عرض مشاركة واحدة
قديم 01-17-2011, 12:03 AM
المشاركة 10
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


النهاية



حين استشعرتْ أن ضربةً عقليةً أخرى في طريقها إليها، أثقلتْ فرجينيا وولف جيوبَ ثوبها بالأحجار وأغرقت نفسها في نهر "أووز" بالقرب من منزلها ببلدة "سُسيكس" في 28 مارس 1941. وكانت قد انتهت لتوّها من مسوّدة كتاب "بين فصول العرض".


وُجِدت بين أوراقها رسالتان تُعلن فيهما عن انتحارها، إحداهما لشقيقتها فنيسا والأخرى لزوجها. الأولى بتاريخ يسبق توقيت الانتحار بعشرة أيام مما يشي بأن محاولةً فاشلةً للانتحارِ قد تمت في ذاك التوقيت، سيما وقد عادت مرةً إلى البيتِ مبتلّة الثياب من جولة لها على الأقدام وفسرّت الأمر بأنها سقطت في الماء.



في رسالتها الأخيرة لزوجها كتبت وولف:




"أيها الأعز، لديّ يقينٌ أنني أقترب من الجنون ثانيةً. وأشعر أننا لن نستطيع الصمود أمام تلك الأوقات الرهيبة مجدداً. فلن أُشفى هذه المرة. بدأت أسمع الأصوات ولم يعد في وسعي التركيز. لهذا سأفعل الشيء الذي أظنّه الأفضل. لقد وهبتني أعظم سعادة ممكنة. كنتَ دائما لي كلَّ ما يمكن أن يكونَه المرء. لا أظن أن ثمة زوجين حصّلا ما حصّلناه من سعادة إلى أن ظهر هذا المرض اللعين. لقد كافحتُ طويلاً ولم يعد لدي مزيد من المقاومة. أعرف أنني أفسدتُ حياتَكَ، لكنك في غيابي سيمكنك العمل. وسوف تواصل العمل، أعرف هذا. أنت ترى أنني حتى لا يمكنني كتابة هذه الرسالة على نحوٍ سليم. لم أعد أستطيع القراءة. ما أودُّ أن أقول هو أنني أُدينُ لك بكل سعادةٍ مرّت في حياتي. لقد كنتَ صبوراً إلى أقصى حدٍّ، وطيّباً على نحوٍ لا يُصدّق. أودُّ أن أقولَ هذا – كل الناس يعلمون هذا. إذا كان ثمة من أنقذني فقد كان أنتَ. كلُّ شيءٍ ضاع مني إلا يقيني بطيبتك. لا أستطيع أن أستمر في إفساد حياتك أكثر."

ف. و



بعدما أنهت تلك الرسالة، غادرت منزلها الريفيّ في رودميل في الساعة 11:30 صباحاً، ومعها عصا التجوال، عبرت المرج الذي يفصل بيتها عن النهر، ثم أثقلت جيوب معطفها بالأحجار. لم يُنتشَل جثمانُها حتى يوم 18 أبريل، حين اكتشفته مجموعة من الصبية أسفل مجرى النهر. تعرّف زوجها على الجثمان، ثم أُجري التحقيق في اليوم التالي في "نيوهافين" . وجاء الحكم حسب الصياغة القياسية في ذاك الوقت بأنه "انتحارٌ أثناء حال اضطرابِ في الميزان العقليّ". في "برايتون" يوم 21 من أبريل، تم إحراق الجثمان في عزلةٍ وصمت، ثم نُثر رمادُه تحت إحدى شجرتيّ الدردار حول منزلها.



* * *






أيام فرجينيا الأخيرة


تقول فرجينيا وولف "لا حدثَ يحدثُ بالفعل إذا لم يدوّن" وربما تفسّر تلك العبارة اهتمامَها بتدوين يومياتها التي من خلالها، ومن خلال يوميات زوجها وتقارير الأطباء والأصدقاء، سنحاول أن نرسم شهورها الأخيرة، وما هي الأعراض والأحداث التي سبقت موتها؟ وكم من الزمن لازمها الاكتئاب؟

بعد حوالي أربعين سنة من موتها تكلّم زوجها ليونارد وولف عن العام الأخير في حياتها وعن حادثة الانتحار تحديداً في أحد مجلدات سيرته الذاتية. وقد شكك في دوافعه عدد من النقاد المناصرين لحركات التحرّر النسائي، لكن يومياته وأنشطته خلال فترة زواجه من فرجينيا بدت دقيقة ولا تفتقر إلى التفاصيل رغم التكثيف وعدم الإسهاب، على عكس ما كانت تفعل فرجينيا في يومياتها.



قال واصفا تلك الفترة:



" 319 ليلةً عاصفةً تمشي ببطء صوب الكارثة". كان ذلك توصيفه للفترة الزمنية ما بين إرسالها أوراق مسودة السيرة الذاتية التي كتبتها عن "روجر فراي" لطباعتها، وكان ذلك يوم 13 مايو 1940، وبين يوم انتحارها في 28 مارس 1941. لكنه ذكر أنها كانت قد مرضت فقط منذ وقت قريب : "فقدان التحكم في العقل بدأ فقط قبل شهر أو شهرين قبل واقعة الانتحار."


وبالرغم من إقراره أن تلك الفترة بين التاريخين السابقين كانت مشحونةً بالتوتّر والضغط على الجميع، سيما في منطقة كجنوب إنجلترا آنذاك، حيث الغارات الجوية وتزايد فرص التهديد بالاجتياح، إلا أنه كتب: "إن فرجينيا كانت سعيدة معظم الوقت، وبدا عقلُها هادئًا أكثرَ من المعتاد."


في شهريْ مايو ويونيو عام 1940، كانا قد تناقشا، آل وولف، فيما بينهما وبين أصدقائهما حول الخطوة التي يجب أن يتخذاها حال الاجتياح النازي. لم يكن لديهما شك حول الكيفية التي يمكن أن يُعامل بها نشطاء سياسيون مثلهما: مثقف يهودي وزوجته، من قِبل النظام النازي. "اتفقنا أننا حين تحينً اللحظة سوف نغلق باب الجراج وننتحر بالغاز السام." في يونيو 1940، زودهما "آدريان ستيفن"، شقيق فرجينيا المحلل النفسي ، بجرعات قاتلة من المورفين لتساعدهما على الموت في حال الغزو. كان هذا قراراً مشتركاً بين الزوجيْن وليس من دلالة له على حالة الاكتئاب لديها ولم يكن نتاجَ فكرٍ ذي ملمحٍ تدميريٍّ انتحاريٍّ من جانبها. حتى أنها لم تستخدم المورفين حين قررت إنهاء حياتها.


في فبراير 1940 أصيبتْ فرجينيا بالأنفلونزا، وأمضت ثلاثة أسابيع في الفراش. لم يكن قد سُيطر بعد على هذا المرض من قِبل الطب في ذلك الزمن، فكان يسبب لها، ضمن أعراضه، صداعاً طويلاً، وربما يخلّف لوناً من الاضطراب المزاجي إذا لم يعالج جيداً مع الراحة التامة.


خلال بقية العام كانت نشطةً ومنتجةً، إذ كانت متوفرةً على كتابة ثلاثة أعمال في وقت واحد خلال نوفمبر 1940. ومع ديسمبر كانت انتهت من مسوّدة روايتها الأخيرة "بين فصول العرض". غير أن حروف المخطوطة في ذاك الشهر وشت بأن يدها كانت ترتعش أثناء الكتابة. وعلى نهاية العام كان ملمحٌ من الإحباط وعدم الثقة بالنفس قد أعلن عن نفسه في خطابها لصديقتها الطبيبة، الممارس العام، "أوكتافيا ويلبرفورس" :" فقدتُ كلَّ سيطرةٍ على الحروف، ليس بوسعي صياغة شيئًا منها."


آثار الحرب كانت تمتد إليهم. منزلهم في لندن ومكان عملهم في ميدان ميكلنبرج كانا قد فُجّرا بقذيفة. وتم نقل كل أثاث المنزلين والأوراق الخاصة بفرجينيا وزوجها وكذلك معدات الطباعة لتخزّن في كوخ ملحق بالمنزل الريفي خاصتهما. في أوائل عام 1941 خططت فرجينيا إعادة قراءة كلِّ تراث الأدب الإنجليزي وشرعت بالفعل في تنفيذ مشروعها.



سجّل ليونارد وولف أول أعراض ما أسماه "اضطراب عقلي حاد" في 25 يناير عام 1940، وهو يوم عيد ميلادها، أثناء مراجعتها بروفة "بين فصول العرض". كانت قد استمتعت بكتابة تلك الرواية، وكتبت حين انتهت من المسودة الأولى في نوفمبر السابق: "أشعرُ بأنني حققتُ انتصارًا صغيراً بهذا الكتاب ... استمتعتُ بكتابة كل صفحةٍ تقريباً." ولما أحكم الاكتئابُ الأخير قبضته عليها، تملكتها فكرة أن هذا الكتاب كان فشلاً ذريعاً.


اعتاد ليونارد أن يأخذ موقفاً فورياً. قال في يومياته: "لسنواتٍ كنت اعتدت أن أرصدَ أيَّ علاماتٍ تنبئ بقدوم خطر على عقل فرجينيا، في البداية كانت الأعراض الإنذارية تجيء بطيئةً لكن غير مضللة: الصداع؛ عدم النوم، فقدان المقدرة على التركيز. كنا تعلمنا أن الانهيار يمكن دوماً تجنبه إذا ما تقوقعت داخل شرنقة السكون بمجرد أن تعلنَ الأعراضُ عن نفسها. لكن في هذه المرة لم تظهر الأعراض المنذرة. " الانهيار الآخر الذي حدث بغير مقدمات كان الأول في عام 1915 – وهو انهيارها الأطول والأكثر حدّة.


يتبع
.
.
.


هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)