عرض مشاركة واحدة
قديم 09-23-2012, 04:24 AM
المشاركة 4
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
عملية فحص وتمحيص السنة النبوية

أكثر ما يستفز المرء فى هذه الأيام , ما يتردد بين الفينة والأخرى من نظريات وأفكار يحملها بعض الجهلة ليطعنوا فيها على صحة بعض الأحاديث الثابتة فى السنة النبوية بمبررات مختلفة , فتارة يكون الطعن بعدم اتفاق الحديث مع العقل , وتارة أخرى لتضاد الحديث مع القرآن أو مع حديث آخر ثابت ..
وداعى الإستفزاز هنا هو الشعور الطبيعى بمدى حماقة الطاعنين إزاء إقرار صحة تلك الأحاديث الذى أتى من علماء ورجال الحديث السابقين بعد جهد يفوق طاقة البشر ووفق قواعد يعجز عنها علماء العصر الحالى رغم توافر التطور التقنى والتقدم التكنولوجى ,

فعلماء السلف الذين تكفلوا بتحقيق الحديث وبيانه , لم يتركوا شاردة ولا واردة تخطر ببال إنس أو جن إلا ووضعوها بأذهانهم وهم يمارسون عملهم وهى قدرة عقلية مذهلة على افتراض الإحتمالات لم نرها إلا بعصرنا الحالى مع تقدم الحضارة البشرية ونشأة مجال المخابرات التى تقوم على معالجة القضايا الوطنية من أكبر إحتمال لأصغر رد فعل ولا تترك شيئا للظروف
وإزاء هذا الجهد الخرافي يستشعر المرء الكمد عندما ىتصدى بعض المدعين فيهدموا فى لحظة واحدة كل هذا النتاج الفائق
ولنعرض لمراحل تحقيق السنة بشكل مبسط عارضين جهد علماء الحديث { المحدثون } وطريقة تحقيقهم وتحريهم لصحة الحديث أو بيان حالته لنعرف أقل ما ينبغي معرفته من فضل هؤلاء العمالقة الذين أقر بفضلهم وبراعتهم الأمم المخالفة للإسلام من فرط الإنبهار "[1]"



بداية الإنتباه لضرورة تنقية السنة


الإسلام يقوم فى بنائه الأساسي على القرآن والسنة ومنذ بزوع فجر الدعوة الإسلامية وهى تتعرض للأعداء الذين تتنوع سبل عداءاتهم وتزداد كلما تقدم الإسلام بدعوته خطوة ,
فبداية وقف كفار قريش بالمرصاد للدعوة وحاربوها بشتى السبل , وعندما نجحت الدعوة فى الإنتقال الجوهرى للمدينة المنورة ظهر فى المدينة عداء اليهود والمنافقين , ثم خطا الإسلام خطوته الأخيرة لاكتمال التشريع بفتح مكة ودانت جزيرة العرب عقب طرد اليهود من المدينة وإخراج المشركين من جزيرة العرب
وعندما انتقل رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى , ظهر العدو الثالث وهم بقية قبائل الشرك التى أرادت إستغلال وفاة الرسول عليه السلام لهدم الدولة الناشئة ثم توسعت الدولة الإسلامية فأسقطت الإمبراطورية الفارسية والرومية معا فظهر منهما العدو الخامس والسادس من أبناء تلك الإمبراطوريات التى رأت دولتها تنهدم على يد القبائل الوافدة بدين جديد ,
ثم ظهرت الفتن وأصحاب الأهواء والطامعين ليظهر العدو السابع والثامن .. وهلم جرا ,

وكانت مواجهة الإسلام لتلك العداوات على وجهين , وجه القوة المسلحة والذى نجح فى إسقاط سائر الدول المناهضة ورد سائر الغزوات التى استهدفت الإسلام حتى اكتملت الإمبراطورية الإسلامية على رقعة هائلة من الأرض أيام الدولة الأموية الباذخة فحكم الوليد بن عبد الملك دولة تمتد من الصين شرقا حتى الأندلس غربا , وكان موسي بن نصير على وشك أن يواصل إتمام ما فتحه طارق بن زياد فيفتح سائر بلاد أوربا حتى بلاد الترك ثم يعود لمقر عاصمة الخلافة الأموية دمشق من الناحية الأخرى ليصبح البحر المتوسط بحرا عربيا خالصا , لولا عدة أسباب سياسية جعلت الوليد بن عبد الملك ثم خليفته سليمان يعدلان عن ذلك "[2]"
وعندما اتضح لمختلف أصحاب العدوات محاربة الإسلام بالقوة المسلحة , حتى بعد الضعف الذى اعتري الخلافة العباسية فى العصر العباسي الثانى , لجئوا إلى ابتكار هدم الدين ذاته من داخله لأن العقيدة السليمة هى التى وقفت خلف هذه الإنجازات التى ما تحققت لدولة على مدار التاريخ الإنسانى قط إلا للدولة الإسلامية "[3]"
وبدأت حرب هدم الدين من داخله مبكرا جدا ولم يكن مضي على وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام إلا أقل من أربعين عاما عندما تدخلت اليهود برجلهم عبد الله بن سبأ لابتكار فتنة التشيع والقول بالرجعة والبداء " [4] " وما إلى ذلك من العقائد الباطلة التى لم ينتبه إليها المسلمون إلا بعد أن أتت ثمرتها بالفعل
وكان أخطر ما لجأت إليه مختلف الفرق التى تبطن الكفر وتظهر الإيمان , هو وضع وتلفيق أحاديث منسوبة للرسول عليه الصلاة والسلام , بعد أن عجزوا تماما عن التشكيك بالقرآن الكريم المروى بالتواتر والثابت بمصحف واحد اجتمع عليه المسلمون فى عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه

فكان الطريق مفتوحا أمامهم لرواية الأحاديث المكذوبة المنسوبة للنبي عليه الصلاة والسلام لتحقيق ذات الغرض وهدم أركان الشريعة الصحيحة , ويكفي لإدراك مدى خطورة هذا الأمر أن نعرف وضع السنة فى التشريع , وهو وضع مؤسس للشريعة يأتى بعد القرآن الكريم مباشرة كمصدر مفسر له بالإضافة إلى كون السنة مصدرا مستقلا مشرعا فى الأحكام التى لم يتناولها القرآن مفصلة
ولم تكن كارثة تزييف الأحاديث فى بدايتها مؤامرة منسوجة ومنتظمة وإما بدأت بشكل محدود انتبه إليه التابعون فى حياة بعض الصحابة , عقب تفجر الفتن فقرر الأئمة ضرورة التيقن من رواة الأحاديث جميعا قبل اعتمادها صحيحة , وجاء فى مقدمة صحيح مسلم "[5]" أن الإمام بن سيرين قال { لم يكونوا يسألون عن الإسناد , فلما ظهرت الفتن قالوا سموا لنا رجالكم }
وكانت هذه الخطوة هى الخطوة الأولى للتيقن من صحة الحديث "[6]"


ثم تعددت الجهات التى تزيف الأحاديث وانتشرت كالنار فى الهشيم وتنوعت بين دس خارجى من اليهود والفرس , وبين دس داخلى من أصحاب المصالح والحكم , وكل منهم يضع الحديث يؤيد به فرقته أو طائفته , ولأن الصحابة رضوان الله عليهم انتقلوا بين مختلف الأقطار فقد تعددت منقولات الحديث فى شتى أنحاء البلاد الإسلامية من اليمن للشام ومن خراسان للشمال الإفريقي , فاختلط الصحيح بالزائف وأصبح الأمر كجبل يجثم على صدور العلماء والفقهاء إزاء مناخ شاسع الإتساع يبدو مجرد التفكير فى تنقيته ضربٌ من ضروب الوهم والمستحيل , لا سيما مع ظروف العصر التى تجعل العالم المحقق ربما يقضي بضع سنوات راحلا بين أنحاء الخلافة ليتيقن من صحة حديث واحد !
لكن من قال إن هذا الطراز من الرجال فى ذلك العصر الذهبي كان يعرف المستحيل ,

ففور ظهور أبعاد الأزمة اجتمعت كلمة الأمة حكاما ومحكومين مع المحدثين فى سائر الأقطار ووضع كل منهم لبنة فى علم جديد مبتكر غير مسبوق إسمه علم الحديث وأخذوا فى وضع تصانيفه وأسسه وقواعده التى ساروا عليها فتحولت مع الوقت وجهد العلماء طبقة وراء طبقة إلى علوم متعددة للعلم الأم وهو علم الحديث واختص كل جماعة منهم بفرع أشبه بالأقسام الحديثة لأجهزة المخابرات ,
فقسم يختص بالتحرى الشديد عن صفات وترجمة كل راوى أو ناقل للحديث ويضع آراء معاصريه فيه وهل هو ثقة يؤخذ حديثه أم لا وفق قواعد علم الجرح والتعديل الذى برز فيه وتألق يحيي بن معين والذهبي والرازى وبن عساكر والحافظ المزى والبخارى ,
وقسم ثان اهتم بمصطلح الحديث حيث تناول فيه المحدثون شرح مدلولات الألفاظ فى رواية الحديث بمنتهى الدقة تحريا لعدم الخلط وأول من صنف فى هذا المجال القاضي أبو محمد الرامهرمزى فى كتابه { المحدث الفاصل بين الراوى والواعى }
وقسم آخر اهتم بتصنيف الحديث نفسه وأفرد لذلك كتبا مستقلة تحوى الصحيح الثابت فقط من سنة النبي عليه الصلاة والسلام , وهى كتب نشأت بجهد المحدث عن طريق تحريه شخصيا للحديث المروى والتيقن من عدالة وأمانة كل راوى فى سلسلة السند "[7]" ومن هذه الكتب المرجعية صحيح البخارى وصحيح مسلم وصحيح بن حبان وصحيح بن خزيمة ..
ولم يكتف علماء الحديث بأن يصنف عالم الحديث الحافظ كتابه فى الصحيح , ثم يعتمدون كتابه هذا بلا تدبر , بل العكس هو الصحيح ,
فرغم جلالة مقام البخارى ومسلم وغيرهم إلا أن علماء الحديث المعاصرون لهم ومن تلاهم تتبعوا كل حديث أورده أصحاب الصحاح وتأكدوا من صحته ولهذا جاء اعتماد علماء الأمة للصحيحين لا غبار فيه , بينما لم يعتمد علماء السنة صحيحى بن حبان وبن خزيمة لأنهم حققوا الكتابين فوجدوا فيهما الأحاديث الضعيفة وغير الثابتة مما يعنى عدم استطاعة بن حبان وبن خزيمة أن يقيما شرطهما بتحرى الصحيح وحده , وبالتالى نزلت مرتبة الكتابين إلى ما دون مرتبة كتابي البخارى ومسلم

فضلا على الكتب الأخرى التى تناولت الحديث بأشكال معالجة مختلفة كالمسانيد وهى أن تسند الأحاديث إلى الصحابي الذى رواها فيفرد العالم فى مسنده الصحابة على شكل أبواب وفى كل باب يسجل أحاديث كل صحابي مع ذكر السند
وعلة ذكر السند أن يترك لمن بعده طريقة التحرى عنها بمصادر أخرى , وأول المسانيد كان مسند مسدد بن مسرهد , وأشهر المسانيد هى مسند الإمام أحمد بن حنبل ,
وقسم آخر اهتم بتصنيف الأحاديث على أبواب الفقه ككتب السنن
وقسم ثالث جعل همه البحث خلف وضع القواعد التى تعالج أى تناقض أو غرابة تشوب الأحاديث النبوية , لشرحها وبيانها فتفرع من هذا القسم علم غريب الحديث وعلم مختلف الحديث وعلم الناسخ والمنسوخ فى الحديث , وأشهر من تصدى لمختلف الحديث كان الإمام بن قتيبة فى كتابه تأويل مختلف الحديث الذى اهتم بمحو التناقض الظاهرى بين دلالات الأحاديث النبوية , وأشهر من صنف فى غريب الحديث هو الإمام بن الأثير , بكتابه الشهير النهاية فى غريب الحديث والأثر , وكان الإمام الشافعى هو أول من أسس وبين أصول الفقه كما بين أصول الحديث وبيان الناسخ والمنسوخ فيه [8]"
فوضعوا للتنسيق بين الأحاديث المتعارضة مائة وواحد وجه للتوفيق بينها , ولم يقتصر الأمر على ذلك , بل إنهم قرنوه بمعالجة كل تناقض تمت إثارته وحتى التناقضات التى لم تظهر قاموا هم بابتكار ما قد يظهر من تناقضات وضعوا لها الحلول !
وقسم آخر اهتم بالأحاديث الموضوعة الشهيرة حيث تفانى بعض المحدثين فى تصنيف الكتب المحتوية على أشهر الأحاديث الموضوعة والمكذوبة ليقطعوا الطريق على انتشارها وأشهرها اللائئ المصنوعة لابن الجوزى


بالإضافة لعشرات الفروع الأخرى التى تأسست بمرور الزمن ,
وكل جيل من العلماء يضيف لمن سبقه ضابطا آخر يزيد من دقة التحرى فى الحديث ويشدد فى قبول الصحيح ورد الضعيف , حتى انقشع غبار الأزمة نهائيا وجاء العصر الحديث حاملا معه آثار جهد عملاق قلّ أن تجده مثيله فى إصراره , فشربت الأجيال الجديدة السنة النبوية صحيحة لا تشوبها شائبة من لغط أو غلط ,
بعكس الحضارة الغربية التى فشلت فى الحفاظ على تراثها الدينى والتاريخى فورثته مشوها ومنوعا ليس فيه كتاب واحد صحيح , بينما الحضارة الإسلامية قرآنا وسنة وتاريخا ليس فيها رواية واحدة ـ لا أقول كتابا كاملا ـ بل رواية واحدة ضعيفة أو موضوعة لم يتصد لها عالم أو أكثر بالبيان والتحقيق , وحفل تاريخ السلف بعشرات الإختلافات والمناقشات بين العلماء فى مختلف العصور على صحة رواية أو بطلانها ولم تنته المناقشات إلا بالوصول إلى القول الثابت فيها



شواهد الدقة المذهلة فى تحقيق السنة


أورد هنا بعض شواهد الدقة فى التحقيق لبيان مدى الجهد والمعاناة التى تكبدها السابقون والتى لا زلت أصر على أنها جهد مستحيل حتى لو تم بعصرنا الحالى الذاخر بوسائل الإتصال العالمية ,
ففي العصر الحديث وفى وجود أدوات الإتصال مسموعة ومرئية ووجود شبكة الإنترنت التى ربطت العالم من سائر أطرافه , لو أننا كلفنا باحثا للقيام بمهمة بحثية تخص موضوعا واحدا ـــ كما يحدث فى الرسائل العلمية لدرجة الماجستير والدكتوراه ـــ ووفرنا له سبل المعاونة الموجودة فإنه يستغرق فترة لا تقل عن أربع سنوات ليصل لنتيجة البحث ويقدمه كاملا , وغالبا ما يكون البحث رغم الجهد قاصرا بموضع معين تبينه مناقشة الرسالة , وهناك بعض البحوث النظرية فى كليات الحقوق استغرق فيها الباحثون ست عشرة سنة كاملة ليتقدموا ببحوثهم العلمية
وهناك من أمضي عمره كله تقريبا فى البحث بالمراجع ليتمكن من إخراج كتاب واحد , مثال ذلك المؤرخ المعروف محمد عبد الله عنان الذى قضي قرابة أربعين عاما ليتم مؤلفه الجامع عن الأندلس { دولة الإسلام فى الأندلس }
وفى الجانب الآخر قد يستغرق جهاز المخابرات قرابة ست أو سبع سنوات ليؤكد معلومة واحدة أو ينفيها , وهناك بعض التحريات التى تتم للمرشحين للمناصب الحساسة تستغرق فترة من ستة أشهر لثلاثة أعوام لاتخاذ قرار نهائي بصلاحية هذا المرشح من عدمه ,
كل هذا الوقت فى ظل خدمات التكنولوجيا ودعم العلم التقنى الخادم لتلك الأغراض

فلنا أن نتخيل كيف قام علماء السنة فى العصور الإسلامية الأولى بتأليف كتبهم ووضع القواعد الموثقة لعلم الحديث , لا سيما فى الفرع المسمى { علم الجرح والتعديل } والذى كانت مهمة العالم فيه أن يقوم بالتحرى الدقيق عن كل محدث أو راو أو ناقل لحديث أو قول صحابي أو تابعى "[9]" ويسجل اسم الراوى وصفته وكنيته وما انتهت إليه التحريات بشأنه ليكون هذا الكتاب مرجعا لمن أراد التحقق من صحة أى رواية بمعرفة مستوى هذا الراوى
ونعطى فكرة عن أحد أهم المؤلفات فى هذا المجال وهو تاريخ دمشق للعلامة بن عساكر , فقد تمت طباعة هذا الكتاب بأسلوب الطباعة الحديثة فى حوالى 93 مجلدا , حجم المجلد الواحد منها يتراوح بين 500 و900 صفحة تقريبا , وقد احتوى هذا المرجع على ترجمة لشخصيات دمشق على ثلاثة مستويات
الأول : ترجمة كل رجال دمشق المقيمين فيها
الثانى : ترجمة كل من استقر بدمشق وكان وافدا إليها من بلد آخر , عندئذ يقوم بن عساكر بالرحيل إلى بلده الأصلي والتحرى عنه ووضع صفته وحكمه عليه
الثالث : ترجمة لكل من مر بدمشق مجرد مرور وهو فى رحلة إلى غيرها من البلاد

وهنا نتوقف قليلا ونتأمل , ونسأل الأسئلة التالية :
* إذا كان متوسط عدد صفحات الكتاب بأسلوب الطباعة الحالية يتراوح بين ستين وتسعين ألف صفحة فى 93 مجلدا , فكم يكون حجمه بأسلوب الكتابة على المخطوطات والذى كتبه مؤلفه العملاق على شاكلته , مع ملاحظة أن الصفحة الواحدة من صفحاتنا الحالية من الممكن أن تحتوى من المخطوطات بأسلوب الكتابة القديم على عدد عشرة مخطوطات كاملة تقريبا
* من أين أتى بن عساكر بالوقت الكافي لجمع مادة كتابه وهو حجم مهول يحتاج عمرا كاملا لمجرد تسجيله , فكيف قام بن عساكر بالتحرى عن كل رجال دمشق وخارجها والسفر إلى مواطن المستقرين والمارين بها ثم تسجيل كل هذا فى الحجم الرهيب من المخطوطات ؟!
وقد رأينا فى المثال السابق كيف أن محمد عنان استغرق أربعين عاما ليؤلف كتابه عن الأندلس البالغ ثمانية مجلدات فقط ومادته مجموعة من كتب مطبوعة ومتوفرة
* كيف خطرت فكرة هذا المرجع البالغ الضخامة بعقل مؤلفه , وهى فكرة لو خطر معشارها على عقل أنشط الباحثين اليوم لتوقف يأسا قبل أن يخطو فى مشروعه خطوة واحدة ؟!
* قام بن عساكر بتصنيف مؤلفه هذا منفردا سواء بالتحرى وجمع مادة الكتابة أو النسخ والتسجيل , رغم أننا لو ألقينا نظرة على أحد مفكرينا المعاصرين العمالقة مثل محمد حسنين هيكل الذى تخرج مؤلفاته السياسية ضخمة وموثقة إلى أعلى درجة لوجدناه يستعين بفريق عمل كامل فى مصر وآخر فى لندن مهمتهم جمع المادة العلمية والوثائق وتصنيفها ومع هذا يستغرق لكتابة الكتاب الواحد من عام لعامين وقد أخرج موسوعته المعروفة { حرب الثلاثين سنة } من أربعة أجزاء فى عشر سنوات

والمشكلة أننا تعرضنا لمؤلف واحد من هذه المؤلفات الضخمة التى تم تصنيفها لتسجيل التحريات عن رجال الرواية فى سائر الأقطار , وهناك على شاكلة مرجع بن عساكر مراجع لا تقل أهمية مثل تهذيب الكمال للحافظ المزى وسير أعلام النبلاء للذهبي , وسلسلة تاريخ البخارى الكبير والأوسط والصغير , والطبقات الكبري لابن سعد الواقدى وهو أول مصنف فى هذا العلم , والأهم من ذلك أن قول العلماء فى شخص معين أنه ثقة أو أنه ضعيف أو كذاب لا يؤخذ من عالم واحد بل يؤخذ الحكم على الراوى من مجموع أقوال علماء الجرح والتعديل وهذه دلالة إضافية على دقة التحري , فإن خدع أحد الرواة واحدا من علماء الجرح والتعديل بادعاء التقوى فلن يستطيع خداع بقية العلماء الذين سيتولون أمره

ولو ألقينا نظرة على الأحوال التى يتم فيها جرح الراوى وعدم الأخذ بروايته لوجدنا حذرا بالغا غير مسبوق بالذات فى هذا العصر الذى لم ينتشر فيه الكذب أو النفاق , فالراوى لا يتم رد روايته لمجرد إثبات كذبه فى رواية حديث , بل يتم جرحه لمجرد التدليس , والتدليس فى مصطلح الحديث ليس معناه الخداع والكذب بل هو مجرد أن يقول الراوى سمعت من فلان وهو شيخه الثقة , بينما هو سمع الحديث من زميل له عن نفس الشيخ لا ندرى حال الراوى نفسه وإخفاء راوى الحديث للمنقول عنه هنا يعتبر تدليسا , هنا يجرح الراوى بالتدليس لأجل هذا فقط
بل إن أحد علماء الحديث لم يقبل حديث أحد الرواة عندما رآه يخدع بعيره فيضم ثوبه ويحركه للبعير حتى يظن أن ثوب صاحبه مملوء بالشعير لكى يأتى البعير فلا يهرب , فرفض العالم أخذ روايته لأنه ثبت له كذبه على بعيره فاعتبرها جرحا له


ولم تقتصر العناية عند الوقوف على أحوال الرواة فحسب ,
بل كانت أحوال الرواة مجرد فرع من فروع التحقيق التى امتدت إلى نصوص الحديث نفسه بمنتهى الدقة , فلا يوجد عند أهل الحديث التسيب الذى نعرفه اليوم من نقل دون وعى أو ذكر دون تدبر , بل إن الراوى إذا خلط حرفا بحرف وهو ينقل روايته وليس كلمة مكان كلمة , جرحه علماء الرجال باعتباره ضعيف الحفظ حتى لو حافظ على معنى الحديث ومضمونه
بل إنهم يتتبعون مراحل حياة الراوى أو العالم الواحد فيقال مثلا أن روايته فى سنه الصغيرة كانت أوثق من روايته بعد أن كبرت سنه ويسجلون هذا فى مراجعهم
ولكى يتم قبول الحديث صحيحا يجب فيه أن تتوافر شروط الحديث الصحيح وهو أن يروي الحديث الثقة العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه بسند متصل من غير شذوذ ولا علة
فهذا التعريف البسيط أجمل شروط صحة الحديث بضوابط تعجز مباحث أمن الدولة الآن !
فإن سقط فرد واحد من سلسلة السند يتم تضعيف الحديث وإن كان أحد الرواة ضعيفا وباقي الرواة على أشد الثقة تم تضعيف الحديث أيضا , إلا إذا كان الضعف ناجما عن قلة حفظ وتم ضم هذا الراوى لغيره فيتم وضع الحديث فى مرتبة وسطية وهى مرتبة الحسن

أما عن طريقة كشف الخداع والتدليس والتحرى فيكفينا أن نعرف أسلوب عملاق من عمالقة الجرح والتعديل وهو يحيي بن معين رفيق وصديق الإمام أحمد بن حنبل , وهو أسلوب يتضح من موقفين يظهر منهما مدى براعة هذا الرجل التى سبقت عصره بقرون فى فنون المراقبة والتحرى
الموقف الأول : أنه كان يتتبع حلقات الدرس التى يعقدها المحدثون فى المساجد فيجلس مراقبا لكل الحضور من الرواة بعين الصقر , ويتابع كل منهم فى مدى انتباهه للحديث المروى فإن لمح أحد الرواة وقد غفت عينه قليلا من أثر الجهد سجل اسم الراوى ونص الحديث الذى نام فيه , فإذا انتبه الراوى من نومه أو نبهه أحد أصحابه يسجل بن معين الحديث الذى استيقظ فيه نفس الراوى , ثم ينتظر نشاط هؤلاء الراوة فإذا لاحظ أن الراوى النائم روى حديثا عن شيخه ضمن مجموعة الأحاديث التى غفل فيها ـــ حتى لو كان الحديث صحيحا ـــ وكان قد أخذه عن زميل له وأسقط اسم الزميل قال له على الفور { كذبت .. متى سمعت هذا لقد رأيتك نائما } فيسجل التدليس على هذا الراوى ويُجرح لذلك
الموقف الثانى : كان بن معين جالسا مرة يكتب شيئا ما فى ورقة وكلما دخل عليه شخص ـــ أيا كان هذا الشخص ـــ قام بطى الورقة حتى يقوم عنه مهما كانت ثقته به , فلما جاء أحمد بن حنبل إمام أهل السنة فى زمانه لم يطو بن معين الورقة لأن مكانة الإمام أحمد كانت تعلو مكانة بن معين ذاته , والأمر بينهما أشبه بالشك المتأصل فى نفس كل رجل مخابرات فيتخذ الحذر الغريزى تجاه إبداء أى معلومة ولو كانت معلومة عامة وتراه يتساءل فى شك ,
لماذا يسأله فلان ؟!
لكن غريزة رجل المخابرات مع من فوقه رتبة تختفي , فلا حرص مع أهل الإختصاص
فلما لاحظ أحمد بن حنبل اهتمام بن معين سأله ماذا يفعل فأخبره أن يسجل صحيفة { أى محتوى رواية راو معين ولا تعنى أنها صفحة واحدة بل قد تمتد لعشرات الصفحات وتسمى صحيفة فلان } أبان عن أنس , حتى إذا جاء مدلس فخلط إبان مع غيره قلت له كذبت
من هذين الموقفين يتضح إلى أى مدى كانت عليه الدقة والتمحيص وراء معرفة الحديث ,
بالإضافة لما هو أهم , وهو أن المحدثين على مختلف طبقاتهم "[10]" كانوا يتابعون فحص ما انتهى إليه سابقيهم من العلماء , بمعنى أن كتب غيرهم ونتائج بحوثهم فى علم الحديث لم تكن تقبلها الأجيال التابعة من العلماء بل كانت تتحرى عنها بنفس الطريق أو بطرق أخرى , ولهذا فإن كتابىْ مثل صحيح البخارى أو صحيح مسلم برز بروزا شديدا بين الصحاح لأن ثلاثة أجيال من العلماء على الأقل تعاقبت على فحصه بمنتهى الدقة فلم يتركوا فيه حديثا واحدا دون فحص جديد , وهذا رغم جلالة مقام البخارى كإمام أهل الحديث بلا منازع وما عرف الإسلام مثيله فى دقة الحفظ والوعى والتحرى حتى أنه كان لا يضع حديثا فى صحيحه قبل أن يصلي ركعتين عقب إتمام فحصه والتحرى عنه , وقام بتصنيف أحاديث صحيحه البالغة نحو أربعة آلاف حديث من فحص 600 ألف حديث كان يحفظها بأسانيدها وأحوالها عن ظهر قلب ! واختار أصح ما صح منها وترك أيضا من الصحيح كثير طلبا للإختصار
أى أنه بعد استخدام خاصية الإستبعاد وضع بكتابه ما نسبته أقل من 1 % مما جمعه , وهذا يشي بالضرورة بمدى صعوبة شروطه لاعتماد الحديث إلى درجة دقة مستحيلة ,

ولذا قبلت الأمة صحيح البخارى ومسلم وأجمعت على صحتهما عقب الحكم عليهما من أجيال العلماء المتتابعة "[11]" , ولذا عندما نجد من يطعن فى صحة حديث بالبخارى ـ بعد كل هذا ـ يحق لنا أن نملأ صاحب الطعن سخرية , فهو لا يشكك فى البخارى وحده بكل دقته وعلمه بل يتجاوز إلى قرابة سبعة أجيال من العلماء تتابعت على كتابه بالفحص واعتمدته
لا سيما أننا لو عرفنا كنه الأحاديث المطعون فيها بين الحين والآخر بالصحيحين وغيرهما من الأحاديث التى أقر العلماء بثبوت نسبتها للنبي عليه الصلاة والسلام , هى كلها أحاديث توقف عندها العلماء وناقشوها بالفعل قبل قرون , وليس في ما يذكر من طعون أى جديد يلفت النظر فقد استوفاها العلماء معالجة وردا , لكن المشكلة الحقيقية أن من يطعن على تلك الأحاديث لا يكون جاهلا فقط بإجماع العلماء على مدى عصور بصحتها بل يكون جاهلا أيضا بأن شبهاته تلك تم الرد عليها فى كتب لم يكلف نفسه مطالعتها أو البحث فيها عند أهل الإختصاص "[12]"
غير أن دواعى الإستغراب تنمحى مع تسليمنا المسبق أن الجهل العميم الذى ساد الآن , لا شك أنه يمثل الوسط المنسب لجراثيم الفكر كى تعيث بالعقول فسادا , والوسيلة المثلي لذلك تكمن فى إعادة الهيبة المفقودة للعلماء بين العامة والعمل على نشر سير علماء السلف وبيان فضلهم الذى لا يوفي مقداره قط ..

هذه إطلالة مختصرة على علم الحديث , هذا العلم الشريف وطريقة نشأته ومدى بلوغ دقته , عرضناها لتكون مدخلا لفهم حقيقة الروايات التى عصفت بالتاريخ الإسلامى فى أنظارنا لفترة طويلة , دون أن أندرى مبانى علم الحديث والنقل ودورها المحورى فى بيان صحيح الروايات وضعيفها ..