[tabletext="width:70%;"]
لسم الله الرحمن الرحيم، و لا عدوان إلا على الظالمين.
تحية شاخت في الطريق إليك
و بعد،
أوحت لي عفاريت عبقر، أنك بصدد كتابة قصة أو ما شابه ذلك، عن إطفائي يطفئ نيران الناس بكل إقدام، و يعجز عن إطفاء ناره. اِعلم أن هذا التطاول لن يمر من دون رد صاعق.
وقد أعذر من أنذر.
أعلم أيها السارد، أنك لن تعير تهديداته أي اعتبار،لأنه شاعر،و الشعراء يقولون ما لا يفعلون.كما أعلم أن الوعيد لا يرهبك، حتى و لو صدر عن أعظم طغاة الأرض.أنت فراشة يغريك على الدوام لهيب السرد،فلن يزيدك وعيد ذلك الشاعر إلا إصرارا على الحكي.ارو لنا قصة ذلك الإطفائي:
- شاب وسيم. يبهرك بصفاء وجهه... بسواد عينيه... بشاربه الكث الذي ينام على شفته العليا بخجل كبير... بعضلاته المفتولة... بصدره المتين. جسم ذكوري محض، لا تشوبه شائبة تخنث في مظهره...في سلوكه ...في حركاته.لكنه لا ينجذب لفتنة عنت له،و لا يهفو لمداعبة غادة مرت أمامه. ينام على سرير بالكاد يتسع لجسم واحد، لأن السرير المزدوج يذكره بضمور رجولته.
يستغرب أصدقاؤه في العمل إقباله على إطفاء النيران، و خرطوم الماء منتصب بين يديه بشهوة غامضة مصحوبة بلهاث شبيه بالتهاجر. عندما تخبو جذوة النيران، يحس بالاسترخاء، يغتسل و يستسلم لنوم لذيذ.
كلما سأله صديقه عن سر ذلك اللهاث المثير، يصفه بالمريض الذي يصطنع الكذب، و يكون أول من يصدقه. لكن السؤال ظل يحاصره...يتردد على مسامعه من طرف أصدقائه في العمل.
تفنن في إخفاء عطبه. وناضل من أجل مقاومة الوساوس التي تنهش عقله أملا في الشفاء.
زار كل المشعوذين،و العطارين. صار جسمه مختبرا جرب فيه الكثير من الوصفات الغريبة. طال به العطب. كره الحياة، و مقت جسده الميت العاجز عن إشعال جذوة اللذة، و اعتقد أن ما يخبئه له المستقبل ليس إلاجحيما. صار منهارا...محبطا.
اقتحم السارد علي خلوتي، ممتقع اللون، و قلبه يكاد ينط من بين جوانحه هلعا. قبل أن تزول معالم الدهشة عن وجهي، بادرني بالكلام:
- صاحبك... الإطفائي ... بات يخيفني، أخذ يتمرد على الخط السردي الذي أنهجه في قصته، رفض كل الحلول الوسط التي اقترحتها عليه ... صار يخطط لوضع حد لحياته... ما فتئ يردد بصوت مسموع:
- جسد لا يهفو إلى نصفه، و لا يهتز لغادة جميلة عنَّت له، ما هو إلا جثة بغل، حري به أن يعلق على فرع شجرة عالية.
أصبت بالهلع. خفت أن يقوده يأسه إلى هلاكه. طلبت من السارد أن يمنحني فرصة للحديث معه، فهمست في أذن ذلك الإطفائي المسكين بكلام أنار طريقه.
تصفح الطبيب ملفه الصحي.كل التحليلات و الفحوص تشير إلى أنه لا يعاني من أي مرض بيولوجي يشكل عائقا أمام فحولته.
أدخله الطبيب غرفة خفيفة الإنارة، و بعد أن اتخذ كل الإجراءات اللازمة لتجريده من القدرة على مقاومة العلاج، طلب منه أن يتمدد على السرير مغمض العينين، و يضع يديه على صدره.فخاطبه:
- حاول الاسترخاء.. فتش في قبو ذكرياتك. احك كل شيء مهما كان تافها.
أغمض الإطفائي عينيه، و شرع يحفر في ماضيه القريب و البعيد:
- كانت أمي التي تزوجت متأخرة تطلب لو أن الله رزقها بذرية، أن تكون بنتا تواسيها حين يغيب أبي لظروف العمل، و تشاطرها أعباء البيت. كم كانت خيبتها عميقة حين أطللت عليها يوم الولادة صبيا بهيا، فوطدت العزم على تربيتي كما تربي بنتا. كانت تجلسني أمام المرآة. ترجل شعري. تزين وجهي. تتأملني مليا. تعانقني بحرارة،و هي تردد:
- يا لها من غلطة شنيعة! سأستغل كل خبرتي الأنثوية لتصحيحها.
أصرت أمي على أني ولدت بالجنس الخطأ،فحجبت عنى دنيا الذكورة، و ألقت بي في عالم لم أستوعب قط أنشطته، فوجدتني محشورا بين صبيات قاسيات، تفتقت عبقريتهن الشيطانية عن أساليب مذهلة للسخرية من شكلي الغريب، و الاعتداء علي، دون أن أمتلك الجرأة على صد عدوانهن...أكرهت على لعب الحجلة،و تزيين العرائس...( مسح دموعه المنهمرة، و واصل):
بعد موت أمي بأسبوع فقط، دخلت المدرسة، فاكتشفت دنيا جديدة. عانيت كثيرا من سخرية بعض الأطفال، لكن أبي الضعيف الشخصية تحرر بغياب أمي فصار يغير تسريحة شعري، و ألوان ملابسي، و طريقة لعبي...لم يدم هذا الأمر إلا مدة قصيرة جدا،و كأن حياتي منذورة للألم...
قبل أن يطلب منه الطبيب الاستمرار في الحكي خاطبه:
- في الحصة السالفة أخبرتني عن أمك. لكن دعني أنوه بإدراكك أنك ولدت صبيا بهيا.و أطلب منك أن تجعل موت أمك موتا لكل تلك المرحلة. و ماذا بعد؟
- لست أدري، أكان سوء الطالع، الذي لاحقني منذ صباي، أم هو شيء آخر، إذ لم تدخل طفولتي، و لو امرأة واحدة، قدمت نموذجا مشرقا، يمكن أن يكون هدفا لي في حياتي،ارتبطن جميعهن في ذاكرتي بالمعاناة، و لم يتركن لي فرصة لحبهن. بعد موت أمي، تزوج أبي عجوزا شمطاء. تقضي وقتا طويلا أمام المرآة و هي عاكفة على ترميم أسمال وجهها.و استنهاض رميم صدرها. ظلت صورة أبي و هو يلهث بعد معاشرة قصيرة راسخة في ذهني، يفر بعدها مسربلا بالعار، و الذل ،مطوقا بالقصور، و العجز كذكر عنكبوت خائف من أنثاه. و تلك الحيزبون المشؤومة تطارده، و اللعنات تتطاير من فمها كشياطين مرعبة تخرج من مغارة ملعونة. مازال منظر أبي يحدث في قلبي وجعا حادا. خلف في أعماقي شعورا متناقضا، لازمني طول حياتي. تمنيت لو كنت ساحرا جبارا لأخصي كل الرجال، و أستريح من نظرات الازدراء في أعينهم. لكن الندم يساورني بسرعة، فأتقبل عطبي،و أطلب من الله أن يغفر لي تفكيري في إلحاق الأذى بالناس.
طفرت من عينيه دموع حارة لفحت خديه. شرع صدره يرتج بشدة. حفزه الطبيب على الاستمرار في الحكي، و طلب منه ألا يحاول قمع دموعه.فالدموع تطفئ الحرائق الكبيرة.
- خراطيم الماء وهي تنتصب بين يدي تشعرني باللذة،فأقبل على إطفاء النار كأني أطفئ لهيبا يتأجج في أعماقي،و بعد أن يخبو الحريق أحس برغبة ملحة في الاغتسال.
شرعت حدة توتره تنخفض. طلب منه الطبيب أن يفتح عينيه.
- قمت بعمل جيد. أنت تسير على طريق الأمل بخطى واثقة.
أحس براحة كبيرة. شكر الطبيب لأن حمله الرغيب شرع يخف. لكن الطبيب كان حاسما في رده:
- لن ألعب إلا دور الوسيط، بينك وبين طاقة الشفاء الذاتية، التي يجب أن تفجرها في أعماقك. ساعد نفسك لكي تحل كل العقد التي تربت فيك. في حصة العلاج المقبلة،و التي أتمنى أن تكون الأخيرة. أريدك أن تكون حاسما في تخطي عجزك.
تمدد على السرير، واصل التنقيب في ذاكرته:
- كنت دائما أرى الحلم نفسه : أنشطر نصفين، فينتصب أحد النصفين امرأة ذميمة هي زوجة أبي...تغازلني بفجور، و تمد لسانها، و شفتيها المشققتين من أجل تقبيلي... أدفعها بعنف...أفيق مذعورا و لا أصدق كيف يمكن أن تخرج مني امرأة بهذه البشاعة. أرى في جميع النساء نصفي القبيح.حاولت مرارا الانقضاض عليها، و تهشيم رقبتها.
قاطعه الطبيب:
- لماذا لا تفعل ذلك؟ افعله الآن مادامت الفرصة سانحة.اطردها من أحلامك الآن.
ترنح فوق السرير...غرقت مقلتاه في دموع ساخنة...أحس بيديه و كأنهما تصارعان شبحا ذميما.حثه الطبيب:
- اقتلها الآن. لا تفوت الفرصة...
استمر الصراع في داخله...صرخ صرخة مزقت جدران العيادة...
لسم الله الرحمان الرحيم
تحية أزهرت في الطريق إليك.
لا خوفا من هجائك، فالهجاء في كثير من الأحيان يكون شهادة بالكمال.
من أجلك فقط، أيها الشاعر البهي، أيها الإطفائي الذي يطفئ ناره و نار غيره، عملت جاهدا لتوجيه صاحبك صوب الطريق الذي اعتقدته كفيلا بأن يمنحه حظا من الفحولة.
| [/tabletext]