الموضوع: خلوة أديب
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
37

المشاهدات
16022
 
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي


ياسر علي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
1,595

+التقييم
0.39

تاريخ التسجيل
Dec 2012

الاقامة

رقم العضوية
11770
10-07-2013, 12:05 AM
المشاركة 1
10-07-2013, 12:05 AM
المشاركة 1
افتراضي خلوة أديب
خمسة أشهر مضت على نشر عمله الأخير ، رواية اكتسحت المعارض والأسواق محققة أرقاما مهولة . تتنافس الصحف والمجلات و القنوات على استضافته ، تستقبله استقبال الأبطال ، أينما حل تشنف أذنيه جميل العبارات وآيات التعظيم ، تتزين المجالس مبدية محاسنها لاحتضانه . أحيانا يتعجب من هذا التهافت المبالغ فيه كونه يعلم أن روايته ما هي إلا امتداد لما تعود على طبعه ، يتساءل إن كان معيار الحظ هو من فعل فعلته .
أصابه عياء الأسفار ، أتعبه افتعال المجاملات ، يريد لحظة لنفسه ، وقفة استراحة ، فترة استرخاء يلملم فيها أشلاء نفسه ، يعيد بناء توازنها الذي استغرق من وقته أعواما . يخاف كل الخوف أن يجرفه تيار الدعاية و يستغرق في سلوكيات تخالف قناعاته ، انزوى في هذا البيت الريفي المعزول متواريا عن الأنظار . هنا في هذا الكوخ البعيد عن ضوضاء الحياة ، القابع في حضن الطبيعة ، حيث المادة الأولية لم تخضع للتحويل ، تتعايش فيها الأزهار بألوانها المتباينة بدون غيرة ، بل تتناغم روائحها منسمة عبير الصباح ، وهي لا تزال منتشية بنسج عبق الليل . فضاء فتح صدره للسماء مستقبلا قبلات الشمس الحارة ، مزهوا بلمسات القمر ، باسما لدغدغة ومضات النجوم . يلفه الليل برداء سكونه فيستغرق في سباته الهادئ حينها تستيقظ عوالم الكاتب الصاخبة و تتزاحم شخوصها المتدافعة لتسكن الصفحات البيضاء ، كل منها يستقبل دوره بصدر ممتلئ حيوية . هنا يقف سيدنا كقائد فرقة موسيقية يوازن الأنغام فتستجيب الفرقة عازفة على الآلات خاضعة خضوعا مرغوبا لإيقاعات مخياله المبدع .
تمدد على سريره طامعا في قيلولة تهدئ من روع كاد يبدل فترة نقاهته صراعا من نوع آخر ، لثلاثة ليال كاملة لم يستطع أن يخط جملة مفيدة وقد خاصمه وحي القلم . يسافر إلى مجاهل نفسه فلا يجد غير أبواب موصدة و مسالك ضيقة كمتاهات حلزونية لا مخرج لها . يلتمس من القمر إرشادا ليجده مسترسلا في همس خافت كترنيمات هذيان عاشق خدرت فصاحته ، يلتفت إلى النجوم فتراءت له تائهة في بحار الحيرة تبكي ضياع القمر .
بين صحو و غفوة سمع نقرات خفيفة على باب كوخه ، انتفض جالسا وهو لا يميز إن كان الصوت حقيقيا أم هو مجرد وهم آت من عالم الأحلام ، رجع إلى استرخائه وهو متيقن أن ذهنه صنع اللقطة للتعبير عن وحشته و توقه إلى رفقة تبعده عن الوحدة وآلامها . تساءل إن كانت الوحدة تليق برجل في الخمسين ، كثيرا ما أجل الجواب عن عزوفه غير المبرر عن الحياة البسيطة ، لماذا الإصرار على التميز عن الغير ، لماذا هذه المكابرة من نفسه على لعب هذا الدور الذي أنهكه ، أيعقل حقا أنه يشكل علامة فارقة في عصره ، لماذا يعجز عن تقبل أن الإنسان مجرد كائن من الكائنات يحافظ على نوعه تحت تأثير الغريزة ، ترى هل كل ما أحرزه إلى اليوم يغنيه عن تأنيب لعدم صواب خياراته . أحس غصة تهز راحته ، والوسوسة تخترق منطقه ، فقام من مرقده إلى الغرفة المجاورة ، مد يده إلى كظيمة قهوته حين سمع الطرق من جديد مصحوبا بكلام ناعم : " مولاي معذرة لإفساد قيلولتك فهلا فتحت الباب " كان صوتا نسائيا أيقظ في نفسه مرحها ، طارت منه هواجسه و تبخرت أحزانه فصاح في سرور : " مرحبا فقط لحظة من فضلك " ردت بأدب : " لا بأس خذ كامل وقتك مولاي "
تخلص من منامته و لبس بذلته مطمئنا على مظهره و ملامحه على المرآة و فتح الباب فلم يظهر لها أثر ، مرر يده في شعره الذي فقد ألقه وقد اكتسحه البياض و يتهدد الصلع مغرسه ، تنفس بعمق و هو يعود أدراجه إلى مخدعه و قد أحس رعشة و رهبة و حسرة تغمره : أيعقل أن نهايتي ستكون هكذا ؟ أنا الأديب المفكر العالم . أنا الناجح المتميز ، أنا من أنا .، يعرفني القاصي والداني .، لا ..هذا مرفوض كلية وجزءا ، هل بدأ عقلي يتشظى ؟ هل بدأت نفسي تخلق عالمها الجديد بعيدا عن المألوف ؟ آه يا نفسي المخبولة ، لا.. لن أتقبل تمردك وعصيانك ، سأجعلك تستسلمين لنزواتي ، لن أتسامح مع عقوقك وتطاولك ، سأجمع حقيبتي و أذهب إلى طبيبي هو من سيرشدني لكيفية ترويض جموحك ، سيساعدني على تكبيل طيشك و الحد من تهورك .
ـ مولاي .. معذرة .. سمعت صوت الباب لكنك لم تنتظر عودتي ، كنت أقطف لك زهورا ، نسيت ان أحضر لك هدية .
ارتسمت ملامح ابتسامة سخرية من ضعفه حتى كاد يصدق أنه قاب قوسين من المرح في رحاب الجنون ، تقدمت خطواته أدار المفتاح جر الباب محدثا قعقعة ، اشرأب عنقه مستطلعا فلم يجد غير الفراغ ، انتابته حمى الغضب ، وتملكه جنون الغيظ فصرخ حانقا : " ما هذه الالاعيب الصبيانية ؟ "
من خلف دوحة ظهرت فتاة في الثالثة عشر من عمرها ، ترتدي قميصا رثا وسروالا قصيرا ملطخا لا يتجاوز ركبتها ، يعلو الغبار قدميها الحافيتين ، دقق النظر فرقت نفسه لهذه الطفلة الغارقة في البؤس ، تتقدم نحوه و هي تقول بصوت تمتزج فيه الطفولة بالأنوثة : " هل أغضبك مقلبي البسيط يا مولاي "
قبل أن يرد عليها وضعت حزمة الزهور في يديه و خرت إلى السجود ، منعها قبل أن تصل جبهتها عند قدميه ، ساعدها على الوقوف فوقفت و هو يحدثها : " لا تفعلي ذلك أبدا فنحن سواسية كأسنان المشط ، ما اسمك يا ابنتي ؟ "
ـ عجبا ، ظننتك تعرفني جيدا ، ألم تتذكر بعد صورتي وملامحي .
ـ عفوا لم أستطع التذكر ..
ـ غريب فعلا ، كيف لمبدعي وصانعي أن ينساني بهذه السهولة ، أنا لا أزال أحقق لك أمجادك و لا أزال قيد الخدمة والطاعة .
يريد أن يرد عليها لكنه لم يفهم شيئا من ألغازها ، فربما تكون فقدت صوابها ، فرائحتها النتنة و الفوضى العارمة التي تعم صورتها لتعبير عن خلل ما في توازنها .
ـ أنا سوسن بطلة قصتك الأخيرة .
نظر نحوها بريبة و تصلبت ملامحه و هو يحاول التماسك ، فأضافت :
ـ جئت أزور مقر ولادتي ، و أتبرك بهذا المقام الذي يسكنه الوحي ، كما أنني جئت أنقل إليك عتابا من بعض أشخاص الوحي ، فبعضهم ناقم عليك ، حيث أصابهم الملل من إعادة تكرار نفس الحياة البئيسة ، خذ مثلا أنا أعيش حياتي التي كتبتها علي بعدد قراء كتابك ، كم هو رتيب هذا الدور ، حقيقة لانملك إلا طاعتك يا مولاي ، رغم ذلك فبعضنا لا يستحلي حياته .
تمتم قائلا :
ـ أصحيح أنك من عالم الوحي ؟
ـ لا تأخذك ريبة في هذا ، أنا أيضا لست راضية عن نهاية يلف فيها الحبل رقبتي ، أتعجبك هذه الصورة التي أرغمتني على عيشها مرارا في طفولاتي المتعاقبة ؟ طفلة الشوارع !!! هذا لا يليق وفق ما خبرته في أذهان قرائك . هل تسمح لي بالدخول إلى رحاب هذا البيت المقدس فأصلي رغبة في نوم هنيء أو حياة أخرى غير التي أعيشها ؟
ـ انتظري ، هذا بيتي ، لا تقتربي من أدواتي فأنت روح ملعونة ، بل فتاة مجنونة ، أبعدي أوساخك عني .
ـ عجبا أنت من صنع هذه الصورة التي تكرهها . لقد خاب ظني بك يا مولاي .
ـ لا تبتعدي ... كيف خرجت من عالم الوحي ؟
ـ هذا مجهود قام به فريقي .
ـ فريقك !!!؟ أين هو ؟
ـ هيا اخرجوا من مخابئكم أيها الكرام !
بعضهم ينبت من خلف الأشجار الظليلة والأخرون يهبطون من على الأغصان يتقدمهم وكيل أعمال الكاتب .
فصاحت الفتاة : شكرا سيدي ...أنت تشارك معنا في برنامج " خلوة أديب" .