شوارع مدينتي شاحبة كظلال أشجار عارية .. تمتزج جنباتها نكهة تعاسة وألم .. ويفترشها فقراءُ ومساكين .. أُقلب وجهي في سمائهم الداكنة أبحث عن خيوط شمسٍ دافئة تغنيني عن نفخ هوائي على يديّ الباردتين .. أنظر بين الحين والحين إلى وقتي الثمين وقد تكسر بين عقارب ساعتي ..
صفارة قطاري قد انطلقت لتبدأ رحلتها المقصودة بين عثرات عمري النازف .. و في لحظات تكومت أشباه بشر تتدافع بقسوة إلى حتفها على تلك المقاعد القديمة المهترئة ..
هذا يلعن ذاك .. وذاك يركل تلك وأنا بينهم كطفل ضائع لم يهتدِ إلى مقعدٍ يلملم بؤسه من هذه الفوضى المشؤومة .. انفرط عقد تماسكي وبدأ الخوف يدفعني هو الآخر بقوة إلى الداخل لأخفف بعض المعاناة .. عيناي الزائغتان تبحثان عن مكان يأويها لتجد مقعداً فارغاً في آخر المقطورة .. أخذت أقفز عن الأرض قفزاً حتى وصلت إليه .. ونجحت .. جلست أتنفس الصعداء وأخفف من روع معاناتي .. صرير رياحٍ يزحف نحوي من نافذةٍ متكسرة .. ومعطفي البالي يجلدني بسياطٍ من برد بالكاد يحفظ ماء وجهي عن فضح سوء الحال .. وبدأت الرحلة ..
.................................................. .......
- يا هذا .. أنت .. استيقظ ..
فزعت من نومي على خشونة يد عامل القطار وهو ينظر إليَ عابساً ..كان رجلاً قصير القامة بديناً وعلى خده بقعة بنية اللون كثيفة الشعر ..
- أين التذكرة خلصني ؟؟!
تنبهت لما قاله بعد لحظات وسرعان ما أخذت أفتش جيوبي عن التذكرة ولكنني أطلت البحث ..
- قذرين جبناء .. تدعي الآن أنك أضعتها .. هه أعرفكم جيداً .. ولكنك إن لم تجدها سألقي بك من القطار لتنهشك الكلاب ..
أصبحت كالمجنون أبحث بلا وعي عن تلك الورقة اللعينة حتى تكشف بنطالي الممزق من تحت المعطف ولكنني لم أكترث .. عشرات الوجوه من حولي تترقبني .. وهمسات خافتة هنا وهناك بعضها مشفق علي و بعضها ينعتني بالمخادع وأخرى بالأبله ..
نبشت جيوبي ثلاث مرات دون جدوى , وعامل القطار قد وضع يده على رأس عصا معلقة بجانب معطفه السميك , يترقبني كصيدٍ ثمين ..ولما يئس مني رفع عصاه عالياً فرفعت يديّ مسرعاً إلى وجهي لأصدها عنه .. وقبل أن تهوي على رأسي أمسك رجلٌ يد عامل القطار وأنزلها بقوة ..
بقلمي .. يتبع