فهد العسكر
«كُفّي المَلاَمَ وعلّليني»
اتهموه بالزندقة والإلحاد والكفر
لم يكن يعطف عليه سوى أمه
وقد أصيب بالعمى
ومات وحيداً في حجرة صغيرة في سوق واقف
تبرأ منه الأهل والأصحاب وأحرقوا قصائده
___________
فهد العسكر
فهد العسكر
ولد في عام 1917م ، وترعرع في مجتمع محافظ متدين، حاول أن يتمرد بشعره على العادات التي كان يعتبرها عادات خاطئة وبالية لذلك توجهت إليه أصابع الاتهام تدينه بالكفر والفسق والخروج عن التقاليد والعادات السائدة حتى نبذه الجميع وكانوا أقرب الناس ومنهم أسرته وأصحابه فيما عدا والدته التي ظلت تواصله وتمده بكل ما يحتاج تحمل له بين دموعها علامات العتب واللوم راجية الله أن يمنّ عليه بالهداية.. غصة كانت في صدرها وعبرة تفترش عينيها بعدما نبذ الجميع ولدها وأحرقت الأسرة شعره واتهموه بأصعب التهم ، وقد أصيب بالعمى وانتهى به المطاف إلى غرفة متواضعة كأنها زنزانة حبس بها نفسه محاطاً بظلمتها ومحاصراً بمرضه حتى شبهه البعض بالشاعر أبي العلاء المعري (رهين المحبسين).
ويعد فهد العسكر في طليعة شعراء الكويت المجددين في الشعر وقد أثرت حياته التي كانت عبارة عن سلسلة من الآلام والأحداث على شعره ونبهت إحساسه وأرهقت مشاعره وأقلقت نفسيته وجعلته حاد العاطفة ومن يقرأ شعره يحس بمرارة الأيام وقساوة الحياة التي كان يحس بها الشاعر لذلك عاش بائساً حزيناً محبطاً وغادر الحياة وهو لا يزال بالبؤس وشعره يزفر بالشقاء والعناء والحرمان والغربة والوحدة التي كان يشعر بها بعد أن فقد بصره واتهم بالزندقة والإلحاد حتى جفاه الأهل والأقارب والمجتمع بكل شرائحه على الرغم من لهفتهم لقراءة شعره الذي طالما غنى فيه فأطرب وناح فأبكى وأنشد فأعجب.
فهد العسكر مدرسة أدبية ذات فكر متحرر لا تؤمن بالأوضاع الموروثة وتتجه نحو التجديد في الشعر الذي ضمنه الشاعر سخطه على متطلبات الدنيا وانتقاده للأعراف والمجتمع الذي عايشه وحنقه عليه صار منبوذاً ومات تعساً يعاني الشؤم والحرمان وتضمنت قصائده الشكوى من الناس ومما يعاني من وحدته التي اضطر اضطراراً إليها وأجبر إجباراً عليها ولو قرأنا هذه القصيدة «شهيق وزفير» التي نظمها عام 1946م قراءة واعية نرى مدى ما يعانيه من ضيق وبؤس وحرمان.
القصيدة «شهيق وزفير»
كٌفي الملام وعلليني
يبدأ بالتوسل إلى أمه ألا تعاقبه وتلومه:
كُفّي الملامَ وعلّليني
فالشك أوْدى باليَقينِ
وتناهبَتْ كَبدي الشُّجُونُ
فمنْ مُجيري مِنْ شُجوني؟
وأمَضَّني الدَّاءُ العَيَاءٌ
فمنْ مُغيثي؟ مَنْ مُعيني؟
أينَ التي خُلقَتْ لِتَهْواني
وبَاتَتْ تجْتويني؟
أُماهُ قدْ غلبَ الأسى
كُفِّي المَلامَ وعَلِّليني
اللّهُ يا أماهُ، في
ترَفَّقي، لا تَعْذُليني
أَرْهقْتِ رُوحي بالعِتابِ
فَأَمْسِكيهِ أوْ ذَريني
أنا شاعِرٌ، أنا بائِسٌ
أنا مُسْتَهامٌ، فاعْذُريني
أنا من حَنيني في جَحيمٍ
آه مِنْ حَرّ الحَنين
أنا تائِهٌ في غَيْهَبِ
شَبحُ الرَّدى فيهِ قريني
ضاقَتْ بي الدُّنْيا دَعِيني
أَنْدُبٌ الماضي، دَعيني
وأنا السَّجينُ بِعُقْرِ داري
فاسْمَعِي شَكْوى السَّجينِ
بِهُزالِ جِسْمي باصْفراري
بالتَّجَعّدِ بالغُضُونِ
الشاعر.. فهد العسكر ورحلة الشقاء.. والشكّ.. والقلق ــ
فهد العسكر.. قيثارة شعرية.. مترعة شجناً.. وقلقاً.. مفعمة ألماً.. وحزناً.. وأسىً، كان شعره صدى عميقاً لتقلبات حياته الحادة، ومنعطفاتها.. وتجلياتها..
سمعت شعره لأول مرة، وطربت له، مغنى بصوت خليجي ممتلئ دفئاً، وحرارة، وبحّة شجية، في تناغم بديع. ـ وانسجام.. وتجلّ.. وكلمات، وصوتاً ولحناً.. وأداء..
كُفِّي الملامَ.. وعلِّليني
فالشكُّ أَوْدى باليَقِينِ
وتناهَبَتْ كَبدي الشجو
نُ.. فَمَنْ مُجيري مِنْ شُجُوني؟(1)
وعشت مع شعر فهد مرة أخرى من خلال نص في الثانوية العامة في دولة الكويت بعنوان "البلبل" الذي يرمز بشفافية إلى ذات الشاعر القلقة التي عاشت التحولات في الخليج العربي.. من شظف العيش، وضيقه.. إلى سعته، وبحبوحته.. ورغده.. كما شهد الانتقال من مجتمعات تضج بالتراث، وعبق التاريخ.. إلى مجتمعات تعصف بها رياح التغريب...
وَلْهانُ ذو خافِقٍ، رَقَّت حَواشيهِ
يَصْبو.. فتنشُرُهُ الذكرى.. وتَطْويه
كأنَّهُ وهو فوقَ الغُصْنِ مُضْطرب
قلبُ المشوقِ... وقَد جَدَّ الهوى فيهِ
رَأى الربيعَ، وقَد أَوْدَى الخريفُ به
بينَ الطيور.. كَمَيتٍ بَيْنَ أهْليهِ
حيرانُ.. ما انفَكَّ مَذْهُولاً.. كَمُتَّهمٍ
لم يَجْنِ ذَنْبَاً.. ولم يَنْجَحْ مُحاميهِ(2)
الشاعر فهد العسكر.. اسم إشكالي بحدّ ذاته، ومثار اختلاف بين مجايليه، تتصارع حوله الآراء، وتتشابك الخطوط، فيتداخل الشخصي ـ الذاتي بالأدبي ـ الفكري ـ الاجتماعي، ولعل مما يزيد الأمر تعقيداً، هو طبيعة المرحلة التي عاش فيها الشاعر، من ضيق أفق، وأن الناس يعرفون بعضهم بشكل جيد، ويرون بعضهم بعيون مفتوحة للآخر... تراقب.. تحصي.. وربما لا ترى سوى المثالب، والسلبيات.. وفي هكذا مجتمعات محدودة.. الويل لمن تزلّ قدمه، ويقع في المحظور.. أو يحيد عن الدروب المرسومة بصرامة.. وعسف.. وربما.. بضيق أفق..
دخولاً.. في الإشكالية..
لقد توافر فهد على خط من التنوير، سبق زمنه، وجيله، وواقعه، لم يحقق بذاته، ولا يمكن أن يحقق، فيما أرى، ولم يحقق بأمثاله حالة تنوير تنهض بالمجتمع، فهو، وهم، أفراد مبعثرون، مشتتون.. لم يتكيّفوا مع أوضاع المجتمع، ولم ينتظروا نضوج الظروف الموضوعية، وسياقات التطور المجتمعي الطبيعي التاريخي.. فانقطعوا عن المجموع، واحتار المجتمع في توصيفهم فاختار لهم وصوفات قاسية، مدمرة اجتماعياً، تتراوح بين الكفر، والإلحاد، وربما الزندقة.. وبين العقوق، والخروج على مواضعات المجتمع... ونواميسه.. ولعل أخطر ما في هذه السياقات، هو سهولة إطلاق التهم، والتي شكلت معاناة حقيقية للشاعر.. ربما كان الرجل يتمتع بشيء من التحرر الفكري، يطلق معه العنان لعقله، يفكر، يتأمل.. يشك.. ربما كان متحرراً إلى حد ما من القيود التي فرضتها البيئة بكل صرامة.. ربما كانت روحه توّاقة إلى التمرد، والانعتاق من ربقة الماضوي.. لكن.. هل هذه، وتلك.. مدعاة لإلصاق مثل هذه التهم المدمرة؟
ولادته.. دراسته.. نشأته..
فهد العسكر، من مواليد دولة الكويت في العام 1917 على الأرجح، في المنطقة التي كانت تسمى "سكة عنزة"، حيث كان تجمع الأغنام فيها صباحاً، ليسرح بها راعي الغنم ويعود بها في المساء.
يرجع نسبه إلى قبيلة "عنزة"، أجداده من "نجد" كان جده "محمد" تاجر غنم، وإبل، كثير التنقل بين الرياض، والكويت، وقد شجعه الشيخ "دعيج الصباح" على الاستقرار في الكويت، بعد أن توطدت بينهما أواصر الصداقة.
درس فهد في المدرسة "المباركية"، أول مدرسة نظامية في الكويت، تتلمذ على يد أساتذة أجلاّء، منهم الشيخ "عبد الله النوري"، وقد قرأ دواوين الشعر العربي مبكراً..
نشأ في بيت كان محافظاً شديد المحافظة على العادات والتقاليد، وكان والداه متدينين، فشب فهد متديناً أشد التدين..
قال الشعر مبكراً، وقد كتب قصيدة مدح فيها الملك "عبد العزيز"، غناها المطرب الكويتي المشهور "عبد اللطيف الكويتي"، ولمّا وصلت القصيدة إلى أسماع الملك، دعاه إلى زيارة الرياض، وهكذا كان، وقد كان فهد يمنّي النفس، ويرسم الآمال العريضة، لكنه أحبط عندما جاء العرض للعمل كاتباً لدى أحد أبناء الملك.. على حدود اليمن.. فاعتذر عن المهمة.. وعاد إلى الكويت، يجرجر أذيال الخيبة..
التحوّل..
بدأ فهد يتردد على مكتبة الكويت الأولى "مكتبة ابن رويّح"، وكان يستعير منها الكتب، ويقرأ.. ويقرأ بنهم، فحصل لديه نوع من التغيّر في أفكاره، وأخذت نظرته إلى الحياة تتغير، وبدأ تشدده في الدين يضعف، ويضعف شيئاً فشيئاً إلى أن تحول كلياً.. في تفكيره.. وفي نظرته إلى الحياة.. إلى العادات، والتقاليد الموروثة.. واَكَب ذلك معاقرة للخمرة، بل، وتغنى بها..
صهرْتُ في قَدح الصَّهباءِ أحْزاني
وَصَغْتُ من ذَوْبها شِعْري، وأَلحاني
وبِتُّ في غَلَسِ الظلمَاء.. أُرْسلُها
من غَوْرِ رُوحي، ومِنْ أَعْمَاقِ وِجْداني
يا ساقيَ الخَمْر، لا شُلَّتْ يَدَاكَ، أََدِرْ
بنتَ النَخيلِ.. فإنَّ الصحوَ أضْناني
تراقَصَ الحَبَبُ المِمْراحُ في قَدَحي
فأينَ.. أينَ الكَرى من جفنِ سَكْرانِ؟ (3)
لقد أغرق فهد في الكتب التي تحمل طابع التحرر، وتعرض أفكار المفكرين من أدباء، وفلاسفة في الشرق، والغرب، فأخذت روح التدين، تضمحل عنده، وطفق يتخلى عن تعصبه الشديد، وتدينه، وبدأ يضمّن شعره بعض آرائه في الدين، والحياة، فيأتي بأفكار تحررية، لم يعهدها الناس عنده.. هكذا استمر الحال،إلى أن فقد التدين تماماً، وطلّق حياة التدين.. طلاقاً لا رجعة فيه.
الاتهامات.. ودفاع عن النفس..
بدأ فهد، وكأنه يغرّد خارج السرب.. هو ماض في طريق اختاره، وأهله، وذووه، ومجتمعه.. يضيقون ذرعاً به، هو يضرب عرض الحائط بكل ما يصدر عنهم، فيبعدونه، ويتبرؤون منه.. وكيف يصبرون على هذه الموجات الصاخبة من اللوم التي يوجهها هذا الثائر المتطرف؟ لقد تحدى أفكارهم، وآراءهم، بل حتى تقاليدهم، وعاداتهم الموروثة.. فرأوا فيه ابناً عاقاً، انحرفت بعقله الكتب الحديثة، والآراء المتطرفة، والشعر الماجن، فانجرف وراءها.. لكنه ما لبث أن شعر بوطأة الاتهامات التي كالوها له، فعبّر عن المشهد في قصيدته الشهيرة "شهيق وزفير" التي نظمها العام 1946، والتي تعتبر من عيون شعره..، وهاهو يعرّض بأولئك النفر الذين نكدوا عليه عيشه:
وَهُنَاكَ مِنْهُم مَعْشَرٌ
أُفٍّ لَهُمْ.. كَمْ ضَايَقُوني!!
هَذا رَمَاني بالشذوذِ
وذا رَمَاني بالجُنونِ
وَهُناك مِنْهمُ من رَمَـ
ـاني بالخَلاعَةِ، والمُجُونِ
وَتطاوَلَ المتعصّبُون
وما كَفَرْتُ.. وكَفَّرُوني (4)
إنه يشكو شكوى مريرة، ويبدي ضيقه، وبرمه من خصومه، عبّر عنه باسم الفعل "أفٍّ" المفعم توجعاً، وألماً، لقد نفّس عن مكنونات صدره، واحتقاناته، فزفر "أفٍّ" ليفرغ تلك الشحنات، وذلك الأسى، ومن أجل التأكيد على المضمون لمن فاته شيء من دلالات "أفٍّ"، أتى بـ "كم ضايقوني" إنه يخبر بـ "كم" عن كثرة ما ضايقوه، ونكدّوا عليه عيشه، ورموه بالثقيل من التهم، من "الشذوذ" و"الجنون" و"الخلاعة"، و"المجون"، و"الكفر" ولا أدري هل تركوا شيئاً لمستزيد ممن يرومون اتهام الشاعر؟ إنَّها اتهامات كافية للإطاحة بأي رأس.. وبأكبر رأس في مجتمع محافظ، يتمسّك بالدين، ويحافظ على التقاليد..
لم يستسلم فهد، ودافع عن نفسه، ونافح عن رأسه، الذي، بدا وكأنّه مطلوب طعمة لسيف السّياف.. بداعي الكفر.. والارتداد عن الدين، وهو قَدْ دفع أكبر التهم عن نفسه، وهي تهمة "الكفر"، وهي كافية في الشرع الإسلامي، ولعلّه قَدْ رأى لهجوماتهم أسباباً أخرى..
وأَنا الأبيُّ النفسِ
ذُو الوجْدانِ.. والشرفِ المصونِ
اللهُ يَشْهَدُ لي، وَمَا
أنا بالذّلَيلَ المسْتَكينِ
لا درّ درّهُمُ، فلَوْ
حُزْنُ النُّضار.. لأَلَّهُوني
أو بعْتُ وجداني بأَ
سْواقِ النفاقِ.. لأَكْرَمُوني
أو رُحْتُ أحْرِقُ في الـ
دواوينَ البخورَ.. لأَنْصَفُوني
فَعرَفْتُ ذَنبي.. أنَّ كَبْ
شِي، ليسَ بالكبشِ السَّمينِ
يا قَوْمُ.. كُفُّوا.. دِيْنُكُمُ
لكُمُ.. ولَي يا قَوْمُ.. دِيني (5)
هكذا يرى فهد المسألة.. اجتماعية المضمون.. إنه متحصن بـ "الوجدان، والشرف"، وهذه كافية للعصمة من الانزلاق في المهاوي، فالوجدان، رادع، والشرف مانع من الإسفاف، ويشهد الله على عزة نفسه، وكرامته ولهذا الإشهاد دلالات.. فالله خير الشاهدين، مطّلع على خبايا الأنفس، وما تخفي الصدور.. وأن الشاعر مؤمن بالله، دفعاً لتهمة الكفر والإلحاد.. إنه يؤكد على المضمون الاجتماعي للحملة العنيفة عليه.. فهو وإن كان فقيراً، معوزاً، فإنه يمتلك نفساً ممتلئة إباء.. وكرامة.. ويتوافر على وجدان يقظ، يكره النفاق، والدجل، والمجاملات الزائفة، إنهم يريدون منه أن يعطّر دواوينهم بالمديح، والإطراء.. وهو يرفض.. وقد عبّر عن ذلك بصورة كنائية بديعة"... حرق البخور في الدواوين".. لقد لخص فهد الإشكالية.. هم يريدونه كبشاً سميناً.. وما دام لا يملك الثروات المادية.. فلا بأس بجميل القول، وطيّب الثناء.. وهذه كما هو واضح من السياقات.. لا يقدر عليها.. وكيف يقدر عليها من وصل إلى مثل حالته التنويرية؟! فهد في طريق.. وهم في طريق.. ولا التقاء.. إنهما كالخطين المتوازيين.. لقد لخص الحالة في البيت الأخير من المقبوس "يا قوم.. كفّوا.." إنه نداء.. فيه كثير من التوسل.. والطلب.. بأن يكفّوا عن الرّجل.. ويتركوه، وشأنه.. فهو في طريق.. وهم في آخر.. ولا أحسب أنه يقصد الدين بالمعنى المعروف، لكنه يقصد منهج الحياة.. ونمط السلوك..
لايني فهد يدفع عن نفسه التهم.. لكن الأمواج المتدافعة نحوه، والمتلاحقة فيما يبدو.. كانت عاتية.. وأن لجج الخضم.. قَدْ طغت على سبّاح في مثل قدرات فهد، وإمكاناته.. فشعر بالضيق.. والتشرد.. والضياع..
واليأسُ يَدْفَعُني، وَيَجْذِ
بُني اِزدرائي، واحْتِقَاري
أَ أَنا شَريدٌ في المها
مِه أَمْ غَريقٌ في البحَارِ؟
فكأنَّنِي الكَرةُ الكبيـ
ـرةُ بيْنَ صِبْيانٍ صِغَارِ
أَوْ أَنَّني قلبُ المجاز
فِ حَوْلَ مائِدةِ القِمارِ
أوً أنَّني رُوْحُ المُفَـ
ـارِقِ في فراشِ الاحْتِضَار(6)
لقد عبر الشاعر عن وضع مزرٍ، تردى إليه بسبب أولئك المتشددينَ، المتزمتين الذين كالوا له الاتهامات بالجملة.. فبدا، وكأنه يئن تحت وطأة الازدراء، والاحتقار، وهو الذي يعتز بكبريائه، وعزة نفسه، وكرامته.. فوقع في اليأس، والإحباط، وغربة الروح، والوحدانية ضد كلّّ تلك الجموع المحتشدة.. فشبه نفسه بكرة كبيرة، تتقاذفها أرجل صبية صغار.. ولا حول، ولا قوة لها.. لا تمتلك إرادة.. ولا تستطيع أن تدافع عن نفسها.. لاشك في أنها، أنه، تشعر بالمهانة.. عندما يتذكر.. من يسّيرها؟
لقد شعر بعنف الهجمة.. فأنَّ، وشكا.. وباح.. وأحسّ بغربة الروح.. وهو في قلب الوطن.. فصاح.. واستغاث.. لكن بنغمةِ استفزازية.. لعله شيء من الدفاع الذاتي..
يَا نَاسُ.. قَدْ أَدْمَى اغْتِرا
بِي مُهْجَتي، وَالدَّارُ دَاري
أُصْغي، فلم أسمعْ بها
غَيْرَ النَّهِيقِ.. أو الخُوارِ
أَنا لمْ أجِدْ فيها غيـ
وراً قامَ مِنْ دَرَكِ العَثَارِ
فمظاهرٌ خَلاَّبةٌ
والآنُ يَخْدَعُ في الصَّحاري (7)
لقد وسم الشاعر هذه القصيدة بـ "الشكوى".. وهي تضجُّ بالألم.. والشكاية..
ومضى الشبابُ وهذه
شكوى جريحٍ في الإسارِ
ما كنْتُ أشكُو، بَلْ أُصِـ
يْخُ لمَنْ شَكَا.. لَوْلا اضْطرارِي
مَاذا وَرَاءَ الضَّغْطِ إذ
يَشْتَدَّ.. غَيْرُ الانْفِجَارِ؟!
لَصَقُوا المثالبَ بي و
كلُّ مَثَالبي.. عَدَمُ اتِّجارِي (8)
مجلس فهد العسكر.. ديوانيته..
يعرف المجتمع الكويتي ما يسمى بالديوانية "ندوة القوم"، وهي ذات أغراض متعددة، اجتماعيّة، ثقافية أدبية، وحتى سياسية واقتصادية، وهي جزء أصيل في بنيوية المجتمع الكويتي، وقد كانت لفهد ديوانيته، ومجلسه الخاص الذي هو أقرب ما يكون إلى المنتدى الأدبي، يرتاده نخبة من أدباء الكويت ومثقفيه، يتبادلون الشعر والأدب كشكل من أشكال المثاقفة، يسمعون من فهد، ويسمعونه، وتدور الحوارات، وتحتدم المناقشات حول ما ينشد من إبداعات..
لقد كان مجلسه مدرسة حرية وانعتاق.. عقول متفتحة رافضة لكل انغلاق أو جمود.. أو تحجر.. يتنسم مرتادوه فضاءات التنوير، والحرية.. ويطّلعون على الآراء، والمذاهب الحديثة.. وربما كان هذا المنتدى هو الوحيد في زمانه.. لأن الكويت شهدت المنتديات لاحقاً. (9)
لقد كان لمنتدى فهد الفضل في تخريج بعض الشعراء،.. ولعل مما يحسب له أيضاً.. أن بعض رواده، كانوا المرجع لشعر فهد.. عندما انعدمت المراجع.. أو كادت
ديوان فهد العسكر..
لا أحسب أن ثمة أديباً، تعرض لما تعرض له فهد، سواء فيما يتعلق بحياته، ومعاشه.. أو فيما يتعلق بشعره، فما إن علم بعض أقاربه بانتقاله إلى الرفيق الأعلى، حتى انقضّوا على آثاره الشعرية، وكلمح البصر.. أصدروا قراراً بإعدامها حرقاً بالنيران.. ولعله من أسرع، وأغرب قرارات الإعدام أحادية الطرف، فلا المتهم موجود، ولا من يدافع عنه موجود.. حكموا، وقرروا، ونفذّوا الحكم.. إضراماً بالنار.. لنتاج الرجل، وذوب قلبه، وعصارة فكره.. هكذا، وبكل بساطة.. وبدم بارد.. ودون أن يرفَّ لهم جفنٌ.. لقد ارتكبوا جناية أدبية، وجريمة فكرية بحق الأدب، والشعر.. وعلى من يقع اللوم؟ هل يقع على التعصب البغيض؟ أم على التزمت، والتحجر، والانغلاق؟ كان الأحرى بهم أن يتركوا نتاج الرجل للأجيال التالية، تمحصّه، تدرسه، تعطي فيه رأياً موضوعياً، منهجياً، تنصفه، أو لا تنصفه، المهم أن يكون ذلك وفق مقاييس موضوعية علمية، لقد اندفعوا وراء أهوائهم، وعصفت بهم الأمزجة، فأطعموا النار ما كتبه الرجل، بكل تجلياته، وتحليقاته.. بكل مراراته، وعذاباته.. وإحباطاته، ولولا المنشور هنا وهناك ولولا المتناثر بيد الأصفياء من الأصدقاء.. لضاع شعر الرجل على يد بعض الغلاة المتشددين.. بله الجهلة، والمتزمتين.. ولطمست موهبة شعرية، واندثرت تجربة جديرة بالانبعاث، والدراسة، والبحث.. ربما تختلف مع الرجل.. حتى الرفض.. وربما تلتقي معه.. حتى القبول.. لكنها ليست المشكلة.. المشكلة تكمن في كونه إنساناً وله الحق في قول كلمته بكل حرية.. لقد استفرغ فهد ملكته، وأفكاره، ورؤاه.. وسكبها أشعاراً.. نشر بعضها.. وتسرّب بعضها.. وقبع بعضها في دهاليز غرفته التي تشكو الظلمة، والعفن في "سوق واجف".. والتي ربما لم ينشرها مراعاة للواقع الاجتماعي ومواضعاته الصارمة.. لكنها.. دُسَّت في النار،وربما تلذذ الفاعل برؤيتها.. وهي تضطرم.. لتعبّر عن حنقها، وغضبها من تلك الفعلة.. الشنيعة..
ولعل أكثر المهتمين بالشاعر، وبشعره المتناثر، الأديب الكويتي الفاضل "عبد الله زكريا الأنصاري" والذي كان من أصدقاء الشاعر المقرّبين، وقد قام بجهد استثنائي من أجل جمع شعر العسكر.. فكان كمن يجمع أشلاء صورة ممزقة.. نثرت في مهب الريح(10)
العزلة.. والعمى..
ازدادت الهوة اتساعاً بين الشاعر، وذويه، وأهله، ومجتمعه.. لقد اعتبروه ابناً عاقاً، خرج على نواميسهم.. تحدى آراءهم، وأفكارهم، وتقاليدهم، وعندما يئسوا من إصلاحه، وردعه.. حكموا عليه بالإبعاد، فتحاماه القدم، وأفرد كما أفرد طرفة بن العبد.. في يوم جاهلي..
لقد أبعدوا فهداً.. ربما أضاء لضمائرهم.. وربما لإغلاق الأبواب الانتقادية المفتوحة على مصراعيها عليهم.. وربما ليسدوا الأفواه التي باتت تقذفهم بالعجز عن ردع ابنهم.. المتمرد.. "الضال".. لقد أصبحوا يرون فيه سبَّةً، فهو حديث المجالس، وأندية القوم.. وهكذا وُضعوا أمام الخيار الصعب المرّ.. فهل يتنكرون لأحد أبنائهم من أجل إرضاء الناس؟أم يرضون عنه، ويتحدون الناس الذين يوّجهون لهم الانتقادات على سكوتهم عن تصرفات فهد؟ لقد اختار أهله، وأقاربه، وذووه الناس.. فدفع فهد فاتورة العذاب إقصاءً، وإفراداً.. وعزلةً.. لقد كبرت الفجوة بين آرائه، وأفكاره، وبين آراء مجتمعه، وأفكاره، وازداد بعداً عن المجتمع، وبدأ يشعر بالعزلة، بل، ويعاني من وطأتها، فانعكست آلاماً نفسيّة.. لقد وجد نفسه منبوذاً.. فازدادت نفسه رهافةً.. وتوتراً.. وقلقاً، واحتد مزاجه.. وتعقدت نفسيته.. وفي عنفوان هذه اللجج.. يصاب فهد في عينيه، ويشتد الألم عليه، ويعاني أقسى أنواع المعاناة.. فلا أطباء متخصصين يعالجونه.. ولا مال لديه للسفر من أجل العلاج في البلدان المتقدمة.. ويشتد عليه المرض، وتثقل عليه وطأة المعاناة.. ويزداد انزواءً في غرفة "سوق واجف" الذي يعجّ بالباعة المتمرسين من أبناء "المهرَةَ".. فيضحي رهين الغرفة المترعة ظلمةً.. وعفناً.. حتى كفّ بصره.. ليصبح رهين العمى أيضاً.. فاسوّدت الدنيا.. وفقد المنفذ الذي كان يطلّ منه على عالم الجمال.. وهو المفتون به يقتنصه من مظانه.
مرض عضال.. وصراع البقاء..
لقد تكالبت الظروف على الشاعر.. عزلةً.. ونبذاً.. عمى.. واعتزالاً.. ومزيداً من معاقرة الخمرة.. لعله يجد في الانغماس فيها.. السلوان، من الهم، والنكد.. والأحزان، ومما يزيد من قسوة الظروف تلك الغرفة الكئيبة..
فتسلل المرض العضال إلى رئتيه، وينوشها فتكاً، وتدميراً.. والطريق ممهدة.. والبيئة خصبة.. ومقاومة الجسد الفاني في أسوأ حالاتها.. وبدأ الشاعر الممتلئ عناداً، وإصراراً على مواقفه، بدأ ينهار.. ويهوي.. فينقله أخوه إلى بيته.. ثم إلى سرير في المستشفى الأميري، يصارع المرض.. وينتظر ساعة الراحة الأبدية.. حتى أسلم الروح إلى بارئها في 15/8/1951 ـ 13 من ذي القعدة 1370.
ولعل من المفارقات العجيبة، أنه لم يصلِّ عليه سوى خمسة أشخاص إمام مسجد "المديرس" وثلاثة من "المَهَرة" وشخص رابع، لم يعرفه أحد، ربما كان عابر سبيل، يبحث عن الثواب في هذه الصلاة، وقد حمله أولئك إلى مثواه الأخير، ودفنوه.. ولم يكن وراءه من أحد من أولئك الذين يهرولون وراء نعوش الأغنياء، والوجهاء.. يذرفون دموع التماسيح..
هكذا قضى الشاعر فهد العسكر.. وحيداً.. لم يترك من متاع الدنيا شيئاً.. كلّ ما تركه.. ثروة أدبية.. متناثرة.. ومبعثرة.. تنتظر الأقلام المنصفة..
وبعد..
لقد عاش فهد حياة كئيبة، بائسة بسبب أفكاره، ورؤاه، وخروجه على مواضعات مجتمعه.. فدفع الثمن باهظاً.. نبذاً. وعزلةً..
كان الشعر متنفس فهد، ومجال التفريغ العاطفي، والنفسي، والفكري لديه..
ضمّن شعره بعض آرائه في الدين، والحياة، وأتى بأفكار تحررية، حث تشبعت روحه بالحرية الفكرية، والثورة على التقاليد والعادات، والسير بالشعر إلى الحرية المطلقة التي لا تعترف بالقيود التي تحدّ من حرية القول..
أصرّ فهد على التشبث بالحرية التي اعتقد أنه ملكها.. فضحى بكل عرض الدنيا من أجلها، فاعتزله الناس، وتحامته العشيرة ـ القبيلة ـ المجتمع.. وهجرهم.. هو..
كتب فهد في أغراض الشعر المتعددة.. لكن نغمة الشكوى، والألم.. الشك.. والقلق.. والإحباط.. هي الأبرز.. إنَّها تحتلّ مساحة مهمة من شعره وقصيدة "شهيق وزفير" منفوحة بخصوصية، وفرادة في المشهد الشعري عنده..
كان فهد.. رقيق الإحساس، مرهف الشعور.. جياش العاطفة.. مرّ بتلقبات حادة في حياته.. من تدين قوي.. إلى تحرر منطلق من جميع القيود..
لقد كان قيثارة شعرية مترعة شجناً.. وقلقاً.. وألماً..
(1) فهد العسكر، حياته وشعره، عبد الله زكريا الأنصاري ص 139 ط4، مطابع اليقظة ـ 1975.
(2) نص البلبل ـ كتاب النصوص ـ الرابع الثانوي ـ دولة الكويت، المصدر السابق ص 218
(3) فهد العسكر ـ حياته وشعره ـ الأنصاري ص 155
(4) المصدر نفسه ص 141
(5) المصدر نفسه ص 141
(6) المصدر نفسه ص 149
(7) المصدر نفسه ص 148
(8) المصدر نفسه ص 148
(9) عرفت دولة الكويت العديد من المنتديات ومنها منتدى الأديب الفاضل "إسماعيل فهد إسماعيل" وكنت من المترددين عليه، وكثير من الأدباء السوريين المتواجدين في دولة الكويت [الأديب الشاعر: صالح العاقل ـ عبد الناصر الحمد.. ].
(10) انظر عبد الله زكريا الأنصاري ـ ص 341 ـ وما بعدها في:
الحركة الأدبية والفكرية في الكويت. د. محمد حسن عبد الله ـ جـ 1 ـ المطبعة الجديدة ـ دمشق ـ 1974
كان جده محمد، من أهل الرياض واستوطن بالكويت، ووالده صالح نشأ في الكويت وصار إماماً لمسجدها، ثم موظفاً في الجمرك وتوفي بها (1947م) واشتهر فهد بالشعر، ورماه الكويتيون بالإلحاد فاعتزلوه، إلا بعض خلصانه، وكف بصره في أعوامه الأخيرة، وزاد في عزلته، وبعد وفاته أحرق أهله (ديوانه) وأوراقه، ولم يبق من نظمه إلا ما كان بين أيدي أصدقائه أو في بعض الصحف ، فجمعها صديقه عبد الله زكريا الأنصاري في كتاب (فهد العسكر ، حياته وشعره )