط من سنة النبي عليه الصلاة والسلام , وهى كتب نشأت بجهد المحدث عن طريق تحريه شخصيا للحديث المروى والتيقن من عدالة وأمانة كل راوى فى سلسلة السند " 10 " ومن هذه الكتب المرجعية صحيح البخارى وصحيح مسلم وصحيح بن حبان وصحيح بن خزيمة
فضلا على الكتب الأخرى التى تناولت الحديث بأشكال معالجة مختلفة كالمسانيد وهى أن تسند الأحاديث إلى الصحابي الذى رواها فيفرد العالم فى مسنده الصحابة على شكل أبواب وفى كل باب يسجل أحاديث كل صحابي مع ذكر السند
وعلة ذكر السند أن يترك لمن بعده طريقة التحرى عنها بمصادر أخرى , وأشهر المسانيد هى مسند الإمام أحمد بن حنبل , وقسم آخر اهتم بتصنيف الأحاديث على أبواب الفقه ككتب السنن

وقسم ثالث جعل همه البحث خلف وضع القواعد التى تعالج أى تناقض أو غرابة تشوب الأحاديث النبوية لشرحها وبيانها فتفرع من هذا القسم علم غريب الحديث وعلم مختلف الحديث وعلم الناسخ والمنسوخ فى الحديث , وأشهر من تصدى لمختلف الحديث كان الإمام بن قتيبة فى كتابه تأويل مختلف الحديث الذى اهتم بمحو التناقض الظاهرى بين دلالات الأحاديث النبوية , وأشهر من صنف فى غريب الحديث هو الإمام بن الأثير " 11 " بكتابه الشهير النهاية فى غريب الحديث والأثر , وكان الإمام الشافعى هو أول من أسس وبين أصول الفقه كما بين أصول الحديث وبيان الناسخ والمنسوخ فيه "12 "
فوضعوا للتنسيق بين الأحاديث المتعارضة مائة وواحد وجه للتوفيق بينها , ولم يقتصر الأمر على ذلك , بل إنهم قرنوه بمعالجة كل تناقض تمت إثارته وحتى التناقضات التى لم تظهر قاموا هم بابتكار ما قد يظهر من تناقضات وضعوا لها الحلول !

وقسم آخر اهتم بالأحاديث الموضوعة الشهيرة
حيث تفانى بعض المحدثين فى تصنيف الكتب المحتوية على أشهر الأحاديث الموضوعة والمكذوبة ليقطعوا الطريق على انتشارها وأشهرها اللائئ المصنوعة لبن الجوزى
بالإضافة لعشرات الفروع الأخرى التى تأسست بمرور الزمن وكل جيل من العلماء يضيف لمن سبقه ضابطا آخر يزيد من دقة التحرى فى الحديث ويشدد فى قبول الصحيح ورد الضعيف
حتى انقشع غبار الأزمة نهائيا وجاء العصر الحديث حاملا معه آثار جهد عملاق قلّ أن تجده مثيله فى إصراره فشربت الأجيال الجديدة السنة النبوية صحيحة لا تشوبها شائبة من لغط أو غلط , بعكس الحضارة الغربية التى فشلت فى الحفاظ على تراثها الدينى والتاريخى فورثته مشوها ومنوعا ليس فيه كتاب واحد صحيح ,
بينما الحضارة الإسلامية قرآنا وسنة وتاريخا ليس فيها رواية واحدة ـ لا أقول كتابا كاملا ـ بل رواية واحدة ضعيفة أو موضوعة لم يتصد لها عالم أو أكثر بالبيان والتحقيق , وحفل تاريخ السلف بعشرات الإختلافات والمناقشات بين العلماء فى مختلف العصور على صحة رواية أو بطلانها ولم تنته المناقاشات إلا بالوصول إلى القول الثابت فيها

شواهد الدقة المذهلة فى تحقيق السنة

وأورد هنا بعض شواهد الدقة فى التحقيق لبيان مدى الجهد والمعاناة التى تكبدها السابقون والتى لا زلت أصر على أنها جهد مستحيل حتى لو تم بعصرنا الحالى الذاخر بوسائل الإتصال العالمية ,
ففي العصر الحديث وفى وجود أدوات الإتصال مسموعة ومرئية ووجود شبكة الإنترنت التى ربطت العالم من سائر أطرافه لو أننا كلفنا باحثا للقيام بمهمة بحثية تخص موضوعا واحدا ـ كما يحدث فى الرسائل العلمية لدرجة الماجستير والدكتوراه ـ ووفرنا له سبل المعاونة الموجودة فإنه يستغرق فترة لا تقل عن أربع سنوات ليصل لنتيجة البحث ويقدمه كاملا , وغالبا ما يكون البحث رغم الجهد قاصرا بموضع معين تبينه مناقشة الرسالة ,
وهناك بعض البحوث النظرية فى كليات الحقوق استغرق فيها الباحثون ست عشرة سنة كاملة ليتقدموا ببحوثهم العلمية
وهناك من أمضي عمره كله تقريبا فى البحث بالمراجع ليتمكن من إخراج كتاب واحد , مثال ذلك المؤرخ المعروف محمد عبد الله عنان الذى قضي قرابة أربعين عاما ليتم مؤلفه الجامع عن الأندلس { دولة الإسلام فى الأندلس }
وفى الجانب الآخر قد يستغرق جهاز المخابرات قرابة ست أو سبع سنوات ليؤكد معلومة واحدة أو ينفيها , وهناك بعض التحريات التى تتم للمرشحين للمناصب الحساسة تستغرق فترة من ستة أشهر لثلاثة أعوام لاتخاذ قرار نهائي بصلاحية هذا المرشح من عدمه ,
كل هذا الوقت فى ظل خدمات التكنولوجيا ودعم العلم التقنى الخادم لتلك الأغراض ,

يتبع .........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


" 5 " تختلف مراجع التاريخ الإسلامى حول السبب الذى دعا الخليفة سليمان بن عبد الملك لرفض فكرة موسي بن نصير بافتتاح بلاد الغال " فرنسا الحالية " وبلاد الرومان " إيطاليا الحالية " ثم تركيا , ويرجح المؤرخون أن السبب خشية الخليفة على جيش المسلمين من الدخول بأراض مجهولة وفى عمق الإمبراطورية الرومانية
" 6 " لم يعرف تاريخ البشرية المعروف دولة قامت وتأسست ومدت سيطرتها على هذه المساحة الرهيبة من الأرض خلال مائة عام فقط إلا الدولة الإسلامية
ولم يعرف التاريخ الإسلامى دولة تسيدت الأرض كقطب قوة مفرد لا يقابله قطب مقابل فى العالم إلا فى عصر الدولة الإسلامية , كما لم يعرف التاريخ دولة نشأت وأسقطت قطبي العالم فى زمانها الروم والفرس معا وفى وقت واحد وعلى عدة جبهات إلا الدولة الإسلامية
" 7 " راجع { الفصل فى الملل والأهواء والنحل ـ الجزء الثانى ـ بن حزم الظاهرى , وأيضا ـ منهاج السنة النبوية ـ للإمام بن تيمية , وأيضا مذاهب الإسلاميين ـ د. عامر النجار }
" 8 " صحيح الإمام مسلم بن حجاج ثانى أشهر الصحاح النبوية قاطبة بعد صحيح البخارى وهم أصح كتابين اجتمعت عليهما الأمة وتعد شروطهما لقبول الحديث صحيحا هى أعلى الشروط دقة وحزما
" 9 " تيسير مصطلح الحديث ـ د. محمود الطحان
" 10 " سلسلة الإسناد هى ذكر رجال السند بصيغة من صيغ السماع المتعارف عليها وهى حدثنا فلان عن فلان أو أخبرنا فلان
" 11 " يختلف الإمام بن الأثير صاحب كتاب النهاية فى غريب الحديث عن إمام يشابه إسمه وهو العلامة بن الأثير المؤرخ المعروف بكتابه الكامل فى التاريخ
" 12 " المقصود بالنسخ فى الحديث هو أن يرد الحديث بحكم معين يتغير بحديث آخر لاحق عليه كما حدث مثلا فى حديث قتل شارب الخمر العائد للمرة الثالثة فقد نسخه رسول الله عليه الصلاة والسلام بالفعل عندما جلد الشارب فى الثالثة ولم يقتله
ويعد الشافعى هو أول من ابتكر التوفيق بين الأحاديث التى تغير حكمها بأحاديث أخرى وفى هذا يقول الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه { ما عرفنا ناسخ الحديث من منسوخه حتى جالسنا الشافعى } رضي الله عنهم جميعا