واعلموا رحمكم الله أن الناس في ذكر الموت على أقسام فمنهم المنهمك في لذاته المثابر على شهواته، المضيع فيها ما لا يرجع من أوقاته، لا يخطر الموت له على بال، ولا يحدث نفسه بزوال، واتخذ إلهه هواه، فأصمه وأعماه وأهلكه وأرداه.
فإن ذكر له الموت نفر وشرد، وإن وعظ أنف وبعد، وقام في أمره الأول وقعد، قد حاد عن سواء نهجه، ونكب عن الطريق الصحيح، وأقبل على بطنه وفرجه، تبت يداه وخاب مسعاه.
وكأنه لم يسمع قول الله جل جلاله: ]كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ[ وقوله تعالى: ]قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ[.
وهذا وأمثاله إن ذكر له الموت تصامم عن ذكره كأن لم يسمع ولم يمكنه من فكره رجاء أن يبلغ ما أمل أو يدرك بعض ما تخيل فعمره ينقص، وحرصه يزيد، وجسمه يخلق ويضعف، وأمله جديد، وحتفه قريب.
يحرص حرص مقيم ويسير إلى الآخرة سير مجد كأن الدنيا عنده حق اليقين والآخرة ظن من الظنون.
أَتَحْرِصُ يَا ابْنَ آدَمَ حِرْصَ باقٍ
وتَعْمَلُ طُوْلَ دَهْرِكَ في ظُنُونٍ
وأنْتَ تَسِيْرُ وَيْحَكَ كُلَّ حِيْنِ
وأنْتَ مِن المنُونِ على يَقِيْنِ
وقسم آخر وقليل ما هم من أزيل عن عينيه قذاها، وكشف عن بصيرته عماها، وعرضت عليه الحقيقة فرآها، وأبصر نفسه وهواها، فزجرها ونهاها وأبغضها وقلاها.
فلبى المنادي، وأجاب الداعي، وشمر لتلافي ما فات، والنظر فيما هو آت، وتأهب لهجوم هادت اللذات، ومفرق الجماعات، واستعد لحلول الشتات والانتقال إلى محلة الأموات.
ومع هذا فهو يكره أن يشهد وقائعه أو يرى طلائعه وليس يكره الموت لذاته ولا لأنه هادم للذاته، ولكنه يخاف أن يقطعه عن الاستعداد ليوم المعاد، والاكتساب ليوم الحساب.
ويكره أن تطوى صحيفة عمله قبل بلوغ أمله، وأن يبادر بأجله قبل إصلاح خلله، وتدارك ذلـله، فهو يريد البقاء في هذه الدار لقضاء هذه الأوطار والإقامة بهذه المحلة بسبب هذه العلة.
هذا لله دره يرجى له المغفرة من الله والسرور والحبور لتوبيخه نفسه واستعظامه لذنوبه ورجائه المغفرة.
وقال ابن السمالك إن الموتى لم يبكوا من الموت ولكنهم يبكون من حسرة الفوات فاتتهم والله دارٌ لم يتزودوا منها، ودخلوا دارًا لم يتزودوا لها.
فأية ساعةٍ مرت على من مضى وأية ساعةٍ بقيت علينا والله إن المتفكر في هذا لجدير أن يترك الأوطان، ويهجر الخلان، ويدع ما عز وما هان.
وقال إبراهيم النخعي كانوا يشهدون الجنازة فيرى فيهم ذلك أيامًا كأن فيهم الفكرة في الموت، وفي حال الميت.
وقال مطرف بن عبد الله ابن الشخير عن أبيه أنه كان يلقى الرجل من خاصة إخوانه قد بعد عهده به فلا يزيده على السلام حتى يظن الرجل في صدره عليه موجدة، أي غضب كل ذلك لانشغال فكره بالجنازة وتفكره فيها وفي مصيرها حتى إذا فرغوا منها لقيه وسأله عن حاله ولاطفه وكان منه على أحسن ما عهد وقال الأعمش كنا نشهد الجنازة ولا ندري من المعزى فيها لكثرة الباكين وإنما بكاؤهم على أنفسهم لا على الميت.
شعرًا:
ماذا تُؤمِّلُ والأيَّامُ ذَاهِبَةٌ
وصَيْحَةٍ لِهُجْومِ المَوْتِ مُنْكَرةٌ
وغُصَّةٍ بِكُؤوْسِ أَنْتَ شاربُهَا
يا غَافِلاً وهْوَ مَطْلُوبٌ ومُتَّبَعٌ
خُذْهَا إليْكَ طِعَانًا فِيْكَ نَافِذةً
إنَّ المنِيَّةَ لَوْ تُلْقَى عَلَى جَبَلٍ
ومِنْ وَرَائِكَ للأيَّامِ قُطِّاعُ
صُمَّتْ لِوَقْعَتِهَا الشَنْعَاءِ أَسْمَاعُ
لَهَا بقَلْبِكَ آلامُ وَأَوْجَاعُ
أَتَاكَ سَيْلٌ مَن الفُرْسَانِ دَفَّاعُ
تَعْدِى الجَلَيْسَ وأمْرُ لَيْسَ يُسْطَاعُ
لأَصْبَحَ الصَّخْرُ منْهُ وَهْوَ ميَّاعُ
اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا ولا تؤاخدنا بما انطوت عليه ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
ذكر كلام بعض المرضى والمحتضرين
ولما احتضر أبو بكر الصديق رضي الله عنه جاءته أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ فلما رأته تمثلت بهذا البيت:
لَعَمْرِكَ مَا يُغْنِي الثراءُ عن الفَتَى
إذا حَشْرجَتْ يومًا وضاق بها الصَّدرُ
فكشف أبو بكر عن وجهه وقال ليس كذلك ولكن قولي: ]وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ[، ثم قال في كم كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: في ثلاثة أثواب بيض سحولية، فقال: خذوا هذا الثوب لثوبٌ كان عليه قد أصابه مسك أو زعفران فاغسلوه ثم كفنوني فيه مع ثوبين آخرين وكان ثوبًا خلقًا. فقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ ما هذا تريد أنه خلق. فقال أبو بكر الحي أحوج إلى الجديد من الميت إنما هذا للمهل "أي للصديد والقيح".
ويروى عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه أنه قال لما احتضر أبو بكر الصديق رضي الله عنه أتاه ناسٌ من أصحابه قالوا له يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا نراك ألم بك فأوصنا بوصية وزودنا منك بموعظة.
فقال من قال هذه الكلمات ثم مات جعل الله روحه في الأفق المبين فقالوا وما الأفق المبين قال قاع بين يدي العرش فيه رياضٌ وأشجارٌ وأنهارٌ فمن قال هذا القول جعله الله في ذلك المكان.
اللهم إنك ابتدأت الخلق من غير حاجة بك إليهم ثم جعلتهم فريقًا للنعيم وفريقًا للسعير فاجعلني للنعيم ولا تجعلني للسعير.
اللهم إنك خلقتهم وميزتهم قبل أن تخلقهم فجعلت منه شقيًا وسعيدًا وغويًا ورشيدًا فلا تشقني بمعاصيك.
اللهم إنك علمت ما تكسب كل نفس قبل أن تخلقها ولا محيص لهم مما علمت فاجعلني ممن تستعمله بطاعتك.
اللهم إن أحدًا لا يشاء إلا ما تشاء فاجعل مشيئتي أن أشاء ما يقربني إليك.
اللهم إنك قدرت حركات العباد فلا يتحرك شيء إلا بإذنك فاجعل حركتي في تقواك اللهم إنك خلقت الخير والشر وجعلت لكل واحد منهما عاملاً يعمل به فاجعلني من خير القسمين.
اللهم إنك خلقت الجنة والنار وجعلت لكل واحدةٍ منهما أهلاً فاجعلني من ساكني جنتك.
اللهم إنك أردت الضلال بقومٍ وضيقت به صدورهم فاشرح صدري للإيمان وزينه في قلبي.
اللهم إنك دبرت الأمور فجعلت مصيرها إليك فأحيني حياة طيبة وقربني إليك زلفى.
اللهم من أصبح ثقته ورجاؤه غيرك فأنت ثقتي ورجائي ولا حول ولا قوة إلا بك قال أبو بكر وهذا كله في كتاب الله عز وجل اهـ.
ولما احتضر عثمان رضي الله عنه جعل يقول ودمه يسيل: ]لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ[ اللهم إني أستعين بك على أموري وأسألك الصبر على بلائي.
ويروى أن ابن المنكدر رحمه الله عندما نزل به الموت بكى فقيل له ما يبكيك فقال والله ما أبكي لذنبٍ أعلم أني أتيته ولكني أخاف أن أكون قد أذنبت ذنبًا حسبته هينًا وهو عند الله عظيم.
لألك وقال سليمان التيمي دخلت على بعض أصحابنا وهو في الموت فرأيت من جزعه ما ساءني فقلت هذا الجزع كله لماذا وقد كنت تحمد الله على كذا يعني على حالة صالحة فقال وما لي لا أجزع ومن أحق مني بالجزع والله لو أتتني المغفرة من الله عز وجل لأهمني الحياء منه فيما أفضيت به إليه.
وقال بعض الصالحين لغلامه وقد حضره الموت يا غلام شد كتافي وعفر بالتراب خدي ففعل الغلام ثم قال دنا الرحيل اللهم لا براءة لي من ذنبٍ ولا عذرٍ لي فأعتذر به ولا قوةٍ فانتصر بها ثم قال أنت لي "ثلاثًا" ثم صاح صيحةً ومات فسمعوا صوتًا في البيت يقول استكان العبد لمولاه فقبله وأدناه" ومعنى استكان ذل وخضع