عرض مشاركة واحدة
قديم 03-08-2014, 03:53 AM
المشاركة 3
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

فلنا أن نتخيل كيف قام علماء السنة فى العصور الإسلامية الأولى بتأليف كتبهم ووضع القواعد الموثقة لعلم الحديث لا سيما فى الفرع المسمى { علم الجرح والتعديل } والذى كانت مهمة العالم فيه أن يقوم بالتحرى الدقيق عن كل محدث أو راو أو ناقل لحديث أو قول صحابي أو تابعى " 13 " ويسجل اسم الراوى وصفته وكنيته وما انتهت إليه التحريات بشأنه ليكون هذا الكتاب مرجعا لمن أراد التحقق من صحة أى رواية بمعرفة مستوى هذا الراوى
ونعطى فكرة عن أحد أهم المؤلفات فى هذا المجال وهو تاريخ دمشق للعلامة بن عساكر ,
فقد تمت طباعة هذا الكتاب بأسلوب الطباعة الحديثة فى حوالى 93 مجلدا , حجم المجلد الواحد منها يتراوح بين 500 و900 صفحة تقريبا , وقد احتوى هذا المرجع على ترجمة لشخصيات دمشق على ثلاثة مستويات
الأول : ترجمة كل رجال دمشق المقيمين فيها
الثانى : ترجمة كل من استقر بدمشق وكان وافدا إليها من بلد آخر , عندئذ يقوم بن عساكر بالرحيل إلى بلده الأصلي والتحرى عنه ووضع صفته وحكمه عليه
الثالث : ترجمة لكل من مر بدمشق مجرد مرور وهو فى رحلة إلى غيرها من البلاد

وهنا نتوقف قليلا ونتأمل , ونسأل الأسئلة التالية
* إذا كان متوسط عدد صفحات الكتاب بأسلوب الطباعة الحالية يتراوح بين ستين وتسعين ألف صفحة فى 93 مجلدا , فكم يكون حجمه بأسلوب الكتابة على المخطوطات والذى كتبه مؤلفه العملاق على شاكلته , مع ملاحظة أن الصفحة الواحدة من صفحاتنا الحالية من الممكن أن تحتوى من المخطوطات بأسلوب الكتابة القديم على عدد عشرة مخطوطات كاملة تقريبا
* من أين أتى بن عساكر بالوقت الكافي لجمع مادة كتابه وهو حجم مهول يحتاج عمرا كاملا لمجرد تسجيله , فكيف قام بن عساكر بالتحرى عن كل رجال دمشق وخارجها والسفر إلى مواطن المستقرين والمارين بها ثم تسجيل كل هذا فى الحجم الرهيب من المخطوطات ؟!
وقد رأينا فى المثال السابق كيف أن محمد عنان استغرق أربعين عاما ليؤلف كتابه عن الأندلس البالغ ثمانية مجلدات فقط ومادته مجموعة من كتب مطبوعة ومتوفرة
* كيف خطرت فكرة هذا المرجع البالغ الضخامة بعقل مؤلفه , وهى فكرة لو خطر معشارها على عقل أنشط الباحثين اليوم لتوقف يأسا قبل أن يخطو فى مشروعه خطوة واحدة ؟!
* قام بن عساكر بتصنيف مؤلفه هذا منفردا سواء بالتحرى وجمع مادة الكتابة أو النسخ والتسجيل ,
رغم أننا لو ألقينا نظرة على أحد مفكرينا المعاصرين العمالقة مثل محمد حسنين هيكل الذى تخرج مؤلفاته السياسية ضخمة وموثقة إلى أعلى درجة لوجدناه يستعين بفريق عمل كامل فى مصر وآخر فى لندن مهمتهم جمع المادة العلمية والوثائق وتصنيفها ومع هذا يستغرق لكتابة الكتاب الواحد من عام لعامين وقد أخرج موسوعته المعروفة { حرب الثلاثين سنة } من أربعة أجزاء فى عشر سنوات

والمشكلة أننا تعرضنا لمؤلف واحد من هذه المؤلفات الضخمة التى تم تصنيفها لتسجيل التحريات عن رجال الرواية فى سائر الأقطار وهناك على شاكلة مرجع بن عساكر مراجع لا تقل أهمية مثل تهذيب الكمال للحافظ المزى وسير أعلام النبلاء للذهبي وسلسلة تاريخ البخارى الكبير والأوسط والصغير والطبقات الكبري لبن سعد الواقدى وهو أول مصنف فى هذا العلم ,
والأهم من ذلك أن قول العلماء فى شخص معين أنه ثقة أو أنه ضعيف أو كذاب لا يؤخذ من عالم واحد بل يؤخذ الحكم على الراوى من مجموع أقوال علماء الجرح والتعديل وهذه دلالة إضافية على دقة التحري ,
فإن خدع أحد الرواة واحدا من علماء الجرح والتعديل بادعاء التقوى فلن يستطيع خداع بقية العلماء الذين سيتولون أمره
ولو ألقينا نظرة على الأحوال التى يتم فيها جرح الراوى وعدم الأخذ بروايته لوجدنا حذرا بالغا غير مسبوق بالذات فى هذا العصر الذى لم ينتشر فيه الكذب أو النفاق , فالراوى لا يتم رد روايته لمجرد إثبات كذبه فى رواية حديث , بل يتم جرحه لمجرد التدليس ,
والتدليس فى مصطلح الحديث ليس معناه الخداع والكذب بل هو مجرد أن يقول الراوى سمعت من فلان وهو شيخه بينما هو سمع الحديث من زميل له عن نفس الشيخ , هنا يجرح الراوى بالتدليس لأجل هذا فقط
بل إن أحد علماء الحديث لم يقبل حديث أحد الرواة عندما رآه يخدع بعيره فيضم ثوبه ويحركه للبعير حتى يظن أن ثوب صاحبه مملوء بالشعير لكى يأتى البعير فلا يهرب , فرفض العالم أخذ روايته لأنه ثبت له كذبه على بعيره فاعتبرها جرحا له

ولم تقتصر العناية عند الوقوف على أحوال الرواة فحسب ,
بل كانت أحوال الرواة مجرد فرع من فروع التحقيق التى امتدت إلى نصوص الحديث نفسه بمنتهى الدقة , فلا يوجد عند أهل الحديث التسيب الذى نعرفه اليوم من نقل دون وعى أو ذكر دون تدبر بل إن الراوى إذا خلط حرفا بحرف وهو ينقل روايته وليس كلمة مكان كلمة , جرحه علماء الرجال باعتباره ضعيف الحفظ حتى لو حافظ على معنى الحديث ومضمونه
بل إنهم يتتبعون مراحل حياة الراوى أو العالم الواحد فيقال مثلا أن روايته فى سنه الصغيرة كانت أوثق من روايته بعد أن كبرت سنه ويسجلون هذا فى مراجعهم

ولكى يتم قبول الحديث صحيحا يجب فيه أن تتوافر شروط الحديث الصحيح وهو أن يروي الحديث الثقة العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه بسند متصل من غير شذوذ ولا علة
فهذا التعريف البسيط أجمل شروط صحة الحديث بضوابط تعجز مباحث أمن الدولة الآن !
فإن سقط فرد واحد من سلسلة السند يتم تضعيف الحديث وإن كان أحد الرواة ضعيفا وباقي الرواة على أشد الثقة تم تضعيف الحديث أيضا , إلا إذا كان الضعف ناجما عن قلة حفظ وتم ضم هذا الراوى لغيره فيتم وضع الحديث فى مرتبة وسطية وهى مرتبة الحسن
أما عن طريقة كشف الخداع والتدليس والتحرى
فيكفينا أن نعرف أسلوب عملاق من عمالقة الجرح والتعديل وهو يحيي بن معين رفيق وصديق الإمام أحمد بن حنبل ,
وهو أسلوب يتضح من موقفين يظهر منهما مدى براعة هذا الرجل التى سبقت عصره بقرون فى فنون المراقبة والتحرى
الموقف الأول : أنه كان يتتبع حلقات الدرس التى يعقدها المحدثون فى المساجد فيجلس مراقبا لكل الحضور من الرواة بعين الصقر , ويتابع كل منهم فى مدى انتباهه للحديث المروى فإن لمح أحد الرواة وقد غفت عينه قليلا من أثر الجهد سجل اسم الراوى ونص الحديث الذى نام فيه , فإذا انتبه الراوى من نومه أو نبهه أحد أصحابه يسجل بن معين الحديث الذى استيقظ فيه نفس الراوى , ثم ينتظر نشاط هؤلاء الراوة فإذا لاحظ أن الراوى النائم روى حديثا عن شيخه ضمن مجموعة الأحاديث التى غفل فيها ـ حتى لو كان الحديث صحيحا ـ وكان قد أخذه عن زميل له وأسقط اسم الزميل قال له على الفور { كذبت .. متى سمعت هذا لقد رأيتك نائما } فيسجل التدليس على هذا الراوى ويُجرح لذلك
الموقف الثانى : كان بن معين جالسا مرة يكتب شيئا ما فى ورقة وكلما دخل عليه شخص ـ أيا كان هذا الشخص ـ قام بطى الورقة حتى يقوم عنه مهما كانت ثقته به , فلما جاء أحمد بن حنبل إمام أهل السنة فى زمانه لم يطو بن معين الورقة لأن مكانة الإمام أحمد كانت تعلو مكانة بن معين ذاته , والأمر بينهما أشبه بالشك المتأصل فى نفس كل رجل مخابرات فيتخذ الحذر الغريزى تجاه إبداء أى معلومة ولو كانت معلومة عامة وتراه يتساءل فى شك : لماذا يسأله فلان ؟!
لكن غريزة رجل المخابرات مع من فوقه رتبة تختفي , فلا حرص مع أهل الإختصاص

فلما لاحظ أحمد بن حنبل اهتمام بن معين سأله ماذا يفعل فأخبره أن يسجل صحيفة { أى محتوى رواية راو معين ولا تعنى أنها صفحة واحدة بل قد تمتد لعشرات الصفحات وتسمى صحيفة فلان } أبان عن أنس , حتى إذا جاء مدلس فخلط إبان مع غيره قلت له كذبت

من هذين الموقفين يتضح إلى أى مدى كانت عليه الدقة والتمحيص وراء معرفة الحديث ,
بالإضافة لما هو أهم , وهو أن المحدثين على مختلف طبقاتهم " 14 " كانوا يتابعون فحص ما انتهى إليه سابقيهم من العلماء , بمعنى أن كتب غيرهم ونتائج بحوثهم فى علم الحديث لم تكن تقبلها الأجيال التابعة من العلماء بل كانت تتحرى عنها بنفس الطريق أو بطرق أخرى , ولهذا فإن كتابىْ مثل صحيح البخارى أو صحيح مسلم برز بروزا شديدا بين الصحاح لأن ثلاثة أجيال من العلماء على الأقل تعاقبت على فحصه بمنتهى الدقة فلم يتركوا فيه حديثا واحدا دون فحص جديد ,
وهذا رغم جلالة مقام البخارى كإمام أهل الحديث بلا منازع وما عرف الإسلام مثيله فى دقة الحفظ والوعى والتحرى حتى أنه كان لا يضع حديثا فى صحيحه قبل أن يصلي ركعتين عقب إتمام فحصه والتحرى عنه , وقام بتصنيف أحاديث صحيحه البالغة نحو أربعة آلاف حديث من فحص 600 ألف حديث كان يحفظها بأسانيدها وأحوالها عن ظهر قلب !

أى أنه بعد استخدام خاصية الإستبعاد وضع بكتابه ما نسبته أقل من 1 % مما جمعه , وهذا يشي بالضرورة بمدى صعوبة شروطه لاعتماد الحديث إلى درجة دقة مستحيلة ,
ولذا قبلت الأمة صحيح البخارى ومسلم وأجمعت على صحتهما عقب الحكم عليهما من أجيال العلماء المتتابعة " 15 " , ولذا عندما نجد من يطعن فى صحة حديث بالبخارى ـ بعد كل هذا ـ يحق لنا أن نملأ صاحب الطعن سخرية , فهو لا يشكك فى البخارى وحده بكل دقته وعلمه بل يتجاوز إلى قرابة سبعة أجيال من العلماء تتابعت على كتابه بالفحص واعتمدته

لا سيما أننا لو عرفنا كنه الأحاديث المطعون فيها بين الحين والآخر بالصحيحين وغيرهما من الأحاديث التى أقر العلماء بثبوت نسبتها للنبي عليه الصلاة والسلام , هى كلها أحاديث توقف عندها العلماء وناقشوها بالفعل قبل قرون , وليس في ما يذكر من طعون أى جديد يلفت النظر فقد استوفاها العلماء معالجة وردا , لكن المشكلة الحقيقية أن من يطعن على تلك الأحاديث لا يكون جاهلا فقط بإجماع العلماء على مدى عصور بصحتها بل يكون جاهلا أيضا بأن شبهاته تلك تم الرد عليها فى كتب لم يكلف نفسه مطالعتها أو البحث فيها عند أهل الإختصاص " 16 "
غير أن دواعى الإستغراب تنمحى مع تسليمنا المسبق أن الجهل العميم الذى ساد الآن , لا شك أنه يمثل الوسط المنسب لجراثيم الفكر كى تعيث بالعقول فسادا , والوسيلة المثلي لذلك تكمن فى إعادة الهيبة المفقودة للعلماء بين العامة والعمل على نشر سير علماء السلف وبيان فضلهم الذى لا يوفي مقداره قط

تمت بحمد الله


ــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش

" 13 " ينقسم الحديث من حيث مصدره إلى ثلاثة أنواع , الحديث المرفوع وهو كل حديث قاله أو أقره أو فعل فعله أو رواية ورد فيها ذكر النبي عليه السلام بأى وجه , والحديث الموقوف وهو القول المنسوب للصحابي , والحديث المقطوع وهو القول المنسوب للتابعي { راجع الباعث الحثيث فى علوم الحديث لبن كثير ـ تحقيق أحمد شاكر }

" 14 " المقصود بالطبقات هى الأجيال , فكل جيل من العلماء أو الأدباء يسمى طبقة , ويتم ترتيب الطقات بحسب قربها من العهد النبوى فتبدأ طبقة الصحابة التى تتفرع لطبقات متعددة حسب السبق فى الإسلام ثم طبقة التابعين فتابعيهم وهكذا

" 15 " معظم الشبهات والإنتقادات الموجهة للصحيحين تناولها علماء الأمة بعد البخارى وفندوا الإعتراضات المثارة عليها , وكان أبرز شراح البخارى ومسلم هما بن حجر العسقلانى والنووى الإمامان الجليلان

" 16 " يحتوى كتاب " تأويل مختلف الحديث " لبن قتيبة على مجموعة كاملة من الأحاديث الذى استنبط الناس الأقاويل حولها وقام بن قتيبة بمعالجتها معالجة كاملة وهو المتوفي عام 230 هـ , ورغم ذلك تثار نفس الشبهات حول نفس الأحاديث اليوم