نبوءة شاعر وطاقة البوزيترون Positron
في مقال بعنوان 'دولة الشعب الافتراضي' لنزار شقرون: نبوءة شاعر المنشور في جريدة القدس العربي بتاريخ 25 /1/2011 نجد أن الكاتب د. ثائر العذاري يعبر عن دهشته مما احتوته قصيدة الشاعر التونسي د. نزار شقرون والتي هي بدورها نشرت في ' القدس العربي' في عددها 6616 في 16 أيلول (سبتمبر) 2010 بعنوان ( دولة الشعب الافتراضي).
وسبب دهشة الكاتب د. العذاري كما يقول هو أن إعادة قراءة للقصيدة المذكورة تثبت مرة أخرى أن للشاعر رؤية تنبؤية وبصيرة تتجاوز حدود الزمان والمكان لترى ما لا نراه.
ثم يقوم د. العذاري على تحليل القصيدة للتدليل على ما يطرحه هنا وتحديدا للتدليل على أن النص احتوى على نبوءة. وهو أيضا يستخدم هذا التحليل للتدليل على أن للشعراء قدرة على تسخير اللغة بطريقة "تتحول فيها الكلمات إلى محض علامات تحيل على شفرة مستقبلية لم نستطع فكها إلا في الرابع عشر من كانون الثاني يناير يوم انطلاق ذلك الشعب الافتراضي من أثير النت إلى مادية العالم ليتدفقوا في شوارع تونس وأزقتها معلنين إمكانية تجسد الافتراضي في الواقعي". بمعنى آخر أن نص القصيدة ( دولة الشعب الافتراضي ) كان قد اشتمل على نبوءة الشاعر بما سيحدث في تونس بعد ذلك التاريخ بثلاث أشهر تقريبا.
وللتدليل على استنتاجه من خلال النص المذكور يقول د. العذاري ان تلك النبوءة تظهر ابتدأ من عتبه النص الذي صيغ "ببنائية تحدد أفق التوقع في ذهن القارئ في سياق الدلالة السياسية الاجتماعية، فاستعمال كلمة ( دولة) لم يكن لها ما يسوغها غير إضفاء الصبغة السياسية على النص، وبإضافتها إلى كلمة ( الشعب) صارت الدلالة أشبه بعلامة تحيل على الثورة، (دولة الشعب) في مقابل ( دولة السلطة). وهكذا يدخل القارئ النص بفضول التعرف على بنية تلك الدولة الافتراضية الثورية" كما يقول د. العذاري.
ويرى د. العذاري أن نص القصيدة جاء مؤلفا من مقاطع تحمل أرقاما عددها اثنا عشر مقطعا بما يحمل هذا الرقم من دلالات زمنية تجعله واحدة من علامات ارتباط الافتراضي بالواقعي. وبكلمات قليلة يرسم الشاعر حدود تلك الدولة في المقطع الأول، ليدخل القارئ على الفور في عوالمها:
الفايسبُوكيّونْ
شعبٌ افتِراضيٌّ
خُلِقَ مِنْ نَقْرِ الكَلِمَاتْ
يَشْهَدُ أنّ العاَلَمَ أَكْبَرْ
والجُغْرَافيَا مُختَزَلةٌ في شاشَهْ
وَفِي كلِّ نقْرَةٍ
تُولَدُ أسْماءْ
تطِفُّ علَى بابِكَ
تسْألُكَ أنْ تَعْبُرَ بحْرَ الرّغَبَاتْ.
ويوضح د. العذاري أن كلمة ( الفايسبوكيون) كلمة مبتكرة لتكون علامة إرشادية في أول النص، مثل تلك اللافتات التي تواجهنا في مداخل المدن والمعابر الحدودية. غير أن دولة شقرون تأخذ اسمها من شعبها فوضعت اسم الشعب على اللافتة التعريفية. وفي هذا المقطع ثمة علامتان لا ينبغي إغفالهما:
- الأولى أن الحديث هنا عن شعب يتحرك كوحدة واحدة، فالحديث عن الجمع وليس عن المفرد.
- الثانية فهي التكاثر السريع لهذا الشعب فـ ( في كل نقرة تولد أسماء).
ويضيف د. العذاري أن الشاعر شقرون يرسم في المقطع الثاني نبوءته:
الفايسْبُوكيّونَ
مِلْحُ الأرْضِ هاَجَرَ معَ البَجَعَاتْ
يَحْمِلُونَ السِّبَاخَ
في حَناجِرهمْ
وَفِي عيُونهِمْ حلاَوةُ الوَميضْ
يَتَنَاسَلونَ خَارِجَ غُرَفِ النّوْم
أولئك الذينَ تمنَّوا عنَاقَ الشّوَارعْ
أولئك الذينَ في السّاحَاتِ العامّة ْ
تمنّوا حربَ القُبُلاتْ.
وكأن شقرون يصف في هذا المقطع أناس يحملون آلامهم متجسدة في سباخ الواقعي إلى حلاوة الافتراضي، غير أن ما يثير الانتباه هنا استعمال كلمة وميض، ربما لم نكن لنتنبه إليها في وقت نشر النص، لكنها بما تحمل من دلالة على الفجاءة والسرعة الخاطفة، يمكن أن تفهم الآن على أنها النبوءة بالثورة المنطلقة من الافتراضي إلى الواقعي. ومرة أخرى يأتي التذكير بالتكاثر (يتناسلون)، لكنه هذه المرة يأتي مصحوبا بإشارة صريحة إلى الثورة في ( عناق الشوارع)، الساحات العامة، حرب القبلات يعلق د. العذاري.
ويضيف، ثم تأتي العلامة الأسطورية في المقطع الثالث لتعلن موت من يستسلم إلى الواقعي ولا يعلن انتماءه إلى الافتراضي، لأن الهدف في النهاية هو:
يسِيرُ بِأناملِهِ عَلَى جَمْرٍ
لِيسْرِقَ نَارَ السّماواتْ.
حبّ مثل حب ( برومثيوس) للإنسان، سرقة النار (رمز القوة) من السماء ( رمز السلطة) ومنحها لهذا الشعب.
وفي مقطع آخر يقول د. العذاري ، يرسم شقرون صورة واضحة لما كان يجري في السر من إعداد للثورة:
الفايسْبُوكيُّونَ
عُمّالُ مَنَاجِمِ الشّهَواتْ
يُنقّبُونَ عنْ معْدَنٍ يلْتَمِعُ فِي السّرْ
لَيْلُهمْ إبْحارٌ في ممْنُوعِ الصّباحاتْ
يَكْرَهُونَ الصّبَاحَ القَديمْ
يُحرّضُونَ النُّجُومَ علَى الشّمْس
وَلَيْسَ لَهُمْ تَوْقيتٌ للنّوْم
عُمّالٌ عُراةٌ
إلاّ منْ شَوْقِ الميّتِ إلَى الحَيَاة.
ويعلق د. العذارى خاتمة المقطع فيه إزاحة تدلل مرة أخرى على الثورة، (شوق الميت إلى الحياة)، ففي الليل وحده تعمل الطقوس السرية في الفضاء الافتراضي للإعداد للعودة للحياة عندما يشرق صباح جديد غير الصباح القديم الذي كرهه الفايسبوكيون.
ويضيف د. العذاري أن النص في مقطعه الخامس يبدأ برمز (معاول) ثم عبارة صريحة تزيل ما تبقى من الشك في فهم العلامة في (هذا الشعب خصلة الثورة). ويتحول فضاء قواعد اللغة إلى علامة تحيل على الطغيان والتسلط فيقوم (الفايسبوكيون) بتخريب قبر (ابن جني) الذي قضى حياته في تقعيد أصول فهم المفردات وتصريفها.
وفي المقطع الثامن يبلغ التوتر أقصاه بنبوءة صريحة بالثورة يقول العذاري:
الفايسبوكيّونَ
مُتّهَمُونَ بِعُقوقِ الأمّْ
موْعُودُونَ بالجحيم تحْتَ الأقْدَامْ
وهُمْ ثابتونَ علَى كراسِيهمْ لاَ يأبَهونْ
مَاذَا لَوْ تَحرّكَ هذا الشّغَبُ العفْويُّ
ماذَا لَوْ نبَتتْ في الأرْصِفَةِ عُروقُ الجُنُونْ
أَلاَ يَحْتاجُ الوجْهُ إلى مِرْآةٍ
لِقلْبِ العيْنِ إلى الدّاخِلْ
أمْ يحْتاجُ القِنَاعُ إلى دُهونْ؟
ويرى د. العذاري هنا بأن شقرون قد تنبأ فعلا بالثورة ...فهذا الشعب الافتراضي يمكن أن يعبر من الافتراضي إلى الواقعي غير آبهٍ بالقمع، عندها ستحتاج السلطة الواقعية الى إعادة النظر في سياستها وإضفاء دهون جديدة على قناعها البالي، لكن هذا لن يخدع الشعب الافتراضي.
وفي المقطع يستخدم الشاعر كلمات ( الحرية، الرقيب، الدم الفاسد، يستبسلون، تحرير، إخراج الرهائن ) والتي أصبحت مفردات ثورة الشعب التونسي :
الفايسبُوكيّونْ
يُسرُّونَ إلَى حبيباتِهِمْ بِخطّةِ الحُرّيّة ْ
يَتجَاهَلُونَ الرّقيبَ الذِي
دَمُهُ مِنْ دَمِهِمْ
وَكُرَيّاتُهُ مَحْقُونَةٌ بالدّمِ الفاسِدْ
يَسْتبْسِلُونَ فِي تَحْرير مُتْعَةِ التَّطاوُلْ
عَلَى حَميده وحَميدْ وحامِدُونْ
وَيُشْهِرُونَ مَشاهِدَ إخْراجِ الرَّهائِنْ
مِنْ صَمْتِ الغريزة ْ.
حيث يرى د. العذاري أن هذه الكلمات لا يمكن أن تأتي إلا في مقال سياسي أو تاريخي يتحدث عن ثورة كبرى، وهذه الكلمات نفسها صارت أكثر الكلمات شيوعاً في الخطاب الشعبي التونسي بعد الرابع عشر من كانون الثاني يناير.
إلى هنا ينتهي كلام د. العذاري في التدليل على صدقيه كلامه بأن شقرون قد تنبأ بالثورة التونسية بدقة إعجازية تكاد تكون غير معقولة والأسئلة التي لا بد من طرحها هنا هي:
- هل صحيح ان للشاعر رؤية تنبؤية وبصيرة تتجاوز حدود الزمان والمكان لترى ما لا نراه؟
- هل يمتلك الشعراء قدرة على تسخير اللغة بطريقة "تتحول فيها الكلمات إلى محض علامات تحيل على شفرة مستقبلية؟
- هل يقول الشعراء نصوص لا نستطع فكها إلا في زمن لاحق؟
- هل لدى الشعراء قدرة على رؤية المستقبل بمثل هذه الدقة أم أن لديهم قدرة ذهنية فذة تجعلهم اقدر على قراءة الأحداث؟
- هل لدى الشعراء قدرة على التنبؤ كما يقول د. العذاري والذي يشير أن هذه ليست المرة الأولى التي تشتمل نصوص الشعراء على نبوءات؟
والسؤال الأهم من كل ذلك :
- من أين تأتي هذه القدرة ؟ وما سرها؟ وهل هي نتاج الطاقة البوزيترونه؟
يتبع ،،