عرض مشاركة واحدة
قديم 11-09-2014, 03:04 PM
المشاركة 36
عبد اللطيف السباعي
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
استفاضة الأستاذ عبد الإله الزاكي في تحليل قصيدة "سؤال النهر"..


هذه أول قصيدة شعرية عمودية- حسب علمي- تحمل فكرا عميقا تعكس اتجاها فلسفيا كاملا حول الوجود. والفلسفة الوجودية تؤمن بأن الإنسان قادرعلى أن يصنع ذاته وكيانه بإرادته، وأن يختار القيم التي تنظم حياته. وهذه النزعة الفكرية تهتمّ بالوجود والواقع بعيدا عن الماهيات او جوهر الاشياء.
يبقى أن نشير إلى أنّ الفكر الوجودي يحمل توجهين: أحدهما إيماني ( من رواده كيركيجارد ) والآخر إلحادي ( من رواده سارتر)، ولسنا هنا لمحاكمة النوايا ولكن لنبرز هذا السبق الأدبي في طرح فكر فلسفي شامل بكلام موزون ولفظ متقون، وإيحاء يستجيب لروح العصر وثقافته.

1- بُعدانِ يَسْتَعِرانِ في قيظِ المَدَى = حينَ الوجودُ يذوبُ فيهِ مُجَرَّدَا
جاء إسقاط الموت والحياة في مطلع القصيدة من دون مقدّمات، يصوّر الشاعر هنا هاذين البعدين كأنهما ندّان يتنازاعن هذا الوجود الإنساني، ويبدو الشاعر كأنه لايهتمّ لأمرهما ( الموت والحياة) لأنهما من الميثافيزيقيات، وإنّما يهمّه هذا الوجود الواقعي الذي يأتي مجردا وهو حقيقة يقينية.
الصورة الشعرية مبتكرة، واللفظ جزيل، والرؤية فلسفية محضة. مجمل القول أنه بيت شعري رائع البناء اهتمّ بعنصري التعبير والتفكير معا وهذا ينطبق على كلّ أبيات القصيدة.

2- هذا التوَجُّسُ مِن سُعار الوقتِ إذْ = شَقَّ الكلامُ به سَرابيلَ الصدى
يعكس هذا البيت القلق الوجودي عند الشاعر نتيجة الفوضى والعبثية التي تتجسّد على أرض الواقع. فالشاعر ساءه الزمان ويتذمر مما آلت إليه أحوال العباد والبلاد.

3- وهَوَى الكتابةِ إذْ يَشِفُّ كأنَّهُ = مطرُ الجَوَى ينثالُ مِنِّيَ أسْوَدَا
الهوى معناه ميل النفس إلى الشهوة، والقلق هو من يحرّك ملكة الكتابة. والقلق والشهوة لايتجمعان، فكأنّ الشاعر يسخر من نفسه ومن هذه الهموم التي تؤرقه فينزل الشِّعر دمعا أسودا حُرقة لاهوى. وهذه البلاغة كناية عن هذا الواقع المرّ والمحبط.

4- يا سَاقِيَ الأحلامِ ويْحَكَ هاتِها = منْ غُرْفةٍ بُنِيتْ على سُقُفِ الرَّدى
يدعو الشاعر ساقي الأحلام لنتشله من هذا الواقع البائس الذي يبدو مستعصيا! فإمّا إلى حياة كريمة أو موت مريح. فهذا الحاضر يخنق الشاعر ويدفعه إلى تغيير قناعاته الراسخة وهذه قمّة اليأس في تحقيق التقدّم المؤمّل.
البيت رائع السبك ويجمع متضادين هما الأحلام والموت وساقيهما واحد.

5- آمَنتُ أنَّكَ قادِمٌ مُتعَجِّلٌ = مِن وَشْوشاتِ الليلِ تشْرُد مُفْردَا
الشاعر هنا يعترف في قرارة نفسه أنّه لا ملجأ ولا منجى من تغيير الحاضر إلا أن يشرب من كأس الحلم! والحلم سلاح العاجزين.

6- أوْ منْ جنوبِ الريحِ تحملُ دَوْرقًا = منْ ذكرياتٍ هُنَّ نغْمةُ مَنْ شدَا
البيت هنا في معنى سابقه، وفيه بعض السخرية أو التشكيك في إشارة إلى زمن عزّة الأمة الغابر. لم أًصل في البداية إلى معنى لجنوب الريح، ولكن قد يعني بها الشاعر العدم! والعدم ضد الوجود.
البيت جميل جدا ورائع.

7- آمَنتُ أنَّ حدودَ خَطِّ الوشمِ في = جَسَدِ الرتابة أن تشِطَّ بلا هُدى
سواءا عاد الفعل ( شط ) على الشاعر أو على ساقي الأحلام فإن الشاعر فقد كلّ أمل في التغيير.
هذا البيت مدهش تصويرا وبلاغة ولفظا.

8- أن تكسِرَ الوثَنَ الذي يَمتدُّ في = صدْرِ المساءِ.. يَمُدُّ للأفُقِ اليدَا
قد يرمز الوثن إلى معتقد أو شخص ويشكّل هذا البيت ثورة ( رغم أنّه يبدو في نفس سياق البيت السابق) مُفاجِئة في نسق القصيدة الذي يتحول من النبرة الانطوائية والانهزامية في مواجهة المشكلات التي تفرضها التحدّيات الحالية إلى النبرة الانتصارية التي تدعو إلى الانعتاق من الجهل والتخلف وحقّ تقرير المصير وعدم الركون إلى الوضع الراهن.

9- أوْ في سؤالِ النهرِ حينَ يطِنُّ في = وعْيِ الترابِ وَمَسْمَعَيْهِ مُرَدَّدَا
الماءُ ذاتي.. لستُ أدْري كُنْهَهُ = ما مُنْتهاهُ إذا جرَى؟ ما المُبْتدَا؟

النهر و الماء هنا رمزي الدلالة. فقد يرمز النهر إلى الوجود والماء إلى الماهية فيكون بذلك التساؤل عن الواقع والحقيقة. فالجسد واقع والروح حقيقة لا نعرفها إلا من خلال أثرها على المادة (الجسد ). والوجود واقع، لكن الكُنه حقيقة. ولعلّ الشاعر هنا يعيد طرح سؤال كانط : هل هناك معيار كوني ومادي للحقيقة؟ وهل هناك معيار كوني وصوري للحقيقة؟ ويذهب الشاعر إلى تبني موقف كانط نفسه حيث يرى أنه يمكن الحديث عن وجود معيار كوني وصوري للحقيقة، ويتمثل هذا المعيار في الفلسفة الوجودية التي تبني المعرفة على العقل وقواعد المنطق.


10- يــــــــا أيُّــــهــــا الـمـتـجَـهِّــمــونَ بـــــــــلا رُؤًى
شاهتْ وجوهُ القاعدِينَ علـى المُـدَى
صُلِبَ الزمانُ علـى مشـارفِ يوْمِكُـمْ
لا تــذكُــرُونَ الأمْــــسَ مــنْــهُ ولا الــغــدَا
...........................
.................................

يوجه الشاعر اللوم والتقريع إلى الانهزاميين الذين يرضون بالواقع البائس بل ويكرسونه بسبب اليأس الذى تملكهم ودفعهم إلى التنازل عن حقوقهم بحجة أنه لا يمكن استرجاعها فهم ليسوا قادرين على ذلك و بالتالى فعليهم الرضا بما هو مقسّم لهم فهو أفضل من اللا شئ وكأن حال لسانهم يقول لا طاقة لنا اليوم بهذا " الوثن الممتدّ " الذي يقف الشاعر وحيدا في مقارعته.

تتكّشف هنا نفس الشاعر الثورية التي تأبى الذل والخنوع مستنهضا الهمم ومفنّدا ما قد يعلق بذهن القارئ جراء مطلع القصيدة من أنّه (الشاعر) طوبويا أو انهزاميا مثل العامية بل هو يعزف لحن الحياة لمن كان حرّا وقويّ الإرادة، وكأنّه يستحضر الآية: ((إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ))[الرعد:11]
أو قول الشاعر أبو القاسم الشابي : إذا الشـــعبُ يومًــا أراد الحيــاة فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدرْ.

طبعا يمكن الغوص أكثر في أعماق القصيدة واستخلاص الخلفية الفلسفية والفكرية للشاعر الكبير عبداللطيف السباعي لكن ليس هذا هدفنا ( محاكمة النوايا ) كما قلنا سابقا بل نقف عند حدود النصّ( للأمانة العلمية والأدبية ) لما تمثله من قيمة فنّية وسبق في المزج بين الأشكال الجديدة في التعبير( من خلال الرمز، الإيحاء، العمق الفلسفي...) والإبقاء على قيود القافية والأوزان الموسيقية للشعر العربي الأصيل ( البحور، العروض، الإيقاع، القافية، ...). ففي قصيدته الرائعة هذه نقلة نوعية تشكل مدرسة جديدة في الشعر العمودي تخرجه من دائرة الجمود والرتابة والسطحية.