احصائيات

الردود
0

المشاهدات
3528
 
ماجد جابر
مشرف منابر علوم اللغة العربية

اوسمتي


ماجد جابر is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
3,699

+التقييم
0.77

تاريخ التسجيل
Feb 2011

الاقامة

رقم العضوية
9742
07-08-2015, 10:24 PM
المشاركة 1
07-08-2015, 10:24 PM
المشاركة 1
افتراضي تجسيد الفضاء في قصة "أبونا عيسى..." لسمير الجندي بقلم: عبد المجيد جابر
أولا: النص
(أبونا عيسى، رجل عليه وقار السنين، قد عبثت خطوط الزمن بوجهه ويديه اللتين تقبضان بعزم على مقبض عصاه التي يتكئ عليها بغدوه ورواحه، وجهه مشرق كأصباح بئر زيت تلك القرية التي أخلص أبونا عيسى في حبها، فلم يغادرها إلا في رحلاته الإيمانية إلى القدس، يزور فيها كنيسة القيامة، يؤدي واجباته الدينية، ويقفل راجعا إلى خربة بئر زيت، كأنه قطع عهدا أبدياً مع تراب أرضه الأحمر، كان يجلس على ركبتيه، يعالج نبتاته برقة اكتسبها من نسمات نيسان التي تهفهف على أشجار اللوز والرمان، وتداعب أغصان الصنوبر العالية، من هناك من فوق رابيته يطل علينا من البعيد البعيد بحر يافا بمياهه الزرقاء الصافية كالكرستال التشيكي الأزرق، الذي يبعثر ألوان الطيف بطريقته الفوضوية المحببة، كان يجلس بين شجيرات الفول بنوعيه، ذات القرن الطويل وذات القرن القصير، وبين شجيرات البازيلاء الخضراء التي يشبه مذاقها العسل من شدة حلاوتها، كانت لحيته البيضاء الناصعة التي تتدلى حتى منتصف صدره، تتثاءب بدلال كلما لامستها نسمة هواء مشاكسة، ابتسم لنا أبونا عيسى عندما حييناه، دمعت عيناه كجدول ماء يسير بين ظلال سنابل خضراء ملأى بالحبوب عندما عرف أننا من القدس جئنا لزيارة ريفنا الجميل، دعانا لشرب الشاي، وأجلسنا على مقعد خشبي قديم، يذكرني بمقاعد الدراسة الابتدائية، بدأ يحدثنا عن حبه لأرضه التي لا تزيد مساحتها عن عشر قامات طولا وعرضاً، يصر على زراعتها في كل المواسم، زرعها بالزيتون، والتفاح والعنب، وزرعها بالبقول من فول، وحمص، وبازيلاء، كما زرع بعض شتلات من البندورة والخيار والكوسا، يقضي نهاره بين نبتاته، وتراب أرضه الأحمر، رفيقته العصا وكنته التي لم تنجب له الأحفاد بسبب عقم الزوج، المرأة التي ارتسمت على محياها سعادة العمل بجانب حماها الخوري الجليل، الذي يشفق عليها كما يشفق على تراب أرضه من عبث العابثين، ذئاب الأرض الطامعين، الذين يحاولون النيل من كل بقعة متروكة، أبونا عيسى، لم يترك أرضه يوما واحداً، ولم تتركه أرضه، فيها كل ما يريد من محبة، وثراء، وبهجة، وراحة بال، فيها أحلامه تنضج يوما بعد يوم، فيها عزيمته وقوته وحياته، للشمس فيها معنى الحياة، وفيها يتعانق الأفق مع الغروب، وفيها تتسامر الطيور فوق الأفنان، فيها أبونا عيسى يبتسم ابتسامة عريضة تتسع لكل الآمال، فيها تتحطم كل الأطماع، تختفي كل الجدران، عندما جلست مع (أبونا) عيسى شعرت لأول مرة في حياتي بأن الأحلام ممكن لها أن تتحقق، فماذا نريد من الحياة أكثر من زادنا اليومي، وجرعتنا في عشق الوطن، يتحول التراب إلى ماس ثمين بين أصابع المخلصين...

لم يحدثنا أبونا عيسى عن نفسه ولم نسأله أبداً، كان حديثه عن أرضه كأنه يتحدث عن معشوقته، فهي شريكته، ورفيقته، وملاذه، سألنا عن أحوال القدس... القدس حزينة، وحيدة، تتوق إلى تلك الأيام التي صنعت من ذكرياتها منارة انصهرت فوق خيوطها مشاعر الإيمان.

أُحضر الشاي بالنعناع الذي فاحت رائحته في المكان وامتزجت مع عبير أزهار اللوز والريحان ولسعة برد تداعب الجسد فيستسلم هانئا بين أحضان الطبيعة الغناء، تناولت كوب الشاي وأنا ممتن لكرم الضيافة، نظرت إلى عيني أبونا عيسى فوجدتهما غارقتان في هم تنوء عن حملها جبال رام الله وتلالها، في البداية لم أشأ اقتحام خصوصيات الرجل، إلا إنني اندفعت بعد ذلك اسأله عن معنى تلك النظرة الحزينة التي تسكن بين مقلتيه، رفع نظره إليَّ مبتسما وقال: لقد فتقت جروحي يا بني.

آسف يا سيدي لم أقصد إزعاجك.

لا، بالعكس يا بني، أنت لم تزعجن بحديثك، بل رؤيتك جعلتني أتذكر القدس والأيام الخوالي، وأعدتني إلى مرحلة من حياتي ظننتها طُويت إلى الأبد، كنت ساذجا عندما اعتقدت بأن الزمن كفيل بأن ينسيني تلك المرحلة... ولكن، لا بأس في ذلك، فإن الذكريات مهما كانت، هي دليل حي على وجودنا، أنا سعيد جدا بوجودك هنا، فإنني أشمُّ رائحة القدس تفوح من أنفاسك...

قام أبونا عيسى عن مقعده الخشبي متكئاً على عصاه، يسير ببطء نحو زاوية الأرض الشرقية، فاستغلت الكنة ذهابه بأن قالت: أبونا عيسى رجل فاضل، لكنه قاسى الكثير في حياته خاصة عندما تعرضت أرضه للمصادرة من قبل الاحتلال قبل سنوات، ما جعله يترك الكنيسة الأرثوذكسية بالقدس لإنقاذ أرضه، فقد كان على خطوات قليلة من رئاسة الكنيسة، إلا إنه آثر إنقاذ الأرض وتخليصها من براثن الاحتلال على منصبه، ذلك المنصب الذي يسعى إليه كل رجل دين في الكنيسة... صرخ أبونا عيسى مناديا لنا بالحضور إليه، انظروا إلى تلك الزهرة التي اكتسبت اللون الأبيض، لقد زرعتها قبل أسبوعين، وها هي قد أزهرت فما أطيب رائحتها! وما أجمل لونها الذي يميل قليلا إلى لون السكر! أبونا عيسى سعيد بزهرته، ظهرت عليه نشوة الانتصار، أبعد التراب عنها وصنع حوضاً صغيراً صبَّ فيه الماء بيد ترتجف من فعل الزمن، ثم تناول يدي برفق وأخذ يسير بي بعيدا عن الآخرين، شعرت بدفء قلبه من خلال كفه الضخم، همس قائلا: ما يؤلمني يا بني أن الزمن يمر سريعا، والعمر يتناقص ولا يزيد، في داخله صراع بين الحياة والموت، والحرية والاستبداد، وجمال الأرض وقبح الاستيطان... أضاف يقول: ها أنا اقترب شيئا فشيئا من نهايتي- هذا أمر الله- وقلقي يتزايد لأنني لا أعرف من سيروي الأزهار بعد رحيلي الأبدي...)(باب العمود 23-28)


ثانيا: تجسيد الفضاء
وقبل الشروع في تجسيد الفضاء القصي، نرى من الواجب تبيان مغزى القصة والمتمثل بتعمير الأرض والتمسك بها في مواجهة الغول الاستيطاني والتضحية بالغالي والنفيس في سبيل تحقيق ذلك.

ويلاحظ أن السارد قد أتقن فن الهندسة القصّية . فالمؤلف فضلا عن حرصه الشديد على متانة البناء القصصي ، ورصانة لغة السرد، نرى أنه شديد الولع بالوصف، سواء تعلق الأمر بوصف الأمكنة أو الشخوص أو الأشياء.

أـ وصف الأمكنة :
يوفق السارد في عملية السرد في كثير من المقاطع السردية ، بوصفه لبعض الأمكنة التي لها خصوصيتها في الفضاء القصصي. من هذه الأمكنة :
-فضاء بلدة بئر زيت:
تلك القرية التي تجري فيها أحداث القصة والتابعة لمدينة رام الله، وفيها بستان ومزروعات أبونا عيسى، وهو رجل فاضل، لكنه قاسى الكثير في حياته خاصة عندما تعرضت أرض أبونا عيسى فيها للمصادرة من قبل الاحتلال قبل سنوات.
-فضاء حديقته الغناء:
وما فيها من " أشجار اللوز والرمان، وتداعب أغصان الصنوبر العالية" و "شجيرات الفول بنوعيه، ذات القرن الطويل وذات القرن القصير، وبين شجيرات البازيلاء الخضراء التي يشبه مذاقها العسل من شدة حلاوتها" و"، بدأ يحدثنا عن حبه لأرضه التي لا تزيد مساحتها عن عشر قامات طولا وعرضاً، يصر على زراعتها في كل المواسم، زرعها بالزيتون، والتفاح والعنب، وزرعها بالبقول من فول، وحمص، وبازيلاء، كما زرع بعض شتلات من البندورة والخيار والكوسا، يقضي نهاره بين نبتاته، وتراب أرضه الأحمر.
ـ فضاء الكنيسة الأرثوذكسية بالقدس:
تلك الكنيسة التي تركها أبونا عيسى ليهتم بأرضه ويحول بينها وبين المصادرة وضحى بمنصبه الرفيع فيها، والكنيسة تحمل هالة دينية، كما أن تعمير الأرض والحفاظ عليها لها أيضا مكانة دينية.
والجدير بالذكر هنا أن السارد يعنى كثيراً بذكر التفاصيل الدقيقة لدى وصفه لهذه الأماكن، علاوة على استخدامه في بعض أوصافه للغة وما تحمله من ألوان دالة وانزياحات عذبة.
وغير خفي أن وصف الأمكنة في القصة، لم يكن بهدف تأثيث الفضاء وتأطيره باعتباره مسرحاً للأحداث ، بل إن له وظيفة دلالية متصلة بالسياق النصي.
وهنا يتضح الصراع بين الفلسطيني والمحتل، الفلسطيني الذي يضحي بأغلى ما يملك وبالمناصب في سبيل الحفاظ على أرضه وهويته ويقف سدا منيعا أمام غول الاستيطان وتسلط الدولة المحتلة.
ب ـ وصف الشخوص :
إن الشخصية حسب " تودوروف " ذات طبيعة لسانية ، إذ لا وجود لها خارج الكلمات. بيد أن الكاتب المبدع يبث فيها الروح والحياة ، فتغدو لها ملامح فيزيولوجية ونفسية واجتماعية محددة. ويؤكد فلوبير أن الوصف لا يأتي بلا مبرر، بل إن كل مقطع من مقاطعه يخدم بناء الشخصية وله أثر مباشر أو غير مباشر في تطور الحدث .
وصف شخصية أبونا عيسى:
"أبونا عيسى، رجل عليه وقار السنين، قد عبثت خطوط الزمن بوجهه ويديه اللتين تقبضان بعزم على مقبض عصاه التي يتكئ عليها بغدوه ورواحه، وجهه مشرق كأصباح بئر زيت تلك القرية التي أخلص أبونا عيسى في حبها، فلم يغادرها إلا في رحلاته الإيمانية إلى القدس، يزور فيها كنيسة القيامة، يؤدي واجباته الدينية، ويقفل راجعا إلى خربة بئر زيت، كأنه قطع عهدا أبدياً مع تراب أرضه الأحمر، كان يجلس على ركبتيه، يعالج نبتاته برقة.."
ويصفه السارد في نفس القصة بقوله:" كانت لحيته البيضاء الناصعة التي تتدلى حتى منتصف صدره، تتثاءب بدلال كلما لامستها نسمة هواء مشاكسة، ابتسم لنا أبونا عيسى عندما حييناه، دمعت عيناه كجدول ماء يسير بين ظلال سنابل خضراء ملأى بالحبوب عندما عرف أننا من القدس.."
ويعود السارد لوصف ابتسامة أبونا عيسى: " فيها أبونا عيسى يبتسم ابتسامة عريضة تتسع لكل الآمال، فيها تتحطم كل الأطماع، تختفي كل الجدران"
ويصف السارد شيخوخة أبونا عيسى: " قام أبونا عيسى عن مقعده الخشبي متكئاً على عصاه، يسير ببطء نحو زاوية الأرض الشرقية"
" ها أنا اقترب شيئا فشيئا من نهايتي- هذا أمر الله- وقلقي يتزايد لأنني لا أعرف من سيروي الأزهار بعد رحيلي الأبدي...(باب العمود 23-28)
وصف الكنّة وزوجها:
"رفيقته العصا وكنته التي لم تنجب له الأحفاد بسبب عقم الزوج، المرأة التي ارتسمت على محياها سعادة العمل بجانب حماها الخوري الجليل، الذي يشفق عليها كما يشفق على تراب أرضه من عبث العابثين، ذئاب الأرض الطامعين، الذين يحاولون النيل من كل بقعة متروكة"
ج ـ وصف الأشياء :
كوصف السارد الدقيق لزهرة زرعها أبونا عيسى ورعاها واهتم بها: "صرخ أبونا عيسى مناديا لنا بالحضور إليه، انظروا إلى تلك الزهرة التي اكتسبت اللون الأبيض، لقد زرعتها قبل أسبوعين، وها هي قد أزهرت فما أطيب رائحتها! وما أجمل لونها الذي يميل قليلا إلى لون السكر! أبونا عيسى سعيد بزهرته، ظهرت عليه نشوة الانتصار، أبعد التراب عنها وصنع حوضاً صغيراً صبَّ فيه الماء بيد ترتجف من فعل الزمن.."
إن عنوان القصة "أبونا عيسى" تحمل في طياتها التسامح الديني بين كل من المسلمين والمسيحيين، ووقوفهم صفا واحدا كالبنيان المرصوص في دفاعهم عن ثرى بلدهم.




مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: تجسيد الفضاء في قصة "أبونا عيسى..." لسمير الجندي بقلم: عبد المجيد جابر
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
التحليل الأدبي لقصة "يده" بقلم د. عبد المجيد جابر ماجد جابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 1 07-20-2022 09:37 PM
فروقات لغوية بين عبارتي: "طب نفْسا" وطبْ نفَسَا": بقلم د. عبد المجيد جابر اطميزة ماجد جابر منبر الدراسات النحوية والصرفية واللغوية 5 10-03-2020 06:21 AM
فضاء "أوسلو" في قصّ سمير الجندي، بقلم: عبد المجيد جابر . ماجد جابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 0 07-06-2015 01:48 AM
" لغويّات وألفاظ في علم الدلالة " بقلم: عبد المجيد جابر(ماجد) ماجد جابر منبر الدراسات النحوية والصرفية واللغوية 0 02-17-2013 06:36 PM
سِحْر العربيّة :"وصف العينين"بقلم: عبد المجيد جابر ماجد جابر منبر الدراسات النحوية والصرفية واللغوية 5 09-23-2012 11:56 PM

الساعة الآن 11:50 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.