قديم 02-10-2016, 03:17 PM
المشاركة 31
ريم بدر الدين
عضو مجلس الإدارة سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
منذ أن بدأت القراءة ما توقفت أبدا.. كأن الحياة في الريف الفلسطيني في تلك الفترة الزمنية كان متشابها و قد ذكرني بما سرده علي الشاعر الفلسطيني خلد أبو خالد عند كتابتي لسيرته الذاتية منذ فترة قريبة
كثير من الفصول متشابهنة حد التطابق أحيانا
أستمتع بهذا السرد و أحصل منه على معلومات ثمينة و قيمة
متابعة للحوار الذكي الذي تديره الأستاذة ناريمان الشريف و الذي يبوح فيه الاستاذ خليل حمد( ايوب صابر) بمكنوناته و خزائن ذاكرته
تحيتي و تقديري

قديم 02-12-2016, 04:33 PM
المشاركة 32
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
شكرًا لك استاذة ريم بدر الدين

اسعدني مرورك وتعليقك ويهمني ان اعرف بان السرد مشوق الي حد يدفع المتلقي لمتابعة القراءة فهذه نقطة في غاية الأهمية وربما تمثل حافزا لتحويل السرد هنا الي رواية من نمط السيرة
وجميل ان اعرف بان في بعض فصولها تطابق مع سيرة شاعر فلسطيني هو ابو خالد فهذا يعني انها صادقة والصدق اظنه شرط اساسي لنجاح العمل الادبي من هذا النمط
اشكرك على متابعة الحوار واتمنى اذا وجد لديك الوقت تزويدي بأي ملاحظات حول السرد وجمالياته وادواته من واقع خبرتك كروائية...عسى ان انتفع بنصائحك واظل اطور النص لحين صدوره بشكله النهائي في رواية فلقد عقدت العزم على نشر مخرجات هذا السرد اين كان مستواه ...

شكرًا جزيلا حضورك هنا اسعدني ،،، *

قديم 02-15-2016, 02:33 PM
المشاركة 33
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع...

ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:


لم، ولا تكاد تنتهي بعد تلك الاحداث شبه الأسطورية التي تسرد قصة الحشرات السامة والمخيفة في الريف الفلسطيني، فما يزال هناك كائن مرعب أخر، ولو انه اقل اذى، ومن طباعه للمفارقة ما ينفع الانسان...بل ويستبشر بوجوده ويتفاءل...لكن بعض اصنافه سام مميت بكل تأكيد...

ذلك هو العنكبوت، والذي يأتي في عدة احجام واشكال، واصناف، وحتى ألوان ...

فالعنكبوت الأبيض مفترس النحل ما هو الا واحد من بين ملايين العناكب التي تستوطن في الريف الفلسطيني، واظن بحق ان عددها يفوق عدد البشر، والحجر، والشجر مجتمعه بمرات، ومرات او هكذا يبدو عليه الامر...فلا تكاد تقلب حجرا الا وجدت اسفله عنكبوتا، او اسرة عناكب...وفي كل جحر، وزاوية، وركن، وحتى على الشجر، وفي داخل البيوت، وخارجها...بعضها صغير جدا لا يكاد يُرى بالعين المجردة، لكن بعضها يكبر حجمه ليصبح بحجم قبضة اليد... واظن ان هذا الصنف يوجد في الكهوف والمغارات في الأراضي الوعرة والجبلية البعيدة عن البيوت...على الرغم ان الكثير من أصناف العنكبوت بيتوتية مثل النحلة الصفراء (الصملة) وتعيش على مسافة قريبة من الناس..

ومنها دقيق الجسم طويل الارجل خفيف الوزن، ولهذا الصنف اسم دلع محلي منسوب الي بيوتها وهو(الشبكة) ويعتقد الناس على الصعيد الشعبي ان هذا الصنف فال خير، فاذا صدف وان وجد شخص على ثيابه واحدة من هذا الصنف تفاءل بقرب استلامه لهندام جديد...وترتبط العنكبوته الشبكة في الذاكرة الشعبية بدورها في انقاذ الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه إذ كانا في الغار حيث بنت بيتها الواهن على باب الغار فساهمت في عمى ابصار الكفار...حتى ان البعض يُحرم قتل هذا الصنف من العناكب، ويحاول ان لا يتسبب لها بأذى فلا يهدم بيوتها الواهنة ابدا...

وأحيانا ترى بعض العناكب وكأنها معلقه بين السماء والارض، او بين جدارين او شجرتين ، وتعرف بوجودها من خلال خيوطها الواهنة، الواهية التي ترتطم في الوجه دون ان تراها، فهي شفافة، ودقيقة للغاية، فتعرف ان عنكبوتا مر من هناك، فهي تستخدم الخيوط في الهبوط والصعود والحركة في كل الاتجاهات، وكأن العالم غابتها وهي طرزانها...

كما انها تنصب اشركاها وتستهدف بها صيدها...وبعض هذا الصيد ان لم يكن كله يجعلها للمفارقة نافعة جدا للإنسان وخادمة له، فالعناكب مسلطة على مصاصات الدماء...اي البعوض... والتي لو ظلت تتكاثر دون ان يكون في البيئة ما يهلكها لربما تمكنت من امتصاص دماء البشر كلهم اجمعون، ذلك إذا لم تقتلهم أصلا بما تحمله، وتنقله من امراض...تلك الكائنات الصغيرة في حجمها لكنها الأشد اذى وفتكا للإنسان حتما، ويكفي انها تختصر الطريق وتأتي الي جسد الانسان مباشرة، فتتغذى بفضل خرطومها ذي القوة السحرية الفتاكة على دمه...والذي يشقى الانسان من اجل ان يحافظ على نسبته في جسده...حتى انها تقوم على تخدير مكان الحفر، ولا يكاد يشعر الانسان بوجودها الا بعد ان تنجز مهمتها في امتصاص حاجتها من دمه...وقد صدق الشاعر في وصف البعوضة اذ قال "لا تحقرن صغيرا في مخاصمة...ان البعوضة تدمي مقلة الأسد"...والافضل يعود في انتصار الانسان على البعوض وفي جزء كبير منه الى العناكب...التي تشن عليها حرب ابادة جماعية...مستخدمة في ذلك اشراك بسيطة لكنها شديدة الفعالية فما ان ترتطم البعوضة في شرك العنكبوت حتى تعلق هناك وتصبح فريسة لا خلاص لها...مصيرها الموت المحتم...

وتتعدد ألوان العناكب في الريف الفلسطيني...فمنها الأسود، والبني، والاحمر، والمزركش...اضافة الي الابيض آكل نحلات العسل ...ولا اعرف صراحة إذا كان اللون يحدد درجة سمية هذه الكائنات أيضا كما هو الحال في العقارب... والتي يعتبر اللون الأصفر فيها أشدها سمية وفتكا...

وكنت في طفولتي أجد الناس تُهون من خطر العناكب ولا تكاد تعير وجودها أهمية...ولا تحاربها كما تحارب العقارب...بل تتغاضى عنها وكأنها غير موجودة...ربما لما تقدمه هذه العناكب من خدمات جليلة معروفة للإنسان...فحينما يقترب الانسان من بيت العنكبوت يجده وقد علق فيه اعداد هائلة من البعوض مصاصات الدماء... وهذه خدمة جليلة تقدمها العناكب ندر مثيلها...

لكن الصورة تغيرت في يوم من الأيام وكان ذلك في نهاية الستينات من القرن الماضي...حيث مات فجأة أحد شباب البلدة الاشداء...وكان جنديا يخدم في الجيش الأردني، وقد تناها الى الناس خبر انه مات بسم لدغة عنكبوت اسود، قاتل، صغير، لا يكاد يبين...من يومها اظن ان نظرة الناس في قريتنا الى العناكب قد تغيرت بصورة جذرية، وصارخة، ولو على سبيل الحذر والاحتياط...وصار العنكبوت منبوذ مثله مثل العقرب...وصارت الناس في قريتنا تشن عليها حربا لا تقل ضراوة من الحرب على العقارب...

كما ولا اعرف صراحة إذا كان العنكبوت الأبيض، هو ابيض في الأصل؟! ام ان لديه خاصية التحول في اللون بحسب المكان الذي يتواجد فيه، كما تفعل الحرباء التي توجد بكثرة في فلسطين أيضا، وهي كائن أقرب الى الحرذون آكل النحل...وهذه الحرباء مسالمة في طبعها لكنها تسبب رعبا لا يقل في شدته عن رعب العناكب بل اشد ربما، والمشكلة فيها انها تأخذ لون المحيط الذي تتواجد فيه وتتلون به...وغالبا ما يتفاجأ الانسان بها، وبوجودها أصلا...

فما ان يمد يده لقطف حبات الكرز او التوت مثلا حتى يجد نفسه على وشك ان يرتطم بها ويمسك بواحدة من هذه الكائنات المتسلقة للأشجار، وتأكل أوراق الشجر والثمر...وربما ان من بعض طباعها اكل بعض الكائنات الطائرة التي تقترب منها مثل الذباب والبعوض...ولطالما تسببت الحرباء لي بالخوف الشديد في طفولتي بل وعلى مدى حياتي فذلك ما حصل معي قبل أيام وتسبب لي برعب شديد...حينما وجدتها فجأة تتحرك بين أوراق شجرة الكرز.. وكانت تسعى نحو يدي...فصحت من شدة الخوف ودون شعور يا اماه...

صحيح ان الحرباء غير مؤذية لكن قدرتها على التلون إضافة الى ذلك الشيء البراق في عيونها الواسعة...وقدرتها الدائمة على التخفي ومفاجئة ضحيتها يجعلها مصدرا شديدا للرعب والخوف...لا يقل في حدته عن باقي الزاحف خاصة الافعى...

وربما ان جزءا من ذلك الخوف ناتج عن كونها من صنف الزواحف، وما يرتبط بها من خوف...فحتى يدرك الدماغ ان هذا الكائن ليس افعى مميته وانما حرباء مسالمة بقدرة اعجازية عجيبة وفورية على التلون...فهو يحتاج الى بعض ثواني، لكن تلك الثواني، تكون كافية لأصابه الانسان بالرعب والخوف الشديد...

وربما انه لا يوجد كائن له القدرة على مفاجئة الانسان والتسبب له بالرعب مثل الحرباء الا السلحفاة... وسبب الرعب الناتج عنها ربما يعود على شكل راسها الذي يشبه كثيرا رأس الافعى... لكن السلاحف كائنات مسالمة لا تؤذي بشرا ولا حجرا... وكثيرا من الناس يقتنيها كحيوان اليف او على الاقل يسمح لها بالتواجد في مكان قريب ليتسلى بها الاطفال...وكثيرا ما يتعثر بها الناس وهي تزحف بصبر وبطء شديد لكنها تصل دائما الى مبتغاها على ما يبدو...وهي تتخفى بلون قوقعتها الصلبة... واذا ماتت احتفظوا بقوقعتها التي يعتقد بعض الناس انها جالبة للخير مثل الشبكة العنكبوته...

اما الكائن الاخر المخيف في شكله لكنه لا يتسبب بأي أذى للانسان فهو كائن شبيه بالحية، وبعضها يصل طوله الى نفس طول الحية... وما يميز هذا الكائن عن الحية اضافة الى انه لا يلدغ وليس له انياب وغير سام ان له اربع واربعون رجلا، ولذلك تسمى اثناه على الاقل بأم اربعة واربعون...وهو لا شك يخيف من يتفاجأ به ويظل يرتجف من يصطدم به حتى يستوعب دماغه انه بصدد كائن آخر عجيب جعل الله له كل تلك الارجل ليسير عليها لكنه يسير بتثاقل وببطء شديد، بينما تزحف الحية وتسعى على بطنها، وتتلوى بحركة لولبية رشيقة ومرنة فتقطع في ثوان مسافات طويلة وشاسعة لا تكاد تصدقها العين...



يتبع...سنوات الطفولة المبكرة:::

قديم 02-16-2016, 05:26 PM
المشاركة 34
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي
فكيف أعيش كل تلك السنوات الأربعة في ظل كذبة بحجم تلك...وهي ان أعيش في كنف امرأة أقول لها امي لأتبين لاحقا بصورة صاعقة مزلزلة انها ليست امي وانما هي خالتي؟؟!!...وان امي ميتة، ومدفونة تحت التراب؟؟؟ يا لهول الفاجعة؟؟!!...
مؤلم جداً أن يكتشف الطفل مثل هذه الحقيقة ..
فعلاً هي فاجعة
أكمل أكمل ,,, لا زلت بين سطور طفولتك .. ولكن استوقفتني هذه السطور

والله يعطيك الصحة والعافية ...

قديم 02-16-2016, 05:29 PM
المشاركة 35
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي
كما يقول المثل الشعبي (في اذار مرة شميسه ومرة امطار ومرة امقاقات الشنار، وتبيض العنقاء والمنقاء والي ما الها منقار )
ما المقصود ب ( امقاقات الشنار ) ؟
ارجو التوضيح

قديم 02-16-2016, 05:45 PM
المشاركة 36
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي
تتشابه حياة القرى للفلسطيني بالذات ...

فما كنت تخافه كنت اخشاه ولا زلت رغم -- اننا وكما ذكرت نعيش في بيئه افضل بكثير ..

متابعه لك استاذ .. وربي يعطيك الصحه والعافيه ..
اهلاً بك عزيزتي هند
ما خاف منه الأستاذ أيوب في طفولته هو ذات الأمر الذي أخافك وهو نفسه الذي كان يخيفني
ومن هنا أعتقد أن حكايات الطفولة التي كان يرويها لنا الكبار لها مصادر ( مشبوهه ) ومدروسة من قبل متخصصين نفسانيين لتحدث الرعب فينا منذ الصغر .. ولتجعل منا جبناء في مواجهة الأعداء ..
فمثلاً الغول .. لماذا اختاروا لنا الغول مع أنه حيوان غير موجود !!؟
الدنيا مليئة بالحيوانات التي يمكن أن ينسج حولها قصص .. فلماذا الغول ؟؟
حسبي الله
قد لا تصدقون أضحك الآن من قصص الغيلان والعماليق التي أتذكرها واخافها حتى اللحظة
أشكر مرورك عزيزتي
طبت

تحية ... ناريمان الشريف

قديم 02-16-2016, 05:49 PM
المشاركة 37
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي
منذ أن بدأت القراءة ما توقفت أبدا.. كأن الحياة في الريف الفلسطيني في تلك الفترة الزمنية كان متشابها و قد ذكرني بما سرده علي الشاعر الفلسطيني خلد أبو خالد عند كتابتي لسيرته الذاتية منذ فترة قريبة
كثير من الفصول متشابهنة حد التطابق أحيانا
أستمتع بهذا السرد و أحصل منه على معلومات ثمينة و قيمة
متابعة للحوار الذكي الذي تديره الأستاذة ناريمان الشريف و الذي يبوح فيه الاستاذ خليل حمد( ايوب صابر) بمكنوناته و خزائن ذاكرته
تحيتي و تقديري
أهلاً بك عزيزتي ريم
أنرت المتصفح .. وأسعدني جداً حضورك
وبالفعل ...
القرى الفلسطينية والبلدات والخرب يجمعها ذات الشواهد .. وما سمعته من الشاعر الفلسطيني
لا بد أنه يشبه ما سرده الأستاذ أيوب عن طفولته
وقبل قليل .. أكدت الأخت هند نفس المعلومة ..
طبت .. وطاب يومك

تحية ... ناريمان الشريف

قديم 02-16-2016, 06:31 PM
المشاركة 38
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي
سيرتك الطفولية .. موسوعة ثقافية تراثية
مليئة بالمعلومات
أشكرك أستاذ أيوب ..
تابع

تحية ... ناريمان الشريف

قديم 02-17-2016, 10:23 AM
المشاركة 39
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
استاذة ناريمان

اشكرك على هذا التفاعل والحضور ...واشكرك خاصة على هذه الدفعة المعنوية التي ستساهم في دفعي للمتابعة في سرد مخزون الذكريات....

امقاقات الشنار : في وقت التزاوج وعندما تبدأ انثى الشنار وهو طائر الحجل وهو اشبه بالدجاجة البرية لكن له الوان رائعة ومخضب بالحناء في قدمية اي محجل وربما كان هذا سبب التسيمة، عندما تبدا الانثى في وضع البيض يتخذ الذكر من مكان مرتفع قريب مقرا له ويبدأ يغرد بصوت يطمئن الانثى بان الامور على خير وانه لا يوجد خطر في المكان هذه التغريدات تسمى مقاقات باللغة المحلية وهي مؤشر على حلول شهر التزاوج ( شهر اذار ) للطيور والحيوانات والحشرات في فلسطين.


قديم 02-17-2016, 11:01 AM
المشاركة 40
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع...

ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:


هكذا كانت البيئة الطبيعية في الريف الفلسطيني في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي، وهي البيئة التي امضيت فيها طفولتي المبكرة... اراضي، وحقول خضراء يانعة، اشبه بالجنان، أشجار، وثمار، وازهار من مختلف الانواع، ومراعي واسعة وجميلة، مشاهد تسلب لب الناظر اليها وتسحر عيونه، وتثلج صدره وتفرح قلبه...

لكنها كانت بيئة مسكونة بجيوش من الافاعي، والعقارب، والدبابير، والصملات، وهي جميعها مرعبة وسامه ومؤذية وبعضها شديد الخطورة...وجيش من الحيوانات المفترسة...وجيوش أخرى من الكائنات التي لا تؤذي بصورة مباشرة لكنها مرعبة في شكلها وقدرتها على الظهور المفاجئ، فتظل مصدرا للخوف الشديد الذي يكاد يعقد اللسان، ويوقف القلب أحيانا عن النبض، ويمنع الدم في العروق من الجريان...ولكن ذلك ليس نهاية اوديسا مصادر الخوف والأذى التي شهدتها في طفولتي المبكرة في الريف الفلسطيني...فما زال في جعبت ذاكرتي المزيد...

ففي تلك الفترة الزمنية...اذكر أيضا ان حقول فلسطين الخضراء قد تعرضت، في مرة واحدة على الأقل، الى هجوم كاسح، ماحق، ساحق مميت من الجراد...تلك القوارض المهلكة على صغر حجمها...اهلكت الزرع، والنبات، والاشجار، والحقول، وكل ما يمت للحياة الخضراء بصلة...فهي حين تهاجم ارض لا تبقي ولا تذر وتأكل الأخضر واليابس...وكأنها ملائكة موت تسلط على مملكة النبات فتحيلها الى اطلال فتصبح تلك الجنة الخضراء اشبه بهياكل نباتات وكأن الحياة انتزعت منها انتزاعا...

واذكر ان عدد الجرادات التي هاجمت فلسطين في ذلك الهجوم الكاسح، والتي كانت كما قالوا لنا، قادمة من الصحراء الافريقية، كانت بأعداد لا تعد ولا تحصى...منظر مخيف يفوق التصور...وينطبع في اعماق الذاكرة...

واذكر تماما انها حينما حلقت في سماء قريتنا بكثافة وكأنها غيمة مرعبة من حشرات طائرة، حجبت عين الشمس عنها وعنا...فلم نعد نرى سوى الجراد في كل مكان، على الأرض او في السماء...تهبط وتطير وتتقافز هنا وهناك ...وكاد نهار القرية حينها ان يتحول الي ليل مظلم...تلك القرية التي كانت تسمى في الماضي السحيق بنصيب من الشمس لشدة سطوع الشمس على ربوعها...

واذكر انني لم اجرؤ يومها على الخروج من الغرفة...بل اكتفيت باستراق النظر من الباب...وعلى وجل كنت أحدق في السماء فوجدتها، وانا أمعن النظر في كبدها، بأنها لم تعد مثل السماء التي كنت اعرفها واعتدت عليها من قبل...فلقد أصبحت بلون يميل الى البني الغامق واختفت فجأة زرقة السماء في يوم صيفي جيمل، عادة ما يكون صافيا وخالي من اية غيوم...وذلك هو المشهد الوحيد الذي اذكره بتفاصيله المخيفة من هجوم الجراد الشرس المذكور ولا اكاد اذكر سواه...الا ربما منظر الأشجار وقد انتزعت اوراقها...وباتت عارية تماما وكأنها في منتصف الخريف الذي لم يحن اوآنه بعد...

فلكم ان تتخيلوا إذا اعداد ذلك الجيش المحمول جوا...القارض...الشرس...الذي هاجم فلسطين على حين غرة، ودون سابق انذار...ولكم ان تتخيلوا ما فعلت تلك الجرادات ملائكة الموت بأرض فلسطين وحقولها وبساتينها في هجومها الساحق، الماحق المذكور...

لقد اكلت الأخضر واليابس في أيام معدودات، وربما هي ساعات لا تتعدى أصابع اليد...حتى أنك حينما كنت تنظر الى الحقول كنت تجد انها أصبحت جرداء خالية من مظاهر الحياة...وكأن اللون الأخضر مسح في معظمه باستيكة ضخمة بحجم الافق...تلك هي افواه الجرادات...فأصبحت الحقول خاوية على عروشها...ولسان حال الناس يقول كان هنا بساتين وحقول...

ولا بد انهم كانوا يندبون حظهم ويتحسرون على ما اصابهم من مصيبة أضيفت الى معاناة الناس...وكانت تلك الكارثة مشهورة في تلك السنوات، وربما لا يتعداها شهرة الا حادثة سقوط الثلج الكثيف في العام 1952 والذي كسر اغصان الشجر، وحطم بعضها، وتسبب في دمار كبير، فصار الناس يؤرخون الاحداث بالإشارة الي يوم الثلجة الكبيرة لشدة ما اصابهم منها من كرب عظيم وخسائر فادحة...ولو ان الأشجار عادت في العام التالي لتكتسي بخضرة ساحرة، واينعت ثمرا عظيما كما يقولون، وتعلم الناس من الطبيعة بعدها درسا بالغ الاهمية في الهندسة الزراعية...وذلك في غياب للمهندسين والمتخصصين...فقد وجدوا ان في بعض الموت حياة...وان القص والتقنيب رأس سنام الزراعة ...وان التضحية ببعض الاغصان مهم لتظل الشجرة قوية يانعة وقادرة على الاستمرار وانتاج الثمار...فصار الناس يقدمون بجرأة وحزم على تشذيب الشجر بصورة دورية ومستمرة، وعلى رأسها اشجار الزيتون، والحمضيات واللوزيات...ولا يخشون هلاكها ...بل يستبشرون باستفحال نموها واستشراء قوتها، وغزارة ثمرها...

وللمفارقة وجد بعض الناس في هجوم الجراد فرصة للصيد...واذكر ان عجوزا من القرية واسمها حليمية البرغوثي، وهذا الاسم يذكرني بالقمل والبراغيث، والتي لا بد ان نتحدث عنها أيضا فقد كانت تشاركنا السكن، بل بعضها كانت تسكن فينا وفي رؤوسنا، وكانت تلك العجوز تقنص الجرادات، كانت تقنصها، وتسقطها بكل وسيلة ممكنة، وتمسك بها لتجعلها وجبه دسمة لها وربما لمن حولها...تعوضها عن النقص في اللحوم في تلك الأيام المجدبة...والتي لا بد ان هجوم الجرادات زادها بعد ذلك جدبا...ولهذه العجوز قصة مرعبة في محفورة في الذاكرة تجعلني احيانا اوقع اللوم عليها في موت امي...وسوف ارويها لكم حين يكون الوقت مناسبا للحديث عما ارتكبته من فعل خرافي شنيع من ضمن واحدة من طقوس شعوذة وخرافة جنونية يبدو انها كانت سائدة في بداية الخمسينيات من القرن الماضي...ذلك الفعل الذي اظن انه ساهم بشكل مباشر او غير مباشر في هلاك امي قبل الاون...

ولكن كثير من الناس اختلفوا مع من اكل الجرادات وامتنعوا عن اكلها إما قرفا من شكلها، او لأنهم ظنوا بحرمة اكلها، او عدم لياقته على الاقل...فهي حشرة غريبة، وغير مألوفة في بلادنا، ومن القوارض، ولو انه يوجد في فلسطين من جنسها أصناف عديدة لكنها أصغر حجما منها، واقل شراسة، وتوجد بأعداد قليلة جدا لا تقارن بأعداد ذلك الصنف المخيف من الحشرات القارضة، التي تتكاثر في الصحاري الحارة، وتهاجر الي الأراضي الخضراء في مواسم معينة طمعا في خيراتها فتجعلها بعد هجماتها الكاسحة اثرا بعد عين...

كما ولا تتسبب الأصناف المحلية، وتسمى الجنادب بكل ذلك الأذى، وهذه الجنادب تتواجد في الريف الفلسطيني كواحدة من تنوع حواني نباتي طبيعي عجيب، وتراها تقفز من مكان الى اخر، ولكنها من دون اجنحة كي تطير بها كما تفعل الجرادات...وعليه فهي كائنات تختلف كثيرا عن الجراد في تكاثرها وفي اذاها وطباعها...حتى وان كانت تشبهها كثيرا في الشكل...وربما جاءت في الأصل من جد واحد...

وما لبثت تلك الجرادات ان اختفت من ارض فلسطين بعد ان اهلكت الزرع... ودمرت المحاصيل...صحيح ان بعضها قتل لكن الكثير منها شد الرحال وهاجر من جديد ليهاجم الحياة الخضراء في بلاد أخرى...وربما عاد بعضها الى مسقط راسه في تلك الصحاري الجرداء، التي تتخذ الجرادات منها بيوتا، ودفيئات لوضع البيوض، وفقسه، والتكاثر بأعداد هائلة مستفيدة بذلك من دفء الصحاري... لتنبعث جرادات لا تعد ولا تحصى من أسفل الرمال في دورة حياة جديدة...

ولولا ان الدول تعاونت فيما بينها وتمكنت حديثا وفيما بعد من مكافحة تلك الافة المدمرة وابادت تلك الحشرة في عقر دارها حيث حددت أماكن تكاثرها، ودمرت بيوضها، ثم لاحقتها في كل مكان لتقضى على من كتبت له النجاة منها بالسموم، والمبيدات، فلربما أصبحت تلك الحشرة مع الأيام سيدة الكرة الأرضية، وحاكمتها المطلقة ونافست في ذلك البعوضات مصاصات الدماء...
...

يتبع ...


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: لقاء .. مع الأستاذ الكبير أيوب صابر
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الأستاذ حمود الروقي في لقاء على قناة عالي الفضائية عن الموهوبين علي بن حسن الزهراني المقهى 8 08-11-2012 12:16 AM
مع الأستاذ أيوب صابر .. دعوة للجميع احمد ماضي منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 30 07-10-2011 11:33 AM

الساعة الآن 01:58 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.