الجميع يعلم ان شرارة الأحداث التي مهدت لما عرف بالربيع العربي في فصله الأول قد انطلقت في الرابع من يناير عام 2011 م ، يوم توفي مواطن تونسي يدعى محمد البوعزيزي متأثرا بجراح أصيب بها بعد إضرام النار في جسده قبل ذلك التاريخ بثمانية عشر يوما، احتجاجاً على مصادرة السلطات البلدية في مدينة سيدي بوزيد التونسية لعربة كان يبيع عليها الخضار والفواكه لكسب رزقه ..
الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في تونس حفزت قطاعات اجتماعية واسعة، قادتها فئات الشباب والمحرومين، للمطالبة بالكرامة والديمقراطية وإنهاء سنوات من الفساد والاستبداد واستفراد شخص واحد وأسرته والمقربين منه بالسلطة والثروة في البلاد , بعد أسبوعين من الاحتجاجات سقط نظام الرئيس زين العابدين بن علي وغادر البلاد مكرها الى منفاه التي توفي بها قبل اشهر ..
وامتدت عدوى الاحتجاجات المطالبة بتوسيع مجال المشاركة السياسية الشعبية لتشمل كلا من ليبيا ومصر وسوريا واليمن والمغرب والبحرين , ولكنها لم تحقق اهدافها الا في تونس فقط ..
اليوم وبعد كل هذه السنوات كان يبدو لنا ان أحلام كل من كان يعتقد أن الربيع العربي سيأتي بأنظمة سياسية ديمقراطية وأمن قومي وبازدهار اقتصادي تبخرت الى الأبد , بل وتعزز هناك شعور بالغبن والخوف من المستقبل في بعض المجتمعات العربية عندما اضحت ظروفها الاقتصادية أسوأ مما كانت عليه قبل اندلاع الثورات عام 2011 م ..
بناء على ما تقدم فإن السلطة السياسية العربية في الدول التي تعرضت لتلك الهزات لم تكتف بالإبقاء على شروط الاحتجاجات والثورات قائمة بل زادت من تعميقها وغذتها بممارسات جديدة تفوق سابقاتها وحشية ودموية , دون ان يعلمون إن انتشار وسائل التواصل الاجتماعي اليوم جعل هذه الممارسات مفضوحة للعلن ولم تعد كما كانت من قبل بعيدة عن انظار المجتمع الدولي ..
وهذا وضع خطير يمثل قنبلة موقوتة قابلة للإنفجار في أي حين متى توفر لها السياق المناسب وليست المؤشرات الإجتماعية الصادرة عن بعض العواصم العربية بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وانحباس الأفق السياسي إلا دلائل دامغة على أن المسار الذي تتجه إليه المنطقة العربية لا يختلف عن المسار الذي عرفته نفس المنطقة خلال سنة 2011م التي عرفت أوج الثورات والاحتجاجات الشعبية ..
فبعض الأنظمة العربية فقدت اليوم كل شرعية سياسية وكل قدرة على التعاطي العقلاني مع المطالب الاجتماعية لشعوبها , بل وأصبحت مستعدة لارتكاب أفضع المجازر والحماقات من أجل البقاء في السلطة كما ان النظام الدولي لم يعد قادرا على حماية هذه الأنظمة إلى ما لا نهاية له بسبب عجزه عن مجابهة موجات الاحتجاجات الشعبية التي إن هي عمت وانتشرت وتمددت تصبح عصية على الاحتواء والمواجهة , فبات العالم العربي يعيش حالة غير مسبوقة من الإحتقان والترقب بعد وصول المسار السياسي والاجتماعي إلى طريق مسدود، وبعد عجز الفاعلين على الأرض عن تخفيف حالة الاحتقان بل وتورطهم في تأجيج حالة الغليان والغضب الشعبي المعمم ..
هذا الوضع مهد الأرضية المناسبة لتجدد الربيع العربي مرة اخرى في فصله الثاني , فتجددت الموجات الإحتجاجية في الجزائر والسودان ومصر والعراق ثم مؤخرا في لبنان , ويبدو انها نجحت مرحليا في السودان فقط الذي نجح عبر ثورة بيضاء الى حد ما ، من كنس آثار النظام السابق الذي استمر ثلاثين عاماً كان من ثماره المرة، انقسام السودان، وانتشار الممارسات العنصرية، وظواهر الاقتتال الداخلي، وإفقار الشعب , والمؤشرات تبدو جيدة في الجزائر , اما العراق ولبنان فيشهدان حراكاً قوياً نحو الإطاحة بنظام الطائفية والفساد، والاستقطاب بين استراتيجيات عربية وإيرانية وأميركية ويصعب التكهن بنتائجها ..
فالعراق خاصة مطلوب منه حتى يستقر ثورة عارمة تطيح بكل الإرث الذي خلفه الغزو الأميركي , ولبنان مطلوب منه كنس الطائفية وتحكمها في مسار حياة الناس وعيشهم اليومي ..
ليس هذا فحسب بل ان حتى سورية التي لا تزال تصارع بقوة، وتدفع أثماناً باهظة، فإنها تقترب من مرحلة التحرر من مخلفات التآمر الدولي والإقليمي، وأنها تتجه نحو التغيير الديمقراطي، إذ لا يعقل بعد كل ما جرى، أن تعود الأوضاع إلى ما كانت عليه من حيث طبيعة النظام السياسي ..
الأمة العربية تولّي وجهها نحو الشمس، في عملية تغيير استراتيجي هو استحقاق , وليس منة من احد ..