صدرت للروائي العراقي سعد سعيد رواية ( يا حادي العيس ) بواقع مائتين وتسع وأربعين صفحة, عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في الأردن.
وتم اختيار صورة الغلاف من قبل الشاعر ( سلمان داود محمد ), وهي لوحة للفنانة العراقية ( سندس عبدالوهاب ) التي نقلتها بتصرف من صورة فوتوغرافية لفرقة للمقام العراقي يتوسطها الأستاذ الفنان ( محمد القبنچي ), وهو أول من غنى قصيدة ( يا حادي العيس).
وما الأضافات والتدخل ببعض تفاصيل الصورة إلا إشارة ألى ثقافة العنف التي صادرت الفن والثقافة عموماً.
وكان لاختيار لون الـ ( أوكر ) لخلفية الغلاف للمصممة ( نضال جمهور ) تأثير كبير على إبراز اللوحة, إضافة للأشارة الواضحة إلى لون الأرض والأنتماء, وجعلت المصممة حافة الغلاف باللون الأحمر الداكن ألمائل إلى اللون البنّي دلالة على الدماء التي تيبست على حافة الحياة.
أما مزاوجة الخط الكوفي بالخط الحديث فهي تشي بالأنتماء التأريخي ومعايشة الحداثة.
وتلخصت الخطوط العريضة للرواية في ما ورد على صفحة الغلاف الأخير
"حادي العيس, هو المسؤول عن قيادة الأبل والأمتعة والبشر في مجاهل الصحراء, وهو المكلف بتسديد خطاها في ذلك العالم الرهيب لدرء أخطاره عنها, وإيصالها إلى أهدافها المبتغاة.
هو الأمين المفترض, على حيوات المسافرين, وسلامة أمتعتهم
لكن ماذا لو تحول هذا الحادي إلى خطر يتهدد القافلة؟!.
ماذا لو تصور نفسه نوع من إله, يتحكم في مقدرات المسافرين, وأعطى لنفسه الحق في توزيع ظلمه ( بعدالة فذة)؟!.
بل ماذا لو ظلموه هم بنفاقهم , وأعانوه على ظلمه لهم؟!.
ماذا لو ساهموا بإيهامه بأنه الواحد الأحد, الذي لا تستقيم رحلتهم بدونه؟!."
أن هذا كله, وغيره, هو ما يحاول ( سعد سعيد ) أن يشي به, وهو يرحل بنا في زمان ملتبس أو ينطلق من مستقبل مظلم بعيد, ليبين لنا بعدها, أن ذلك المستقبل, إنما هو ماضي في حاضر الرواية.
ثم يعود ليوحي لنا, إننا ماضون نحو ذلك المستقبل, الماضي, وكأنه يريد أن يقول.. إن أزمة البشرية الحقيقية هي الأنسان نفسه, فهو يدور في حلقات مفرغة, كلما ضاقت به إحداها, تدخل الإله لينقذه من مأزقه.
ولكنه يأبى, إلا أن يعيد غلق الحلقة على نفسه!.
تبقى البشرية شقية بأنانية الأنسان وجبروته حين يتمكن, وضعفه حين يُخذَل.. ويبقى الشاعر الولهان غافلاً يستعطف الحادي.
يا حادي العيس عرِّج كي أُودعهم === يا حادي العيس في ترحالك الأجل""
وهو لا يدري أن الحادي صار هو الأجل, يقتنص من يشتهي, ويقتل من، وما يشاء.. حتى ينفرط عقد القافلة, وتتيه.. في اللامكان.
وقبل الشروع بقراءة الرواية استوقفني الإهداء..
( لا إهداء حتماً .. لأن الموتى لايشعرون )
هذه نقطة نظام وضعها الكاتب عند مستهل طريق الرواية كي يهمس بآذاننا.. بأن كل الساسة الموتى ممن فارقوا الحياة أو مازالوا يقترفون جريمة شفط الأوكسجين, هم خارج خارطة المواطنة, وبالتالي فلا إهداء لهم كونهم يرفضون تعريتهم أمام المواطنين.
وحين الولوج إلى المتن نجد ثلاثة فصول تحت عناوين بالغة الدقة..
( وسارت )
هذا هو الفصل الأول.. إبتكر فيه الروائي فكرة للخلق والتكوين بطريقة حوَّلت الميتافيزيقيا إلى الطبيعي وفق قوانين رياضية وفيزياوية, وجعلها رحلة مكوكية إلى عوالم ومجاهل بعيدة.. وأحال الكرامات إلى ذبذبات تُبَث من خلال جهاز.. وهي ليست محاولة لأنكار الخلق ووحدانية الخالق, بل جعلها مفتتحاً للولوج إلى عالم يتسيده المجرمون, فأراد أن يخلق بيئة حاضنة لهؤلاء.
( في الدجى )
وهذا هو الفصل الثاني.. حيث جعل هذا الفصل مسرحاً لإظهار حالة الحلكة والعتمة التي مر بها العراقيون أثناء الأحتلال, والأنهيار النفسي, والشكوك التي صارت تفرض القلق وتصادر كل الثوابت, وما أفرزته من سرّاق ومزورين وانحطاط.
( ألأبل )
وهذا هو الفصل الثالث.. وهي تداعيات الراوي العليم عن كونه مسخ إلى حيوان ينقل الذهب والفضة ويقتات على الأشواك, وهنالك تلميح بالغ الذكاء حين يقول:
( فما بعد الموت غير العدم ) أي أنه حيوان وما مصير الحيوان إلا أن يكون ترابا
وسأدون ما استنبطته من الكاتب من خلال الحوارات التي دارت في أماس أدبية, وجلسات نقدية.. فهو يرى أن الكاتب حين شروعه بأي عمل جديد فان جزءاً كبيراً من قراره يكون مرهونا بتداعيات افكاره وما يمكن أن يطرأ على تفكيره في اللحظات التي تولد فيها الفكرة التي يجدها صالحة لخوض مغامرته الجديدة.. أما العمليات العقلانية فتبدا بعد ذلك الوقت.. وقد عمل في ( يا حادي العيس ) على أكثر من اتجاه وحاول وضع الحق في نصابه مثلما يعتقد.. ولأنه يؤمن بأن الرواية مثل اللوحة لا يصح أن يترك فيها فراغا من لون يعكس ذائقتنا أو أفكارنا فحاول أن يعبر بطريقة غير مباشرة خوفا على العمل من التفكك والانهيار.. .
بعد العرض الآنف أود أن أدخل إلى صلب القضية التي استوقفتني, والتي لم يُشِر إليها أحد ممن كتبوا اراءً نقدية ودراسات وانطباعات عن الرواية.
فانطلاقاً من قناعة خاصة بأن الرواية المكتوبة بأسلوب كهذا, ولتأكدي من أن ( سعد سعيد ) لا يدع للعشوائية والأعتباط مكاناً.. استوقفتني أرقام المقاطع والفصول والأجزاء.. حيث لا يمكن إدراجها من قبيل المصادفة أو حشرها جزافا.
فتوصلت إلى الفكرة الماكرة التي استخدمها ( سعد سعيد ) في تعاليم ( الحارث الزيادي ) في كتاب ( الرسالة الريادية في التماهي مع الروح الزيادية ) التي أعدها ( سعد سعيد ) بأسلوب ( ميكيافيللي ) بحت, وصاغها باختزال وتكثيف مقصود.
فكل الأرقام هي عبارة عن تواريخ سياسية صرفة, لها تأثيرها على التأريخ العراقي الحديث, وهذا ما أراد الروائي أن يذكّرنا به, كي لا نبرئ منهم أحدا.
في المقطع الواحد والعشرين من الفصل الثامن من الجزء الثالث والعشرين .. باب ألأموال, وما أدراك ما الأموال ) )
بخيلاً وكريماً, يجب أن تكون"
ولا تقلق, فتحقيق ذلك من أبسط الشؤون
إبخل بثروتك الشخصية
وصنها من الإسراف
ولكن جواداً ومعطاءً, كن
عندما يتعلق الأمر بثروات الآخرين
أو ما تبقى من أموال الديرة
بعد أن تغرف منها ما تشاء"
1923/8/21 تأريخ تتويج ألملك فيصل الأول على عرش العراق
في المقطع الثامن من الفصل التاسع من الجزء الثالث والثلاثين.. باب
( ألأموال, وما أدراك ما الأموال )
"كالغيوم الشحيحة كن
فلا تدع الأمطار تهطل, إلا قطرات
قطرة فقطرة, إجعل المنافع التي تنمحها لأهل ديرتك
فالناس يريدون أن يتلذذوا بمذاق ما تهبهم
والإفراط في الهبات
يحرمهم من لذيذ المذاق"
1933/9/8 تأريخ وفاة الملك فيصل الأول
في المقطع التاسع والعشرين من الفصل العشر من الجزء السادس والثلاثين .. باب في ديرتك, أنت الإله الوحيد ) )
إياك والحياد"
فلكي تكون بالغ الإحترام
أعط كل ما يستحق
فأما صديقاً مخلصاً تكون
أو عدواً لدوداً
إفعل ما تشاء , ولا تتردد
فقط اجعلهم يدركون مدى مناعتك"
1936/10/29 تأريخ انقلاب بكر صدقي
في المقطع الحادي عشر من الفصل الثامن من الجزء السابع والثلاثين .. باب
أهمية ثنائية الرحمة الظاهرة والنقمة المستترة ) )
"مثالاً للرحمة المجسدة والنبل والأنسانية, كن
فإذا بدوت للأغلبية جيداً
فأن الأقلية التي ستشعر بحقيقتك
ستتردد في معارضة رأيها
وبذلك ستأمن شر الكثير من المخاطر
أما غير ذلك
فعليك أن تحسب لكل إنسان حساباً
وتخشى من كل شيء"
1937/8/11 تأريخ مقتل بكر صدقي
في المقطع الرابع من الفصل الرابع من الجزء التاسع والثلاثين .. باب
( أنت, ومن بعدك الطوفان )
"إله أنت في ديرتك
وإليك جميع الأعين يجب أن ترنو
سلطتك, يجب أن تكون الأوسع
وإذا ما أراد رجالك فرض الطاعة على الناس
فلهم ذلك, ولكن لا لأنهم يستحقون
بل لأنهم رجالك الذين بك يجب أن يتباهوا
وباسمك يحكمون
فأنت المفدّى المطاع
ولا اعتبار لغيرك, ولا عواطف خاصة به"
1939/4/4 تأريخ مقتل ألملك غازي
في المقطع الثاني من الفصل الخامس من الجزء الحادي والأربعين .. باب
( الغطرسة كنز لا يفنى )
"فاعلم أنك يجب أن تتقبل النصيحة
ولكن, عندما تريد أنت ذلك
أما عندما يريد الغير أن يقدمها
فلا تشجعه على ذلك
بل عاجله بعقوبة تجعله لا يعود إلى ضلاله
فتردع الاخرين"
1941/5/2 تأريخ ثورة رشيد عالي الگيلاني في مايس
في المقطع الرابع عشر من الفصل السابع من الجزء الثامن والخمسين .. باب
( فضل الخوف )
أفرض الخوف على الناس"
وحاول أن تجعلهم يحبونك
صعب هو تحقيق مثل هذا الأمر
ولكن حاول
أما إذا عجزت
فاعلم, ان يخافوك لأفضل من أن يحبوك
إجعل خلصاءك والأقربين منك
يفرضون الخوف والرعب من حولك
وكل ما لا يحبه الناس أوكله لهم
وتنصل أنت من تبعة اعمالهم علناً
فمن يدري , لعل ذلك يضمن لك الحب
فدعهم يرعبون الناس
واغدق أنت عليهم بالعطف
وامنحهم المكرمات المحسومة"
تأريخ الثورة التي قام بها عبد الكريم قاسم على الملكية وإعلان الحكم الجمهوري.
1958 /7/14
في المقطع الثامن من الفصل الثاني من الجزء الثالث والستين.. باب
( كلام الليل يمحوه النهار )
"وزِّع ما شئت من الوعود
ولكن.. إعلم أنك ملزم بها إلى حين
فآية الذكاء ان تحافظ على وعد
يمكن أن يضر الأيفاء به مصالحك
خاصة إذا غابت الأسباب التي دعتك إلى إعطاءه"
تأريخ الأنقلاب الذي قام به عبد السلام محمد عارف على نظام عبد الكريم قاسم
1963/شباط /8
في المقطع السابع عشر من الفصل السابع من الجزء الثامن والستين.. باب
( ألرعب.. أساس الملك )
"فاعلم أنك تستطيع أن تعطف على الناس قليلاً
ولكن إياك والتردد
فإما عطف زائف
وإما قضاء عليهم
فمع الإساءة الصغيرة, يغضبون, وقد يتمادون
ولكن للإساءة الكبيرة ينحنون
فبالغ إذا ما ظلمت
كي لا تخشى ثوراتهم فيما بعد
تأريخ ثورة البعثيين بقيادة أحمد حسن البكر"
1968/تموز /17
في المقطع السادس عشر من الفصل السابع من الجزء التاسع والسبعين .. باب
( لا تشتري العبد إلا والعصا معه )
"هيِّن أن تُقنِع أهل ديرتك بأمر ما
ولكن على إبقائهم على ذلك, لن تستطيع
ولذلك, إن استطعت أن تُقنِع فاقنع
ولكن الفرض ولأجبار لا تنسَ
ومن لا يقنع بما تريد
إفرض عليه الأمر بالقوة
وعن قراراتك أبداً لا تحيد"
1979/تموز /16
تأريخ استلام صدام حسين للسلطة كرئيس للجمهورية, بعد أن تنازل عنها أحمد حسن البكر بظروف غامظة.
في المفطع الثاني والعشرين من الفصل التاسع من الجزء الثمانين.. باب
( إياك والجيران, فهم أصل البلاء )
"إذا كان جيرانك ضعفاء
فأقم نفسك زعيماُ عليهم
وإن لم تستطع, فكن لهم خيمة
أشعرهم بالأمان في ساعات الخطر
واشعرهم بالخوف في ساعات الأمان
عندها, ستنهال عليك الفوائد كالمطر
ولا تنس دوماً, أن تضعف الأقوياء منهم
لكي تأمن شرورهم"
1980/9/22
تأريخ الحرب العراقية الأيرانية
في المقطع الثاني من الفصل الثامن من الجزء التسعين.. باب
( ألحرب سر الخلود )
"لم ينجح نبي من دون سلاح
ولم يتمتع بزعامة أو فَلاح
ألأنبياء المسلحون فقط غنموا
ولطالما احتفلوا بانتصاراتهم"
1990/8/2
تأريخ غزو الكويت
في المقطع التاسع من الفصل الرابع من الجزء الثالث من الملحق
"لطاما كان نبذ فن الحرب
ألسبب في فقدان الديرات
ولذلك, لتكن عينك على جيشك
الذي قوياً يجب أن يكون
لك أن تمنح أهل ديرتك بعض الترف
والقليل من الرخاء
ولكن ديرتك يجب أن تكون ملأى بالجند والسلاح"
2003/4/9
تأريخ احتلال العراق
واختُتِمَتْ الرواية بالتأكيد على عظمة الموت أزاء حياة تعيسة حيث تنثال أفكار الراوي العليم بـ " كفانا حديثاً عن حياة لا تستحق أن تُعاش.. بئس الحياة هي التي يكون الموت حلاً لأشكالاتها"
وغادر الحياة بطريقة ساخرة من خلال ( دايلوك داخلي )
"ها أنا أنطلق, ياللروعة, إنطلق, إنطلق, هيا, أسرع... حوّل ناقل السرعة, عشِّق
وييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييي
واخيراً أود أن أضع بصمة أعجاب على هذا العمل المتميز.