عرض مشاركة واحدة
قديم 01-16-2011, 11:20 PM
المشاركة 3
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
جيوبٌ مُثْقَلةٌ بالحجارة





فرجينيا وولف، "الثورة الهادئة"، بتعبير مايكل بننجام وكما وصفها بعض أصدقائها المقربين. وهي أحد أهم القامات في الأدب الإنجليزيّ وروّاده في حركة التحديث الروائيّ. صنعتْ إسهاماً مهمّاً في تغيير شكل الرواية الإنجليزية إذ نجحَ حسُّها التجريبيّ في تطويرِ الأسلوبِ الشعريّ خلال السرد القصصيّ والروائيّ عبر اعتمادها التقنيات التجريبية مثل: المونولوج الداخلي، الانطباعية الشعرية، السرد غير المباشر، المنظور التعدديّ، إضافةً إلى ما يُعرف نقديًا بـ "تيار الوعي".


يعتمدُ منهجُها الكتابيّ على استشفاف حيوات شخوصِها من خلال الغَور داخل أفكارِهم واستدعاءِ خواطرِهم وهو ما يسمى "استثارة حالات الذهن الإدراكية"، حسيّاً ونفسيّاً، والذي يُشكّل نموذجاً لطرائق تداعيات الوعي البشريّ. تُفعّل وولف ذلك من خلال رصد وتسجيلِ لحظات الوعي المتناثرة داخل الذات وداخل المخ البشري لتعيدَ ترتيبها وفق صورة تشكيلية ترسمُها وولف بحنكتها الروائية.



تلتقي تقنياتها تلك مع تقنيات كلٍّ من "بروست" و"جويس"، متجاوزةً بذلك التقنية التقليدية في القصّ والرواية، التي انتهجت الوصفَ الخطّيّ المتنامي زمنيّاً والرصدَ الموضوعيّ للحدث، والتي ميّزت رواية القرن التاسع عشر.



عمدَ أسلوبها إلى تصاعد الوعي الذهنيّ لشخوص روايتها في تزامنٍ مع التصاعد السرديّ للحدث. الكتل الزمنية تتراص متوازيةً في الذاكرة وبالتالي في الرؤية الدرامية. المشاهِدُ غيرُ المكتملة تتقاطع وتشتبكُ لتخلقَ لوحةً أرحبَ وأشدَّ تعقيدًا. التنوّع الأسلوبيّ للقصِّ داخل الرواية الواحدة يذكِّر القارئَ دائماً أن ثمةَ خطّاً شعريّاً أو خيالياً متورطٌ في العمل.



إن تبنّي تيار الوعي في السرد القصصيّ والذي يتراوح بين التفاصيل الدنيوية اليومية العادية وبين الإسهاب الغنائي، إضافةً إلى الخبرة العالية بطرائق تشكّل المشهد، هما من أهم أدوات وولف الكتابيّة، التي أظهرتْ لقارئها مدى أهمية استغلال وتنمية قدرات المخيال التشكيلي في حياتنا اليومية، كما هو لدى المبدع، في بناء النص.



اشتهرت وولف باستدعاءاتها الشِّعرية التي تستخلصها من ميكانيزم التفكير والشعور البشري. كانت، مثل بروست وجويس، قادرةً بامتياز على استحضار كافة التفاصيل الواقعية والحسيّة من الحياة اليومية، غير إنها دأبتْ على انتقاد أسلوب مجايليْها "آرنولد بينيت"و"جون جولز وورثي" بشأن اهتمامهما البالغ برسم واقعية ميكروسكوبية وثائقية مفرّغةٍ من الفن، وهو ما انسحب عليهما من روائيي القرن ال 19. كانت ترى أن الواقعيين المعاصرين الذين يزعمون الموضوعيةَ العلمية الحيادية هم زائفون بالضرورة، طالما لا يعترفون بحقيقة أنه لا حيادَ تاماً في الرؤية، لأن "الواقعية "يتمُّ رصدها على نحوٍ مختلفٍ باختلاف راصديها. الأسوأ من ذلك، من وجهة نظرها، أن محاولتهم الوصول للموضوعية العلميّة الدقيقة تلك غالباً ما ينتجُ عنها محضُ تراكمٍ زمنيٍّ للتفاصيل.



كانت وولف تطمح إلى الوصول إلى طريقة أكثر شخصانيّة وأكثرَ دقّة كذلك في التعامل مع الواقع روائيّاً. لم تكن بؤرةُ اهتمامها "الشيء" موضوع الرصد، ولكن " الطريقة التي يُرصد بها الشيء" من قِبَل "الراصد". وقالت في هذا الأمر:" دعونا نرصدُ الذرّاتِ أثناء سقوطها فوق العقل بنفس ترتيب سقوطها، دعونا نتتبعُ التشكيلَ مهما كان مفككاً وغيرَ مترابطِ التكوين، سنجد أن كلَّ مشهدٍ وكلَّ حدثٍ سوف يصيبُ رميةً في منطقة الوعي".



قارنَ النقادُ بين كتابات وولف وبين ما أنتجه فنانو المدرسة ما بعد الانطباعية post-impressionism في الفنِّ التشكيليّ من حيث التأكيد على التنظيم التجريديّ لمنظور الرؤية من أجل اقتراح شبكة أوسع للدلالات والرؤى.


تُعتبر وولف، إلى مدى أبعد من أي روائيٍّ آخر باستثناء جويس، أول من أنتج الرواية الإنجليزية الحديثة، التي نأت بشدة عن الشكل التقليديّ المطمئن آنذاك منذ القرن التاسع عشر، بكل ما تحمله تلك الرواية من ملحميّة البطولة، وفرط العاطفة، والإعلاء الأخلاقي المتزمّت، وكذا رؤاها الجامدة المتجمدة الدوجمائية، ثم الهيكل الكلاسيكيّ الثابت: استهلال مباشر واضح، متن وذروة، ثم نهاية ختامية تبشيرية أو إصلاحية.


أضحتِ الروايةُ في يد وولف أكثر بريقاً والتباساً وتوترّاً، موشاةً بخيطٍ رهيفٍ من الفوضوية والتحرّر والشعرية أيضاً، كما أنها اهتمت بالأساس بالبشر المهمشين أو الذين يعانون من مشاكل نفسية ما. لم تهتم كثيراً بكتابة رواية تبشيرية أو إصلاحية، لكنها عمدت إلى إظهار كيف تنصهر الحياةُ في ألوانها الخاصة بكل ما فيها من تقاطعات اليوميّ البسيط والعميق الفلسفيّ. وبطبيعة الحال استمرت الرواية التقليدية تُكتب منذ وبعد عصر فرجينيا وولف، لكنها بعد وولف لم تعد مطلقًا كما كانت.


آمنت وولف بأن الرواية التي كُتبت في عصرها وما قبله: ببنائها المحكم وزخم العاطفة والحماس بها، كانت تتصل بالعالم وبالبشر على نحو عبثيّ. وشبهّت ذلك بقاربٍ مليء بالمستعمرين والمبشرّين الذين يغامرون باقتحام دغلٍ متشابكٍ وكثيف بقصد غزوه وإخضاعه. وتقول وولف عبر رواياتها إن العالمَ أشدُّ ضخامةً وتعقيداً وغيرُ قابل للاختراق والإخضاع على أي نحو، وإن القيمة الجماليّة الفنيّة هي الهدف الأوحد للقصّ، ولذا فإن أي كاتب يحاول أن يطهّر الدغلَ من أشجارِ كرمْه أو من نباتاته الشيطانيّة المتسلّقة سوف يثيرُ ذعرَ الضواري والوحوش ولن يسلمَ من غضبتِها. كأنما يحاول أن يفردَ طاولةً للشاي أمام تلك الكواسرِ ثم يذهب في شرح البروتوكولات والتقاليد حول ما يجب وما لا يجب فعله من تقاليد المائدة. هذا ما يفعله الكاتبُ حين يكتبُ تلك النهايات السليمة والنافعة الطوباويةَ ذات الطابع الإصلاحيّ.


قدمتْ وولف شهادةً للعالم، عبر كتاباتها، رصدتْ وسجلتْ فيها طُرُزَه ونماذجَه، لكنها لم تسعَ مطلقا إلى تقويمه أو إخضاعه ضمن أي منظومةٍ خاصة، لأنها آمنت أن الكونَ يُنتجُ نظامَه الخاصَ بنفسِه. من أجل هذه الرؤية الحداثية، اِتُهمت وولف دائماً، من قِبَل الإصلاحيين، بأنها تكتبُ من أجل لا شيء.


الملمحُ الأساسيّ لعبقريةِ وولف، الظاهرة منذ بداية مشروعِها الأدبي،ّ هو إصرارُها على تأكيدِ مراوغة العالَم بوصفِه أوسعَ وأكثرَ تعقيداً من أن نضعَ اشتباكاتِه تحت بؤرةِ النقدِ من خلال أيّة حياة فردية. "جرِّب أن تدخل "وعي" إنسان، أي إنسان، وسوف تجد نفسَك فوراً منقاداً إلى حيوات العشراتِ من البشر الآخرين الذين يكملون، ويتقاطعون مع، حياة هذا الإنسان، كلّ على نحوٍ مختلف."


فهمت وولف أن أيّة (شخصية) كتبتْ عنها، حتى الشخصيات الهامشية، كانت (تزور) روايتها من خلال (رواية) ذاتية تخصُّ تلك الشخصية، وأن تلك الرواية غير المكتوبة تضمُّ، إلى جانب مشروعها الرئيس، آلامَ وأقدارَ تلك الشخصية: هذه الأرملة، أو ذاك الطفل، أو تلك العجوز المسنّة، أو حتى المرأة الشابة التي لم تظهر في رواية " الخروج في رحلة بحرية" إلا في مشهد عبورها الحديقة العامة فقط.


* * *


يتبع
.
.
.

هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)