قديم 03-17-2024, 12:59 AM
المشاركة 11
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • موجود
افتراضي رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)

*حركة التغريب تبدأ نشاطها.

هناك ملحوظة هامة دوما ما نلفت نظر القارئ الكريم لها خلال صفحات هذا الكتاب.
حيث أن هدف الكتاب في المجمل، التركيز على نقطة الضعف الكبرى التي كسب بها الغرب سائر معاركه معنا حتى اليوم.
فسيلاحظ القارئ خلال صفحات الكتاب أننا نتحدث عن بداية التخطيط الغربي لاختراق الشرق بأكمله من خلال الحركة الصهيونية.
وأن هذا التخطيط بدأ باستراتيجية عميقة الجذور وبالغة القدم، بدأت منذ بدايات القرن التاسع عشر.
ورغم هذا...
سيلاحظ القارئ أن معظم عناصر الخطة الغربية الموضوعة في ذلك الزمن البعيد، لا زالت تتكرر بنفس السيناريو تقريبا
بمعنى أن الغرب وضع استراتيجية للتعامل مع العرب منذ أكثر من مائتي عام، ورغم هذا لا زالت الخطة صالحة للاستخدام وبنفس الثوابت وبنفس الطريقة دون أدنى تغيير.
وهذا هو العار الحقيقي الذي لحق بنا جميعا.
فنجاح أي خطة خداع مرتين لعدو واحد تدل على الغباء، فما بالك بأن الخصم يستخدم نفس أدبيات المراوغة لأكثر من مائتي عام ولا زالت تؤدي نفس النتائج!
وأسباب هذا الأمر المخجل يعود إلى أن البريطانيين استخدموا عنصرين فقط، لا ثالث لهما للنجاح، وهو نشر التجهيل المتعمد بأدبيات وتاريخ الشعب
والسبب الثاني أنه انتقى العناصر الصالحة للتجنيد والذين عملوا كوكلاء فكريين للغرب – على حد تعبير د. عبد الله النفيسي – وهؤلاء هم الذين قادوا حركة التغريب والعلمنة في مصر والشرق منذ بدايات القرن العشرين ولا زالت أعشاشهم تفرخ جيلا بعد جيل حتى اليوم.
المصيبة أنهم يعملون بنفس الأسلوب، ونفس القضايا ونفس الطريقة ورغم هذا يصادفهم بعض النجاح.
أي نعم أن نجاحهم ليس جماهيريا، بل محدود بطبقة معينة، إلا أن وجودهم في حد ذاته والسماح بظهورهم هو نجاح لهم في الأساس.
فهل تتخيل عزيزي القارئ أن نفس الكلام الذي يُقَال عن المقاومة الفلسطينية واتهامها بالإرهاب اليوم، هو نفس الكلام الذي قيل من قبل عن (عرابي) وأنصاره عندما تصدوا للاحتلال الإنجليزي، ونفس الكلام الذي قيل على من قاوم الحملة الفرنسية!
وهو نفس الكلام الذي قيل عن المقاومة الفلسطينية الشعبية التي قادها رموز المقاومة الأوائل في الثلاثينيات من القرن الماضي.
وهل تتخيل عزيزي القارئ أن الكلام عن تخلف العرب وحضارتهم وعن ضرورة هجر القرآن والسنة والتحول العلماني إلى مبادئ الانفلات الغربي باعتباره مشعل التنوير للأمة.
هذا الكلام الذي نسمعه في الإعلام بتكرار ممجوج، هو نفس الكلام الذي قالته حركته التغريب منذ عشرينيات القرن الماضي.


وإذا سألت نفسك عزيزي القارئ عن سبب توالد هذه الفئة عبر هذا الزمن ووجود فئة ضائعة العقل تستمع لهم، وعن سبب نجاح الغرب المتكرر في سياسته ضدنا.
فالسبب الحقيقي أنهم راهنوا على تشتيت الوعي القومي بين الناس، وتقزيم كل معاني العلم والثقافة والاطلاع والبحث عن الدليل
فصارت الثقافة الضرورية نخبوية، ينادي بها علماء ومفكرون أخلصوا لقضيتهم ولأوطانهم لكنهم عاشوا تحت قيد الإهمال المتعمد، والحرب الصامتة على إنتاجهم الفكري، بالذات بعد أن انتهى عصر القراءة والاطلاع، وأصبحت أجيال اليوم تعيش ثقافة الزمن الأمريكي الذي أصبح كل شيء فيه يخضع لثقافة (التيك أواي)
فصارت المراجع البحثية مهجورة بعد أن ماتت القدرة على قراءتها، لا سيما وأن الأحوال الاقتصادية المتردية جعلت العقول تلهث بشكل دائم بحثا عن لقمة العيش حتى صارت القراءة والبحث عن الحقيقة من الرفاهية التي تجلب السخرية إذا نادى بها عالم أو مفكر، وكل هذا كان متعمدا وليس من قبيل الصدفة

أما كيف نفذها البريطانيون في مصر أولا.
فالمفاجأة أن خطة التغريب التي نجح فيها البريطانيون، كانت أيضا إنتاجا فرنسيا لم يكتمل وينتظر الحاضنة المناسبة لينمو ويعلو.
فأعاد البريطانيون رعايته بشكل تنظيمي وسياسة مستمرة عند دخولهم إلى مصر.
أي أن بريطانيا لم تنجح فقط في تنفيذ مشروع الصهيونية الفرنسي الأصل وحده، بل نفذت مشروع التغريب الذي بدأ من فرنسا في الأصل.
لكن الفارق الوحيد بين النموذجين أن خطة نابليون الفرنسية لتوطين اليهود كانت مُخَططا مسبقا له أهدافه التي فشل فيها فطبقته بريطانيا.
أما التغريب فقد بدأ من فرنسا لكنه بغير تخطيط مسبق منها بل بسبب المبادرة المصرية نفسها التي بدأت عصر التحديث والتطوير التكنولوجي والتعليمي في زمن (محمد علي).
فقد بدأ محمد علي مشروعه بإرسال البعثات المصرية لأوربا – لا سيما فرنسا وإيطاليا-بغرض جَلْب وتوطين الصناعة والتكنولوجيا في مصر بعد أن اهتم محمد علي بالتعليم وأسس في مصر المدارس الحديثة في سائر المجالات.
والغريب أن (محمد علي) كان قد احتاط من كارثة التغريب الاجتماعي والديني التي قد تلحق بالبعثات، لأن أي سياسي عاقل وصاحب مشروع قومي مثل (محمد علي) كان يدرك تماما أن البعثات العلمية إذا انحرفت عن أهدافها في نقل التكنولوجيا وتوجهت لدراسة الاجتماع والأديان وطبائع الأوربيين فهذا معناه انسلاخ هؤلاء الشباب عن ثوابتهم الحضارية وطباعهم الموروثة وأعرافهم الاجتماعية، بالذات في ظل الفلسفة الجديدة في أوربا التي أفرزت خلافات هائلة بين مختلف الشعوب، وانفجرت الفوضى العارمة في استخدام شعار الحرية بشكل متطرف.

وقد كانت هذه الفوضى ظاهرة طبيعية لأن الثورة الفرنسية جاءت بالحرية للشعب بعد كَبْتٍ طويل واستبداد أطول، فكان لزاما أن تأتي الحرية المفاجئة بالتطرف التقليدي الذي يُصَاحب الانفجار بعد كبت طويل
فضلا على الاختلاف الحضاري الفادح بيننا وبين أوربا.
فالجمود الديني والتسلط الكنسي في أوربا كان سبب تخلفها، لأن الكنيسة طَوّعت الدين لأهداف فئة الحكم وقصور النبلاء.
ولذلك بدأت أوربا عصر النهضة الصناعية في سائر العلوم عقب أن تخلصت من ميراث التخلف الذي ورثته لقرون طويلة وكان يُحَرّم حتى العلوم الدنيوية التي لا غنى عنها كالكيمياء والفيزياء والفلك وغيرها.
ولا أحد ينسى أن الكنيسة حاربت كل اكتشاف علمي يخالف معتقداتها المحرفة، مثل اعتبار أن الأرض هي مركز الكون وأن الكون نفسه عمره لا يزيد عن خمسة آلاف عام، وأن الشمس تدور حول الأرض وأن الأرض ثابتة لا تدور .... الخ تلك المعارك التي نشبت بين العلماء والكنيسة الغربية.

بل إن المجتمعات الأوربية في عصور الظلام عانت من تسلط الكنيسة على أمور الفطرة، مثل النظافة والاغتسال، واعترف مؤرخو الغرب بأن أوربا لم تعرف الاغتسال والحرص على النظافة الشخصية، وأنظمة الحجر الصحي ومكافحة العدوى للأمراض المعدية إلا من المسلمين.
فيحكي (مارك جراهام) في كتابه (كيف صنع الإسلام العصر الحديث) عن عبقري الطب العلامة (الرازي) الذي عالج أمراضا مستعصية كالإدمان وبعض الأمراض المعدية التي كانت وقتها تفتك بالأوربيين، وكيف أن المسلمين نجوا من هذه الأمراض بفضل حرصهم على النظافة والاغتسال واتخاذ التدابير الوقائية الصحيحة لمكافحة الأمراض ومنع انتشارها، تبعا لما تأمر به شريعتهم من الحض على النظافة.
ويضيف (مارك جراهام) قائلا بالحرف:
(بينما كان الاغتسال في أوربا محرما كنسيا، ولم يصبح معروفا حتى عصر النهضة الأوربية عندما اخترقت القيم الإسلامية المجتمعات بقوة)
وبالتالي فإن الثورة العلمانية في أوربا كانت لها أسبابها المنطقية والطبيعية.
بينما الحضارة الإسلامية هي الوجه المعاكس لكل ذلك.
فقد جاء الدين الإسلامي للعرب، وهم مجرد قبائل متناحرة يتسلط فيها القوي على الضعيف، وليس لهم عطاء حضاري في عالمهم، ويغمرهم تخلف الشرك والفُرْقة.
فجاء الدين والوحي الشريف وخلال أقل من ثلاثين عاما أصبحت الجزيرة العربية دولة كبرى ولم يمض عقد من الزمن عليها حتى صارت القوة الأعظم في عالمها واستمر تفوقها كما هو معلوم لعدة قرون.
ومع التفوق العسكري والسياسي انطلق التفوق العلمي كاسحا حتى بلغ في عهد العباسيين والأندلسيين شأوا عظيما وصارت جامعة بغداد وجامعة قرطبة أكبر منارات العلم التجريبي في العالم لعدة قرون" ".
وكانت المعادلة العظمى لهذا التفوق هي الحفاظ على التماسك المجتمعي للشعب، والحفاظ على ثوابت القرآن والسنة، ولم يبدأ الانهيار إلا بعد دخول دعاوى التطوير والتحديث في الخطاب الديني والتاريخي وإدخال الفلسفيات العقائدية واستبدال قوانين الشريعة بالقوانين الوضعية، وقضايا الجدل الفارغ التي كانت سببا في انهيار العثمانيين ومن قَبْلِهم الأندلسيين لأسباب م

الخلاصة.
أن التحكم الديني والموروث الفكري لأوربا كان سببا رئيسيا في تخلفها بعصور الظلام، بينما الموروث الديني والحضاري للعرب كان السبب في خلق حضارتهم أصلا وتطورها.
فجاءت دعاوى التحديث من حركة التغريب لتقيس هذا على ذاك وتزعم أن سبب تخلفنا هو ميراث القرآن والسنة والعلوم والآداب الإسلامية!
وهي محتويات حقيبة التجديد التي أتى بها حامل القبعة لحامل العمامة، بدليل أن تجديدهم هذا مستمر من قرن ونصف ولم يفرز لنا إلا مزيدا من التبعية للغرب ومزيدا من الانسحاق الحضاري والعلمي، ولم نر علمانيا واحدا أو تغريبيا واحدا أفاد أمته بمثقال ذرة ولا حتى بمجرد الاصطفاف الواحد مع باقي الشعب في القضايا الوطنية.
بل خرجوا جميعا للدفاع عن السياسة والثقافة الغربية في المجمل وبمنتهى التبجح خرج منهم من ينادي بضرورة إعادة احتلال الغرب لمصر، وخرج منهم من دعا للاحتفال بدخول الحملة الفرنسية لأنها حملة تنوير، وخرج منهم من دعا لتكريم الخونة الذين اصطفوا مع نابليون ورفعوا السلاح في وجه المصريين، وخرج منهم مؤخرا من اتهم المقاومة الفلسطينية في عملية (طوفان الأقصى) بأنها مارست الإرهاب ضد إسرائيل، وأن إسرائيل دولة صديقة تحارب المقاومة نيابة عن الدول العربية لذلك يتوجب مساعدتها!
وهذا ما أدركه (محمد علي) وهو يرسل بعثات التطوير العلمي، واتخذ احتياطه منه لأن الأخطر من الانتماء الاجتماعي لأوربا هو الانتماء السياسي الذي سيجعل من أهل التغريب عملاء وظيفيون للغرب ووكلاء عنه.

ونظرا لأن محمد علي كان يُعِد مشروعا قوميا بالأساس، فكان من الطبيعي أن يتخوف من ذلك لهذا أرسل مع كل بعثة طلابية شيخا أزهريا يقوم على متابعة الطلاب ويحرص على بقاء عاداتهم وثوابتهم بعيدة عن التأثر بالانحلال والطبيعة الغربية
ولم يكن ما فعله محمد علي غريبا، بل هو شأن أي أمة تحترم نفسها، إذ أن العلوم نوعان.
النوع المادي أو التكنولوجيا العلمية وهذه ميراث إنساني متبادل ومشترك بين مختلف الحضارات، نظرا لأن العلوم العملية عبارة عن بناء رأسي يتكامل بعضه فوق بعض، ومن الطبيعي أن تساهم كل حضارة بنوع من الاكتشافات والتطور.
والنوع الثاني من العلوم هي العلوم الاجتماعية، وأخطرها الثوابت الحضارية لكل أمة مستقلة ذات تاريخ وشأن.
وهذه عبارة عن بناء أفقي غير قابل للتطوير المادي أو العولمة، لأنه خصيصة من خصائص كل مجتمع، فمن الهزل أن نتصور قيام العالم أجمع على طبيعة اجتماعية واحدة، مع اختلاف الأديان والعقائد والتقاليد.
ولذلك عندما كانت (اليابان) -العريقة حضاريا-تعاني في نهايات القرن التاسع عشر من التخلف التكنولوجي والصناعة الفقيرة قامت أيضا بإرسال البعثات التعليمية إلى أوربا، وأيضا حرصت على حفظ انتماءات طلابها من الأفكار الاجتماعية الغربية، فكانت النتيجة أن عاد هؤلاء الطلاب بعد تخرجهم إلى اليابان وأشرفوا على نهضتها الصناعية الكاسحة التي بدأت بصناعة محركات السيارات والتي تطورت لصناعة السيارات نفسها، فضلا على الصناعات البحرية.
ولم تدخل اليابان في معترك التقلبات الفلسفية التي كانت تغمر أوربا في هذه الفترة، وكان من نتيجة حفاظ اليابان على ثوابتها وتاريخها وأخلاقها وانتماء شعبها لأرضه وأعرافه، أن تمكنت في سنوات قليلة من منافسة أوربا في الصناعة.
بل إن هذا الانتماء الجذري العميق هو الذي وقف خلف تلك الروح القتالية العالية التي امتصت صدمة الضربة النووية في الحرب العالمية الثانية، فأعاد الشعب الياباني بناء بلاده ومصانعه وامتلك ناصية التكنولوجيا والتفوق الاقتصادي حتى ناطح التقدم الأمريكي نفسه.

وكانت البعثات في عهد محمد علي تقوم بنفس الأمر، إذ لم يرسل محمد علي البعثات إلا في التخصصات العلمية المعملية، وكان يتابع أحوال البعثات متابعة دقيقة وينهاهم بشدة عن الانشغال بأي شيء إلا تحصيل العلوم المطلوبة منهم مع التدريب العملي
لكن البعثات بعد عصر (محمد علي) انحرفت عن أهدافها وتوجهت للعلمانية والتغريب لا سيما عندما بدأ عهد إسماعيل الذي كان حريصا على التغريب في كافة مناحي الحياة.
وفي نفس الوقت الذي كانت فيه اليابان تنقل التكنولوجيا وتقوم بتوطين الصناعة، كانت مصر على موعد مع أول موجات التغريب التي بدأت من الشيخ الأزهري (رفاعة رافع الطهطاوي) والذي كان –للمفارقة العجيبة-ضمن مشايخ البعثات المكلفين بحفظ عقيدة الطلاب!
فإذا به ينبهر انبهارا رهيبا بالتفلت الأخلاقي الأوربي ويصدر كتابه (الإبريز في تلخيص باريز) مُبْديا إعجابه بالحفلات الأوربية، والاختلاط، وسمات العيش المنفتح بين الرجال والنساء!
ولا أحد ينكر تفوق وعقلية (رفاعة الطهطاوي) ودوره الكبير في تأسيس حركة الترجمة والمؤلفات التي قدمها، وإشرافه على العديد من المدارس التي تم فتحها للتعليم في عصر محمد علي وأولاده.
لكن الكارثة الكبرى أن عقليته المتفوقة هذي حرثت الأرض لموجة تغريب طافحة بعد ذلك، إذ أن مؤلفاته وقناعاته في المجال التربوي والاجتماعي انسلخت تماما حتى عن العرف والأخلاق العامة السائدة في ذلك العصر.
وقد تم انتقاد ومعالجة فكر الطهطاوي من العديد من المفكرين من معاصري زمنه وممن جاء بعدهم، ومنهم الدكتور (محمد حسين) والعلامة (أنور الجندي)، وغيرهم
فيقول الدكتور محمد حسين تعليقا على أقوال الطهطاوي وإعجابه بشعارات الحرية والمساواة التي رفعتها الثورة الفرنسية:
(إن الطهطاوي لم يستطع أن يدرك الأغوار البعيدة والجوانب المتعددة لكلمة الحرية، ولم يستطع أن يدرك أنَّ نَقْل هذه الآراء إلى المجتمع الإسلامي يمكن أن ينتهي إلى النتيجة نفسها: نَبْذِ الدِّين، وتَسْفِيه رجاله، والخروج على حدوده. لم يدرك ذلك ولم يلاحظ إلا الجانب البرَّاق الذي يأخذ نظر المحروم من الحرية، حين تُمَارس في مختلف صورها وألوانها، وفي أوسع حدودها، فكان كالجائع المحروم الذي بَهَرَتْه مائدةٌ حافِلةٌ بألوان الأطعمة، فيها ما يلائمه وما لا يلائمه، ولكنه لم ينظر إليها بعين حِرْمانِه، ولم يرَها إلا صورةً من النعيم الذي يتُوقُ إليه ويَشْتهِيه
ومما يُصَوِّر لنا التَّغَيُّر الفكري لَدَيْه، ما حدث له تحت تأثير إقامته في باريس، ومشاهدته لحال المرأة فيها، حيث أظهر إعجابه بما هي عليه، ونَفَى أنْ يكون الاختلاط والتبُّرج هناك داعياً إلى الفساد، أو دليلاً على التساهُل في العِرْض، وامْتَدح مُراقَصَة الرجال للنساء، ووَصَفَه بأنه فنٌّ مِن الفُنون ولا يُشَمُّ منه رائحةُ العُهْر أَبَداً، وكل إنسانٍ يعْزِم امرأةً يَرْقُصُ معها، فإذا فَرَغ الرَّقْص عَزَمَها آخَرُ للرَّقصةِ الثانية وهكذا
كما يُظْهِر إعجابه بالقوانين العقلية، والشرائع الوضعية في المجتمع الفرنسي
)

وهكذا نرى أن الطهطاوي القادم من قلب صعيد مصر في تلك الفترة من القرن التاسع عشر، أصابته صدمة نفسية عنيفة وهو يشاهد طبيعة علاقة النساء بالرجال في المجتمع الفرنسي ومدى التحلل والانحلال في تلك المجتمعات، فرآها شيئا ممدوحا عندما تذكر طبيعة المجتمع المحافظ الذي تربى فيه!
والشيء اللافت النظر أن الطهطاوي –وهو الشيخ الأزهري-لم ير في الملابس المكشوفة للنساء، ولا في مراقصة الرجال والنساء لبعضهم بعضا شيئا معيبا أو عهرا!
وإن كان لا يعتبر هذا من العهر.
فكيف لم ير العهر الصريح والمكشوف في المجتمع الفرنسي وهو أمر من أعرافهم هناك لدرجة أن (جوزفين) زوجة (نابليون) نفسه كانت تواعد عشاقها في فترات غياب نابليون في الحروب!
وليست هذه نقطة الحيرة والدهشة وحدها.
بل الحيرة الحقيقية تكمن في أننا لا ندري ما هو الرابط الوثيق بين العلمانيين وبين دعواتهم المستمرة منذ بداية التغريب للانحلال الأخلاقي!
ما هو الدافع الغريب الذي يجمعهم جميعا لكي يدعوهم إلى الدفاع عن الزنا والشذوذ والمجاهرة بكل أنواع الفواحش ويعتقدون أنها من ثوابت التحضر!
ما الذي يدفعهم إلى الدعوة المستمرة بإلحاح للملابس الفاضحة وهجر الثياب المحتشمة ومهاجمتها والدفاع عن كل رذيلة مهما كان تصادمها مع الأعراف قبل الشرائع!

وهكذا نرى أن كتابات الطهطاوي المثيرة، كانت الضربة الأولى التي كان السكوت عنها سببا في نشر هذا الكلام من موظف كبير في الدولة، وبشكل علني، لتجد من يتلقفها ويروجها دون أن يخشى إنكار المجتمع تحت حماية السلطة كالعادة
وهذه لا زالت هي اللعبة المفضلة للعلمانيين وهي حرصهم الدائم على الاستعانة بكل قوة تبيح لهم إعلان أفكارهم ونشرها باستمرار حتى يمكن أن يقبلها المجتمع بالتدريج ويقبل وجودها بحكم الاعتياد!
الشيء المؤسف أن الغرب نفسه رغم ندائه بالحرية الكاملة وحقوق الإنسان، لا يُطَبّق هذه الحرية بمقدار خردلة إذا تعلق الأمر بثوابتهم الاجتماعية والدينية والسياسية.
فهنا يتناسون تماما حديث الحرية ويبرز سيف القانون مرفوعا على كل من يتفوه بحرف ضد ثابت من هذه الثوابت.
وقد تعرض المفكر الفرنسي الكبير (روجيه جارودي) للسجن والاعتقال والمنع لمجرد أنه أنكر أسطورة (الهولوكوست) وهاجم اليهود واتهمهم بابتزاز أوربا.
ووصل المنع والقهر أيضا حتى إلى مجال البحث العلمي المجرد، فمن المعلوم أن جامعات الغرب ترفض أي رسالة علمية تُبْطل نظرية (التطور) أو تثبت وجود صانع لهذا الكون
بل إن الغرب -أثناء أحداث طوفان الأقصى -الذي تفاعلت معه جماهير الغرب نفسه بالملايين، لم تستسلم حكومات أوربا وأمريكا لمظاهراتهم، وخرج المسئولون هناك يهددون بالسجن والمحاكمة لكل من يكتب مجرد تعليق عن وحشية المذابح الإسرائيلية في حرب غزة!
وتم تهديد رموز الغرب في الفن والاقتصاد والفكر عندما برز بعضهم ليهاجم الوحشية الإسرائيلية والدعم الأمريكي للدرجة التي منعت فيه الشركات الكبرى إعلاناتها على منصة (تويتر) المملوكة لأغنى رجل في العالم (إيلون ماسك) لمجرد أن سمح بالحرية الكاملة على موقعه لمن أراد دعم فلسطين.
ورغم مكانة (إيلون ماسك) الاقتصادية الهائلة عالميا إلا أنه خضع لابتزاز أقوى منه عالميا لزيارة إسرائيل في الأحداث ولقاء السفاح (بنيامين نتنياهو).
والنجم الأمريكي المعروف (أرنولد شوارزنيجر) أيقونة رياضة كمال الأجسام والفنان ذو التاريخ العريق في السينما الأمريكية، والسياسي الذي كان حاكما لولاية (فلوريدا)، تعرض لنفس الضغوط عندما سجل كلمة له لدعم فلسطين ومهاجمة إسرائيل على وحشيتها، ورغم أن الكلمة لم تتجاوز الدقائق إلا أنه بعدها بأيام تم إجباره على زيارة عائلة يهودية في أمريكا والاحتفال معهم بأحد أعيادهم التوراتية ثم تسجيل كلمة مطولة يعلن فيها دعمه الكامل لإسرائيل وحقها في الوجود!

وبعد كل هذه الديكتاتورية الإجرامية نجد من يخرج علينا من العلمانيين فيواصل الدفاع الهزلي عن الغرب ويواصل مهاجمة الشعب الفلسطيني الذي تم دك أرضه بحجم قنابل تجاوز مجموع قوتها الانفجارية قنبلة (هيروشيما)
وهذه النباتات السامة التي تنتشر في الإعلام والسياسة العربية، نتيجة طبيعية لأول بذرة وضعها الطهطاوي بدعوته إلى التقليد الأوربي في الشكل لا المضمون.
لا سيما وأن حركة الترجمة التي أشرف عليها ركزت على كتب الفلسفة الغربية بكل ما فيها من تناقضات هائلة، وعقائد منحرفة دينيا واجتماعيا، وقد تم تمجيد أسماء الفلاسفة الجدد في العالم العربي حتى صار بعض المثقفين يخشى انتقادهم لكيلا يتم اتهامه بالتخلف!" "
بينما معظم المدافعين عن تلك الفلسفة لم يطالعوا شيئا منها أصلا أما من طالعوا فلم يشرحوا أفكارها للناس بشكل واضح خشية استهجان الناس لتلك الأفكار العقيمة.

وبالطبع لم تكن بذرة الطهطاوي وحدها تكفي لو لم تجد الحاضنة المناسبة والدعم السخي والتخطيط طويل المدى.
وكالعادة كان الفضل في ذلك كله للاحتلال البريطاني
فعندما دخل الاحتلال الإنجليزي، وجد الأرض الخصبة التي يمكن أن يستثمرها لإنتاج أجيال تنتمي للثقافة البريطانية والأوربية في العموم وتقوم بأكثر مهمات الاحتلال خطورة وهي تغريب البلاد ودفعها دفعا للانتماء البريطاني مما يُحَوّل مصر إلى مستعمرة تدين بالولاء لمحتليها.
ولم يتحقق هذا الهدف لهم بالطبع، لكن تأثير حركة التغريب كان كاسحا في دعم وجود الاحتلال واستمراره لثمانين عاما، لأن التغريب تسبب في معارك هائلة بين الشعب وبين أفكار التغريبيين مما أدى لانشغال المجتمع بهذه المعارك الصاخبة وإهمال القضية الوطنية، وهو ما أدى لنوع من الاستقرار لقوة الاحتلال.
بينما لم يستطع الاحتلال الفرنسي الصمود أمام فوران الشعب المصري أكثر من ثلاث سنوات.
وهذه الملحوظة وحدها كفيلة ببيان مدى خطورة السياسة البريطانية في لجوئها للتغريب الديني والثقافي واصطناع الأتباع كرأس حربة بديل عن القوة العسكرية الغاشمة!
وهذه المقارنة وحدها تكشف لنا الأثر الفادح لسياسة بريطانيا التغريبية التي استخدمتها في كل مستعمراتها.
فقد نجحت بريطانيا –بفضل سياسة التغريب-في السيطرة على الحكم في مصر بثلاثة آلاف جندي، ولم تبادر لوضع أي رجل من رجالها في مناصب الحكم الظاهرة، بل تركت الحكم الرمزي للملك والحكومة التي كان رجالها من المصريين المتعاونين أو الأتراك المتمصرين، ووضعت خلف كل منصب قيادي منصب آخر تنفيذي يتولاه رجالها بشكل مباشر.
لهذا طال بقاء الاحتلال الإنجليزي بثلاثة آلاف جندي، وعجز الاحتلال الفرنسي رغم كون حملة نابليون كانت بأربعين ألف جندي في مواجهة مقاومة شعبية دون جيش نظامي مصري كما كان الحال في مواجهة الثورة العرابية للاحتلال الإنجليزي.
فالتخطيط البريطاني لمستعمراته يعتمد على استراتيجية دراسة أحوال البلاد المستهدفة دراسة وافية
فإذا كانت البلد المستهدفة عبارة عن خليط غير متجانس من عرقيات أو عصبيات أو مذاهب أو أديان مختلفة، فهذا غاية المطلوب، حيث تكتفي بريطانيا بإشعال الصراع المشتعل أصلا بين طوائف الشعب والاكتفاء بدعم كل التيارات المتصارعة دون استثناء ليبقى الصراع سرمديا بين أبناء البلد الواحد الغافلين عن قضية الاحتلال أصلا.
وهو ما فعلته في مستعمراتها بشرق آسيا وعلى رأسها الهند ذات الأديان والأعراق شديدة التعدد، مما منحها الفرصة لتكون الهند أكبر مستعمراتها وأكثرها أهمية

قديم 03-17-2024, 03:10 AM
المشاركة 12
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • موجود
افتراضي رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)

أما إن كان البلد المستهدف بلد متجانس لا يوجد فيه أمثال الصراعات العرقية حتى لو كانت به أديان مختلفة، فهنا تقوم باختراع الصراعات والفتن وخلق تيارات جديدة وغريبة على ثقافة الشعب وثوابته ثم دعمهم وحمايتهم لينفجر الصراع بينهم وبين رموز الشعب المحافظ
مثلما فعلت مع المجتمع المصري بدراسة توجهاته، وعقيدته، وأخلاقياته.
ومن خلال الدراسة ثبت لديهم أن الحس القومي والديني في قمة الاهتمام لدى الشعب، ولا يوجد أي ثغرات عقائدية أو حزبية أو طائفية يستطيع النفاذ منها، رغم وجود ديانتين في مصر وهما الإسلام والمسيحية، ورغم وجود أجناس مختلفة أيضا، إلا أن هذه الاختلافات ذائبة منذ عشرات القرون في نسيج واحد غير قَبَلِي.
كما وجدت بريطانيا أن (الأزهر)، هو قِبْلة المجتمع بأكمله في الرأي العام لا سيما وأن شيوخ الأزهر كانوا هم قادة المقاومة الرئيسيين في مواجهة الحملة الفرنسية.
فضلا على كونه كان بمثابة البرلمان الشعبي لمئات السنين حيث يلجأ الناس إليه في كل مظالمهم أو شئون حياتهم السياسية والاجتماعية
والمصدر الثاني للقوة يتمثل في الجيش الذي وضع بذرته (محمد علي) وخرج منه القادة الوطنيون في عهد إسماعيل وابنه توفيق

وبالتالي كان على سلطة الاحتلال العمل على خلق تناقضات بين تلك الطبقات جميعها، والعمل على تغيير نُظُم التعليم والثقافة بما يعمل على خلق طوائف فكرية مختلفة لها توجهات مخالفة للمعتاد كفيلة بتفجير حالة جدل فارغ وصراعات مذهبية تكسر الثوابت المعتادة للمجتمع وتعمل على تنحية القضية الوطنية ومواجهة الاحتلال من أولوياتها.
وفي شأن الجيش فقد عمل الاحتلال على تصفية قوته، وتوسيع دائرة الضباط –من غير المصريين-في صفوف القيادة وتخفيض إعداده وتسليحه.
وأسند الاحتلال مهمة تغيير نظم التعليم والتوظيف إلى أحد رجالهم (دوجلاس دانلوب)، الذي أتى به اللورد (كرومر) – المعتمد البريطاني في مصر – وقام بتعيينه مستشارا لوزارة المعارف المصرية (وزارة التعليم) فأصبح المتحكم الرئيسي في سياساتها التعليمية، فضلا على كونه المتحكم في توظيف الخريجين.
وبدأ دانلوب بتعظيم شأن التعليم المدني غير الأزهري، وتوسيع نطاقه وخلق فرص عمل هائلة لخريجيه وبمرتبات مجزية للغاية بمقاييس ذلك الزمان.
في نفس الوقت عمل على تضييق الفرص أمام خريجي الأزهر في التوظيف ومعاملتهم بكادر مالي شديد التدني حتى أن الراتب للوظيفة المدنية في شهر واحد ربما تجاوز راتب الأزهري في عام كامل.
وذلك طمعا في تكثيف الإقبال على التعليم المدني وتخفيض الأعداد الملتحقة بالأزهر إلى الحد الأدنى.
وبالفعل قام (دانلوب) بترك الأزهر على ما هو عليه من الحالة المتردية، ودعم المدارس المدنية وحدها وأسند الوظائف العليا والمناصب الرفيعة والمكانة الاجتماعية للمتخرجين من هذه المدارس، في الوقت الذي لا يجد فيه خريج المدارس والمعاهد الأزهرية -الذي انتظم في سلك الدراسة عشرين سنة أو أكثر -وظيفة مناسبة له، وحتى إن وُجِدَت فهي راتب زهيد كما قلنا.
وكانت هذه السياسة تهدف إلى قتل التعليم الأزهري بالبطء والإهمال، وإسقاط مكانته في المجتمع حيث يعاني خريجوه من شظف العيش بعد دراستهم الطويلة بينما أمثالهم في التعليم المدني يحصلون على وظائف النخبة في المجتمع.

ولم يكتف دانلوب بهذا بالطبع.
بل قام بتغيير سياسة التعليم المدني وتفريغه من مضمونه، فالهدف من التعليم المدني –تحت رعاية الاحتلال-ليس خلق جيل من متعلمي التكنولوجيا أو الصناعة، بل الهدف خلق جيل فاقد الهوية ومغاير للثوابت الوطنية
وذلك عن طريق تطبيق سياسة التغريب تطبيقا كاملا على المناهج.
ومن أبرز أعمال دانلوب في دفع عجلة التغريب بمصر أنه عمل على محاربة اللغة العربية والإسلام والأزهر، ومن ذلك اضطهاده لمعلمي اللغة العربية من الأزهريين العاملين في نطاق المدارس المدنية.
والعمل على نشر اللغة الإنجليزية إلى درجة تحويل تعليم سائر العلوم كالرياضيات والتاريخ والكيمياء والجغرافيا والرسم باللغة الإنجليزية، وَضَيّق على اللغة العربية تضييقًا كبيرًا.
وشرع في نزع اعتقاد الشباب المسلم في القرآن، وتدريس المواد الفلسفية الغربية القائمة على التشكيك في العقيدة الإسلامية أو في الأديان عموما.

كما استدعى دانلوب عددا كبيرا من المدرسين البريطانيين للعمل في المدارس المصرية، والسيطرة على مناهج اللغة والآداب والتاريخ من وجهة نظر الفلسفة الأوربية، واتهام تاريخ العرب والمسلمين وإثارة الشكوك حوله، واتهام الحضارة الإسلامية العربية بالاتهامات المختلفة، لخلق شعور عام بكراهية هذه الأمجاد والنفور منها والسخرية بها، والنظر للأمة العربية على أنها أمة مفتقدة للحضارة في ظل إصرارهم على الاعتزاز باللغة العربية وتاريخها وتاريخ الإسلام, وأن التحضر يبدأ بتلقي مقومات التعليم البريطاني لكي تلتحق مصر بالتقدم العلمي الأوربي!
كما أبطل دانلوب عددًا من الكتب المقررة مثل (كتاب الهجاء) لعلي مبارك، لأنّها تتحدث عن القيم العربية الإسلامية حيث كانت غير موافقة لهدفه من الوجهتين الدينية والسياسية وذلك بإيرادها قواعد الإسلام وأركانه، مصحوبة بالحكم والآيات والأحاديث التي تحث على حب الوطن والتعاون، والتوحد وعدم التفرق على القضايا العامة.
وفي سبيل شجب هذه الكتب أعلن دانلوب أنّ مثل هذه الكتب غير موافية لحاجات التعليم، وتم استبدالها بمناهج بريطانية أو أوربية تعالج هذه المقررات من وجهة النظر الفلسفية التي ينشرها الاحتلال، من أن قدوم الجيوش الأوربية للبلاد إنما هو استعمار –من التعمير-لا من الاحتلال" "
ثم كانت الخطوة الكبرى في تلك السياسة هي نشر المدارس الأجنبية في مصر، ودفع أبناء الطبقات العليا والمتوسطة لها لخلق جيل كامل من التلاميذ والطلاب يتلقى مبادئ التعليم منذ صغره على المناهج البريطانية الكاملة، وتجاهل المقررات الدراسية العربية من تاريخ ولغة ودين.

وكانت أقوى تلك المدارس هي (كلية فيكتوريا)، تلك المدرسة الداخلية التي أسسها اللورد (كرومر) في الإسكندرية، وتم افتتاح فرع لها في القاهرة أيضا بمنطقة (شبرا)
وقد تم إنشاء (كلية فيكتوريا) لهدفين
أولهما:
محو التعليم الفرنسي من مصر ونشر الإنجليزية في التعليم والتوجه نحو إلغاء مجانيته وجعله للنخبة فقط.
والثاني:
إلحاق أبناء العائلات السياسية والعائلات الثرية في مصر والعالم العربي بتلك المدرسة بهدف السيطرة على الجيل الذي سيخرج حتما لمناصب الحكم في بلاده وتولي المناصب السياسية، وهذا هو سر تسمية المدرسة بمدرسة (الملوك والأمراء)!
أي أن بريطانيا لم تكتف بتخليق دويلات مختلفة للمنطقة العربية الموحدة، بل مهدت وأسست الطبقة الحاكمة وتولتها بالرعاية منذ نعومة أظفارها
ووضع اللورد (كرومر) حجر أساس المدرسة الجديدة في يوم ذكرى ميلاد الملكة فيكتوريا، في حضور مئات من الضيوف المرموقين، من بريطانيا ومصر
واستغلت السلطات البريطانية «فيكتوريا كوليدج» لجذب العائلات المنخرطة في العمل السياسي في مصر والدول العربية والإفريقية ممن يمكن الاعتماد عليهم في بسط المزيد من هيمنة الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس
وكان ذلك يخدم سياستها وأيديولوجية (الإمبريالية الجديدة)، التي بدأت منذ عام 1870م،
وأُعدت السلطات البريطانية قوائم بأسماء أبناء كبار العائلات لكي يتم إلحاقهم بالكلية البريطانية. وبعد سنوات من وجود المدرسة أصبح فيها تقليد للعائلات الأرستقراطية، وهو أن ترسل أولادها البنين إلى «فيكتوريا كوليدج» والفتيات إلى الكلية الإنجليزية للفتيات (egc)
وباتت القصور الملكية العربية – التي تحكم ظاهريا-باسم الاحتلال البريطاني، تلجأ لمدير الكلية (رالف ريد) لاستشارته في كيفية تثقيف الأمراء العرب وإعدادهم كملوك في المستقبل!

وتكمن المشكلة الحقيقية أن هذه الأمور وأهدافها كانت معلنة، وليست سرا أو مؤامرة مخفية، أو أهداف يجري التخطيط لها بعيدا عن أعين المتورطين بها!
ففما هو جدير بالذكر أنه عند افتتاح المدرسة قال اللورد (لويد) في كلمته موجها حديثه للحاضرين ومتحدثا عن التلاميذ:
(كل هؤلاء لن يمضي عليهم وقت طويل حتى يتشبعوا بوجهة النظر البريطانية بفضل العشرة الوثيقة بين المعلمين والتلاميذ)
ونظرا لأن نظام التعليم في تلك المدرسة كانت نظاما داخليا صارما بنظام التعايش الكامل، يقيم فيه الطلاب إقامة كاملة، فقد كان هذا معناه السيطرة على وعي الطلاب تماما في سن مبكرة.
خاصة وأن التعليم والتعامل طيلة الفترة الدراسية يتم بالإنجليزية، في ظل عقوبات صارمة لمن يستخدم اللغة العربية ولو لحوار عابر مع زملائه!
وعلى نفس المنهج.
سيطرت بريطانيا على التعليم الجامعي باليد الناعمة، فكانت الكليات تزخر بالأساتذة الأجانب المؤدلجين بأفكار الاستشراق، فضلا على تولية المناصب القيادية في الجامعات لخريجي البعثات الأجنبية من المصريين أو من التغريبيين الذين ينتمون فكريا للتغريب.
وفي ظل هذا وذاك تأسس في مصر في ظل رعاية حكومة القصر والمندوب السامي جيلا من المتفاعلين مع الوجود البريطاني يضم معظم أصحاب المناصب التنفيذية في البلاد بداية من منصب الوزير حتى المناصب من الطبقة الرابعة في المحافظات والمدن الرئيسية.

وخرجت النتائج سريعا، وظهرت أعمال التغريبيين بمختلف الصور.
فمنها ما ظهر بدعوى تجديد الخطاب الديني أو تحديث ثوابت الشريعة كأفكار وأطروحات الشيخ (محمد عبده) والذي أعاد نشر فكر المعتزلة وقام باستخدام منهج العقل المجرد في تفسيره للقرآن والزعم بأن المعجزات الموجودة في القرآن والسنة ليست بمعجزات بل هي أمور لم يكن يعرفها القدماء علميا ولذلك فسروها على أنها معجزات مثل تفسيره للطير الأبابيل بالجراثيم أو الميكروبات
ومنها ما يطرح قضايا الإلحاد بشكل صريح أو السخرية من ثوابت الشريعة مثل (محمود عزمي) الذي قد قدم بحوثا في الاقتصاد والاجتماع تعتمد تماما على إنكار تلك الثوابت واشتهر بقوله:
(إذا ذكرت الاقتصاد فلا تذكر الشريعة وإذا ذكرت الشريعة فلا تذكر الاقتصاد)
ومثل (منصور فهمي) الذي ناقش أطروحة للدكتوراه على أستاذه المستشرق (ليفي بريل) مهاجماً نظام الزواج في الإسلام وكان موضوع أطروحته حالة المرأة في التقاليد الإسلامية وتطوراتها. وفي هذه الرسالة قال:
(محمد يشرع لجميع الناس ويستثني نفسه)
قاصدا مسألة تعدد الزوجات المقيدة بأربع في الإسلام، وَمُعَلّقا على اختصاص الله عز وجل للنبي عليه السلام بأمهات المؤمنين وهم تسع زوجات
لكنه انتقد بعد ذلك حركة التغريب في سنة 1915م وجاهر بآرائه في الأخطاء التي حملها (طه حسين) ومدرسته
ومن تلك الأفكار أيضا ما يدعو لتعميم اللهجة العامية واستخدامها كلغة كتابة ولغة تخاطب، ومنها ما ينادي بالتعامل مع الإسلام على أنه دين أتى لإنهاء الشرك الذي انتشر في الجزيرة العربية وهدم الأصنام، وأن الإسلام بهذا الفعل قد أدى دوره وانتهى!

أما أخطر نموذجين للتغريب في تلك الفترة فقد كان نموذج كل (علي عبد الرازق)، ونموذج (طه حسين)
أما الأول، فقد كان شيخا أزهريا حائزا على العالمية، وكتب كتابه في مجال التغريب بعنوان (الإسلام وأصول الحكم) انتقد فيه مشروعية أو وجوب الخلافة الجامعة في الإسلام مخالفا أبسط مبادئ السياسة الحكمية في الشريعة ومخالفا ما هو معلوم من التاريخ بالضرورة، ومن القرآن والسنة وكلاهما حافل بتقنين النظام السياسي لأي دولة مسلمة.
وقد حوكم (علي عبد الرازق) وانتزع قادة الأزهر منه شهادة العالمية، بعد أن ضج من أفكاره الأزهر والمجتمع نفسه.
وقد كان الهدف من كل تلك الأفكار هي نحت وتجهيز المسرح المصري لقضية (الصهيونية)، لأن إنكار ضرورة تكوين الحكم الإسلامي من بداية تكوين النبي عليه السلام للدولة في المدينة المنورة، ومرورا بالخلافة الراشدة وما تلاها.
هذه الفكرة تمهيد قوي للغاية لكي تؤدي لوازمها إلى إنكار ما يترتب عليها، ومنه قدسية المسجد الأقصى وفلسطين التي فتحها المسلمون في عهد عمر بن الخطاب.
وإذا غابت قدسية الأقصى ومكانته الدينية في الشريعة ومكانته السياسية في أحكام الخلافة فهذا ينزع عن قضيته مشروعية الدفاع عنه أو الاهتمام بضرورة وجوده تحت حكم المسلمين!
ومن المثير للدهشة والضحك معا.
أنه في الوقت الذي كان فيه التغريبيون ينشرون هذه الأفكار في خدمة الرغبة البريطانية ومشروعها، كانت بريطانيا والصهيونية تخترع وطنا كاملا لليهود استنادا لمزاعم دينية محضة محرفة بالكامل!

أما الثاني فهو (طه حسين) والذي كان دوره كارثيا ومتنوعا.
ففي البداية تتلمذ على يد المستشرق (دوركايم) وكان من مؤيدي أطروحات المستشرق (مرجليوث) وعندما تولى عمادة كلية الآداب حرص على تكييف المناهج لتلك الأفكار بجوار الأفكار الفلسفية المادية بدعم كامل من حكومة الاحتلال.
وَتَنَوّع دوره في خدمة المشروع البريطاني في نشر أفكار الإلحاد مثل سماحه بعرض مسرحية إلحادية على مسرح كلية الآداب –في فترة عمادته لها-وهو العرض الذي قلب الدنيا عليه بسببه، وهاجت المظاهرات داخل الجامعة وخارجها، مما أدى بعد ذلك إلى استقالته من منصبه.
وقد قام بالرد عليه زمرة كبيرة من المفكرين المصريين أبرزهم (مصطفى صادق الرافعي) و(محمد فريد وجدي)، وعشرات من علماء الأزهر.
كما قام (سعد زغلول) زعيم الأمة ورئيس حزب الوفد بمهاجمة كليهما، رغم أنه الزعيم الليبرالي، وذلك لإدراكه خطورة ما دعوا إليه من أفكار.
فالغضب من أفكار طه حسين وعلي عبد الرازق لم يكن غضبا قاصرا على علماء الدين كما حاول التغريبيون إيهامنا بعد ذلك بل كان غضبة عارمة لمحاولة استنساخ أفكار المستشرقين وإلباسها رداء البحث العلمي ومحاولة تمصيرها.
وعلى إثر تلك الأحداث ثارت ثائرة التغريبيين في الإعلام وأطلقوا على طه حسين لقب (عميد الأدب العربي) كبديل لعمادة كلية الآداب التي تركها، وهذا هو سبب تسميته بهذا اللقب.
فهو اسم لا علاقة له بالمسمى، ولكن غباء التغريبين دوما ما يحملهم على الاستعانة بالهالة الإعلامية كبديل على المحتوى الحقيقي.
بينما الألقاب المستحقة تأتي من أهل الاختصاص، فلقب أمير الشعراء الذي حازه (أحمد شوقي) تم بمبايعة واحتفالية كبرى حضرها كافة رموز الشعر في عصره تقديرا له على تجديده للشعر وتأسيسه لمدرسة (الإحياء والبعث) مع (محمود سامي البارودي)
ولقب موسيقار الأجيال مثلا، استحقه (محمد عبد الوهاب) لأنه كان الموسيقار الذي نقل الموسيقى العربية من المحلية إلى العالمية.
ولقب كوكب الشرق الذي حازته (أم كلثوم) كان أيضا لنقلها الغناء العربي من المحلية للعالمية
وكذلك لقب العمادة لابد أن تتوفر مقوماته.
فلقب العمادة ليس لقبا بلا معنى، بل له معنى شديد العمق، وهو أن يكون صاحبه قد أتى بمجال جديد غير مسبوق، فيصبح عميدا له باعتباره أول من أبدع فيه، أو يكون صاحب اللقب أقدم وأقدر أصحاب الإبداع في مجال محدد وأكثرهم عطاء في زمنه.
لهذا فإن لقب (عميد الأدب العربي) يحتاج أن يكون صاحبه الأقدم أو الأكثر إبداعا، فهل كان طه حسين أول من كتب في فن الرواية العربية.
الجواب لا، لأن هذه العمادة تذهب إلى (محمد حسين هيكل)، و(محمود تيمور).
فهل حاز طه حسين اللقب لأنه أول من جدد الشعر، الجواب لا لأنه لم يكتب الشعر أصلا واللقب حازه أحمد شوقي بلا خلاف.
فهل حاز اللقب في مجال النقد الأدبي، وهو المجال الجامع الشامل لفنون الأدب، فالجواب أيضا لا لأنه لجأ إلى مدرسة (الشك) الفلسفية الغربية التي أنكر بها ثوابت الأدب العربي بنظريات لا تستند إلى سند صحيح، مثل إنكاره صحة نسبة الشعر الجاهلي لعصر الجاهلية، وادعائه أن العرب لم يكن لهم نثر فني مستقل وإنما أخذوه من الفُرس!
فهل كان طه حسين هو الأكثر خبرة بالأدب العربي وتاريخه، الجواب لا قطعا بل العكس هو الصحيح فقد أنكره معاصروه من رموز الجامعة والأدب والفكر.
ومنهم (زكي مبارك) الذي عارض توليه عمادة كلية الآداب بينما كان تخصصه في الدكتوراه هو القانون الروماني فقال عنه:
(إني أراه قليل البضاعة جدا في الأدب العربي وهو لم يقرا في الأدب إلا فصولا من كتاب الأغاني وفصولا من سيرة ابن هشام وستحاسب كلية الآداب أمام الله على توليته مقعد أستاذية الأدب العربي)
وروى عدة مواقف مبينا فيها أخطاءه الفادحة في تاريخ الأدب كقوله إن الجاحظ لم يورد اسم (عبد الحميد بن يحيي) وهو غير صحيح بالإضافة للأخطاء الخمسة التي أحصاها عليه في دراسته عن البحتري

وخدم (طه حسين) الاحتلال أيضا في كتاباته التي أنكرت تماما فضل الحضارة العربية في الجاهلية والإسلام في مجال الآداب، حيث اتهم العرب بعدم كتابتهم للنثر الفني وأن ما نقلوه لنا عبارة عن نقل من النثر الفارسي!
أيضا خدم المستشرقين عندما أصدر كتابه الشهير (في الشعر الجاهلي)، والذي أنكر فيه مصداقية القرآن في حديثه عن تاريخ الأنبياء حيث قال في كتابه الشعر الجاهلي ص 26:
(للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل وللقرآن أن يحدثنا أيضاً، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي)!
ويقول بعد ذلك:
(وقد كانت قريش مستعدة كل الاستعداد لقبول هذه الأسطورة في القرن السابع للمسيح)
وحوكم أيضا أمام النيابة العامة بسبب هذا الكتاب الفاضح، وقد كانت مشكلة الكتاب الرئيسية ليس فيما حوى من أفكار فقط، بل كانت الكارثة أنه نقل أفكار المستشرق (مرجليوث) وانتحلها ووضعها في كتابه على أنها من أفكاره في سرقة علمية صريحة تم فضحها عند صدور الكتاب.
وقد سخر العلامة (محمود شاكر) من هذه الواقعة وقال بأن الكتاب يجب أن يكون عنوانه (حاشية طه حسين على متن مرجليوث)

ولم تكن سرقات (طه حسين) من المستشرقين خاصة به وحده بل لجأ لها معظم التغريبيين واعتبروها منهجا كاملا لهم، وقد اعترف بذلك (أحمد أمين) صاحب سلسلة (فجر الإسلام وضحاه) عندما قدم النصيحة لأحد هؤلاء الكتاب وقال له أن الطريقة الصحيحة لنقل أفكار الاستشراق تكون بنقل الأفكار في المعنى والمضمون لا نقلا حرفيا، بمعنى إلباس هذه الأفكار رداء إسلاميا لكيلا ينفر منها الناس.
وهي القصة التي رواها د. (مصطفى السباعي) عن صاحبها في كتابه (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي)
وقد تراجع (طه حسين) عن أفكار كتابه (في الشعر الجاهلي) وفق لما ذكره العلامة محمود شاكر والدكتور محمد عمارة.
فيقول محمود شاكر:
(قد بينت في بعض مقالاتي أن الدكتور طه قد رجع عن أقواله التي قالها في الشعر الجاهلي، بهذا الذي كتبه، وببعض ما صارحني به بعد ذلك، وصارح به آخرين، من رجوعه عن هذه الأقوال. ولكنه لم يكتب شيئا صريحًا يتبرأ به مما قال أو كتب.
وهكذا كانت عادة الأساتذة الكبار! يخطئون في العلن، ويتبرؤون من خطئهم في السر
!!)

ثم قام (طه حسين) بدور صريح في خدمة الفكر الصهيوني عبر ترويجه لتاريخ اليهود بين العرب، وإطالة الإطناب في مدحهم والاحتكاك باليهود المصريين ورموزهم في تلك الفترة الحساسة من تاريخ مصر التي شهدت نشاطا ضخما للوكالة اليهودية ورعاة المشروع الصهيوني ونجحوا في الوصول إلى كثير من الكتاب والسياسيين وحفروا لأنفسهم مكانا في الصحافة ونوادي النخبة.
وكان من المتعاونين معهم طه حسين حيث أشرف على رسالة دكتوراه لباحث يهودي يدعى (إسرائيل ولفنسون) والتي قدمها في جامعة القاهرة تحت عنوان:
(تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام)
واحتفي بالرسالة قائلا:
(إن عالمنا الشاب وُفّق إلى الخير في هذا الكتاب الذي قدمه للجامعة المصرية، ونال به الدكتوراه وأنا أقدمه إلى القراء مغتبطا ذلك أنه وفق إلى تحقيق أشياء لم تكن حقت من قبل)
هذا فضلا على أن محاضراته في مدارس الطائفة اليهودية بالإسكندرية عام 1943م كانت تحت رعايتهم وفى صحبة الحاخام (إبراتو) والحاخام (فنتورا) واحتفت بها مجلة (الشمس) اليهودية
وقد أعلنت المدارس اليهودية عن جائرة باسم (طه حسين) تعطى للفائز الأول في اللغة العربية!
كما حرص (طه حسين) على تقديم ونشر البحوث التي تثبت الآتي:
* أن الشعر اليهودي امتاز بالحث على الفضائل وإنكار الذات
* امتاز اليهود بين إخوانهم العرب بالوفاء وطلب المثل العليا كشعر السموأل
* اخذ عنهم العرب اتخاذهم الحياة وسيلة لا غاية!
* كان اليهود الرأس المدبر لاقتصاد دولة الإسلام في مصر منذ عهدة عمرو بن العاص
* كان اليهود هم من نقلوا ثقافة وحضارة العرب إلى أوربا

ولا يمكن تَصَوّر هذه التزكية من طه حسين لليهود على أنها غير مقصودة أو عفو الخاطر
فالأمور في تلك الفترة كانت أعقد بكثير من هذا وكان المشروع الصهيوني قد قارب الاكتمال وصدر وعد بلفور عام 1917م وبعده تطور المشروع أكثر عندما قاربت الحرب العالمية الثانية – في هذا الوقت-على الانتهاء مما يعني أن الحرص على تزكية ورفع شأن اليهود كان مقصودا قطعا.
خاصة وأن عناوين تلك البحوث التي كتب فيها تحمل من الخرافات ما لا يصدقه حتى اليهود!
ومنها قوله إن اليهود هم من عَلّموا العرب أن الحياة وسيلة لا غاية!، وأنهم نقلوا حضارة العرب لأوربا، وأن شعر اليهود امتاز بالحث على الفضائل وإنكار الذات!
فهو هنا لا يخالف التاريخ والواقع والمنطق وحسب، بل خالف حتى صريح القرآن الذي وصف اليهود وَحَكَم عليهم بالذلة والمسكنة وعبادة الذهب والمال.
والأمر لم يقتصر عند طه حسين بتزكية اليهود والمساعدة في تزوير تاريخهم المخزي وتصوير عكسه، بل اتخذ الأمر جانب المساندة الصريحة للمشروع الصهيوني بعد انكشاف أمره للعامة والخاصة.
فقد نقلت الدكتورة (عواطف عبد الرحمن) في دراستها بالغة الأهمية (الصحافة الصهيونية في مصر) كيف أن فترة الأربعينيات انكشف أمر المشروع الصهيوني تماما بعد أن اتخذ طابع التنفيذ النهائي، وانفجرت الثورة الفلسطينية ضد اليهود
وهنا لم تلجأ المنظمات الصهيونية لإصدار صحف جديدة تنتمي لها صراحة مثل صحيفة (الشمس) وصحيفة (إسرائيل)، بل قامت بتغيير استراتيجيتها بالعمل على تمويل وإصدار صحف عامة من وراء الستار يقوم عليها ويديرها نخبة من المصريين والعرب المتعاملين منهم.
وضربت مثالا بمجلة (الكاتب المصري)، تلك المجلة الأدبية الشهيرة التي صدرت برياسة طه حسين نفسه وعدد من المتعاونين معهم، وكانت معالجة المجلة لتفاصيل الصراع المحتدم بين الفلسطينيين واليهود في تلك الفترة الحساسة ، مجرد معاملة هامشية وأفردت المجلة تحقيقاتها الكبرى للحديث عن تاريخ اليهود في بلاد العرب والترويج لعطائهم الثقافي في الحضارة العربية والإسلامية
وبالمجمل فحديث وكتابات طه حسين في التاريخ لا علاقة لها بالبحث العلمي وقواعده في مجال التاريخ الإسلامي، لأن تحقيق مرويات التاريخ الإسلامي له منهج مستقل تماما عن المناهج المعاصرة لأنه مجال باذخ في الدقة والتحري

لهذا عندما دخله طه حسين من بوابة المستشرقين كان هنا يعطي آخر هداياه لحركة التغريب وأشهرها كتابه (الفتنة الكبرى) والذي أصدره في جزئين، وهو الكتاب الذي سار فيه طه حسين بنفس منهج (أحمد أمين) وهو الاعتماد الكامل على كتابات المستشرقين وروايات الشيعة، واتخاذها مصدرا للتاريخ الإسلامي وإهمال المصادر الأصلية وأهمية الإسناد في الروايات، والتي انفرد بها المسلمون وتمكنوا بها من نقل القرآن والسنة والتاريخ نقلا صحيحا لا غبار فيه
وقد سارت حركة التغريب على نهج انتقاء الروايات الضعيفة والموضوعة في التاريخ والكتابة عنها بشكل مكثف، ثم كانت الكارثة الأكبر في أن تلك الكتابات تحولت إلى مصادر حصرية لأعمال الدراما في السينما والتيلفزيون وتورط فيها كثيرون –بعلم أو بغير علم-حتى صارت تلك الخرافات من قبيل الثوابت.
وتسربت تلك الكتابات أيضا للكتب الدراسية ولا زالت منتشرة حتى اليوم.
بخلاف استيراد حركة التغريب لقضية (النسوية) وأفكار تحرير المرأة من الغرب، والتي كانت ستارا لتغيير العقيدة الاجتماعية للمجتمع المصري بأفكار لا تناقض الثوابت الدينية وفقط، بل تناقض حتى الفطرة الإنسانية.
وبعد قرن كامل من تطبيق منهج (النسوية)، إذا بنساء العالم أنفسهن ينقلبن على المنهج النسوي فتعددت الصيحات والحركات الاحتجاجية التي قامت في أوربا والولايات المتحدة ضد الفلسفة المادية والنسوية التي جعلت من المرأة سلعة، وهدمت مفهوم الأسرة من جذوره.
الخلاصة أن دور التغريب بدأ في بدايات القرن العشرين وتزامن معه النشاط السياسي والاقتصادي الداعم للمشروع الصهيوني بلا رادع، حتى تعرض المشروع لحدث عالمي كاد أن يتسبب في فشله بالكامل.
وهو وقوع الحرب العالمية الأولى، ثم استيقاظ العرب على حقيقة المشروع الصهيوني وانكشاف أمره وَتَفَجّر المقاومة الفلسطينية، وما أتبعها من قيام الحرب العالمية الثانية.

قديم اليوم, 11:18 AM
المشاركة 13
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • موجود
افتراضي رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)

*الحرب العالمية الأولى وأثرها على المشروع الصهيوني.

كان الوضع العالمي في بدايات القرن العشرين وضعا شديد السخونة، نظرا لأن الوضع في أوربا كان على حواف الاشتعال رغم تأجيل الصدام الكبير لمدة طويلة.
لأن أوربا في هذا الوقت كانت تحفل بعدة أحداث تم تأجيل البت فيها أو إنهائها بشكل كامل، منها آثار (حرب السبعين) التي دارت بين ألمانيا وفرنسا وخسرتها فرنسا وانطلقت ألمانيا تحت قيادة (بسمارك) مستشارها الشهير لتصبح أحد أبرز القوى الأوربية إلى جانب القوى الغربية ودول أوربا الشرقية
وكان الصراع الطويل بين بريطانيا وفرنسا قد انتهى، وأصبح صراعا على المصالح وبالاتفاق على المفاوضات عندما أصبحت فرنسا وأوربا حلفا واحدا يمثل أوربا الغربية ضد النمسا وألمانيا وبروسيا.
وكانت هناك الخلافة العثمانية التي تقلصت مساحتها نوعا ما بعد الاحتلال البريطاني والفرنسي لأجزاء كبيرة من الشرق الأوسط.
لكن برغم ذلك كانت الدولة العثمانية –رغم ضعفها-كيانا ضخما وعملاقا وكان التخطيط الغربي لإنهاكها يتحسب لحظة انهيارها لكنه لا يستعجل هذا الانهيار قبل أن يُتِم التخطيط للسيطرة عليه وتقسيم الإرث العثماني بالشكل الذي يضمن المكاسب الغربية.
وكانت هناك الإمبراطورية الروسية بما تعانيه من أزمات كبرى تسبب فيها الحكم القيصري، والذي كان قد تلقى هزيمة غير متوقعة له من الإمبراطورية اليابانية، ويرغب في استعادة هيبته العسكرية.
بخلاف المشكلات المستعصية والأبدية في منطقة (البلقان) والتي أطلق عليها المؤرخون منطقة برميل البارود.
ورغم وجود هذا التوتر الكاسح في أوربا.
إلا أن المتفق عليه تاريخيا أن أحدا من القادة الأوربيين لم يتوقع أبدا أن تتصاعد الأحداث لحرب غير مسبوقة وعالمية للمرة الأولى على النحو الذي جرت به.
وقد لعب القدر دورا كبيرا في أن أوربا دفعت ثمن وحشيتها المطلقة في المستعمرات الآسيوية والإفريقية والأمريكية عندما انفجرت تلك الحرب العالمية ليعم الخراب على القارة الأوربية شاملا وعاتيا لأول مرة في تاريخها المعاصر.

وقد نشأت الخلاف الأوربي من واقعة إقليمية محدودة هي ثورة الصرب على الحكم النمساوي، والذي أدى فيما بعد إلى اغتيال ولي عهد النمسا (فرانز فرديناند)، وهو ما أدى لإعلان النمسا الحرب على صربيا لتقوم روسيا بإعلان الحرب النمسا باعتبار الروس حلفاء للصرب
وبعدها انضمت سائر القوى الأوربية للمعركة وتزعمت بريطانيا وفرنسا الحلف ضد ألمانيا وحلفائها.
ولا شك أن المشروع الصهيوني كان مرتبطا ارتباطا وثيقا بنتيجة الحرب، فلو نجح الحلفاء في الحرب فالميدان سيكون مفتوحا على آخره أمام تثبيت المشروع، ولو فشل الحلفاء فسينهار المشروع فعليا
وثمة حَدَث آخر كان من الأهمية بمكان وهو ضرورة معرفة موقف السلطة العثمانية، فأحداث الحرب كان من الممكن أن تكون في صف العثمانيين وفرصة كبرى لهم لمحاولة الصحوة، إذا ما تمكنوا من الوقوف الحيادي في ذلك الصراع الأوربي الصرف.

لكن العثمانيين دخلوا الحرب إلى جوار الجبهة الألمانية النمساوية، نظرا لعداوتها التاريخية مع الروس، ويبدو أن العثمانيين كانوا يأملون في الانتصار بسبب ضخامة الجبهة الألمانية النمساوية وقوتها التي ضمت ألمانيا وإمبراطورية النمسا والمجر، فضلا على البلغار.
لكن الحلف الثلاثي من بريطانيا وفرنسا وروسيا كان يضم القوى الأكثر تنظيما وترتيبا واستراتيجية، والأخطر أن الحلف الثلاثي كان يسيطر بالفعل مخابراتيا على عدد من الجبهات في أوربا والشرق فضلا على توافر مستعمراته الشاسعة التي كانت تموله بالتمويل اللوجيستي بالإضافة للعون اللوجيستي الأمريكي

وثمة سبب آخر أكثر أهمية.
أن الحلف الثلاثي –عدا روسيا-كان مستقرا داخليا وخارجيا بعكس الحلف الألماني الذي كانت فيه الدولة العثمانية مخترقة من الداخل، ومهترئة من الخارج، والنمسا تحت حكم غير مستقر ويتصدع باستمرار.
وبالطبع كانت الحركة الصهيونية تقف بثقلها مع الحلف الغربي، وانتهزت الفرصة للتدريب العسكري لبعض ميلشياتها وعصابتها التي تكونت منذ ذلك الحين.
ونستطيع أن نقول بأن بريطانيا في تلك الفترة كانت هي القائد الفعلي للحرب، والمخطط الاستراتيجي الأكثر خبرة واستعدادا.
ومن هذا المنطلق كانت ترمي بعينيها على جبهة الشرق الأوسط في نفس الوقت الذي تهتم فيه بالجبهة الأوربية الرئيسية.
وفي مصر، بدأ اللورد (مكماهون) المندوب السامي البريطاني في مصر تواصله مع (الشريف حسين) الذي كان حاكم الحجاز التابع للدولة العثمانية، وجرت بينهما المراسلات التي مَهّدَها لهم رجال المخابرات البريطانية العاملين في العراق والجزيرة العربية.
وقام مكماهون بعقد اتفاق مع الشريف حسين لكي ينقلب على العثمانيين مستغلا وقوع الحرب وإطلاق ما أسماه (الثورة العربية) للاستقلال بالحجاز والشام، ووعده البريطانيون بدعمه في الاستقلال وإنشاء أول خلافة عربية مستقلة في المنطقة تضم الحجاز وبعض أجزاء الشام، فقاد الشريف حسين الثورة والانقلاب العسكري على العثمانيين وحاربهم بديلا على البريطانيين ليفتح على العثمانيين جبهة حساسة في ذروة الحرب العالمية الأولى
في نفس الوقت الذي كان فيه رجال المخابرات البريطانية يواصلون عملهم الحثيث في العراق والخليج العربي عن طريق رصد أكبر القبائل الداعمة للوجود العثماني ومحاولة إنهاء حكمها وأشهرهم (آل الرشيد)
وقام رجال المخابرات البريطانية بقبول دعم استقلال نجد بعد أن فاز بها (عبد العزيز آل سعود) بعد صراع طويل بين آل الرشيد وبين آل سعود لم يتمكن فيه السعوديون من الانتصار إلا في تلك الفترة.
ومع تصاعد الأحداث وتزايد قوة إمارة آل سعود عقب تَمَكّنه من ضم عدد كبير من المقاتلين البدو المعروفين باسم (إخوان من طاع الله)، دَعَم البريطانيون طلبه باقتحام الحجاز وغدروا بالشريف حسين وقاموا بنفيه إلى قبرص.
ولكي يضمنوا استقرار الإمارات الخليجية الجديدة بعد الحرب، قاموا بتشكيل الشام والعراق مع الفرنسيين واحتفظوا بالقدس وفلسطين، ثم أعطوا شرق الأردن لعبد الله الابن الأكبر للشريف حسين، ووضعوا فيصل شقيقه حاكما على العراق
واستمرت الحرب الدموية الأولى وانتهت بتدمير معظم أوربا لكن بريطانيا خرجت منها وهي القوة العظمى الأكبر في العالم.
وعقب انهيار الخلافة العثمانية وَهَدْمها من الداخل عن طريق جمعية الاتحاد والترقي وأنشطة (أتاتورك) تم إعلان قيام الدولة التركية العلمانية لتضمن بريطانيا وحلفاؤها بأن المشروع الصهيوني كُتِب له النجاح الأكبر بعد أن تم إنهاء دور الخلافة الجامعة للمسلمين، وتحييد الأتراك بدولة علمانية لا علاقة لها بالقدس ولا الأماكن المقدسة للمسلمين.
وأيضا بتقسيم الشام والجزيرة لدويلات وإمارات تسيطر بريطانيا وفرنسا على حكوماتها سيطرة تامة، فضلا على احتلالها السابق لمصر ثم للعراق في عام 1920م

فظهرت أنشطة تهجير اليهود ودعم الصهيونية في مصر بعد أن تم تأسيس المنظمات الصهيونية في الشرق وأولها (بركوخيا) التي أسسها (جوزيف ماركو باروخ) للعمل على تجهيز المسرح السياسي المصري لاستقطاب أنصار الصهيونية بين المثقفين والسياسيين، وتم افتتاح فروع مختلفة للجمعية في معظم المحافظات المصرية، فضلا على انطلاق عدد كبير من الصحف الصهيونية مثل (الشمس) و(إسرائيل) وغيرهما.
وفي عام 1916م تم عقد معاهدة (سايكس - بيكو) التي تمت بين بريطانيا وفرنسا عن طريق وزيري خارجيتيهما (مارك سايكس) و(جورج بيكو)، وفيها تم رسم الحدود الجغرافية لمناطق نفوذهما في الشرق، كما تم تقسيم وتسمية التقسيمات المستقلة للإمارات المجزأة في الجزيرة والشام.

ثم اكتملت الدائرة بصدور (وعد بلفور) البريطاني، وهو الوثيقة الرسمية الأولى التي تم إعلانها للمشروع.
وهو الوعد الذي أصدره (آرثر بلفور) وزير الخارجية البريطاني بعد أن أعلنت بريطانيا الانتداب (الاحتلال) على القدس، ودخلها الجنرال البريطاني اللورد (إدموند ألنبي) والذي حرص بعد دخوله على إصدار تصريح شامت يفخر فيه بالمنجز البريطاني عندما قال:
(الآن فقط انتهت الحروب الصليبية).
وبالطبع كان يعني أن الخطة البريطانية الناجحة للمشروع الصهيوني حققت حلم الأوربيين الأزلي باحتلال الشام ومصر والسيطرة على الشرق بسيطرة كاملة تجعل من الوجود الغربي أمرا واقعا عن طريق تأسيس دولة اليهود الوظيفية، وعن طريق السيطرة الغربية على الحكومات العربية التي تم تقطيع أراضيها الموحدة لتصبح مجرد شظايا جغرافية يعادي بعضها بعضا وينافس بعضها بعضا ويحتكمون للغرب عند الخلاف بينهم!
وحرصت بريطانيا على جعل الأمر رسميا بعد تشكيل (عصبة الأمم) أول تنظيم دولي جامع أسسه الغرب لكي يكون بمثابة الجهاز التنفيذي الذي يعترف أو يؤسس الدول ويشرف على الخلافات فيسمح بظهورها أو لا يسمح.
وعقب تنفيذ الاتفاق الفرنسي الإنجليزي المنصوص عليه في (سايكس بيكو)، دخلت القوات الفرنسية إلى سوريا، وفي دمشق قام قائد القوات الفرنسية الجنرال (هنري جورو)، بالتوجه نحو ضريح صلاح الدين الأيوبي -وذلك حسبما ذكر اللواء راشد الكيلاني-في مذكراته،
وقال:
(يا صلاح الدين أنت قلت لنا إبان حروبك الصليبية: إنكم خرجتم من الشرق ولن تعودوا إليه، وها نحن عدنا فانهض لترانا في سوريا)
وما بين مقولة الجنرال (ألنبي) والجنرال (جورو) بدأت حكاية الأراضي العربية والشعوب العربية مع الغرب، بعد أن وصلوا لأكبر أهدافهم بإنهاء سطوة الخلافة الموحدة الجامعة، وخداع العرب بقصة التقسيمات الإقليمية، لتتكفل الحماقة العربية بعد ذلك بِجَعْل الدول العربية أشبه بمسرح للعرائس يتحر ك وفق الأصابع البريطانية – الفرنسية، ثم ورثته الأصابع الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية!
وكان انهيار الخلافة الجامعة لأول مرة وانتهاء الحكم الموحد للمسلمين والذي ضم تحته المنطقة العربية، حدثا هائلا له تأثير كاسح على معاصريه من المجتمع العربي، وتزامن هذا الحدث مع اشتداد دعاوى التغريبيين المدعومة بسلطة الاحتلال، وظهور الدعاوى القومية شديدة التحزب، التي كانت السبب الرئيسي في خلق أكبر حركة تطاحن مذهبي واختلاف سياسي بين الشعوب.
وزاد الأمر احتداما بظهور الشيوعية كنظام سياسي لأول مرة عقب انهيار حكم القياصرة من أسرة (آل رومانوف) في روسيا، ونجاح الثورة البلشفية عام 1917م على يد (أستروتسكي) و(لينين) و(ستالين)، لتدخل روسيا دوامة حرب أهلية قصيرة انتهت بتأسيس الاتحاد السوفياتي ذو العقيدة الشيوعية المادية التي اتخذت الإلحاد الصريح والعداء للرأسمالية الغربية منهجا سياسيا واقتصاديا لها، ثم أخذت تبحث لها عن دور فاعل على الساحة الدولية في ظل تعملق مكانة أوربا الغربية ممثلة في بريطانيا وفرنسا.
وسبب احتدام الصراع المذهبي العربي بظهور السوفيات أن المنهج الشيوعي وصل للشرق، ووجد له متابعون ماركسيون كثر.
وهكذا تنوعت الأفكار والمذاهب داخل مصر والشرق.
ولم يكن تنوعها بالتنوع الإيجابي بأي حال، بل كان تنوع الصدام والتشرذم الهائل، وتفرقت نُخَب الزعماء والمثقفين على المذاهب المتطاحنة، ولم يعرف الشعب من يومها تيارا واحدا مستقلا يمكن أن يعبر عن ثقافته أو تاريخه وعقيدته.
وفي ظل بدء بواكير الصراع على أرض فلسطين بين حركة الاستيطان وبين أهل الأرض نفسها، كان العرب في مصر والشرق يتطاحنون على صراعات أخرى مختلفة.


فقد تشكلت في مصر المرحلة الثانية من المقاومة بعد وفاة (مصطفى كامل)، على يد (سعد زغلول) ورفاقه الذين رفعوا شعار الاستقلال لمصر بعد الحرب العالمية الأولى على أساس الوعد الذي قطعه الحلفاء على أنفسهم باستقلال البلاد المحتلة، وما تبع ذلك من مبدأ الرئيس الأمريكي (ويلسون) والمعروف بحق تقرير المصير.
ورفضت سلطات الاحتلال الإنجليزي السماح للوفد المصري الشعبي الذي يقوده سعد زغلول بالسفر على اعتبار أنهم لا يحملون تفويضا أو صفة رسمية تمثل الشعب.
واستخدم الإنجليز القوة الغاشمة باعتقال سعد زغلول ورفاقه إلا أن الثورة اندلعت في مصر بأكملها تأييدا للوفد، فتراجع الإنجليز وأفرجوا عن سعد ورفاقه.
ونجحت الحركة الوطنية في تكثيف الدعوة الشعبية لجمع التوكيلات المطلوبة لسفر الوفد المصري ونجحوا في ذلك بالفعل إلا أن الوفد لم يحقق العمل المرجو واستمرت الثورة بقيادة سعد زغلول ورموز الحركة الوطنية حتى أفرزت عن نفسها بإقرار مصر مملكة مستقلة ولكن تحت الحماية البريطانية، وتم إعلان الملك فؤاد ملكا على البلاد بعد أن أتى به الإنجليز من أوربا وعلى إثر ثورة 1919 تم اعتماد الملكية الدستورية في مصر ونجح سعد زغلول باكتساح بعد أن قام بتشكيل حزب (الوفد) وتقدم به للانتخابات العامة.
وتم إقرار أول دستور ليبرالي مصري على النظام الأوربي عام 1923م، والذي أنهى عصر السلطنة العثمانية في مصر بعد سقوطها رسميا
ولكن هذا الدستور الذي ناضل الشعب كله لأجله كان يحتوي على مادة واحدة أفرغته من مضمونه تماما، وأبطلت مفعوله ألا وهي المادة التي أعطت الملك الحق في حل البرلمان المنتخب وإقالة الحكومة.
وهو ما أدى بعد ذلك إلى أن يسيطر القصر تقريبا على الحكومات التالية ولم يستطع حزب الوفد أن يحكم حكما مستقرا قط إلا سنوات معدودة، بعد أن حكمت مصر خلال تلك الفترة حكومات الأقلية المتعاونة مع القصر.

كان هذا الصراع مع الاحتلال الإنجليزي هو أول أنواع الصراع التي استولت على اهتمام الجماهير.
أما الصراع الثاني فهو الصراع الحزبي والمذهبي الذي ازداد ضراوة بعد سقوط الخلافة، ونشأة الشيوعية.
فتزايدت الأفكار الأيديولوجية في المجتمع السياسي وتورطت فيها الطبقة المتوسطة وتعددت الأفكار بين الليبرالية واليمين واليسار والتغريب والمنادين بالاتجاه نحو أوربا ونسيان الانتماء العربي ثم المنادين بالقومية المصرية المنفردة.
حتى ازداد التطاحن بظهور لاعب جديد على الساحة كان ظهوره متوقعا وهو اتجاه (الإخوان المسلمين) الذين كَوّنهم (حسن البنا) كجمعية أو جماعة لها أفكار أيديولوجية تنتمي لأفكار التنظيمات الشيعية القديمة في التاريخ، وأولها تنظيم (حسن الصباح)
وكانت جماعة الإخوان هي رد الفعل التقليدي على سقوط الخلافة الرمزية للمسلمين وافتقاد الناس للمرجعية الدينية، فضلا على دخول المذاهب الأيدلوجية الغربية التي أرادت الحلول محل الثوابت الدينية والتاريخية للشعب المصري.
لهذا تصاعدت شعبية الإخوان سريعا لرفعها شعارات الإسلام والحكم الإسلامي، فأيدها عدد من المفكرين والشيوخ لفترة، حتى انكشف أمر العلاقة الوثيقة بين حسن البنا وبين مراجع الشيعة، واتخذت الجماعة بعد ذلك خط العنف المسلح لتحقيق أهدافها في الحكم، فتراجع مؤيدوها من الشخصيات العامة عن تأييدها وهاجموها بعد ذلك.
وكان ظهور الجماعة من بداياتها في مدينة الإسماعيلية مرصودا بالطبع من المخابرات البريطانية في مدن القناة.
ونظرا لأن البريطانيين كانوا أصحاب خبرة طويلة بالتعامل مع التيارات الدينية في شرق آسيا وفي الجزيرة العربية، فقد وجدوا في ظهور الجماعة فرصة سانحة لزيادة التفرق الشعبي وضرب شعبية حزب الوفد وموازنتها بأيديولوجية مختلفة.

وكان (حسن البنا) بعد ظهور جماعته ونقلها للقاهرة قد ازداد طموحه، ونظرا لأنه لم يكن يهدف للشعبية بين الناس، وينتهج النهج البرجماتي لهذا يمم وجهه ناحية القصر الملكي والإنجليز باعتبارهم القوى الفاعلة في السلطة.
وأراد تقديم نفسه وجماعته كبديل إسلامي لشعبية حزب الوفد الذي يُنَغص على القصر الملكي حكمه، وقد بدأ التعاون بين حسن البنا وبين الإنجليز والفرنسيين في وقت مبكر حيث قَبِل منهم تبرعا ماليا سخيا لنشاط الجماعة!
وهو التبرع الذي أثار استغراب أتباعه الذين كانوا يظنون بأنهم إزاء دعوة إسلامية تعادي المحتل وتعادي القصر الحاكم على رماح الإنجليز
وانطلقت جماعة الإخوان في تحالف معلن مع القصر لتؤيد كل قراراته وتعادي القوى الوطنية في الموقف من القصر والاحتلال، ومن أشهر مواقفهم في هذا الشأن هو تأييدهم للملك ضد مظاهرات حزب الوفد التي خرجت لتقول (الشعب مع النحاس)، ليرد الإخوان بشعار (الله مع الملك)!
كما قاموا بمظاهرات مضادة للوفد لتأييد رئيس الوزراء (إسماعيل صدقي) المعروف باسم جلاد الشعب، واستخدموا آيات القرآن لتأييده بترديدهم لقوله تعالى:
(واذكر في الكتاب إسماعيل)
وكان التطور الخطير في الجماعة هو تكوينها لجناحها المسلح (التنظيم الخاص) واعتمادها على السرية التامة في عمله.
ولم يطل شهر العسل بين القصر والإخوان، فقد تعجل حسن البنا الإعلان عن قوته، واستخدم النظام الخاص لعميات اغتيال سياسي وتفجيرات تستهدف خصومه السياسيين وعلى رأسهم الحكومات المعادية له كحكومة النقراشي وأحمد ماهر.
وكان ظهور جماعة الإخوان بهذه الصورة، واحدا من أكبر أسباب انتشار الهجمات المتزايدة على الدين الإسلامي وتاريخه وحضارته حيث تعامل العلمانيون والتغريبيون مع الإخوان على أنهم الممثلون الرسميون للإسلام.
وبالتالي حملوا أخطاءهم وجرائمهم على الدين نفسه وثوابته وحضارته حتى اليوم.
وجرت الأمور في خطها المعروف بعد ذلك.

والنوع الثالث من الصراع الذي كان على الساحة العربية هو الصراع الذي نتج عن سقوط الخلافة العثمانية، عندما تطاولت أعناق حكام القصور الملكية العربية لكي يشغلوا مكان الحكم الشاغر بسقوط الحكم العثماني.
وبالطبع لم يكن هناك حاكم عربي واحد في ذلك الوقت خارج السيطرة الأوربية، لهذا كان طموحهم مرتبطا بالبريطانيين الذين يملكون القوة لتنصيب الحكام والعروش وتقسيم السلطات بين المستعمرات المختلفة.
فتنافس على الخلافة المفترضة الملك (فاروق) الذي كان يرى أنه الأحق باعتباره يشغل منصب الملك في أكبر دولة بالمنطقة.
ونافسه الأمير (عبد الله) أمير شرق الأردن الذي كان يرى أن الإنجليز قد غدروا بوالده ولم يُمَكّنوه من إنشاء خلافة عربية بديلة.
كذلك (عبد العزيز آل سعود) الذي يحكم أكبر دولة في الجزيرة العربية!
وبالطبع يحق لنا أن نبرز الدهشة العميقة من أحلام اليقظة التي كانت تراود هؤلاء الحكام حقا.
فَهُم جميعا وغيرهم من البلاد الإفريقية يعلمون تمام العلم أنهم لا يملكون فعليا، وأن عروشهم مرهونة برغبة أصغر معتمد سامي للبريطانيين في المنطقة، وأن البريطانيين يحكمون المنطقة بأكملها ويديرونها حسب مصالحهم.
ورغم ذلك فكل ما يعنيهم أن يُبْرزوا أنفسهم أيهم أحق بالدعم البريطاني لكي يُنَصّبوه خليفة مفترض لخلافة عربية تعمل بالتفويض للعرش البريطاني!

والشيء الملحوظ في كل تلك الصراعات.
وهو الأمر الذي نؤكد عليه في هذا الكتاب كفكرة رئيسية يجب أن تظل في ذهن كل قارئ.
هذا الأمر هو أن الشعوب العربية كانت منفصلة تماما عن السلطات الحاكمة، وعن النخب الظاهرة في نفس الوقت.
بمعنى أن التيارات المتصارعة ومعاركها الضيقة سواء كانت صراعات طبقة الحكومات التابعة للاحتلال، أو صراعات النُخَب من الأحزاب والأيديولوجيات المختلفة لم يكن فيها من يعبر عن الشعوب تعبيرا كاملا، أو يحقق طموحاتها.
عدا استثناءات بسيطة مثل حزب الوفد في مصر في فترة سعد زغلول، وهو الأمر التي تراجع كثيرا في عهد (مصطفى النحاس) الذي تولى قيادة الوفد بعده وكثرت الانشقاقات في عهده، بعد انشقاق وكيل الحزب (مكرم عبيد) وتراجعت شعبية الوفد كثيرا مع الدكتاتورية التي كان يحكم بها النحاس حتى على رفاقه ورموز الحزب
فالقصد.
أن الشعوب العربية تحديدا لم تجد من يعبر عنها وكانت –منذ ذلك العهد-تتحرك بانفصال تام عن صراعات النخب والحكم وتبحث باستمرار عن قائد وقيادة تحقق طموحها في تحقيق الاستقلال والاهتمام المجرد بالمصلحة الوطنية
ومن الجدير بالذكر أن الحكومات والنخب المختلفة لم تكن تبدي اهتماما بطموحات الشعوب أيضا.
فالحكام سواء كانوا من الملوك والأمراء أو الوزارات كانت طموحاتهم كلها تتركز على المكاسب السياسية وَتُوَلي اهتمامها إلى سلطات الاحتلال الذي يملك فعليا حق المنح والمنع فيما يخص السلطة.
وهذا أمر طبيعي لأنه منذ سيطرة الإنجليز والفرنسيين على مقدرات منطقة الشرق الأوسط وتقسيمها لم تصبح مشروعية الحكومات الموجودة مستندة إلى أي شرعية شعبية من أي نوع، بل كانت شرعيتها الوحيدة هي القوة المستندة إلى سلطة الاحتلال.


أما النخب المتصارعة حول الأفكار الأيديولوجية المختلفة فهذه لم تكن تنتمي للشعوب بل تنتمي لمصدر تلك الأفكار سواء من الشرق أو الغرب، فالشيوعية تيمم وجهها للاتحاد السوفياتي، واليمينية توجه وجهها للغرب، والتغريبيون ولاؤهم المطلق لسلطة الاحتلال ... الخ تلك الصراعات.
وبالتالي.
فإن الفصل بين رغبات الشعوب ومنهجها وطموحاتها وبين النخب والحكومات، ليس ميزة معاصرة تخص واقعنا العربي اليوم أو حتى في الماضي القريب.
بل الانفصال بين الطرفين واقع وحادث منذ بدايات القرن العشرين عدا فترات بسيطة للغاية كانت الشعوب فيها متماهية مع سُلْطتها.
والأنكى من هذا.
أن هذا الانفصال أدى للظاهرة العجيبة الموجودة حتى اليوم وهي أن الفئة التي تحتل أماكن النخبة سواء في الحكم أو الإعلام دائما ما تكون هي الأقل كفاءة، والأشد ابتعادا عن ثوابت الشعوب التي من المفترض أنها تعبر عنها.
ومن يتأمل الحال اليوم في مواقف المسئولين السياسيين، وفي شاشات الإعلام يدرك ببساطة أن ما يُقَال من هذه النخب عبارة عن تعبير وترجمة حقيقية لمواقف الغرب لا مواقف الشرق، بينما الشعوب في واد آخر تماما.

وهذا يقودنا إلى حقيقة بالغة الأهمية.
أن أسلوب التعامل بين الجماهير العربية يحتاج فكرا واعيا يدرك هذا الفارق الكبير بين الحكومات والشعوب.
فالحكومات دوما ما تلجأ لاستفزاز عصبية وتعصب الجماهير ضد من يكتب عن سياسات الحكومات، بالذات إن كان المتكلم من جنسية عربية أخرى.
وبدلا من مناقشة حقائق الواقع والتاريخ تظهر دعوات العداوة الإقليمية الضيقة لتتهم التونسي بأنه يسب العراق إذا تحدث عن شأن عراقي، وتتهم الكويتي إذا تحدث عن السياسة المصرية، وتتهم المصري إذا تحدث عن السياسة الخليجية .... وهلم جرا.
بينما الفكرة الأصلح والأكثر استقلالا هو ما ينادي به دوما المفكر الكويتي عبد الله النفيسي، ومن قَبْلِه هيكل وعبد الوهاب المسيري وجمال حمدان ومحمود السعدني، من أن القوميات الضيقة والتشبث باعتبار الحاكم أنه رمز بلاده وأن انتقاده هو انتقاد للبلد ذاتها، هي أفكار انتهت من العالم منذ قرون.
فالسلطة السياسية لأي بلد أيا كان، لا علاقة لها بهذا البلد ولا موقف شعبها، والدليل على ذلك أن الحالة السياسية متفقة بين معظم أقطار الوطن العربي، حيث تعاني الكفاءات من الإهمال والتغييب، بينما يحظى المنتفعون بمراكز القيادة

وهذه الحقيقة أدركها الشعب الفلسطيني منذ وقت مبكر
فالشام كلها كانت تحت الاحتلال الإنجليزي الفرنسي، وسلطة الانتداب الإنجليزية حكمت القدس فعلا، وانتشرت المستوطنات اليهودية بسلاحها وجبروتها وأعلنت نواياها بالفعل
ولأول مرة يظهر أصحاب الأرض في الصورة، حيث كانت الثورة الفلسطينية والانتباه لما يجري في فلسطين قد اندلع بشدة عقب إعلان وعد بلفور، ولم ينتظر الفلسطينيون موقفا من حكومات البلاد الواقعين تحت سلطة الاحتلال، ولا حتى من البلاد العربية المحتلة بنفس السلطة.
لذلك قام الشعب الفلسطيني بالدعوة للمقاومة عبر الرموز الشعبية التي أفرزتها أرض الواقع أثناء المواجهة، وكان منهم الحاج (أمين الحسيني) مفتي القدس، والشيخ (عز الدين القسام) والشيخ (عبد القادر الحسيني) والشيخ (فرحان السعدي) وغيرهم من رموز المقاومة التي تشكلت بعد صدور وعد بلفور ودخول الإنجليز للقدس
والشيخ أمين الحسيني تم تعيينه في مكان الإفتاء من سلطة الاحتلال باعتبار تلك السلطة هي سلطة الحكم المباشر على القدس بعد قرار الانتداب.
وفور تقليده مكان الإفتاء أصدر فتواه بعدم جواز تقديم تنازلات لسلطة الاحتلال في قضية التوطين، كما تزعم أول منظمة شعبية تكافح الوجود اليهودي وهي منظمة (المنتدى العربي).
وأصدر الحسيني أيضا الفتوى الشهيرة له، التي اعتبرت من يبيعون أرضهم لليهود والسماسرة الذين يسهلون هذه العملية خارجين عن الإسلام ولا يجوز دفنهم في مقابر المسلمين، كما نشط في شراء الأراضي المهددة بالانتقال إلى أيدي اليهود وضمها إلى الأوقاف الإسلامي.

ومن الجدير بالذكر أن الصهيونية مارست حربا نفسية موسعة في هذا الجانب، عندما أطلقت خرافة أن الفلسطينيين قد باعوا أراضيهم لليهود، وأنهم تخلوا عن المساحات الشاسعة التي استولى عليها المستوطنون.
ولا شك أن هذه خرافة تهدف للترويج لنظرية خبيثة للغاية مضمونها أنه لا ينبغي على العرب الاهتمام بالقضية الفلسطينية، طالما أنهم قد تخلوا عن أرضهم طواعية!
ويتناسى هؤلاء أن الفلسطينيين كانوا هم أول من بدأ المقاومة ودفعوا الشق الأكبر من التضحيات المستمرة منذ بداية القرن العشرين حتى اليوم.
أما الأراضي التي استولى عليها الاحتلال فقد تمت أولا بالصفقات التي تم عقدها بين مليارديرات اليهود وبين السلطنة العثمانية في بداية مشروع التهجير.
وبعدها بدأ الاستيلاء القهري على المزارع والمساحات الشاسعة تحت رعاية الاحتلال البريطاني، ومن تعانوا معه من طبقة الإقطاع في الأراضي العربية، هذه الطبقة التي كان يوجد مثلها في كل الأقطار التي وقعت تحت الاحتلال.
ولم يكن الشعب الفلسطيني –قبل إعلان هدف الصهيونية-مشاركا أو عالما بما يجري فلما تصاعدت وتيرة الأحداث انطلقت المقاومة والحرب بينهم وبين الاحتلال وقوى الاستيطان.

وعودة إلى سياق الأحداث
حيث مارس (أمين الحسيني) دوره في المقاومة من الجانب السياسي فكان المدافع الرسمي عن الحقوق الفلسطينية تجاه سلطة الاحتلال.
بينما قام الشيخ (عز الدين القسام)، والشيخ (عبد القادر الحسيني) بالدور العسكري وتزعم فصائل المقاومة المسلحة وعملياتها ضد الاحتلال الإنجليزي واليهود على حد سواء.

ودور الحاج الحسيني بدأ عند بدء الاحتلال البريطاني لفلسطين، حيث عُيّن سنة 1918 مرافقاً خاصاً للحاكم البريطاني العسكري، ولم يلبث أن استقال من منصبه احتجاجاً على سياسة بريطانيا المؤيدة للصهيونية ومارس التعليم في كلية المعارف في القدس.
وحكمت السلطات البريطانية سنة 1920 عليه بالسجن غيابياً لتزعمه المظاهرات التي جرت في هذا العام. فهرب إلى الكرك ومنها إلى دمشق خلال عهد الملك (فيصل)
وعاد إلى القدس سنة 1920 بعد أن عفا عنه المندوب السامي (هربرت صموئيل) المعيّن حديثاً، وفاز بمنصب الإفتاء في مايو سنة 1921 خلفاً لأخيه الأكبر كامل بعد وفاة الأخير. ثم عُيّن رئيسا لـ "المجلس الإسلامي الأعلى" الذي استحدثه صموئيل، فشغل الحاج أمين هذين المنصبين الهامين-إلى حين مغادرته فلسطين مكرهاً سنة 1937-بهمة ونشاط عظيمين، فضلاً عن قيادته الحركة الوطنيّة خفية حذراً من الحكومة البريطانية.
فغدا أبرز زعماء البلد العرب وأوسعهم نفوذاً في فلسطين وخارجها
ثم قام بدور سياسي محترف عندما أدرك أن قضية الصهيونية يجب أن يتم تدويلها نظرا لأن القدس تخص المسلمين كافة، ولا ينبغي أن يتم التعامل معها على أنها قضية إقليمية تخص منطقتها فحسب كما هو الحال مع الاحتلال في كل بلد
لهذا أشرف سنة 1931 على عقد (المؤتمر الإسلامي العام) في القدس، آملاً بحشد طاقات العالم الإسلامي في مواجهة الصهيونية مقابل الطاقات العالمية التي كانت قد حشدتها هذه الأخيرة.
وكان من نتائج المؤتمر أن توطّدت سمعة الحاج أمين عربياً وإسلامياً. وقام سنة 1933 بجولة في عدد من الدول العربية في العراق والكويت والمملكة السعودية، للحض على دعم القضية الفلسطينية، وتولي مهمة الوساطة بين السعودية واليمن سنة 1933 لإنهاء ما نشأ بينهما من نزاع واقتتال.
ثم ترأس سنة 1936 "اللجنة العربية العليا" التي ضمت زعماء الأحزاب الفلسطينية كافة والتي قادت "الإضراب العام" سنة 1936 و"الثورة الفلسطينية الكبرى" سنة 1937-1939 ضد مشروع تقسيم البلاد الذي أوصت به "اللجنة الملكية البريطانية" برئاسة (اللورد بيل) وهي الثورة الفريدة التي سنتعرض لتفاصيلها باعتبارها الحدث الأيقوني في تاريخ المقاومة الفلسطينية.
وعندما نفذت المقاومة ضربتها باغتيال حاكم منطقة الجليل (لويس أندروز) في 1937- بعد صدور مشروع التقسيم – عزلت الحكومة البريطانية الحاج أمين من رئاسة المجلس الإسلامي وقررت إلقاء القبض على أعضاء اللجنة العربية العليا بكامل تشكيها، فلجأ الأخير إلى الحرم الشريف ومنه سراً إلى يافا ثم لبنان حيث أقام، ليدير الثورة من منفاه إلى حين اندلاع الحرب العالمية الثانية سنة 1939، الأمر الذي اضطره إلى الخروج من لبنان واللجوء إلى العراق، هرباً من الاعتقال من قبل السلطة الفرنسية الانتدابية, حيث كانت فرنسا تسيطر على لبنان وسوريا ضمن التقسيم المتفق عليه بينها وبين بريطانيا.

قديم اليوم, 11:29 AM
المشاركة 14
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • موجود
افتراضي رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)

وعلى صعيد المقاومة العسكرية.
كانت الأحداث قد اشتعلت بشكل منتظم منذ عام 1920م، في القدس والخليل واندلعت الاشتباكات التي أسفرت عن مقتل 200 يهوديا تقريبا، فقامت القوات البريطانية بقتل 116 فلسطينيا أثناء محاولتها إخماد أعمال المقاومة.
غير أن مواجهة البريطانيين لأعمال المقاومة بالقوة تسببت بتصاعد وتيرة العمليات وزيادتها عنفا، فحاولت بريطانيا –بأسلوبها المعهود-امتصاص المقاومة من خلال التفاوض أو التنازل فأصدرت حكومة الاحتلال قرارا بتحديد وتنظيم هجرة اليهود المستمرة على قدم وساق إلى فلسطين.
وكان قرارا سياسيا مخادعا حاولت به بريطانيا أن تظهر وكأنها طرف محايد بين الجانبين المتصارعين، العرب واليهود، وهي نفس اللعبة المفضلة للبريطانيين والغرب عموما حيث يخترعون هم بأنفسهم التيارات المضادة للشعوب ثم يعلنون أنهم يهدفون إلى الوساطة بين المتصارعين باعتبار أن كل طرف منهما له حق فيما يدعيه!
غير أن تلك المحاولات لم تجد نفعا، وذهلت بريطانيا والحركة الصهيونية عندما أدركت أن الشعب الفلسطيني لم يكن تائها عما جرى، وأنه كان يراقب الأحداث تماما كما توقع مفكرهم اليهودي (آثر زئيفي) الذي تعرضنا لتصريحاته سابقا، وكان فيها يحذر من أن تعامل الحركة الصهيونية مع العرب باعتبارهم مجرد بدو لا يدركون شيئا هو أمر مجافي للحقيقة وأن العرب يعلمون ويدركون وينتظرون تطور الأحداث

وبالفعل.
ظهرت على الساحة أول تنظيمات الكفاح المسلح باسم (الكف الأسود) والتي تزعمها الشيخ (عز الدين القسام)
وقد كان الشيخ القسام أقام فترة من حياته بمصر عام 1982م أثناء دخول الاحتلال الإنجليزي لمصر، وشهد أجواء الغليان الوطني ضد الاحتلال البريطاني، عقب فشل الثورة العرابية.
ومن خلال الانتفاضات الشعبية المستمرة ضد الاحتلال وحكومة الخديوي، أدرك القسام أن مقاومة الاحتلال الفعلية تكمن في استمرار الضغط بالكفاح المسلح، حيث أنه الطريقة الحقيقية التي تؤدي إلى نتائج فعلية على الأرض
فمارس القسام نشاطه الدعوي أولا ضد الاحتلال الغربي بعموم، حيث دعا بعد هجوم إيطاليا على ليبيا سنة 1911 إلى نصرة الشعب العربي الليبي عن طريق التظاهر والتطوع للقتال إلى جانبه
ثم كان من أوائل من انضم إلى الثورة ضد الاحتلال الفرنسي في الساحل السوري ما بين سنة 1919-1920، وأبلى في قتالهم أحسن البلاء في الجبال المحيطة بقلعة (صلاح الدين) فوق اللاذقية، فأدرك الفرنسيون خطورته وحكموا عليه بالإعدام.

فالتجأ القسّام مع أسرته وبعض إخوانه إلى مدينة حيفا في أواخر سنة 1920م
وشارك القسّام في تأسيس فرع (جمعية الشبان المسلمين) في مدينة حيفا، وتم انتخابه رئيساً لها، فكانت هذه الجمعية وسيلة فعّالة لنشر الوعي الوطني بين صفوف الشباب والرجال واستقطابهم.
ثم عُيّن القسّام سنة 1930 مأذوناً شرعياً من قبل المحكمة الشرعية في حيفا، فصار يخرج إلى قرى الجليل ويتصل بالناس ويتعرّف إليهم، الأمر الذي زاد من شيوع صيته.
وعندما انكشفت خطة الصهيونية وموقفها من فلسطين بعد قرار الانتداب ووعد بلفور
وصل إلى قناعة بأن بريطانيا هي الشيطان الأكبر المسئول عن كل ما يجري، وأن لا سبيل إلى ردعها سوى بالكفاح المسلح المباشر ضدها وتهديد مصالحها.
ونجح في رعاية واستقطاب الأهالي والفقراء الذين تمت مصادرة أراضيهم ومزارعهم بقرار سلطة الانتداب وحل محلهم المستوطنون اليهود.
ورغم أن الشيخ القسام كان يدرك تماما أن المقاومة المسلحة تتطلب تنظيما ووقتا وجهدا كبيرا حتى تنجح بالشكل المطلوب
إلا أن تسارع الأحداث في الثلاثينيات، وزيادة طوفان الهجرة إلى فلسطين، بالإضافة إلى المراقبة والتتبع الذي تعرض له من سلطة الاحتلال جعلته يخشى تأجيل قرار المقاومة، خوفا من أن يقوم الاحتلال بخطوة استباقية لاعتقاله.
كل هذه الأمور جعلته يندفع إلى إعلان الجهاد في نوفمبر 1935م، ولم ينتظر انضمام المتطوعين له بل بادر في نفس اليوم ليلاً إلى حيفا واتجه مع أحد عشر فردا فقط من إخوانه إلى قرية (يعبد) التابعة لمنطقة (جنين) فخاض معركة غير متكافئة-دامت ست ساعات-مع القوات البريطانية، حيث استشهد الشيخ فيها مع أربعة من رجاله وجُرح وأُسر الآخرون.
ولم تكن مبادرة الشيخ بهذه التضحية مجرد رغبة في الاستشهاد أو عملية محدودة، فقد قام بها مع هذا العدد القليل وهو يدرك تماما أهدافه منها.
فلو تمكن من النجاح في الهجوم والنجاة بعد ذلك فسيكون هذا الحدث إيذانا بحماسة الشعب كله وانضمام الآلاف منهم للمقاومة، وإثبات ضعف العدو وإمكانية تركيعه.

ولو انتهى الهجوم باستشهاده، فسيكون هذا الحدث أيضا أيقونة للشعب ودافعا له على بداية الكفاح المسلح والشعبي
ويشاء الله أن تتحقق توقعاته بالفعل.
فقد كانت سمعة الشيخ القسام قد انتشرت بشكل كثيف في الشام والوطن العربي، ورأى فيه الناس زعيما مُعَبرا عنهم بحق، بعد أن جمع الشيخ بين العلم والجهاد، لهذا فَجّر استشهاده غضبا عارما بين الناس
وشهدت مدينة حيفا إضراباً شاملاً في 21 تشرين الثاني 1935، بعد وصول خبر استشهاده، فأُغلقت الحوانيت والمتاجر والمطاعم، وودع الآلاف من سكانها الشهيد عز الدين القسّام ومن استشهد معه من أنصاره في أضخم جنازة عرفتها المدينة.

وبعد جنازة الشيخ بدأت إرهاصات أعظم ثورة شعبية عمالية في التاريخ، وهي ثورة الشعب الفلسطيني عام 1936م
والتي وصفها مؤرخون إسرائيليون معاصرون، أنهم عندما يطالعون أحداث تلك الثورة يتعجبون كيف أنها لم تقض على المشروع الصهيوني بأكمله؟!
لأنها كانت أكبر إضراب عمالي شهده العالم باستمراره لثلاث سنوات عانت فيها سلطة الاحتلال أشد المعاناة سواء من الأثر الاقتصادي أو الأثر العسكري عندما تزامنت المقاومة المسلحة مع فعاليات الإضراب.
وقد شهدت الثورة ظهور المجاهد الكبير (عبد القادر الحسيني) الذي برز كخليفة للشيخ عز الدين القسام.

وقد تميزت ثورة عام 1936م، عن الثورات التي قامت ما بين 1920 و1933، إذ أن الثورات الفلسطينية قبل ثورة 1936م، كانت هَبّات أو انتفاضات، أما ثورة 1936 فقد توافرت لها شروط الثورة هدفاً وأداة وأسلوبا، وهي تمثل محطة بارزة في حركة النضال الوطني الفلسطيني ضد الصهيونية والاستعمار البريطاني منذ أواخر القرن التاسع عشر، فهي نقلة نوعية في توجهات هذا النضال بعد حالة الوهن العام التي اعترت الحركة الوطنية الفلسطينية في أعقاب ثورة البراق عام م.1929
وقد بدأت ثورة 1936 بطريقة شبه عفوية ما لبث أن استقطبت الشعب على نحو غير مسبوق، على أهداف وقف الهجرة اليهودية، ومنع بيع الأراضي واغتيال باعة الأرض والسماسرة والجواسيس والتصدي لمشروع التقسيم الذي كانت بريطانيا تمهد لتنفيذه، وصيانة عروبة فلسطين والحفاظ على أراضيها ومنع تهويدها، وإعلان استقلالها في وحدة عربية شاملة
ولجأت الثورة إلى الكفاح المسلح أسلوبا، لانتزاع حقوقها من الاستعمار البريطاني، وبهذا جمعت الثورة بين عاملين من أهم عوامل التأثير.
وهما الإضراب الموجه للنشاط الاقتصادي الذي هدد مصالح الاحتلال، والمقاومة العسكرية النوعية وغير التقليدية والتي أدت إلى نجاحهم في عمليات عسكرية صرفه رغم افتقادها أدوات القتال.
فشهدت الثورة معركة (بلعا) التي تعتبر أضخم معارك ثورة 1936 التي استطاع الثوار خلالها تحقيق نتائج عسكرية مذهلة ضد البريطانيين
وذلك عندما تجمع 50 رجلا فقط من المقاومة الفلسطينية والمتطوعين العرب بقيادة (فوزي القاوقجي) في قرية (بلعا) لاستهداف الطريق الاستراتيجي المطل على القرية والذي تستخدمه قوات الاحتلال في تغذية قوافل الاستيطان اليهودي.
وقاموا بزرع الألغام بطول الطريق، وانقسموا إلى أربع مجموعات تمركزت على الطريق الرئيسي وعلى طريق الانسحاب المتوقع للقوات البريطانية واليهودية.
وبالفعل دخلت الطريق عشرين مركبة عسكرية للاحتلال ووقعت في فخ محكم وتمت إبادتها، وحاول بعضها الانسحاب لتتلقاهم المجموعات الاحتياطية ففتكوا بهم جميعا.
فأرسلت بريطانيا خمسة آلاف جندي دفعة واحدة مدعمين بعشر طائرات، بالإضافة إلى مدافع الميدان، دون أن يتخيل البريطانيون أنهم يواجهون مقاومة شعبية مكونة من عدد محدود من الرجال، واستمرت المعركة يوما كاملا أسقطت فيه المقاومة أربع طائرات ببنادقهم العادية!
لتأمر قيادة المقاومة رجالها بالانسحاب إلى المرتفعات، والذي تبعه أيضا انسحاب القوات البريطانية وهي تجهل طبيعة القوة التي تحاربها، لتنتهي واحدة من أعجب الاشتباكات العسكرية في التاريخ، والتي تعتبر فضيحة للجيش البريطاني بكل إمكانياته أمام عدد محدود بأسلحة خفيفة تقتصر على البنادق!

واستمرت الأحداث تتوالى.
فعقدت اللجان القومية مؤتمراً عاماً لها في القدس، وقرر هذا المؤتمر تشكيل قيادة مركزية للحركة الوطنية مقرها القدس
فتألفت "اللجنة العربية العليا لفلسطين" برئاسة (أمين الحسيني) وعضوية ممثلي الأحزاب الفلسطينية جميعها، وممثلين عن المستقلين، واتخذت "اللجنة العربية العليا" القرار التالي وأعلنته على الشعب:
(دعوة الشعب العربي الفلسطيني إلى مواصلة الإضراب العام حتى تبدل الحكومة البريطانية سياستها وتغير مواقفها، وأن تكون البادرة الأولى لهذا التبديل وقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين)
ولقد كان الثوار متفقين على أن يتأخر إعلان الثورة المسلحة بعض الوقت وأن تركز الجهود على الإضراب واستمراره.
فرفضت بريطانيا طلب العرب بوقف الهجرة اليهودية كما أعلنته اللجنة العربية العليا لفلسطين، وقامت بتحديهم بإصدار شهادة هجرة جديدة قدمتها للوكالة اليهودية لإحضار أعداد كبيرة من المهاجرين إلى فلسطين.
ورداً على هذا التحدي قرر القادة الفلسطينيون عدم الانتظار وتأجيل إعلان الثورة المسلحة، وتنفيذاً لهذا القرار أعلن "جيش الجهاد المقدس" الثورة المسلحة على الأعداء (مكون من جميع التشكيلات والمنظمات العسكرية السرية ومن انضم إليها فيما بعد، وقد اختير لقيادته عبد القادر الحسيني)
وشرع المجاهدون يهاجمون ثكنات الجيش والشرطة والمستعمرات اليهودية، ويدمرون طرق المواصلات ويهاجمون قوافل الأعداء وتجمعاتهم، واقتصرت أعمال الثورة في أيامها الأربعة الأولى على لواء القدس وحده لكنها ما لبثت في اليوم الخامس أن عمت أنحاء فلسطين في المدن والقرى والبادية.

وبدأت العمليات في البداية في المدن وانتشرت فيها، حيث انتشرت في يافا، ونابلس، والقدس، وطبريا وحيفا وصفد، فاستفزت قوات الاحتلال في المدن التي أصبحت في اشتباك دائم مع الخلايا المقاتلة وركزت نشاطها في نابلس والقدس ويافا حيث كانت الخلايا الثورية نشطة فحشدت لهم قوات كبيرة من الجيش نتيجة لذلك تحول الثوار إلى الريف وانضموا إلى الجماعات الثورية التي كانت تعمل هناك، ولم تكن هذه المجموعات موحدة بل كانت متعددة القيادة.
حيث بادر المواطنون للتطوع وشراء السلاح والاشتراك في المعارك فتعددت نقاط المقاومة العسكرية في كل قرية وظهرت منها نماذج أيقونية.
منهم الشيخ (فرحان السعدي) أحد أبناء منطقة (جنين)، وكان شيخا كبيرا في السن ناهز الثمانين عاما، ومع ذلك كان أول من حمل السلاح فعليا في أحداث الثورة عام 1936م، وبادر بمهاجمة المراكز اليهودية والبريطانية
وألقي القبض عليه في قرية (نورس) بعد عام كامل من ممارسته لنشاطه هو ومجموعته، وحكموا عليه بالإعدام ونفذوا الحكم بالفعل.
فتشكلت عشرات من المجموعات الأخرى المحلية على غرار ما فعله الشيخ (السعدي)، في كل قرية ومدينة ومنهم مجموعة الشهيد (على العبويني) في قرية (السلط) والذي باع مطحنه الذي يعتبر رأسماله التجاري، وجمع ما يحتكم عليه من مال ليشتري السلاح لمجموعات الثوار ولمجموعته، وبالفعل اشترك في المقاومة واستشهد في أحداث الثورة
وكان اللافت للنظر اشتراك النساء في المعارك، حيث حملوا السلاح وحاربوا فعليا في الخنادق مع المجاهدين مما تسبب في صدمة لقوات الاحتلال والعصابات الصهيونية

وسقطت إلى الأبد تلك النظرية التي كان يروجها (تيودور هيرتزل)، والتي كانت تصف فلسطين بأنها أرض بلا شعب لشعب بلا أرض.
فقد انتفضت الأرض نفسها برجالها ونسائها وأطفالها وحتى صخور جبالها للدفاع والمقاومة وبشراسة منقطعة النظير وفدائية أذاقت الجيش البريطاني الأقوى في العالم أَمّر الهزائم.
ثم طرأ تطور نوعي في الميدان بدخول (فوزي القاوقجي) – بطل معركة بلعا السابق الإشارة إليها-وقواته إلى منطقة (المثلث) وتدفق المتطوعون من الأردن وسوريا ولبنان وانضموا إلى الجهاد المقدس ونتيجة لذلك تحولت الثورة في شهرها الثالث إلى معارك مكشوفة مع القوات البريطانية في شتى أنحاء فلسطين.

وهكذا نثبت للقارئ ما سبق أن قررناه، أن الرهان على الشعوب دوما كان هو الخيار الصحيح، فمنذ أن أعلن الشعب الفلسطيني عن نفسه بالمقاومة وانتخب قياداته خارج الإطار الرسمي الخانع حتى تغيرت أحداث المنطقة وواجه البريطانيون واليهود موقفا عصيبا.
وبمجرد إعلان الجهاد تدفق المتطوعون من سائر الدول العربية بقرار شعبي لم ينتظر أي تحركات رسمية كان يعلم أنها لن تأت أبدا.
وتصاعدت وتيرة العمليات مع زيادة أعداد المتقدمين للجهاد
فاستهدفت المقاومة حركة النقل العامة والمواصلات السلكية وسدت الطرق ونسفت الجسور وخطوط السكك الحديدية، وكذلك خط النفط الواصل بين العراق وحيفا
وأخذت المجموعات السرية داخل المدن تغتال الموظفين البريطانيين وضباط الجيش والشرطة والجواسيس وباعة الأراضي والسماسرة وَتُلقي المتفجرات على الدوائر الحكومية وحقق الثوار انتصارات في العديد من المعارك وأصبحت هذه الهجمات ظاهرة مألوفة في (مثلث الرعب) كما سماه الجنود البريطانيون إشارة إلى المنطقة الواقعة بين نابلس وجنين وطولكرم.
كما وقعت معارك كبيرة في مرج (ابن عامر) و(وادي عزون) و(بابا الواد)، سقط فيها العديد من شهداء المقاومة لكن سقط معهم أكثر من الجنود البريطانيين.
وأثبتت الثورة أنها عصيه على السحق العسكري وأظهرت القدرة على القتال وكانت أعمال العنف والقمع تعزز روح المقاومة وتزيد في أعداد المنتسبين إليها
في المقابل اتخذت حكومة الانتداب تدابير عسكرية لقمع الثورة وفرضت الغرامات المادية الثقيلة والعقوبات الجماعية وعقوبات الإعدام واعتقلت الكثيرين وقامت بتخريب الممتلكات ونسف البيوت وهدم الحي القديم في مدينة يافا على رءوس سكانه...الخ.
ومع كل ذلك لم تستطع أن تخمد الثورة الشعبية.

وشعرت بريطانيا بعجزها عن وقف الثورة وإنهاء الإضراب بالطرق العسكرية فلجأت إلى الاستراتيجية التي تميزت بها وهي التراجع خطوة إلى الوراء والتفاوض السياسي.
فأعلنت أنها قررت إيفاد لجنة ملكية للتحقيق في قضية فلسطين وشكاوى الناس، ووضع التوصيات لحل القضية حلاً عادلاً كما زعمت
فما الحل الذي رأته بريطانيا حلا ناجحا لإيقاف الثورة أو على الأقل تهدئة الأجواء.
كان الحل –الذي لا زال الغرب يستخدمه إلى اليوم – هو توسيط بريطانيا لبعض الحكام العرب لإقناع الفلسطينيين بوقف الثورة، وقد حضر بعضهم إلى فلسطين ليجدوا إصراراً عظيما على الاستمرار في الثورة حتى تتحقق مطالبهم.
وتجددت الاتصالات بين القيادات العربية والقيادات العليا للثورة ولكن دون جدوى لأن قيادات الثورة الفلسطينية لم تجد فارقا بين مفاوضات البريطانيين وبين مفاوضات الحكام العرب الذين كانوا وكلاء عن بريطانيا في كافة أعمالها، وكان هذا الأمر معروفا لدى جموع الشعوب العربية منذ قصة الثورة العربية وما حدث فيها!

ولم تجد بريطانيا إلا العودة لسياسة حرق الأرض فاستحضرت بريطانيا قوات إضافية لسحق المقاومة حيث بلغ عدد القوات البريطانية في النصف الأول من أغسطس 1936 في فلسطين 70 ألف جندي
بالإضافة إلى نحو أربعين ألفا من قوات الشرطة النظامية والإضافية وقوة حرس الحدود في شرق الأردن وحرس المستعمرات اليهودية وقوات العصابات الصهيونية الشهيرة (الهاجاناه) ومعها بقية المنظمات المماثلة التي كانت تعمل كمنظمات إرهاب محترفة ومرتزقة
أي أن البريطانيين واليهود حشدوا للمقاومة ما يقارب من 140 ألف جندي وإرهابي، وهو حشد مذهل إذا عرفنا أن بريطانيا قد احتلت أقطارا كاملة، وواجهت جيوشا في شرق آسيا وإفريقيا بمعشار هذا الرقم.

وعلى الرغم من ذلك فشلت هذه الجهود وذهبت أدراج الرياح وظلت الثورة مشتعلة دون مهادنة أو ضعف.
ولكن التغير النوعي الحادث كان يكمن في نفاذ السلاح والمؤن، حيث كانت المقاومة تحارب فعليا بالجهود الذاتية ضد إمكانيات لا محدودة للعدو وسلاح لا ينفذ
فتدخل الملوك العرب مرة أخرى بطلب من بريطانيا التي كانت تهدف لإنهاء الإضراب – ولو مؤقتا-بأي ثمن.
فقام الحكام العرب بتوجيه رسالة إلى رئيس اللجنة العربية العليا لفلسطين لفك الإضراب وإنهاء المقاومة ولو مؤقتا فاستجابت القيادة خاصة بعد نفاذ القدرات الاقتصادية للشعب الفلسطيني وعدم وجود تعويض للفاقد أو دعم من أي نوع
ولم يكن هناك بد من التوقف خاصة بعد أن اشتعلت الأحداث العالمية بإرهاصات الحرب العالمية الثانية عام 1939م.
وكانت المقاومة الفلسطينية بعد ثلاث سنوات من القتال المستمر، واستمرار الإضراب طيلة هذه السنوات بلا ملل أو كلل، قد ضعفت قوتها كثيرا خاصة بعد أن فقدت رموز المجاهدين وعددا من قادتها الذين استشهدوا في الحرب ومنهم القائد العام (عبد الرحيم الحاج محمد)، وإصابة القائد (عبد القادر الحسيني) بإصابة فادحة استدعت رحيله مؤقتا لخارج البلاد عام 1938م.
فهبط معدل المعارك الفلسطينية ضد الاحتلال وأفلت زمام المبادرة من الثوار وانتقل إلى أيدي القوات البريطانية التي تحولت مع المنظمات الصهيونية إلى موقع الهجوم.
لكنهم لجئوا إلى نزع سلاح الثوار والمقاومة دون استخدام القوة الباطشة حتى يُغْروا الشعب بإيقاف فعاليات الثورة.
خاصة بعد أن أدرك البريطانيون أن الضرب العشوائي وسياسة حرق الأرض كان تزيد المقاومة لا العكس.

وكان من نتائج الثورة المهمة أنها كشفت القيادات المحلية والعربية التي تدخلت في قضية فلسطين بشكل أسهم في إجهاض الثورة وتعطيلها فضلا على سكوتهم عن دعم المقاومة سواء بالسلاح أو حتى بالدعم الاقتصادي المحض، ولذلك فالفلسطينيون قد اعتادوا فعليا على موقف الحكومات العربية منذ ذلك الحين
وهكذا انتهت أول الجولات الكبرى للمقاومة العربية الفلسطينية التي وقف خلفها الشعب الفلسطيني مع المتطوعين من الشعوب العربية.
وكانت دائرة الحوادث تؤدي حتما إلى النجاح المطلق للثورة وانهيار الحلف الغربي – الصهيوني وفشل مشروع الدولة اليهودية تماما، وذلك باعتراف عدد من أساتذة التاريخ الإسرائيليين المعاصرين
لولا أن وقفت الثورة عزلاء وقد نفذ سلاحها في مواجهة قوة عسكرية عظمى، وفي مواجهة تواطؤ حكومي عربي لم يكتف بالوقوف المحايد بل وقف ليكون خير عون للأهداف الغربية ولتثبيط همم المجاهدين، وتخويفهم من العواقب إذا استمرت الثورة مشتعلة!
وإذا شعرت عزيزي القارئ أن أحداث ثورة 1936م، مشابهة تماما لأحداثنا المعاصرة، فاعلم أن شعورك صحيح.
لأن الفيلم الحادث ليس فيلما جديدا بل هو فيلم متعدد الأجزاء بنفس السيناريو ونفس المخرج، لكن الاختلاف فقط في أشخاص الممثلين
وهكذا نرى أنه بنهاية هذا الفصل نستطيع أن نقول بأنه من بداية عام 1914م, وقت اشتعال الحرب العالمية الأولى, واجه المشروع الصهيوني أكبر خطر وجودي في تأسيسه عندما اشتعل الصراع الأوربي بين الجبهة الغربية (راعية المشروع) والجبهة الشرقية (المعادية للمشروع), ولكن سارت الأحداث القدرية لينتصر الحلفاء وتخرج بريطانيا من الحرب وهي القوة الأعظم في العالم, وهو ما يساهم في تسريع الخطى بالنسبة للمشروع الصهيوني للدرجة التي أعلنت فيها بريطانيا تبنيها للمشروع الصهيوني عبر وعد بلفور, فضلا على احتلالها للقدس وفلسطين كراعية رسمية له على الأرض.

ثم تعرض المشروع الصهيوني لمفاجأة عاصفة وصدمة غير متوقعة هددت وجوده واستمراره بالفعل، وهي اشتعال المقاومة المسلحة من السكان الأصليين العرب وإعلان الجهاد ضد الاستيطان اليهودي.
وهو الأمر الذي تبعه إعلان الثورة الشاملة ضد بريطانيا والعصابات الصهيونية عام 1936م، والتي حملت للغرب مفاجأة تلو مفاجأة
كان أول المفاجآت أن العرب في فلسطين أثبتوا أنهم موجودون على خط الأحداث، وأن السيطرة على الحكم والحكومات العربية من الاحتلال البريطاني لن يمثل شيئا لشعوب المنطقة التي تتحرك منفردة دفاعا عن قضاياها القومية، وتنتخب قياداتها الشعبية المعبرة عنها من واقع الأرض لا من كراسي الحكم أو عروش السلطة.
وعندما حاولت بريطانيا استخدام الملوك والحكام العرب الذين تملك ولاءهم، اكتشف البريطانيون أن الثورة الشعبية لا تأبه بهم، وأن هؤلاء الحكام لا يمثلون قيمة شرعية لدى عموم الناس.
وكان ثاني المفاجآت.
هو قدرة عرب فلسطين على تنفيذ الإضراب العمالي الأقوى في التاريخ، مع أن التقارير البريطانية والغربية جزمت باستحالة قدرة الشعوب العربية على اتخاذ موقف جماعي وثوري بهذه الثورية وهذا التنظيم.
وكان ثالث المفاجآت.
هي قدرة الشعب الفلسطيني والمتطوعين العرب على إعلان الحرب ضد بريطانيا واليهود بهذه القوة والجسارة ودون أي إمكانيات على الإطلاق اللهم إلا مدخراتهم وأموالهم التي بذلوها في سبيل شراء السلاح لينجحوا –دون أدنى خبرة عسكرية-في تركيع الجيش الإمبراطوري البريطاني بحرب عصابات دفعته دفعا لاستدعاء الآلاف من جنوده لجبهة القتال دون فائدة حتى اضطر لطلب المفاوضات عدة مرات.
ولولا نفاذ المؤن والسلاح من الثورة لاستمرت المقاومة حتى إجلاء القوات البريطانية وعصابات المستوطنين
وكانت هذه المفاجآت التي نجا منها المشروع الصهيوني بعامل القدر وحده، تثبت للبريطانيين ودعاة الصهيونية أن تخطيطهم الاستراتيجي ينقصه رقم مهم وخطير في المعادلة ألا وهو وجود الشعوب العربية التي حسبوها مجموعة من البدو لا تهتم إلا بمراعيها وحياتها اليومية، وكانت هذه الحقائق صدمة توقفوا عندها طويلا قبل أن تدهمهم أحداث الحرب العالمية الثانية التي كانت أخطر حدث يتعرض له المشروع الصهيوني وكاد أن يتسبب في فشله فعلا.
لولا أيضا أن تدخل القدر وتغيرت نتيجة الحرب بفوز الحلفاء.
وهو سنعرض له في الفصل القادم
يتبع إن شاء الله



مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
كيف نفهم تفسير ايتين من سورة طه جمع فيهما اليم والبحر فجر الاعلون منبر الحوارات الثقافية العامة 0 08-22-2019 02:33 PM
ماذا يجري في تركيا ؟ وكيف نفهم الانقلاب الظاهر في السياسة الخارجية ؟ ايوب صابر منبر الحوارات الثقافية العامة 43 10-12-2016 03:03 PM
ملكة النقد وفهم الاعماق منار فتحي منبر القصص والروايات والمسرح . 8 04-15-2015 02:19 PM
دعوة لقراءة بعض نصوص جبران خليل وفهم مقاصده ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 13 08-21-2014 02:22 PM
كيف نفهم الإسلام ؟ عبدالسلام حمزة منبر الحوارات الثقافية العامة 6 04-12-2011 09:58 AM

الساعة الآن 12:18 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.