عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
8

المشاهدات
5300
 
سهى العلي
أديبة وقاصة لبنانية

سهى العلي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
188

+التقييم
0.03

تاريخ التسجيل
Feb 2009

الاقامة

رقم العضوية
6388
08-17-2010, 01:47 PM
المشاركة 1
08-17-2010, 01:47 PM
المشاركة 1
افتراضي ..بائعة الياسمين..
..بائعة الياسمين..
من مجموعتي القصصية "سيمفونية الفصول الأربعة".








كُنت في طريقي للسوق بهدف شراء بعض الحاجيات.. عندما رأيتها, ولا أدري كيف أصفها..

فتاة صغيرة مُقعدة.. لم تتعدى ربيعها السابع.. تبيعُ أطواقَ الياسمين للمارة..

لا أردي ما الذي أصابني حينها.. لقد لامستْ نظراتُها فُؤادي.. فيها شيء سحري.. ربما هي البراءة التي تكبر قبل أوانها.

كانتْ شاردة.. عيونها كالمرآة تعكسُ ما بقلبها.. مظهرها يدلُ على طفلة لم تلمس الماء مدة طويلة..



اقتربتُ منها لأشتري الياسمين.. وأنا أتمتمُ لبؤس حال هؤلاء الأطفال.. ما ذنبهم في ما يحدث بين الكبار.. على مسرح الحياة الدرامي..

رمقتني بنظرة غريبة.. لم أفهمها.. وكأنها تريد قول شيء ما.. ولكن حدثي القوي الذي يعود كوني مُدرسة أطفال.. أفهمني أنها تشكو بطريقة غير مباشرة عن سُخطها وغضبها لحالها.. أتصور أنها تتمنى في صميمها أن تلهو مع بنات جيلها, داخل بيتها, أو في ساحة المدرسة.

سألتها عن السعر.. لم تُجبني.. أمسكت عُملة معدنية بيديها الصغيرتين.. ثمّ نظرت إليّ وكأنها تقول: هذا هو سعرها..

يا الله.. إنها خرساء!




صدقاً لا أدري كيف أصفُ شعوري حينها..
انقبض قلبي.. شعرتُ برغبة عارمة بضمها.. لكن خفتُ أن أزيدها حسرة وألمْ.. فأنا مُجرد زائرة سريعة.. وسأغادر في الحال.

أعطيتها ضعف المبلغ.. أمسكتها بقبضتها وضمتها لصدرها.. نظرت لي وابتسمتْ.. بعدها عاودت الشرود..

غادرتُ المكان وعقلي ظلّ سارحاً في تِلكَ الصغيرة.. أين هي عائلتها؟ أول سؤال خطر على بالي.. رغبتُ بمحادثتها ومعرفة كُل شيء عنها.. لكن كيف سأحدثها ولا أعرفُ لغة الإشارة..

فجأة عادتْ ذاكرتي للوراء..

تذكرتُ صديقة طفولتي "ندى".. الفتاة التي حُرمت من السير.. سببه ثُقب في القلب منذُ الولادة.. يمنعها من بذل أي مجهود..

كيف كانت ندى تُحب الحياة.. دوماً تُغني لنا بصوتها الذي يُشبهُ عذوبة الناي..
كانت تجعلنا نبكي بأغانيها التي تحملُ بين طياتها الأمل.. لم نكن حينها نتعدى ربيعنا العاشر.. ننظر لأنفسنا.. كيف أننا نتأففُ من كُل شيء.. وهي غارقة ببحرٍ من الأمل والسعادة..

أذكر في صباح يوم مشئوم استيقظتُ فيه مذعورة. لم يكن هُناك سبب وجيه لخوفي..غادرتُ منزلي بسرعة.. وقصدتُ منزلها..

فجأة توقفتُ أما باب بيتها الخشبي الكبير.. سرتْ قشعريرة خوف في بدني كله. بقيتُ واقفة ومشدوهة لأكثر من نصف ساعة.. بلا سبب وجيه وملموس..

كانت أفكاري حينها تسرقني للحظات المرح واللعب مع ندى.. وكأنني لن أراها أبداً.


أذكُر كيفَ فُتِحَ البابُ فجأة على مصراعيه.. وأنا مغمضة العينين.. أغرقُ في بحر من الذكريات.. والهواء البارد يلفني غضباً.. وكأنهُ يسألني.. لِمَ أقِفُ هُنا..

فجأة علا صوتُ الأم من الداخل وهي تصرخ.. " ندى "..

عرفتُ أنها فارقت الحياة.. رحلت وتركتني وحيدة.. أبحثُ عن فُتات الأمل المُتناثر في بقاع الأرض..

كانت هي الوحيدة القادرة على بَثْ الأمل وحُب الحياة في روحنا.. قلبها الصغير المثقوب لمْ يحتملْ قسوة الحياة.. قرر الإضراب عن العمل..

أذكرُ حينها كيف أنني أضربتُ عن الطعام لثلاثة أيام.. كنتُ أريد اللحاق بـ ندى.. حتى نلعب سوياً.. يااه.. كم أفتقدها..

******

بعد تلكَ الذاكرة.. عرفتُ أنني أحببتُ تِلكَ الفتاة.. بائعة الياسمين.. من كُل قلبي..


عدتُ للسوق مرة أخرى بهدف العثور على الفتاة الصغيرة..
توقفتُ في نفس المكان.. أطلقتُ نظري في كُل الاتجاهات.. لا أثر لها.. بدأ قلبي يخفقُ بشدة.. وعيناي تستعدان للسباحة في بحر دموعي..

وجدتُ صبياً صغيراً يبيع العلكة.. قريب من المكان الذي تواجدت فيه الفتاة بالأمس..
هرولتُ إليه سائلة.. أين بائعة الياسمين!.. نظر إلي بسذاجة بريئة.. قال بصوتٍ لا يحملُ أي معالم..

-ندى؟

جحُظتْ عيناي لجوابه..

هل قال ندى؟
سألته مجدداً عن اسمها..
"أجابني مُتعجباً..
- اسمها ندى..

ثُمّ استطرد بصوتٍ خفيض:

-لقد تركتني ورحلتْ..
قلبُها لم يحتمل قسوة الحياة.. فقرر الإضراب عن العمل.







.




مِلءُ السَنابِلِ تَنْحَني بتواضُعٍ والفارِغاتُ رؤوسُهنّ شوامِخُ

كُنْ في الحَياة كَشارِب القَهْوة.. يسْتَمتِعُ بها رُغْم سَوادِها ومَرارَتِها


.