احصائيات

الردود
4

المشاهدات
10333
 
د. زياد الحكيم
من آل منابر ثقافية

اوسمتي


د. زياد الحكيم is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
380

+التقييم
0.07

تاريخ التسجيل
Jul 2008

الاقامة
لندن - بريطانيا - عضو اتحاد الصحفيين البريطانيين

رقم العضوية
5315
01-23-2015, 11:21 PM
المشاركة 1
01-23-2015, 11:21 PM
المشاركة 1
افتراضي مكان نظيف وجيد الاضاءة - قصة قصيرة للكاتب ارنست همنغواي ترجمة د. زياد الحكيم
كان الوقت متأخرا جدا. وقد غادر الجميع المقهى باستثناء رجل عجوز كان يجلس في ظل اوراق الشجرة تحت مصباح كهربائي. في النهار كان الشارع كثير الغبار. ولكن في الليل هدأ الغبار بفضل الندى، واحب الرجل العجوز ان يجلس متأخرا لانه كان اصم وكان الليل هادئا وكان يشعر بذلك. وكان النادلان في المقهى يعرفان ان الرجل العجوز كان ثملا قليلا. وبالرغم من انه كان زبونا طيبا فقد كانا على يقين انه اذا اصبح ثملا اكثر مما يجب فانه سيغادر المكان دون ان يدفع الحساب، ولذلك وضعاه تحت المراقبة.

قال احد النادلين: في الاسبوع الماضي حاول الانتحار.
- لماذا؟
- كان في حالة يأس.
- مم؟
- لا شيء.
- كيف تعرف انه لا شيء؟
- عنده كثير من المال.

وجلسا معا الى طاولة كانت ملاصقة للجدار القريب من باب المقهى ونظرا الى الداخل حيث كانت الطاولات خالية تماما باستثناء الطاولة التي كان الرجل العجوز يجلس اليها في ظل اوراق الشجرة التي كانت تهتز قليلا بفعل الريح. ومرت في الشارع فتاة وجندي. ولمع ضوء الشارع على الرقم النحاسي على ياقته. ولم تكن الفتاة تلبس غطاء على رأسها وكانت تغذ السير الى جانبه.

قال واحد من النادلين: سيقبض الحرس عليه.
- ماذا يهم لو انه حصل على ما يسعى اليه؟
- من الحكمة ان يبتعد عن الشوارع في مثل هذا الوقت. سيقبض الحرس عليه. مروا من هنا قبل خمس دقائق.
نقر الرجل العجوز الجالس في الظل على صحنه بكأسه. وتوجه النادل الاصغر سنا اليه.
- ماذا تريد؟
نظر الرجل العجوز اليه. وقال: كأس آخر من البراندي.
قال النادل: ستسكر. نظر الرجل العجوز اليه. وغادر النادل المكان.
قال لرفيقه: سيبقى هنا طوال الليل. انني اشعر بالنعاس الان. ولن اصل الى سريري قبل الساعة الثالثة. ليته قتل نفسه الاسبوع الماضي.

تناول النادل زجاجة البراندي وصحنا اخر من الرف داخل المقهى وتوجه الى طاولة الرجل العجوز. وضع الصحن على الطاولة وسكب البراندي في الكأس حتى الثمالة.

قال للرجل الاصم: كان يجب ان تنتحر الاسبوع الماضي. واشار الرجل العجوز باصبعه وقال: اسكب المزيد. وسكب النادل مزيدا من البراندي حتى فاض الكأس وسال الشراب وملأ الصحن. وأخذ النادل الزجاجة الى داخل المقهى. وجلس مرة اخرى الى الطاولة مع زميله. وقال:

- انه ثمل الآن.
- انه ثمل كل ليلة.
- لماذا اراد ان ينتحر؟
- من اين لي ان اعرف؟
-كيف حاول الانتحار؟
- علق نفسه بحبل.
- من انزله؟
- ابنة اخيه.
- لماذا فعلت ذلك؟
- خوفا على روحه.
- كم عنده من المال؟
- عنده الكثير.
- لا بد انه في الثمانين من عمره.
- في كل الاحوال اعتقد انه في الثمانين.
- ليته يذهب الى بيته. لن اتمكن من الوصول الى سريري قبل الساعة الثالثة. اي ساعة هذه التي يذهب فيها شخص الى النوم؟
- انه يسهر لانه يحب السهر.
- انه يشعر بالوحدة. انا لا اشعر بالوحدة. لي زوجة تنتظرني في السرير.
- كان له زوجة في يوم من الايام.
- لن تفيده الزوجة الآن.
- ليس بامكانك ان تقول ذلك. ربما يكون بحال افضل لو كانت له زوجة.
- ابنة اخيه تقوم على رعايته. قال انها قطعت حبل المشنقة.
- اعرف.
- لا اتمنى ان اعيش الى هذه السن. الشيخوخة شيء كريه.
- ليس دائما. هذا الرجل العجوز نظيف. انه يشرب دون ان يريق شيئا من الشراب. انه في حالة سكر الان. انظر اليه.
- لا اريد ان انظر اليه. اتمنى لو يذهب الى بيته. انه لا يقيم اعتبارا لمن يجب عليهم ان يعملوا.
نظر الرجل العجوز عبر الساحة. ونظر الى النادلين.
قال: براندي آخر. مشيرا الى كأسه. وتقدم نحوه النادل الذي كان في عجلة من امره.
- انتهى. ليس من شراب آخر. اقفلنا المكان.
قال ذلك في نبرة يستعملها الاغبياء عندما يتحدثون الى السكارى او الغرباء.
قال الرجل العجوز: براندي آخر.
- لا. انتهى. ومسح النادل طرف الطاولة بمنشفة. وهز رأسه.
وقف الرجل العجوز. وأخذ يحصي عدد الصحون. واخرج محفظة جلدية من جيبه ودفع ثمن الشراب الذي احتساه. واضاف الى ذلك نصف بيسيتا بقشيشا.

وراقبه النادل وهو ينزل الى الشارع. رجل بلغ من العمر عتيا. يتمايل في مشيته ولكنه كان يمشي بوقار.

وقال النادل الذي لم يكن مستعجلا: لماذا لم تسمح له بان يبقى ويشرب؟ ان الساعة لم تبلغ الثانية والنصف. وكان النادلان الان يغلقان المقهى.
- اما انا فاريد ان اذهب الى البيت وانام.
- واي فرق يمكن لساعة من الزمن ان تحدثه؟
- ساعة عندي اهم من ساعة عنده.
- الساعة هي الساعة.
- انك تتحدث مثل رجل عجوز. بامكانه ان يشتري زجاجة ويشرب في بيته.
- الامر ليس واحدا.
وافق النادل الذي له زوجة: لا ليس واحدا. ذلك انه كان يريد ان يكون منصفا. كان مستعجلا. كان هذا كل ما في الامر.

- وانت؟ الا تخاف من الذهاب الى البيت قبل الوقت المعتاد؟
- هل تحاول ان تهينني؟
- لا ابدا. كنت اريد ان امزح فحسب.
قال النادل الذي كان مستعجلا وهو ينهض بعد ان انزل الستار المعدني: انا واثق. عندي كل الثقة.
قال النادل الاكبر سنا: عندك شباب وثقة وعمل. عندك كل شيء.
- والى ماذا تفتقر انت؟
- افتقر الى كل شيء ماعدا العمل.
- عندك كل ما عندي.
- لا. ليس عندي ثقة. وانا لم اعد شابا.
- هيا. كف عن هذا الهراء. واقفل المقهى.

قال النادل الاكبر سنا وكان قد ارتدى ملابسه: انا من اولئك الذين يحبون ان يسهروا في المقهى. انا من اولئك الذين لا يريدون ان يناموا مبكرا. من اولئك الذين هم بحاجة الى ضوء في الليل.
- انا اريد ان اذهب الى البيت وانام.

قال النادل الاكبر سنا: اننا من نوعين مختلفين. في كل ليلة لا اشعر برغبة في اغلاق المقهى لان احدا ربما يكون بحاجة اليه.
- هناك حانات مفتوحة طوال الليل.
- انت لا تفهمني. هذا مقهى نظيف ومضاء اضاءة جيدة. الضوء في حالة ممتازة وهناك ظلال اوراق ايضا.
قال النادل الاصغر سنا: تصبح على خير.
قال النادل الاخر: تصبح على خير. واطفأ النور الكهربائي. وواصل الحديث مع نفسه. كان الضوء هو السبب اذن. لكن لا بد ان يكون المكان نظيفا وجميلا. لا حاجة الى موسيقا. بالتأكيد لا حاجة الى موسيقا. وليس من الممكن ان يقف المرء بوقار في حانة بالرغم من ان هذا هو كل ما هو متوفر في هذا الوقت من الليل. مما كان يخاف؟ لم يكن خوفا او رعبا. هو (لا شيء) يعرفه تمام المعرفة. كان (لا شيء) ليس غير. والانسان هو (لا شيء) ايضا. كان هذا هو كل شيء. والضوء هو كل ما نحتاج اليه بالاضافة الى قدر من النظافة والنظام. البعض يعيش فيه ولا يشعر به. ولكنه كان يعرف انه نادا (عدم)...فنك نادا... اسمك نادا... مملكتك نادا... انك ستكون نادا... نادا مملوء بنادا... وابتسم ووقف امام حانة كان فيها آلة تلمع لصنع القهوة يتصاعد منها بخار.

قال رجل الحانة: ماذا تشرب؟
- نادا.
- اوترو لوكو ماس (مجنون آخر).
قال النادل: قدح صغير. والتفت بعيدا.
فصب رجل الحانة للنادل قدحا صغيرا.
قال النادل: الضوء ساطع وجميل ولكن الحانة غير جذابة.
نظر اليه رجل الحانة ولم يقل اي كلمة. كان الوقت متأخرا لاثارة اي نقاش.
قال رجل الحانة: اتريد قدحا آخر؟
قال النادل: لا. شكرا.

وخرج. كان يمقت الحانات والبارات. المقهى النظيف والجيد الاضاءة هو شيء آخر. والان دون ان يفكر في اي شيء سيذهب الى بيته - الى غرفته. وسوف يستلقي على سريره. ومع بزوغ الفجر سيخلد الى النوم. قال في نفسه ان الامر لا يعدو ان يكون مجرد ارق يعاني منه الكثيرون.

zedhakim@yahoo.co.uk


قديم 01-27-2015, 06:10 PM
المشاركة 2
د. زياد الحكيم
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
هذه واحدة من اشهر القصص القصيرة التي وضعها ارنست همنغواي. ونادرا ما تخلو منها مجموعة من المختارات الادبية الامريكية. ذلك اننا نقع فيها على اهم ما يمتاز به اسلوب همنغواي ابتداء من طريقة معالجة الموضوع معالجة هادئة عميقة الى الجمل التقريرية القصيرة، وتوكيد المعنى بالتكرار، والاعتماد الكبير على الحوار الذي تستعمل فيه الشخصيات جملا قصيرة واحيانا اجزاء من جمل، وانتهاء باستعمال الكلام اليومي العادي.

ويظهر في القصة ما تمتاز به قصص همنغواي عموما من تأكيد على الجانب المظلم في الحياة وعدم قدرة الانسان على الاحساس بالسعادة وبالتحقق والرضا. نلاحظ في القصة سلسلة من التباينات: الضوء والظلمة، النظافة والقذارة، الهدوء والصخب، الشباب والشيخوخة، العدمية والمثالية. . . ويعتقد البعض ان القصة تبحث في مشكلة القلق الذي يعيشه الانسان ابتداء من المرحلة الاولى من الحياة (النادل الشاب) الى منتصف العمر (النادل الاكبر سنا) الى الشيخوخة (الرجل العجوز). فالنادل الشاب يمتاز بميوله الى المادية والقسوة فهو كثير النزق وقصير النظر ولا يتعاطف مع ما يمر به الرجل العجوز. وهو يعتقد ان الرجل العجوز حاول الانتحار بلا مبرر لانه يملك الكثير من المال فامتلاك المال يعني كل شيء للنادل الشاب. ويمتاز النادل الذي بلغ الكهولة بحكمة اكبر فهو يتعاطف مع الرجل العجوز ويشعر بالوحدة تقترب شيئا فشيئا. ويزداد احساسه بقسوة الحياة ومرارتها. ويشير بعض النقاد الى ان النادل الكهل يؤكد على كلمة (نادا) التي تعني (العدم) لوصف احساسه بالوحدة والتقدم في العمر واقتراب الموت شأنه في ذلك شأن الرجل العجوز الذي بلغ الثمانين من العمر. ومن هنا الرأي بان الاشخاص الثلاثة يمثلون حياة الانسان من الشباب الى الكهولة ومن ثم الى الشيخوخة - وكلهم في حالة صراع مع الحياة، وكل واحد منهم يعاني بطريقة مختلفة.

اذن هذه القصة تعالج موضوعا في غاية الاهمية - الحياة بكل ما فيها من منغصات ومعاناة وآلام. وهي تقدم لنا صورة موجزة لحياة الانسان في مراحل ثلاث تشكل حلقات رئيسية في رحلة العمر باهم ما تمتاز به من اوهام وقسوة وخوف وعدمية.

قديم 01-27-2015, 06:18 PM
المشاركة 3
د. زياد الحكيم
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
في ما يلي مقالة لي نشرت في لندن عام 1990 عن ارنست همنغواي لعلها تفيد في القاء مزيد من الضوء على ادبه.

هو واحد من اعظم كتاب القرن العشرين. ولايزال لكتبه تأثير كبير في الكتاب الاخرين على اختلاف اصقاعهم وثقافاتهم. صحيح ان موضوعاته محدودة، ولكنه كتب عن هذه الموضوعات بصدق وشمولية، وصور في كتاباته خبراته الاساسية وخبرات الاجيال اللاحقة التي عاشت في زمن الحروب والعنف، وفي زمن انقلبت فيه القيم رأسا على عقب، واختلف فيه الناس حول معنى الحياة والوجود. كتب عن هذا الزمن من زاويته الشخصية ومن خبراته الخاصة واستنبط ادواته الجديدة بنفسه. وقد استغربت بعض الاوساط الادبية في اوربة والولايات المتحدة فوز همنغواي بجائزة نوبل للادب عام 1954 ذلك انه لم يكن قد نشر الا كتابين جديدين في السنوات الاثنتي عشرة التي سبقت ذلك العام. وهذان الكتابان لم يلقيا ترحيبا من النقاد. اضف الى ذلك ان همنغواي لم يكن نشيطا في المنظمات الثقافية والادبية في الولايات المتحدة. وحتى مواقفه الادبية كانت مقتصرة على عدد من المقولات الشخصية عما قرأه وكتبه. والمعروف ان جائزة نوبل تمنح "لمن ينتج في ميدان الادب اعمالا بارزة تنحو منحى مثاليا". واستخدم منتقدو همنغواي هذه العبارة للتهجم على الكاتب الذي تجنب دائما العبارات الطنانة. واحتجوا على منحه جائزة نوبل لان المثالية هي ابعد ما يمكن ان تكون عن كاتب موضوعاته الرئيسية هي العنف والجنس والموت.

ولكن اذا كان همنغواي لا يعير اهتماما للدوائر الادبية الا انه كان استاذا مبدعا في ميدانه. اعطى الادب حقه من الجدية والالتزام وآمن بالعلاقة الوثيقة بين الادب والحياة. كان يعتقد ان مهمة الكاتب تتمثل في ان يرى ويسمع ويفهم وان يكتب عندما يكون هناك شيء يعرفه جدير بالكتابة. وهذا في الواقع يمثل جوهر فن همنغواي. لقد كتب ما توصل الى معرفته عن طريق خبراته الخاصة، وكتب بصدق ووضوح ومباشرة. واذا كان للقارئ خبرات حياتية ونفسية تختلف عن خبرات همنغواي اختلافا اساسيا فمن الصعب ان يتعاطف مع الكاتب ومع ما يكتبه, واذا كان القارئ يحب الزخرفة في الاسلوب فإن من غير المحتمل ان يروق له اسلوب همنغواي. ركز كاتبنا في جميع اعماله على عدد محدد من الموضوعات – على رأسها العنف. وتمثل العنف في القصص القصيرة الاولى التي نشرها في مجموعة بعنوان (في عصرنا) عام 1925 في القتل والانتحار والجنس. ونجد هذه الموضوعات في اعماله اللاحقة باشكال مختلفة، طورها الكاتب وحللها من زوايا مختلفة جديدة. إن البطل في اعمال همنغواي يعرف دائما ان الحياة ستتكشف عن عيوب كثيرة وانها بعيدة عن المثالية والكمال اللذين يأمل فيهما ويطمح اليهما. ومع ذلك فان التشاؤم ليس هو الحل لمشكلات الحياة. ذلك لان التشاؤم ما هو الا انكار للحياة. ولذلك فليس امام البطل الا ان يتخذ موقفا شجاعا صادقا كريما يمكنه من ان يعيش حياة طيبة.

لقد كان همنغواي كاتبا جادا ومخلصا لادبه. من منزله في كوبا حيث كان مريضا ارسل بخطاب قرأه السفير الامريكي في استوكهولم الذي تسلم عنه جائزة نوبل. كان مما جاء في الخطاب: "ان الكاتب الحق يعتبر كل كتاب له بداية جديدة يحاول فيها مرة اخرى ان يحقق ما يبدو انه غير ممكن. ان عليه دائما ان يحقق شيئا لم يتحقق من قبل او شيئا حاول او يحاول تحقيقه واخفق. عندئذ يمكن ان يحالفه حظ عظيم وان ينجح. . . ما اسهل الادب اذا كانت كتابته تستلزم فقط اعادة صياغة كتب عظيمة. . . ان على الكاتب ان يدفع بنفسه الى ميادين لا يجد فيها من يمد له يد العون."

ولد ارنست ميللر همنغواي (Ernest Miller Hemingway (1899-1961 في اوك بارك احدى ضواحي مدينة شيكاغو الامريكية. وكان لهذه الضاحية تقاليد اجتماعية وحياتية راسخة. وبالرغم من التطور الذي طرأ على هذه الضاحية منذ اوائل القرن العشرين فانها لا تزال تفاخر بقيمها وعاداتها. وقال احد سكانها في الخمسينيات انه لمن العجيب ان يكون همنغواي قد نشأ في اوك بارك وكتب الكتب التي كتبها.كان ابوه طبيبا يهوى البراري والصيد والجري وتسلق الجبال. اما امه فكانت مغنية موهوبة لعبت دورا بارزا في شؤون الكنيسة. وكانت شديدة التحمس للدين. وكان همنغواي الابن الثاني من ستة اولاد. ويبدو ان الابوين كانا في نزاع متواصل, وكان لذلك اثره على الابناء. تعلم همنغواي بتوجيه من امه العزف على آلة التشيلو، بينما علمه ابوه الصيد والرماية. وظل الصيد والرماية من الهوايات التي مارسها طيلة حياته. كانت الاسرة تقضي عطلاتها في شمال ولاية ميشيغان حيث كانت تملك بيتا على ضفاف احدى البحيرات. ودأب الصبي على مصاحبة ابيه ليس فقط في جولات على الاقدام ولكن ايضا في زيارات كان يقوم بها الاب كطبيب الى مخيمات الهنود الحمر في المنطقة. وفي تلك المنطقة تعرف الى واقع جديد لم تكن اوك بارك تعرف عنه شيئا. وفي المدرسة اشترك في جميع الانشطة المدرسية من كرة القدم وسباحة وجري وملاكمة. وكسر انفه في احدى مباريات الملاكمة واصيبت احدى عينيه. وشارك في المناقشات العامة. ومثل في مسرحيات مدرسية. وكان عضوا في الفرقة الموسيقية. وساهم بقصائد وقطع نثرية في المجلة الادبية للمدرسة. وباختصار كان تلميذا موهوبا ناجحا ومملوءا بالحيوية في عالم شديد التنافس.

غير ان ايام المدرسة لم تخل من صعوبات ومشكلات. فالتوتر والصراع بين الابوين تركا اثرا عميقا في الصبي المراهق الذي هرب من بيت الاسرة مرتين وعمل في غسل الاطباق واعمال مماثلة اخرى. وانعكست هذه الخبرات في عدد من قصصه القصيرة الاولى. ولاحت فرصة عام 1917 للهرب من هذه المشكلات عندما دخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الاولى. فتقدم للتطوع في الجيش، ولكن طلبه رفض بسبب عينه المصابة. وبعد ان امضى شهور الصيف في ذلك العام مع اسرته غادر بيت ابيه لآخر مرة ليغدو مراسلا لصحيفة (ستار) التي كانت تصدر في ولاية كانساس. وتعلم من مراسلة الصحيفة الكثير، ذلك ان الصحيفة كانت تتمتع بسمعة طيبة نظرا الى دقتها ونزاهتها في نقل الاخبار. وكانت تحرص على تعليم مراسليها كتابة نثر واضح ودقيق وموجز. وفي الاشهر السبعة التي قضاها همنغواي في الصحيفة اصبح الشاب الذي لم يتخرج في المدرسة الثانوية صحفيا ماهرا متخصصا في تغطية اخبار الجرائم في المدينة. وسنحت الفرصة ايضا ان ينمي طموحاته الادبية ذلك انه كان في الصحيفة دائرة ادبية كبيرة.كان معظم زملائه يكتبون روايات في اوقات فراغهم، وكان يناقش كاتبنا مع هؤلاء وخاصة مع ليونيل كاهون مويس قضايا ادبية تتعلق بالكتابة مما فتح عينيه على قضايا نقدية وعملية. وكان مويس اشبه بالاسطورة في تاريخ الصحافة الامريكية.

واكتشف همنغواي عام 1918 ان هناك حاجة الى متطوعين لقيادة سيارات الاسعاف العسكرية التابعة للصليب الاحمر على الجبهة الايطالية. فاستقال من صحيفة (ستار) وابحر الى ايطاليا حيث واجه خبرات جديدة قطعت علاقاته نهائيا بضاحية اوك بارك وقيمها ومثلها. وفي ايطاليا ما لبث ان شهد حادثا لم يشهد له مثيلا في كانساس. فقد انفجر مستودع ضخم للذخيرة وساهم همنغواي الذي لم يبلغ التاسعة عشرة من عمره بعد في نقل اشلاء الضحايا من رجال ونساء. وفي حادث اخر وقع بعد شهرين من قدومه من امريكا اصيبت احدى ساقيه اصابة بالغة بقذيفة هاون بينما كان يوزع الحلوى على الجنود الايطاليين في قرية فوسالتا، ونقل الى مستشفى ميلانو حيث انتزعت من ساقيه وجسمه اكثر من مئتي شظية في اثنتي عشرة عملية جراحية.

لم يكن لهذه الخبرات اثر عميق في حياته فقط، ولكنها اثرت تأثيرا عميقا في ادبه وفنه ايضا. فالبطل في روايته الاولى يصاب اصابة بدنية ونفسية لا يبرأ منها طيلة حياته. بينما يصف في روايته الثانية خبرته في قرية فوسالتا والحرب في ايطاليا. وبعد ثلاثين عاما من تلك الاحداث يعود الكولونيل كانتيول في رواية (عبر النهر وبين الاشجار) الى قرية فوسالتا ويتعرف الى المكان الذي اصيب فيه قبل ثلاثين عاما. وعاد كاتبنا الى الولايات المتحدة في يناير 1919 وهو لايزال اعرج بسبب اصابته في الحرب. واقام في شمال ميشيغان يصطاد ويقرأ. وهناك قرر انه يريد ان يغدو اديبا. وفي شتاء 1919 سافر الى كندا وعمل في صحيفة (ستار ويكلي) في تورونتو، وكانت هذه الصحيفة تهتم بالمقالات ذات الطابع الانساني. وقال الناقد الامريكي تشارلز فنتون الذي درس كتابات همنغواي الصحفية المبكرة دراسة وافية ان همنغواي في السنوات الاربع التي قضاها في العمل في صحيفة (ستار ويكلي) كان يجرب في عدة طرق للسرد الروائي وفي آخر تلك الفترة اصبحت مقالاته تنحو منحى قصص قصيرة. ففي تقاريره الصحفية استخدم الحوار وعرض اشخاصه في شكل درامي.وعاد الى شيكاغو عام 1920 حيث تعرف الى الكاتب الشهير شيروود اندرسون. وبعد ان تزوج عام 1921 سافر الى باريس ليعمل مراسلا لصحيفة (ديلي ستار) التي كانت تدفع اجورا محترمة ووفرت له فرصا للسفر ومنحته حرية لاختيار موضوعاته. وسرعان ما وجد طريقه ممهدا الى دائرة الكتاب الامريكيين وغير الامريكيين المغتربين في باريس بفضل رسائل التوصية من شيروود اندرسون. فاكثر من التردد على بيت الكاتبة الامريكية غيرترود شتاين. وهناك التقى بجيمس جويس وازرا باوند. وكان كاتبنا في ذلك الحين ينظم الشعر بالاضافة الى كتابة النثر. وعرض قصائده وقصصه القصيرة على ازرا باوند وغيرترود شتاين وقبل بعض ملاحظاتهما ورفض بعضها الآخر.

واعترف همنغواي بالمساعدة والتشجيع اللذين تلقاهما من استاذيه، ولكن غيرترود شتاين تشاجرت معه في آخر الامر كما تشاجرت مع كثير من الكتاب في صالونها. وكان من الطبيعي ان يرفض همنغواي الذي ساعدها في مراجعة احد كتبها ونشره ما قالته له من انه تعلم الكتابة من تصحيحه البروفات الطباعية لعملها. الواقع ان همنغواي في ذلك الوقت كان كاتبا ممارسا، وكان قد وضع المبادىء الاساسية لفنه الادبي. وبطبيعة الحال كان لا يزال يتعلم فالكاتب الجاد يتعلم دائما ولا يتوقف عن التعلم. ولكنه وان بحث القصائد التصويرية مع باوند الا انه في اعماله الصحفية كان دائما يثري تقاريره بصور دقيقة محددة. ومن ناحية اخرى سافر كاتبنا الى بلاد كثيرة بحكم عمله مراسلا لصحيفتي (ديلي ستار) و(ستار ويكلي). وفي عام 1922 قام بتغطية المؤتمر الاقتصادي في جنوا وبعث بتقارير ممتازة عن نمو الفاشية في ايطاليا والموقف الفاشي من الحركات الشيوعية والراديكالية في الشمال الصناعي. وسافر الى اسبانيا وسويسرا والمانيا. وسافر الى القسطنطينية وكتب تقارير صحفية عن الحرب بين تركيا واليونان. وبالاضافة الى التقارير السياسية كان همنغواي يكتب مقالات عن انشطة خفيفة كرحلات الصيد التي كان يقوم بها في الجبال والرياضات الشتوية في سويسرا وعن المجتمع الباريسي.

وفي عام 1925 نشر همنغواي كتابه الاول (في عصرنا) وهو مجموعة من القصص القصيرة، سبع منها تصور احداثا في حياة طفل اسمه نك آدامز. واذا قرأنا هذه القصص منفصلة نجد كل واحدة منها قطعة فنية قائمة بذاتها. واذا قرأناها مجتمعة نجدها تشكل نسيجا روائيا متماسكا وان كان تماسكا ضعيفا. والواقع ان الاحداث التي تصورها هذه القصص تستند على احداث واقعية في حياة المؤلف نفسه. نك آدامز طفل أمريكي، ابوه طبيب يعلمه الصيد والرماية في منطقة قريبة من مخيم للهنود الحمر. وتصوره قصة في المجموعة وقد اصيب بطلقة نارية في عموده الفقري في ايطاليا. ويظهر آدامز مرة اخرى بهذا الاسم في قصص لاحقة. وفردريك هنري في (وداع للسلاح) 1929 هو نك آدامز نفسه في زي مختلف. وكذلك روبرت جوردان في (لمن تقرع الاجراس) 1940. ولكن هذا لا يعني ان نك هو همنغواي نفسه. فنحن نتعامل هنا مع اعمال ابداعية. والكاتب له الحق في ان يستخدم خبراته الشخصية من احداث واشخاص واماكن وان يعيد تشكيلها وان يضيف اليها وينقص منها. وهذا كله لا بد منه في العملية الابداعية. وكل ما يمكننا قوله هنا هو ان همنغواي يصور في اعماله ما شاهده وعرفه معرفة مباشرة اكثر مما فعل معظم الكتاب الاخرين. ذلك ان خياله مرتبط ارتباطا قويا بخبراته الحياتية.

"المخيم الهندي" هي القصة الاولى في مجموعة (في عصرنا) وهي قصة تصور الخبرات الاولى لنك آدامز مع العنف والالم. يرافق نك اباه الطبيب الى كوخ للهنود الحمر ليعالج امرأة هندية. ويشرح الاب للطفل ان المرأة على وشك ان تلد، وهي ولادة عسيرة. ويقول ان عليه ان يجري لها عملية ولادة قيصرية دون
مخدر وبادوات بدائية. وفعلا يجري الطبيب العملية بصورة ناجحة. ثم يرفع الغطاء عن زوج المرأة في ركن آخر من الكوخ ليجد ان الزوج قد انتحر بقطع رقبته بموس الحلاقة. ويرى نك هذا كله: ألم الام الهندية البدني اثناء الولادة والالم الروحي والنفسي الذي دفع بالزوج الى الانتحار. ولكن النقطة الاساسية في القصة هي اثر ذلك في الطفل نك.

و(موت بعد الظهر) في الواقع كتب كثيرة في كتاب واحد. ولا جامع لهذه الكتب الا شخصية الكاتب وخبراته. وقد ألفه همنغواي كمقدمة لفن مصارعة الثيران الحديث في اسبانيا وكمحاولة لشرح هذا الفن من الجوانب العاطفية والعلمية. ويقول النقاد ان هذا الكتاب هو افضل ما كتب عن مصارعة الثيران في اية لغة عالمية. ويشرح المؤلف الفصول الثلاثة المتتالية لمصارعة الثيران والادوات المستعملة والحركات والاساليب المختلفة. ويلحق بالكتاب قائمة من العبارات والمفردات المستخدمة في مصارعة الثيران. ويقول همنغواي في الكتاب ان مصارعة الثيران ليست رياضة ولكنها في الواقع خبرة جمالية وعرض اشبه بطقوس المأساة والموت يتخلص المشاهد من خلاله من مشاعر الخوف والشفقة بالمعنى الذي قصده ارسطو في الحديث عن المأساة. ويقول همنغواي انه كان يتوقع عند حضوره مصارعة لاول مرة ان يكون مشهد قتل الثور مشهدا مرعبا ومثيرا للغثيان. ويدرج المؤلف خواطر عن الحياة والموت والمعاناة واللذة. ويعرج على النقد الادبي ويعلق على الرسامين الاسبان. ويقول لنا في بداية الكتاب انه ذهب الى اسبانيا ليشاهد مصارعة الثيران لان اسبانيا هي المكان الوحيد الذي يستطيع فيه بعد الحرب ان يدرس الموت، وهو الموضوع الذي يريد ان يكتب عنه اكثر من اي موضوع آخر. ونقرأ عن دفاع همنغواي عن اهتمامه بالموت في سياق حديث مع "السيدة العجوز" فيقول: "سيدتي ان جميع القصص اذا استرسل بها الى حد بعيد بما فيه الكفاية تنتهي بالموت. ومن يعلمك بغير ذلك فهو كاتب قصة زائف... ليس من رجل يشعر بوحدة اقسى من الوحدة التي يشعر بها رجل عاش سنوات طويلة مع زوجة صالحة وماتت قبله... فاذا احب شخصان احدهما الآخر فلا يمكن ان يكون لهذه العلاقة نهاية سعيدة... انا لا اعلم ما تعنيه بكلمة حب. كيف يتميز الاشخاص الذين يحبون؟ ان جميع من خبروا الحب يتميزون بعد تلاشيه بسمة من سمات الموت."

وشاء همنغواي ان يضع لحياته نهاية عنيفة اذ اطلق النار من بندقيته على رأسه بينما كان وحيدا في بيته.

قديم 01-27-2015, 10:07 PM
المشاركة 4
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
أهلا بالدكتور زياد الحكيم

استمتعت بالقصة و التحليل كما المعلومات عن همنغواي .

هو فعلا أسلوب قوي لنقل الصورة الصادمة للحياة ، رغم ما تبدو عليه الأحداث من بساطة فهي تعبر عن الرتابة القاسية التي تستهلك من عمر الإنسان أكثره ، الشعور بالوحدة أو أرق الحياة كما حاول همنغواي رسمه في النص لم يجد له من الحلول الكثير ، مما يجعل قصته تصدم القارئ المتعود على أن القصة هي مجال لتعميق الانفصام ، أي نقل القارئ من عالم مليء بالتناقضات و واقع رتيب إلى عالم حيوي مرن لا يفتقر فيه الفرد إلى الحلول .
الكاتب نقل صورة لتحطم رغبة المتعة على صخرة العمر ، ناقش الحلم و عدم قدرته على الصمود ، ناقش الثرثرة كخصوبة خادعة تملأ الخواء ، ناقش التأمل كذرات فراغ تعمق العزلة . ناقش الاندماج كمقصد يتضاءل تحت إكراه الوحشة و تتشظى روابطه بفعل توغل سمو الذات . ناقش النهاية كقلق ناجم عن حب الحياة و كخلاص من ضياع الإنسان و فقدانه للإحساس .

مكان مضاء يعني فيه إضاءة و شفافية تكنس ظلمة الزيف و النفاق و اللامبالاة ، مكان نظيف ونقي خال من منغصات الإحساس بالجمال . و هذا التوصيف الحي للمكان هو ما يجعل المفارقة قوية في النص ، فالقلق في النص ناجم عن الزيف بين المظهر و الثقافة ، بين حب جمالية النور و سلوكيات مظلمة و قبيحة ، تجعل النفس في الأخير غير قابلة للالتئام و الإحساس بالتوازن .

تحياتي

قديم 01-29-2015, 06:02 PM
المشاركة 5
د. زياد الحكيم
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
شكرا للاستاذ ياسر علي على المتابعة والتعليق الجميل.
نعم - كما تفضلت - لا يقدم لنا همنغواي حلا لهذه
المشكلة الوجودية التي يواجهها
الانسان...نشرت هذه القصة اول مرة عام 1926.
وتكمن اهميتها في انها تتناول عددا من الموضوعات
البارزة التي يبحثها همنغواي في معظم اعماله مثل الاحساس
بالوحدة والعزلة وعبثية المجتمع الحديث في اعقاب الحرب
العالمية الاولى التي خلفت حالة من الخواء الثقافي والروحي
في الغرب. في القصة احساس عميق بان الحياة تفتقر
الى معنى يجعلها جديرة بان تعاش. ويزداد هذا الاحساس
عمقا بالتقدم في العمر. النادل الشاب مثلا لا يزال يعيش
وهما بان المال والثقة والعمل يمكن ان تجعل الحياة جديرة بان تعاش.
ولكن تتراجع هذه الاوهام عند النادل الكهل. وهي معدومة عند الرجل العجوز.
فالانسان يتجرد شيئا فشيئا من هذه الاوهام كلما تقدم في العمر.
الى ان يتحول كل شيء في الحياة الى (لا شيء) او (عدم) او (نادا).


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2)
 
أدوات الموضوع

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: مكان نظيف وجيد الاضاءة - قصة قصيرة للكاتب ارنست همنغواي ترجمة د. زياد الحكيم
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الصبار – قصة قصيرة للكاتب أو. هنري – ترجمة د. زياد الحكيم د. زياد الحكيم منبر الآداب العالمية. 2 01-11-2020 12:19 PM
المرآة – قصة قصيرة للكاتب انطون تشيخوف – ترجمة د. زياد الحكيم د. زياد الحكيم منبر الآداب العالمية. 3 11-03-2015 04:21 PM
الورقة الأخيرة - قصة قصيرة للكاتب أو. هنري - ترجمة د. زياد الحكيم د. زياد الحكيم منبر الآداب العالمية. 3 04-05-2015 02:02 AM
سر امرأة ماتت - قصة قصيرة للكاتب غي دو موباسان – ترجمة د. زياد الحكيم د. زياد الحكيم منبر الآداب العالمية. 9 02-15-2015 12:53 AM
فرح - قصة قصيرة للكاتب انطون تشيخوف – ترجمة د. زياد الحكيم د. زياد الحكيم منبر الآداب العالمية. 16 08-25-2014 12:19 AM

الساعة الآن 12:39 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.