عرض مشاركة واحدة
قديم 09-27-2014, 11:11 PM
المشاركة 2
ماجد جابر
مشرف منابر علوم اللغة العربية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

3- المكان:
والمكان تتم فيه أحداث الرواية، و"يعد المكان من أهم المكونات الأساسية في العمل الروائي، ويشغل حيزاً كبيراً في بنيته السردية، ويشكل مع باقي الأمكنة فضاء الرواية الشامل.والمكان هو الأرضية التي تتحرك عليها الأحداث، والصراع بين الشخصيات في إطار المتن الحكائي المتماسك، لا يحدث في الفراغ بل في أزمنة وأمكنة متعددة ومحددة. (4)
وهو المحيط الذي تجري عليه الأحداث أو تدور فيه, ويرتبط جدًا بالزمان "إن المكان الروائي بناء لغوي, يشيده خيال الروائي, والطابع اللفظي فيه يجعله يتضمن كل المشاعر والتصورات التي تستطيع اللغة التعبير عنها; ذلك أن المكان في الرواية ليس هو المكان الطبيعي أو الموضوعي وإنما هو مكان يخلقه المؤلف في النص الروائي عن طريق الكلمات ويجعل منه شيئا خياليا، فالمكان في النص الروائي مكان متخيل وبناء لغوي، تقيمه الكلمات انصياعا لأغراض التخييل وحاجته, فهو نتاج مجموعة من الأساليب اللغوية المختلفة والمختلقة في النص، من ثم يرى بعض الدارسين أن عبقرية الأدب, حقا حيزه. وللروائي سبل شتى في تشييد الفضاء أو المكان الروائي, منها: الوصف, استخدام الصورة الفنية, توظيف الرموز, ولكل منها دوره الفعال في النص الروائي.
فالروائي حين يلجأ إلى الوصف, يبذل قصارى جهده للبرهنة على قدرته أن يجعلنا نرى الأشياء أكثر وضوحا، ذلك أن الوصف هو: ذكر الشيء كما فيه من الأحوال والهيئات, أي ذكر الأشياء في مظهرها الحسي الموجودة عليه في العالم الخارجي، فالوصف يقدم الأشياء للعين في صور أمينة تحرص على نقل المنظور الخارجي أدق النقل.
ولما كان الوصف يلائم الأشياء التي توجد بدون حركة, فإنه يختص بتمثيل الأشياء في سكونها، والروائي حين يلجأ إلى وصف المكان أو الفضاء الروائي, فإنه يرمي من وراء ذلك إلى بث المصداقية فيما يروي, بجعل المكان في الرواية مماثلا في مظهره الخارجي للحقيقة, نابعا من مرجعيته الواقعية، ذلك أن الروائي حين يصف المكان الطبيعي, يستثمر عناصره الفيزيائية لتجسيده, بحيث يجعلنا نقف على الصور الطوبوغرافية للمكان, والتي تخبرنا عن مظهره الخارجي; إذ إنه؛ يرسم صورة بصرية تجعل إدراك المكان بواسطة اللغة ممكنا, جاعلا من الوصف أداة لتصوير المكان وبيان جزئياته وأبعاده، وهو بتوظيفه عناصر المكان المحسوسة لتشكيل مكانه المتخيل, إنما يدخل العالم الخارجي بتفاصيله الصغيرة في عالم الرواية التخييلي ويشعر القارئ أنه يعيش في عالم الواقع لا عالم الخيال, ويخلق انطباعا بالحقيقة أو تأثيرا مباشرا بالواقع ... وحتى يتسنى لنا قراءة المكان قراءة واعية تؤدي إلى فهمه على نحو صحيح. اقترح الباحثون ثلاثة محاور في هذا الصدد; يتمثل أولها في الرؤية (أو زاوية النظر أو المنظور) التي يتخذها الراوي أو الشخصيات عند مباشرتهم للمكان، لأن الرؤية هي التي تقود نحو معرفة المكان وتملكه من حيث هو صورة تنعكس في ذهن الراوي, ويدركها وعيه قبل أن يعرضها علينا في خطابه. في حين يتمثل المحور الثاني في فهمنا للغة الموظفة لتشخيص أو وصف المكان، فكل لغة لها صفات خاصة في تحديد المكان أو رسم طوبوغرافيته، وبها يحقق المكان دلالته الخاصة وتماسكه، أما المحور الثالث، فيتمثل في المتلقي أو القارئ للمكان في النص الروائي، فهو يتلقى جمالياته المنبثقة عبر النص السردي والتي لها أثرها في التلقي, كما أنه يساهم في إنتاج هذه الجماليات. وفي النهاية يعد الجانب الجمالي للمكان درجة من الجودة تحسب للروائي قدرته على اختزان أمكنة مغايرة لما يعهده المتلقي أو تقديم المكان الذي يعيشه المتلقي في صورة فنية مختلفة(5).
ويبرز الفضاء الروائي الذي تظهر فيه الأمكنة والتي تظهر في بنية الرواية وتشغل حيزاً جغرافياً تتحرك فيه الشخصيات حقيقة مادية ملموسة، أو رؤية ذهنية خيالية، والفضاء الروائي الذي تجري فيه الأحداث الجزائر بما فيها العاصمة، ووهران، وتونس، وفرنسا، وبروكسل، وماليزيا، وبيروت، وتظهر في الرواية الأمكنة التالية:
شارع العربي بن مهيدي، والمباني الكثيرة التي يسكنها إطارات الجيش الجزائري، وبيت عبد القادر، والبحر، وإيديت المطربة، ومكتب عبد القادر، وميناء وهران، وبروكسل، وعنابة، وتونس، والقطار، والصحفية الجزائرية الذاهبة إلى عنابةّ في مهمة مراسلة، والتل الجزائري، وبيت حياة في تونس، وسوسة، وماليزيا، وستراسبورغ، وباريس، ونهر السين، وبيت وهيبة في باريس، وأبرشية سيّدة لبنان بباريس، وكافيتيريا "أيرل بيز"، وقسنطينة، وبيروت، والمستشفى في ليموج، وليموج، ومدينة كان الفرنسية ومستشفاها، وفيروز ونغمها، وقلعة سانتاكروز، والجامعة، وميناء سطوالي، وبلدة روز وبيتها، وساحة " أودان"، والعاصمة الجزائر، وتيبازة، والبارات والكبريهات، والحمامات، ومحطة النقل البري، وبعض الموانئ الجزائرية والفرنسية، ومرسيليا.
وللمكان دلالات، فالمستشفى رقدت فيه وهيبة، كما رقدت فيه بعدها روز وهو تعبير عن الألم والمصائب، وكلتاهما فقدتا الذاكرة لهول الأحداث وامتهان المرأة.
والجامعات لها دلالاتها النفسية، فكلا من وهيبة وروز كان تعليمهما جامعيا، لكن هذا لم يشفع لهما بالامتهان وفقد الذاكرة وهذه مفارقات.
والبارات والكبريهات رمز للضياع، وباريس رمز الثراء والتقدم، لكن خالدا يفضل حياة الفقر في وطنه ويعود إليه، وفرنسا ترمز للحرية ومهوى هجرة الشباب العربي، ووهران رمز للوطن الذي لا يرحم رجالُه نساءَهم.
4- الأحداث:
الحدث عنصر أصيل ومهم في العمل القصصي، والحدث اقتران فعل بزمن معين، ومكان معين، والكتّاب يستمدون أحداثهم من الحياة من حولهم، فكل ما في الحياة يصلح لأن يكون موضوعا للقصة، ومع ذلك فلا بأس من ذكر المصادر الرئيسة لأحداث القصة، وهذه المصادر، هي: الواقع والخيال والتاريخ(6)
وقاصتنا تعالج قضية امتهان كرامة المرأة في الجزائر في نهاية القرن الماضي المنصرم وخاصة في السيبعينات وما تلاها، وخير دليل على ذلك ما حصل معها من معاملة زوجها عبد القادر السيئة، فوهيبة امرأة متعلمة, دكتورة في الصيدلية تزوجت من الكولونيل دون معرفة مسبقة به بل بتدبير من الأسرة، ولقد قتل عبد القادر فيها الطموح وحول أحلامها من أفق الثقافة والتعليم إلى أفق لا يتعدى تكرار سيدة المنزل لكل الأشغال التي تقوم بها، كل يوم منهمكة في تنظيف بيتها، فكانت مجبرة على طاعة أبيها الذي صمّم على ذلك، ومجبرة أيضا على معاشرة رجل ينتمي إلى عالم آخر غريب عن عالمها الجميل، يسيمها الضرب والامتهان، ومن ترك حبيبها سليم لها، وما جرى من طلاق لحياة من زوجها منصف الذي خانها، ومن موت أوديت صديقة وهيبة، وتعرف وهيبة على زياد وحبهما لبعض. وما وقع من غبن وغدر لروز من معلمها والمجتمع، فمعلمها وثقت به وغدر بها وأخذ منها أعز ما تملك وهرب تاركا جنينا في بطنها، وعقابا لها من الأهل والمجتمع، ومن هول الصدمة تفقد ذاكرتها وتلجأ للكبريهات والليالي الحمراء بعد أن تركت طفلها وتخلت عنه، وفي أول شبابه ينتحر الطفل.
و" الحدث هو اقتران فعل بزمن ولا تقوم القصة إلاّ به (7).
والحدث يتشكل من العناصر الثلاثة السابقة, فكل ما تقوم به الشخصيات في حدود الزمان والمكان يسمى حدثا. ولا تستمر الأحداث على وتيرة واحدة من الحدة، إذ لا بد من التراوح بين الهبوط والصعود؛ للانتقال بالقارئ من حالة التأقلم التي تفرضها تلك الاستمرارية.
والأحداث إما أن تكون سابقة للصراع مسببة له, أو لاحقة له وناتجة عنه, أما المزامنة للصراع فهي الصراع نفسه، وتعتمد الروائية الانتقائية عند إيراد الأحداث, فتختار ما يناسب الهدف وفكرة الرواية, ويجب الابتعاد عن كل حدث لا يخدم الغاية؛ لأنه يؤدي إلى انفصام رتق الأحداث.
وتجري الأحداث بمنطقة وانسياب، ففقدت وهيبة ذاكرتها من هول تصرفات زوجها عبد القادر، ومن ترك حبيبها سليم لها وهجرته عنها، كذلك تفقد روز ذاكرتها هي الأخرى نتيجة لغدر حبيبها لها، فبعد أن حوّلها من فتاة بتول بكلماته المعسولة خدعها وسافر تاركا لها مولودا غير شرعي وسياط الأهل والأقارب، فتهرب ولا تجد لها من سبيل إلا طريق الانحراف والخديعة.
"فالأحداث يجب أن تكون مرتبطة بمبدأ السببية، وتجري أحداث الرواية بمنطقية في أجزائها الثلاثة:
ففي الجزء الأول: وعنوانه " نصف حياة".
ويتضمن معانات وهيبة مع زوجها عبد القادر وقهره لها، وموته، وحبها الأول لسليم وسفرة والتقائها به صدفة في سوسة أثناء زيارتها هناك لصديقتها حياة ومعايشتها لطلاقها من زوجها منصف.
والجزء الثاني بعنوان "قيثارة الحب".
وفيه وتلتقي وهيبة بمن أحبت وهي صديقتها أوديت في باريس، وبرحيل خالد عن باريس للجزائر، وهي من أحبته بصدق في شبابها، وحصول حادث سير ماتت على إثره أوديت، وتلتقي وهيبة بزياد الذي أحبها وأحبته، ومرافقته لها في المستشفى، وحبها له في باريس، ويركز هذا الجزء على كيّ شعور المرأة، وأن الأهوال والأحداث تجعلها تعيش في اللاشعور، وقسوة معاملة المرأة التي تجعلها تعيش فاقدة للذاكرة.
والجزء الثالث: بعنوان "حكاية روز":
وتجري فيه الأحداث بتقصي وهيبة ظروف روز؛ لتتعرف على عالمها الخاص، وتحظى بزيارة حياة لها، وتستغل وهيبة حصول حادث سير لروز وتسرع لمرافقتها في المستشفى، لتكسب ثقتها في نهاية المطاف، حيث تدرك وهيبة حقيقة هذه المرأة الفنانة التي قاست الويلات في طفولتها، وترغب في الكتابة عنها فبينهما وجه شبه كبير، حيث عانت روز اليتم وعاشت في كنف عمها، وبعفويتها تعجب بأستاذها الجامعي ويفض بكارتها وتحمل منه بعد أن وثقت به، وتعاني من جراء ذلك الكثير الكثير، فتصبح سهلة الصيد لرواد الشوارع والبارات والحانات، وتترك طفلها عند عجوز، وبعد سنين من عبث العابثين بمشاعرها وكرامتها، تحاول الرجوع لوليدها الذي كبر ودعاها للعودة إليه وأنه سيسامح لها فعلتها،...تعود لتجد أن العجوز التي ربّته قد ماتت، وأن الغلام بعدها قد انتحر، فتفقد روز رشدها وتستمر في عيشتها بلا ذاكرة
5- الصراع:
هو تصادم بين قوتين, وهو حدث مؤثر في غيره, وتلك القوة قد تكون مادية كالصراع بين شخصين أو جيشين, أو معنوية كالصراع بين الإنسان وشهوته أو القدر، والصراع يكون داخليا ويكون خارجيا, فالداخلي كالشخص مع نفسه إذ تتجاذبه قوتان, كقوة الحق وقوة الباطل, أو قوة الإرادة وقوة الإعراض, وغالبا ما يكون قصير المدة ومصيريا.
أما الخارجي فيقع بين شخصيات الرواية, ويكون طويل المدة أحيانا ومركزيا مصيريا.
ويلجأ الروائي إلى الصراع الخارجي أكثر من الداخلي؛ كي يزيد من انفعال القارئ، حيث إن الصراع هو النقطة الأكثر تأثيرا في نفس القارئ, وهو اللحظة التي تصل بالقارئ إلى أعلى درجات الانفعال والتي لا تهدأ إلا بإدراك نتائج الصراع، ومن أمثلة ذلك في الرواية:
صراع خارجي: كالصراع الذي كان يجري بين وهيبة وزوجها عبد القادر، وبينها وبين عادات وتقاليد المجتمع، وما بين حياة وزوجها منصف، وبين روز والمجتمع، ومثاله في الرواية كما جاء على لسان روز:
"قضيتُ نهاري كاملا في حمام عمومي إلى أن جلست بجانبي امرأة تتحدث عن عائلة تبحث عن خادمة وكأنها كانت مديرة لمكتب التخديم أو أنها سمسارة... لم يكن أمامي من حل سوى أن أقع بالشِّباك..."
وصراع داخلي:
والصراع يكون داخليا كالصراع الذي جرى في نفس وهيبة ، حيث عاد سليم من بروكسل وعرض على وهيبة الزواج، ويتمثل الصراع في إمكانية الزواج منه أم لا، لكنها أخيرا عزفت عن القبول بعرض سليم؛ بعد أن كان قد تركها وهاجر إلى بروكسل وتزوج من هناك، فقررت ألا تتزوج منه كيلا تصبح زوجته الأولى مثلها بل ذاكرة.
وعلى الرغم من كلاسيكية بناء الرواية، فقد استفادت القاصة من تقنيات الرواية الجديدة ومن آليات الرواية المنولوجية وتيار الوعي أثناء استعمال الحوار الداخلي والارتداد إلى الخلف واستشراف المستقبل وتوظيف الأسلوب غير المباشر الحر، كما استفادت كثيرا من الرواية الواقعية في تجسيد الواقعية الانتقادية ذات الملامح الاجتماعية، وعبث الحياة وقلق الإنسان في هذا الوجود الذي تنحط فيه القيم الأصيلة وتعلو فيه القيم المنحطة.
الاسترجاع:
ومثاله:
_ "هل فقدتُ ذاكرتي... ولكنني درستُ الصيدلية وكنت في سوسة ومن قبلها في وهران... أذكر حياة صديقتي وأمي ..."
أخرس فجأة ...ليقول:
_" أكملي ...ماذا أيضا ...؟ "
_" أذكر عبد القادر..."
_ "من عبد القادر ...؟ من هو..."
أفضل الصمت ولا أجيب ... يصمت قليلا:
_ "هل كان لديك أصدقاء في ليموج...؟ "
_أقول: " وهل كنت في ليموج...؟"
_ يسألني: " هل لديك أصدقاء في فرنسا...؟"
6- الحبكة (النظم):
والحبكة تأتي على نوعين، هما:
1.الحبكة المحكمة: وتقوم على حوادث مترابطة متلاحمة تتشابك حتى تبلغ الذروة ثم تنحدر نحو الحل، وهي "التي تقوم على حوادث مترابطة تسير في خط مستقيم لتصل إلى نهايتها، و تعتمد الأحداث على عناصر التوقيت الذي يعني سرعة سير الحوادث، والإيقاع بمعنى التنويع في درجات الانفعال و التشويق و يقصد به الحيل التي يلجأ إليها الكاتب لشد انتباه القارئ (8).
2. الحبكة المفككة: وهنا يورد القاص أحداثا متعددة غير مترابطة برابط السببية، وإنما هي حوادث ومواقف وشخصيات لا يجمع بينها سوى أنها تجري في زمان أو مكان واحد.
لكن الراوئية هدى درويش اتبعت الحبكة المحكمة في روايتها كما حصل في انتهاء علاقة وهيبة بزوجها عبد القادر، وكما حصل لحياة وطلاقها من منصف، وكما جرى لروز من أحداث ابتدأت بعلاقة حب إلى أن أوصلتها للضياع ثم بعد ذلك بفقدها لذاكرتها، ولقد أحسنت الراوية الربط بين كلّ، وهو امتهان كرامة المرأة، والحبكة المحكمة "وهي ذروة الحركة في علاقات الأحداث بالشخصيات، حيث تتجه أفعال الشخصيات جميعا نحو الذروة، إذ يكون التشويق قد بلغ مداه، بما يصحبه من قلق وتوتر وحب استطلاع، ولا بد للقارئ من امتلاك بعض خيوط الحل مما يدفعه إلى التوقع، والتخيل والتحليل والتفسير(9).
والحبكة الرئيسة تتمثل في علاقته المرأة بزوجها أو حبيبها وغالبا ما تنتهي بالفشل، وهناك حبكات فرعية، منها عودة خالد للوطن من مهجره، وعلاقة زياد بوهيبة، وعلاقتها بأوديت، وهي حبكة ساحرة "إن الحبكة الساحرة التي تضيف قوة أخرى إلى القصة، هي ما يمكن ابتداعه بسهولة، إذ إنها تقوم على الإدراك الخاطئ والتجربة الإيحائية أو السلبية ولكن بشكل غير متوقع(10
وتُنتِجُ الفكرة لدى الروائي صراعات متعددة وأحداث متفرقة تخدم غاية الكاتب, هذه الصراعات تحتاج إلى هندسة وترتيب وحسن نظم, ولا يمكن أن يقوم الروائي بعرض جملة صراعات مبعثرة، إذ لابد من تنسيق الصراعات مع الأحداث الملائمة بصورة متسلسلة بانسياب نحو الغاية حتى يمكن للقارئ أن يستوعبها ويربطها بسلاسة في ذهنه, وتنسيق الأحداث يسمى الحبكة أو النظم، وأفضل النظم الانحدار المنساب الذي من شأنه أن يحقق الانسجام والتركيز، ويمثل ذلك ما آلت إليه روز في القصة بوقوعها في فخ الرذيلة في مجتمع ومدنية لا ترحم, والانحدار المنساب أفضل بكثير من الانحدار الانكساري الذي يهبط بالقارئ من موقف إلى آخر بشكل فجائي يسبب الإزعاج للقارئ.
7- الفكرة:
فالفكرة هي أساس العمل الروائي, وكل عناصر الرواية مسخرة لتحقيق الفكرة, فهي تولد الصراع في ذهن الروائي والصراع ينتج الأحداث, والأحداث تخضع للنظم المحكم, والنظم المحكم يعطينا رواية كاملة الأبعاد.
وكل قصة أو رواية تهدف إلى فكرة معينة يريد الكاتب نقلها إلى القارئ، وقد يريد إبداء رأي في الحياة أو سلوك معين رافضاً أو مؤيّداً، وهو لا يقدم الحلول، بل يكتفي عادة بإبراز سلبيات أو إيجابيّات الموقف، وهناك كتّاب يذكرون الفكرة حرفياً في القصة- على لسانهم أو لسان أحد الأبطال، ولكن معظمهم لا يذكرونها مباشرة بل يتركون للقارئ لذّة هذا الاستنتاج كما فعل الراوي سمير الجندي في روايته هذه.
وقد استطاعت الراوية هدى درويش أن تجعل من روايتها رواية تبلغ حد معايير وشروط الروايات الناجحة، فهي تناسب مستوى المخاطب سواء كان طفلا صغيرا أو شخصا بالغا، وتثير دافعية القرّاء لقراءتها، وموضوعها يتناسب مع اهتمامات الناس وتساعدهم في حل مشكلاتهم بالعبرة منها، وتراعي فروقات الناس العقلية، وتثري المعارف لدى الإنسان باكتسابه جوانب معرفية.
ومضمونها الرئيس يتمثل في محنة المرأة الجزائرية وغالبا ما يتمّ زوجها باتفاق الكبار بين العائلتين، وامتهان كرامتها من الرجل والمجتمع على حد سواء، وبسبب الضائقة الاقتصادية والفقر والعادات والتقاليد الجزائرية امتهنت كرامة المرأة، وبلغت نسبة العوانس فيها ما يقرب من أل 35 في المائة، ولهول ما تعانيه المرأة من الرجل والمجتمع الجزائري خاصة والعربي عامة تفقد صوابها، فتغيب الذاكرة كي لا تتذكر المرأة حدثا أو أحداثا حطّمت قلبها، ومزّق أحلامها، وكسر كل الأشياء الجميلة بداخلها، وأرهق ذاكرتها، وجعلها تعيش بقايا حطام، فتغادرها الروح وتتمنى أن تعيش بلا ذاكره، كيلا تتذكر وجوها غطّاها القبح وكتم أنفاسها الحقد، وأعمى عيونها الحسد، فباتت لاهم لها سوى تحطيم الطموح وقتل الإبداع وتحوير الكلمات كيلا تتذكر أناسا يدّعون الأخوة والصداقة والطيبة، وينثرون حروفا جميله ويرتدون قناع النزاهة والمثالية، يقولون مالا يفعلون ويفاجئونك بما لا تتوقع، وهناك نساء يتمنين أن يعشن بلا ذاكره؛ كيلا يتذكرن الفجائع والمواجع التي أدت قلوبهن والظلم الذي حاق بهن وهن يرين اندثار كل القيم والمعاني، فيعشن بلا ذاكره في مرحلة اللاوعي، حيث فقدن رغبتهن في الحياة.
وتعبِّر عن هذا المضمون وهيبة بقولها:
"كم من جلسة نسائية حزينة جلستها كلّ واحدة منّا أمام مرآة أيّامها، وكم من وقفة على نافذة الاستفهام تقفها كلّ أنثى سائلة الأيّام عمّا مضى وعمنّ رحل ... لستُ وحيدة في هذه الحياة، فكلّ النساء وهيبة أمام التجربة".
والمشكلة تنعكس على الأسرة، على الأب والأم والأخ والأخت:
"وكم يسعد الآباء والأمهات وهم في استقبال من يصاهرون... وكأنهم في قمة السعادة خصوصا للأمهات، وهنّ يتفاخرن ببنات قد تزوّجن خير من اللواتي بقين عوانس أمام ناقوس الثلاثينات أو قطار الأربعينات الذي يمرّ ساحقا شباب المرأة..."
كذلك تنعكس المشكلة على العم وبنيه وبناته، وتظهر بعض المضامين والعادات العربية في الرواية وتتمثل في أن سمعة ابنة العم تؤثر في سمعة أبناء عمها، وأن المجتمع الجزائري يخاف من عنوسة البنت.:
فتقول زوجة عم روز:
" علينا أن نطردها... أتريد أن تعنس بناتي العذراوات بسبب هذه الفاسقة ... ليس لها مكان في بيتي ..."
ومن الأفكار ظاهرة النفاق عند المرأة تلجأ إليه لتحمي نفسها من سياط الناس: وجاء على لسان وهيبة في همسة بينها وبين أمها بمأتم زوجها:
"نهضتُ وعانقتها رغم أنني لا أقتنع بطقوسنا كثيرا في الرثاء، بل فعلتُ ذلك تقليدا وإرضاءً للحضور... فصرختْ بقية النسوة وتعالتْ الأصوات وأنا بين يدّي أمي أروح وآتي بعنف، وإذا بها تهمس لي: "تظاهري بالبكاء أيتها الغبية "... فبرقّت ُعيوني، وأنا لا أصدق ما الذي أسمعه منها، حيث أنّ قطعتها المسرحية تلك جعلتني أطرح سؤالا: "هل فعلا كانت أمي تحب عبد القادر إلى هذا الحد...؟كيف لها ذلك واِن كنتُ أنا زوجته لا أطيقه حتى...
ومن المضامين الفرعية فكرة الوحدة العربية، كما جاء على لسان وهيبة:
"مرّت أيام على إقامتي بسوسة, لا غربة في تونس؛ لأنّها وطني، ولأنّ تلك الجغرافيا التي جمعتْ شعوبنا في خريطة واحدة لم يكنْ أمامها الاختيار بل أجبرتها وحدة هذه الشعوب وتماثل تركيبة كل منها,
ومن المضامين التي نلحظها في الرواية، حب الوطن والحنين له، ويمثله خالد:
" خالد هو الرجل الوحيد الذي لا ألومه على الرحيل، فلا وعود كانت بيننا في إكمال مشوار الحياة سويا ...هو مثلي تماما، فكيف ألومه وأنا التي تدرك جراح الحب بداخله كيف كانت... أنا هربت من وهران بكل ضعف عندما ما وصلت بي الساعات إلى لحظة ليست في استطاعتي، وليست تحت سيطرتي في التغلب فيها على الأحزان, وهو هرب من باريس فاقدا للحب خائفا مضطربا تاركا وراءه ليلا لعينا من الألم... عائدا ربما ليبدل حب النساء بحب الوطن، وفي حب الجزائر معجزات تجعلك تدمع لمجرد أن تسمع دحمان الحراشي في لحن من العاصمة، أو أحمد وهبي في دندنة من وهران."
ومن المضامين الفرعية في القصة التسامح بين الأديان، ويمثل ذلك العلاقة الحميمة بين وهيبة المسلمة وأوديت المسيحية.
ووافقت هذه الرواية شروط الروايات الناجحة: فلم تطغَ شخصية الكاتبة عليها، وتتصرف شخوصها بعفوية وفق مكوناتها الجسمية والنفسية والفكرية، وتركت الراوية لشخوصها حرية التفكير والسلوك واتخاذ القرارات فلا تلزمها .
وهي متلاحمة العناصر: "و« لا بد لنجاح القصة الفني من تماسك عناصرها: الأحداث، والشخصيات والنسيج والأسلوب والتركيز والبيئة. بحيث يكون كل عنصر كاللبنة في البناء القوي يؤدي وظيفته في اكتمال العمل الفني، وإن ضعف أي عنصر يؤدي إلى اهتزاز بقية العناصر وبالتالي العمل الأدبي ككل»(11).

يتبع