عرض مشاركة واحدة
قديم 12-04-2011, 12:34 PM
المشاركة 89
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
بصقة في وجه الحياة ----رواية فؤاد التكرلي
إنّ أولى الإشكاليات التي تثيرها رواية المبدع الراحل «فؤاد التكرلي»: «بصقة في وجه الحياة» – منشورات الجمل، 2006- هي مسألة الريادة الفنية في الرواية العراقية، فقد اتفق النقاد العراقيون على أن الريادة الفنية في مسيرة الرواية العراقية الناضجة قد رفع لواءها الروائي العراقي الراحل «غائب طعمة فرحان» عندما أصدر روايته: «النخلة والجيران» و«خمسة أصوات» ببغداد عامي 1965 و1967 على التوالي.. فقد وفرّ «غائب» الشروط الفنية لرواية عراقية مقتدرة تجاوزت السرد الحكائي الكلاسيكي الأولي الذي كان يقترب من السذاجة أحياناً، والذي تجسد في النماذج التي كتبها «جلال أحمد السيّد» و«ذنون أيوب» و«عبد الحق فاضل». ورغم أنني قد دعوت في دراسة سابقة إلى ضرورة التوقف عند رواية «الرسائل المنسية» لـ «ذنون أيوب» والتي تختلف عن كل ما كتبه الأخير من روايات بفنّيتها العالية وحبكتها المحكمة ومدخلها الجديد وتقدمها في الرؤية على الواقع وتكثيفها السردي وتخلصها من الاستطالات، إلاّ أنني أجد الآن – وبصورة لا تقبل اللبس – أنّ الريادة الفنية ينبغي أن تمنح للمبدع «فؤاد التكرلي» عن روايته هذه «بصقة في وجه الحياة» والتي بدأ بكتابتها في حزيران عام 1948 وانتهى منها في آب سنة 1949، أي قبل ما يقارب العقدين من صدور رواية «غائب» «النخلة والجيران». فرواية «التكرلي» رواية متكاملة فنياً تقريباً رغم أن «التكرلي» نفسه يعتبر نصّه هذا فجّاً فنياً وسوقياً وذا لغة ركيكة (ولا يوجد سند لأي من أحكام الكاتب هذه، وهو أمر لابدّ أن يتوقف عنده الناقد المحلل). نحن نقف الآن، أمام رواية نفسية مركبة غير مسبوقة في السرد العراقي حتى ذلك الحين، رواية يسيطر عليها تيار من صراعات اللاّشعور وتستكشف فيها أغوار المكبوت في أعماق الشخصية المركزيّة، التي يوظف الكاتب، من أجل تصعيد توتر الوقائع الدرامي، تقنيات فنّية متفردة آنذاك مثل المونولوج الداخلي والأحلام والاستعادات السريعة والمديدة وتداخل الأزمان وإهمال المكان (كان بلزاك يصف كل المقاهي والشوارع والمحلات التي يمر بها بطله حين يسير لشراء فرشاة أسنان مثلاً) وإثراء السرد الفكري وثانوية الحوار الذي كان يعتبر سرداً ووصفاً خارجياً بدلاً من أن يكون أداة في تنمية واستثارة صراع الإرادات وإضاءة العوالم الداخلية المعقدة بمركباتها المحتدمة، لكن الأهم من ذلك كلّه هو أنها تصدت وبجسارة لمعالجة واحدة من أخطر التابوات في مجتمعاتنا وهي عقدة السفاح بالمحارم. ومن يعالج تاريخ القصّة العراقية سيجد هذه المعالجات المبكرة، خلال الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، للدوافع المحارميّة، ويتجلى ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، في قصص «يوسف متّى» قبل أن يعتزل النشاط الأدبي ويتفرغ للنشاط السياسي – بصورة عامة، وهذا الانهمام الواسع، نوعاً وكماً، من قبل «فؤاد التكرلي» في التناول المكثف ومتعدد المقتربات لموضوعة العلاقات الجنسية المحرّمة بصورة خاصّة.
ويمكننا القول إن «التكرلي» هو أكثر الكتّاب العراقيين والعرب اقتداراً وجرأة في طرح هذه المسألة الشائكة التي تعدّ من المحرمات الدينية والاجتماعية. في قصصه القصيرة هو أكثر مَنْ عالج هذا الأمر كما هـو الحال في قصص مثل: (همس مبهم، الدملة، المجرى، التنور، أمسية خريف، القنديل المنطفئ، الغراب…وغيرها). أمّا في مجال الرواية ففوق أنه صاحب الكم الأكبر في الإنتاج الروائي العراقي في هذا المجال: (الرجع البعيد، خاتم الرمل، المسرّات والأوجاع)، فإنه صاحب السبق في مجال الريادة على المستوى العربي، كما أشار إلى ذلك الناقد الراحل «د. عبد الإله أحمد» في كتابه «الأدب القصصي في العراق» وذلك في معرض حديثه عن رواية «التكرلي» هذه «بصقة في وجه الحياة»، حيث قال : (( إننا لا نعتقد أن عملا قصصيا يتناول هذه العلاقات الجنسية الشاذة على النحو الذي تناولتها قصة ( بصقة في وجه الحياة ) يمكن أن يتقبله واقع المجتمع العراقي، إن لم نقل واقع المجتمع العربي الحديث عامة، في الفترة التي كتب فيها. فنحن لم نجد عملاً قصصياً في أدبنا العربي الحديث، بجرأته في تناول هذه العلاقات ومحاولة إيجاد المبرّرات لها، حتى تاريخ كتابته، ولعل ذلك يكفي سبباً لدراسته (…) بالإضافة إلى ما أشرنا إليه من جرأتها على طرح مضمون يتناول الجنس بشكل لم يجرؤ عمل قصصي على طرحه في الأدب العربي الحديث حتى تاريخ كتابتها.. قد نجد ذلك في الشعر، في بعض قصائد «إلياس أبي شبكة» التي نشرها في ديوانه: «أفاعي الفردوس». لكن من الهام الإشارة إلى أن ريادة «التكرلي» العربية في طرح موضوعة المحارم لم تكن تاريخية وفنيّة حسب بل فكرية أيضاً حيث حاول تسريب قناعاته الفلسفية المسمومة التي تبغي تجاوز جسارة، بل شراسة كشف أغطية المكبوت المحرّم إلى وضع تأصيل نظري صادم ينسف القناعات القائمة ويؤسس لمقدّس جديد يبزغ بمخادعة تخديرية من رحم المدنّس. ويمكن القول إنّ «الـتـكرلي» قد رسم مسار روايته هذه لتكون الخطوة التنظيرية والمدخل الفلسفي لمشروعه التعرضي هذا، وهي خطوة لم يكررها بعد ذلك لا في قصصه ولا في رواياته وكأنه قد نفض يديه من مسؤولية (الإقناع) وتأسيـس ركـائز الـديانة المحارمية الجديدة إذا جاز التعبير، ففي جميع نتاجاته التي أعقبت هذا النصّ، وهذا ما لاحظه الناقد المبدع «عبد الإله أحمد»، نجد أن أبطاله يندفعون في تيار ممارسة العلاقات الآثمة أو الانحدار المذعن مع مجرى دوافعها حتى الخراب النهائي دون أن يناقشوا، ولو للحظة، ما تعنيه هذه العلاقات والدوافع من خرق لما هو قائم وتدنيس لما هو قابع في حياتهم وحياة المجتمع الذي يحيط بهم.
إنّه أي «التكرلي» يبدو وكأنه قد أنجز – وباقتدار كما يرى هو نفسه – بلورة الصيغة الفلسفية للديانة الجديدة وحدّة الملامح الدقيقة لقوانينها العلائقية في روايته هذه؛ وعليه فإنّ النصوص اللاّحقة ستكون تشخيصاً لسلوك (مؤمنيه) الجدد ووصفاً أميناً لحياة مريديه الذين كانوا أقوياء صلبي الإرادة في تنفيذ اختياراتهم المحارمية وممارستها بلا تردّد رغم معرفتهم بالنتائج الكارثية التي تترتب على ممارسة هذه الاختيارات الجحيمية لأنهم يستمدون أسباب قوتهم من معين قوة (خالقهم) الذي عبّر عن مشاعر (الانتصار) والقوّة التي تملكته عندما أنهى نصّه المحارمي هذا وذلك في المقدّمة التي كتبها له: «أنهيت هذا النصّ في آب سنة 1949، وكنت منتصراً قبل أن أدخل المعركة، نجحت في امتحاني العسير لأنني كنت قوياً خلاله. وكنت قوياً لأنني أكملت عملاً استثنائياً من أعمال تصفية الذات».