عرض مشاركة واحدة
قديم 09-23-2012, 04:17 AM
المشاركة 2
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
ولا شك أن أول سؤال قد يتبادر للذهن ــ إذا اقتنع بهذا الكلام وأراد العمل ـــ هو كيفية البدء فى أداء الفريضة الغائبة , وأداء هذا الواجب الذى غفلنا عنه ,
وإجابة هذا السؤال نستنبطها بسهولة ويسر من الحديث الصحيح الذى صححه الألبانى والذهبي وغيرهما :
( سؤل رسول الله صلي الله عليه وسلم .. أى الصدقة أفضل ..
فقال عليه الصلاة والسلام : أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى ــ بمعنى ما كان زائدا عن حاجة أهل البيت ــ وابدء بمن تعول )
وشاهدنا من هذا الحديث هو العبارة الخطيرة الأخيرة فى الحديث ( وابدء بمن تعول ) , فكثير من الناس يغفل عن أن كفاء أهل بيته وإكرامهم وصلتهم هى من أبر الصدقة وأفضلها عند الله عز وجل , بدلا من تركهم عالة يتكلفون الناس
ولا شك أننا لو صرفنا هذه القاعدة إلى العلم لتكشفت أمامنا قضية خطيرة للغاية !
أن هناك من العلماء الجهابذة الذين يغمر فضلهم أصقاع الأرض والناس , وفضل علمه غائبا عن أهل بيته , إما لانشغاله بتلاميذه وإما عن انشغاله بطلب العلم إلى الحد الذى أهمل فيه تنشئة أهل بيته , فتركهم نهبا لعصر الفتن , لا سيما لو وضعنا فى اعتبارنا أنه ليس من الضرورى أبدا أن يكون أبناء العالم من هواة طلب العلم , ولهذا رأينا أمثلة محزنة لعلماء كبار جاء من بعدهم خلوف أضاعوا ما كسب آباؤهم , والذنب هنا ليس على الأبناء وحدهم إلا إذا كان الأب قام بدوره كاملا فى تعليمهم ,
ولهذا فإن دور الإنسان المسلم ــ لا سيما بعصرنا الحالى ــ تجاه أبنائه وأهله هو أوجب الواجب فى تلك الفريضة , فريضة الدعوة , وفريضة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ,
ولن يكون هناك معنى أبدا لجهاد الرجل فى الدعوة بين الناس بينما هو تارك أبناءه على حالهم من جهل أو ضلال , فالقاعدة أن نبدء بمن نعول ..

والعلم المطلوب والدعوة المطلوبة هنا ليست فقط هى تعليم الفرائض وحدها , بل الأمر يتعدى ذلك لأن أركان الإسلام الواجب تعليمها للأبناء هى ــ كما وصفها النبي عليه الصلاة والسلام ــ الأركان , بمعنى أنها أساس البناء لكنها بالطبع ليست البناء كله , ولا يوجد عاقل يضع أساسا لبيته ثم لا يكمل البناء حتى يصير منزلا مسكونا ..
والبناء الإسلامى المطلوب هو المُثل العليا , لأن تعليم الأبناء وتعليم الناس سيرة المثل العليا وطريقهم المستقيم يوفر كثيرا من الجهد والوقت فى تعليم الفضائل , لأن تعليم السير الذاتية لجهابذة الفضيلة يكفي وحده لغرس الفضيلة فى نفوس المتعلمين بأفضل مما لو كنا غرسناها كل واحدة على حدة بتعليم نظرى دون مثال كتطبيق عملى ..

ولما كان المُـثل العليا الوحيدة الكاملة فى أمتنا هى نموذج الصحابة رضوان الله عليهم ..
ولما كنا مأمورين أمرا نبويا مباشرا باتباع الصحابة رضوان الله عليهم باعتبارهم خير القرون وخير البشر بعد الأنبياء والرسل عليهم السلام ,
صار مما لا شك فيه أن تدارس وتدريس سيرهم الذاتية من أوجب الواجب فى الدعوة إلى الله .. خاصة لو أضفنا إلى هذا ما نعانيه فى عصرنا الحالى من الهجمات الحقودة على الصحابة الكرام , ومحاولة طمس هوية الأمة بالطعن فيهم فى ظل جهل عميم بحقيقة سيرتهم وحقيقة تاريخهم مع انتشار الشبهات والروايات المطعون فيها وفى صحتها عنهم رضي الله عنهم ..
ولا شك أن السبب فى انتشار تلك الروايات المغرضة يرجع إلى جهل بعض كـُـتابنا بعلم الحديث والنقل ــ مع الأسف الشديد ــ فقاموا بحسن نية بنقل الروايات عبر كتب التاريخ القديمة ومصادره الأصلية دون تدبر أو وعى أو علم بطرق النقل وكيفيته , وكيفية التمييز بين الرواة الثقات العدول وغيرهم , واعتبروا أن مجرد ورود هذه الروايات فى كتب التاريخ كافيا للتصديق والتسليم بها , وقد وقع فى هذا الفخ عشرات المؤرخين المعاصرين دون أن ينتبهوا لحقيقة ساطعة أن أصحاب وعلماء التاريخ قديما كانوا جميعا من أهل العلم بالحديث وكتبوا كتبهم بأسلوب علماء الحديث أى بالإسناد المتصل مثل تاريخ الطبري وتاريخ يعقوب بن سفيان الفسوى وتاريخ المدينة لابن شبة وتاريخ خليفة بن خياط , أو بطريقة نقد المتون مثل البداية والنهاية لابن كثير ,
والصنف الأول من العلماء جعلوا الحكم على الروايات صحة وضعفا لمن يأتى بعدهم من النقاد ولم يلزموا أنفسهم بذكر الروايات الصحيحة وحدها وأخلوا ذمتهم فى ذكر جميع الروايات عن طريق ذكر أسانيدها .. ولهذا كان ينبغي للمؤرخين المعاصرين إدراك ذلك والاشتغال بعلم الحديث وعرض الروايات على الإسناد للإنتقاء من الكتب ما يصح وما لا يصح "[1]"
هذا بالإضافة إلى الأمية الكاملة التى تضرب بجذورها فى أعماق المسلمين فلا يكادون يعرفون من الصحابة إلا الخلفاء الأربعة !
فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام أمرنا بصريح الحديث أن نهتدى ونقتدى بآثاره وسنته وسنة خلفائه وصحابته , فكيف السبيل إلى هذا ونحن نجهل أسماءهم أصلا !

أما خطة البحث فى هذا الكتاب إن شاء الله , فهى كالتالى :
أولا : سنبدأ فى إلقاء الضوء على علم الحديث , وهو العلم المختص بالنقل والرواية ونقد المرويات , وشرح كيفية براعة المسلمين وفضلهم فى ابتكار هذا العلم الشريف الذى تفردت به الأمة الإسلامية عن سائر الأمم التى من قبلها , وتمكنت بفضل هذا العلم الدقيق , أن تحفظ شريعة الإسلام قرآنا وسنة وعلما عن طريق النقل المتواتر جيلا بعد جيل , وكيف أن هذا العلم الرهيب الذى أبهر المستشرقين رغم حقدهم الظاهر حتى قال جولدسيهر المستشرق اليهودى متغيظا ( ليهنأ المسلمون بعلم حديثهم )
لأنهم ما استطاعوا النفاذ بالشبهات إلى علوم الشريعة مع وجود علم الحديث المختص بتنقية النقل فضلا على نقد المتون وتوفيق تعارضها
هذا العلم غفل عنه المعاصرون ولم يعطوه حقه فتردوا فى مهاوى الضلال , لأن الفاقد لأبجديات علم الحديث ــ إذا كان من المتصدين لعلم الشريعة أو التاريخ ـــ لا شك أنه سيقع فى الضلال المبين حيث أن هذا العلم الشريف هو الوسيلة الوحيدة لتميز الصحيح من الضعيف فى روايات الحديث ومرويات التاريخ أيضا ..
ثانيا : سنلقي الضوء باختصار غير مخل على قيمة وقدر ومقدار الصحابة , وما هى عقيدة المسلم الواجبة تجاه هذا الجيل العملاق الذى حمل الرسالة إلى أصقاع الأرض ,
ثم نلقي الضوء على أهم الشبهات التى تناولوا بها سيرة الصحابة رضي الله عنهم , وحاولوا الطعن فى مكانتهم باستخدام روايات التاريخ الضعيفة فى أحداث الفتنة الكبري التى عصفت بالأمة الإسلامية عقب استشهاد أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه , وسنبين بالمصادر الموثقة حقيقة هذه الفتنة وما جرى فيها ونبين أيضا الروايات الكاذبة التى نالت من شرف الصحابة بفعل المغرضين من الرواة المبتدعة ..
وسبب التركيز على شرح حقيقة أحداث الفتنة الكبري أن شرحها فى بداية الكتاب سيوفر علينا مشقة التعرض بالتصحيح لأحداث التاريخ فى أثناء معالجة تعبيرات الصحابة ومواقفهم رضي الله عنهم , ولأننا سنحتاج إلى روايات الفتنة الكبري الصحيحة فى معرض شرح هذه المواقف , فكان لزاما التعرض لها فى البداية قبل الشروع فى الموضوع الأصلي للكتاب
ثالثا : سنبدأ بعد ذلك بإذن الله فى عرض التعبيرات المأثورة عن الصحابة الذين سنختارهم ومعها سنعرض مواقفهم المصاحبة لهذه الأقوال ..

وفى هذا الكتاب لن نتناول سيرة الصحابة على نحو ما هو معهود فى السيّر , وإنما سنكتفي بأن نختار من أقوالهم ومواقفهم المأثورة سبيلا لإحياء فضائلهم ومآثرهم فى قلوبنا ومحاولة التدبر فى تلك الأقوال وهاتيك المواقف لنستخلص العبرة والعظة منها , عسي أن نستطيع أن ندفع عنهم وندفع بهم إلى قلوب الناشئة ليخرجوا متحصنين بسيرتهم الصحيحة عما افتراه الظالمون .. فلا يؤثر فيهم ما أثر فينا
وسيكون الطريق إلى ذلك مأخوذا من السيرة النبوية الصحيحة وحدها إن شاء الله وكذلك موثوق الروايات التاريخية وحدها ,
وسنبدأ بالنبي عليه الصلاة والسلام .. فنعرض لبعض أبرز مواقفه ..
ثم بالعشرة المبشرين بالجنة , سادة الصحابة رضي الله عنهم , ثم نتبعهم ببعض مواقف أهل بدر ثم أهل بيعة الرضوان , ثم بقية المشاهد ..
ذلك أن التفاضل بين الصحابة كان على عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم يجرى على هذا المنوال وفقا لقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :
( كنا نفضل الناس على عهد النبي عليه الصلاة والسلام بأبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علىّ ثم سائر العشرة ثم سائر أهل بدر ثم أهل بيعة الرضوان ثم أهل أحد والخندق ثم بقية المشاهد , ثم نترك أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم ) "[2]"
وهذه المستويات من التفضيل هى عقيدة أهل السنة والجماعة "[3]" منذ ذلك الحين وهى التى عليها معقد الإجماع , ولم يشذ عنها إلا أهل البدع .. عافانا الله منها ومن أهلها
والله الموفق والمستعان





الهوامش :
[1] ــ روايات الكذابين فى التاريخ الإسلامى ــ د. خالد كبير علال ــ بحث منشور بموقعه على الإنترنت
[2]ــ رواه السيوطى فى تاريخ الخلفاء
[3]ــ راجع شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي بتحقيق العلامة الألبانى